الإمام القفال الشاشي
ويعد كمثال على ذلك:الإمام محمد بن علي بن إسماعيل،أبو بكر الشاشي الفقيه الشافعي المعروف بالقفال الكبير (291-365هـ، 904 -976م).
والإمام القفال الشاشي كان إمام عصره ـ ببلاد ما وراء النهر ـ وكان فقيهاً، محدثاً ، مفسراً ،أصولياً ، لغوياً.
وقد نشر القفال المذهب الشافعي فيما وراء نهر سيحون ، ولم يكن للشافعية بما وراء النهر مثله في وقته ،حتى وصف بأنه علم رفيع من أعلام المذهب الشافعي.
وقال النووي:" القفال هذا هو الكبير يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام بخلاف القفال الصغير المروزي فإنه يتكرر في الفقه خاصة".
وكان القفال شاعراً فصيحاً بيِّن الحجة، ومما روي في حُسن شعره أن قيصر الروم أرسل من بلدة نقفور قصيدة مهداة إلى خليفة المسلمين مطيع الله ـ الذي خُلع سنة 334هـ ـ وساءت هذه القصيدة صدور المسلمين وشقت عليهم، لِما أجرى فيها إليهم من التثريب والتعيير ، ومما جاء فيها:
من الملك الطهر المسيحى رسالة
إلى قائم بالملك من آل هاشم
أما سمعت أذناك ما أنا صانع
بلى فعداك العجز عن فعل حازم
فإن تك عما قد تقلدت نائما
فإنى عما همنى غير نائم
ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم
وضعفكم إلا رسوم المعالم
إلى آخر ما جاء فيها. فأجاب الشيخ الإمام القفال الشاشى ـ رحمه الله ـ قائلا:
أتاني مقال لامرئ غير عالم
بطرق مجارى القول عند التخاصم
تخرص ألقابا له جد كاذب
وعدد أثارا له جد واهم
وأفرط إرعادا بما لا يطيقه
وأدلى ببرهان له غير لازم
تسمى بطهر وهو أنجس مشرك
مدنسة أثوابه بالمداسم
..إلى آخر ما جاء فيها
وحين وصول القصيدة إلى قيصر الروم اجتمع أحبار القسطنطينية يسألون عن الشيخ من هو ، ومن أي بلد ؟ ويتعجبون من قصيدته ويقولون: ما علمنا أن في الإسلام رجلا مثله!.(
[1])
أما عن عقيدته فقد روي أنه كان يميل إلى الاعتزال في أول حياته، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد رحل هذا الإمام في طلب العلم ، وسمع من أشهر علماء عصره، وتلقى عنهم الحديث والتفسير والفقه ، فسمع بخراسان من : الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأقرانه ، وبالعراق من : عبد الله بن إسحاق المدائني ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأبي بكر الباغندي،في آخرين من طبقة تقع قبل طبقة البغوي وأقرانه ، وبالجزيرة من أبي عروبة وأقرانه ، وبالشام من أبي الجهم وأقرانه ، وبالكوفة من عبد الله بن ريذان وأقرانه ، وحدث وروى عنه الحاكم وغيره ، وكان قد ورد نيسابور أولاً على الإمام أبي بكر ابن خزيمة ، ثم توجه إلى العراق وقد مات أبو العباس ابن سريج،فأخذ عن أقرانه وبعض أصحابه.
قال الحاكم:" كان أعلم ما وراء النهر بالأصول وأكثرهم رحلة في طلب الحديث".
وأخذ عنه العلم كثير من علماء عصره المشهورين، منهم: أبو عبدالله الحاكم، وأبو عبد الرحمن الحليمي، وابن منده والخطابي ، الذي نقل عن شيخه أبي بكر القفال في غريب الحديث بعض روايات الطبري وتفسيره (
[2]) ، ويظهر بهذا تأثر القفال بتفسير شيخه الإمام محمد بن جرير الطبري.
أما عن مصنفاته فقال الشيخ أبو إسحاق:" له مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء وله كتاب في أصول الفقه وله شرح الرسالة " وله تفسير كبير ، وقال السمعاني :"من مصنفاته دلائل النبوة ومحاسن الشريعة" وآداب القضاء.(
[3])
وعن سنة وفاته قال ابن خلكان:وقد وقع الاختلاف في وفاة القفال فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في ((طبقات الفقهاء)): توفي في سنة( 336هـ.) وقال الحاكم أبو عبد الله أنه توفي بالشاش سنة (365هـ) ووافقه ابن السمعاني على ذلك في ((الأنساب)) ثم ذكر في ((الذيل)) أنه توفي سنة (336هـ.).
أما عن منهجه في تفسيره فقد وجه الانتقاد له بسبب ذكره لأقوال المبتدعة " ويقصد بهم المعتزلة "ومن ذلك قول الإمام الثعلبي حيث قال مقدمة تفسيره :" فألفيت المصنفين في هذا الباب فرقا على طرق : فرقة منهم أهل البدع والأهواء وفرقة المسالك والآراء مثل البلخي والجبائي والأصفهاني والرماني ، وقد أُمرنا بمجانبتهم وترك مخالطتهم ، ونهينا عن الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم فاختاروا ممن تأخذون دينكم.
وفرقة ألفوا وقد أحسنوا غير أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين ،مثل أبي بكر القفال وأبي حامد المقري . وهما من الفقهاء الكبار ،والعلماء الخيار ، ولكن لم يكن التفسير حرفتهم ، ولا علم التأويل صنعتهم ؛ ولكل عمل رجال ، ولكل مقام مقال".(
[4])
ومن ذلك قول أبو سهل الصعلوكي، عندما سئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: " قدسه من وجه، ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال".
ونلاحظ أن الثعلبي أشار إلى أن القفال أحسن في تفسيره إلا أنه خلطه بأباطيل المبتدعة ،أما أبو سهل الصعلوكي قال:" قدسه من وجه ودنسه من وجه " أي دنسه من جهة نصره مذهب الاعتزال،وقد دافع الإمام الذهبي عنه بقوله : " قد مر موته والكمال عزيز وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل فلا تدفن المحاسن لورطة ولعله رجع عنها وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق ولا قوة إلا بالله ".(
[5])
وانظر إلى كلام الذهبي هذا ما أحسنه! وكم فيه من الأدب وحسن الظن في التعامل مع العلماء.وهذا الأدب هو مما ميز هؤلاء العلماء ورفع من شأنهم، وهو أثر من آثار العلم على صاحبه ، وهاهو الإمام القفال نفسه لما سئل عن مسألة في العلم ، عند حلوله بأحد الثغور غازياً، وكان فيها أحد العلماء الكبار ،أمسك عن الجواب ، وأحال عليه في الحال. (
[6])
وقد اعتنى كثير من المفسرين بنقل أقواله في تفاسيرهم ، ومن ذلك الإمام السمعاني حيث نقل بعض اختياراته في التفسير،واستحسن بعض أقواله،ونقل الرازي في تفسيره كثيراً من أقواله مما يوافق مذهب المعتزلة، ونقل عنه كذلك الإمام القرطبي وأبو حيان،وغيرهم،وذكر السيوطي بعض مناسبات في كتابه أسرار التنزيل .
ووجدت أن كثير من المفسرين اهتموا بنقل أقواله وترجيحاته،سواء في التفسير أو ما يتعلق بعلوم القرآن ، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ، واحترت فيما أختار منها ، ولعل من أبرزها:
ـ في قوله تعالى:{ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ }(سورة البقرة آية:222) قال ابنُ العربيُّ في «أحكامه»:" سمعْتُ أبا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يقولُ : إِذا قيل : لا تَقْرَبْ؛ بفتح الراء ، كان معناه : لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ ، وإِذا كان بضم الراء ، كان معناه لا تَدْن منه "(
[7]).
ـ وممن توسع في النقل عنه:الإمام السمعاني، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}(سورة الرحمن آية:22) قال السمعاني في تفسيره :"فإن قيل:قد قال:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا} وأجمع أهل العلم بهذا الشأن أنه يخرج من الملح دون العذب . فالجواب : أنه ذكرهما والمراد أحدهما ، كما تقول العرب : أكلت خبزا ولبنا ، وإنما الأكل في أحدهما دون الآخر . قال الزجاج : لما ذكر البحرين ثم ذكر اللؤلؤ والمرجان ، وهو يخرج من أحدهما ، صحب الإضافة إليهما على لسان العرب . وذكر القفال الشاشي في تفسيره : أن اللؤلؤ والمرجان لا يكون إلا في ملتقى البحرين في أول ما يخلق ، ثم حينئذ موضع الأصداف هو البحر الملح دون العذب ، فصح قول:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا}لأنهما في ابتداء عند ملتقى البحرين ، وهذا قول حسن إن كان كذلك" (
[8]).
ـ وقال كذلك في قوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (سورة الواقعة آية :76)" ذلك لأن قسم الله عظيم ، وكل ما أقسم به . ويقال : إن تخصيصه هذا القسم بالعظم ؛ لأنه أقسم بالقرآن على القرآن ؛ قاله القفال الشاشي".(
[9])
ـ وقال في قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا..} (سورة التغابن آية :16) " روى معمر عن قتادة أن هذه الآية نسخت قوله تعالى:{اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (سورة آل عمران آية:102) وجاء مثل هذا عن جماعة من التابعين . وقال جماعة من أهل العلم : الأولى أن يقال : هذه الآية رخصة وليست بناسخة . وذكر القفال أن هذه الآية مبينة لقوله تعالى :{اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وذكر مثل ذلك على ابن عيسى وغيره".
ـ ونَقل عنه كذلك لطيفة في معنى قوله تعالى: { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } (سورة التغابن آية رقم : 17) ، حيث قال:" وذكر القفال : أن بعض السلف كان إذا سمع سائلا يقول : من يقرض الله قرضا حسنا يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر" (
[10]).
ـ وفي قوله تعالى:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله}( سورة الطلاق آية : 7) قال السمعاني في تفسيره:" عن عمر رضي الله عنه أنه سمع أن أبا عبيدة بن الجراح يلبس الثوب الخشن ، ويأكل الطعام ( الجشب ) ، فبعث إليه بألف دينار من بيت المال ، وأمر الرسول أن يتعرف حاله بعد ذلك ، فتوسع وأكل الطيب من الطعام ، ولبس اللين من الثياب ، فرجع الرسول فأخبر عمر بذلك فقال : إنه تأول قوله تعالى :{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله} ذكره القفال في تفسيره" (
[11]).
ـ وكذلك ممن نقل عنه ، وأكثر من ذلك الإمام فخر الدين الرازي، ومن الأمثلة في ذلك: عند قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) }سورة البقرة.
قال الرازي:" والفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى ، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض ، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وسكنت الفتن ، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها ، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب ، ولذلك قال تعالى:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في الأرض }( محمد : 22) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به".(
[12])
ـ وقال الرازي ـ رحمه الله ـ في قوله :{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الاٌّ مَوَالِ وَالاٌّ نفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(سورة البقرة آية :155)
اعلم أن القفال رحمه الله قال : هذا متعلق بقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } ( البقرة : 45 ) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا.."(
[13]).
ـ وفي قوله تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ...}(سورة النساء آية : 113) .
قال:" قال القفال رحمه الله : وما يضرونك في المستقبل ، فوعده الله تعالى في هذه الآية بإدامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل"(
[14]) .
ـ ولما ذكر الرازي الروايات التفسيرية في قوله:{ قُتِلَ أصحاب الأخدود }(سورة البروج آية :4)أتبعه بقول القفال، فقال:" وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال"(
[15]).
ـ وقال في قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}: سورة البقرة قال القفال رحمه الله: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن ، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابراً ، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ، قال عليه السلام : « الصبر عند الصدمة الأولى » وهو كذلك ، لأن من ظهر منه في الإبتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر ، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم".(
[16])
ونقل الرازي ـ وغيره ـ عن تفسير القفال فائدة نفيسة، وهي قوله عند تفسير سورة البقرة:" قال القفال رحمه الله : إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقصد ، أحدها : الدلالة بها على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عنها من غير تعلم ، وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب ، أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلاً ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي . وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار .
وثانيها : تعديد النعم على بني إسرائيل وما منّ الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكاً وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة ، ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام ، فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة.
وثالثها : إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة ، فدل على بلادتهم ، ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ، ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ، ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ، ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم:{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } (البقرة : 67)، ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة،فكأن الله تعالى يقول:إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه الصلاة والسلام، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق. ورابعها : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة .
وخامسها : تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود .
وسادسها : أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء ، وهو المراد من قوله تعالى : { كذلك يُحْيىِ الله الموتى } (البقرة : 73)".(
[17])
وكذلك نجد المفسرين بعد الرازي عنوا بذكر أقوال الإمام القفال ،والأمثلة في هذا كثيرة ، ومنها على سبيل المثال:
ـ في قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} (سورة البقرة).
قال أبو حيان :" والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب ، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم.
وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى :{ إن المجرمين في ضلال وسعر }(سورة القمر آية 47)، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق".(
[18])
ـ وكذلك في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}(سورة البقرة).
قال أبو حيان:" فسر لفظ الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم.
والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين ، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين.
قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً يجزى عليه".(
[19])
ـ وقال في قوله تعالى :{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}(سورة البقرة) :" قال القفال :" التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، ومنه:{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ }(سورة النمل آية :6) تلقيت هذه الكلمة من فلان : أخذتها منه"(
[20]).
ـ وفي قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ...}(سورة البقرة:219)قال أبو السعود:" { قُلِ العفو } قال الواحدي : أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة ، وقال القفال : العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول قتادةَ وعَطاءٍ والسدي"(
[21])
ـ وفي قوله تعالى:{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}(سورة آل عمران) ذكر المفسرين الاختلاف الوارد في المراد من الحواريين،ثم أتبعوه بقول القفال :"ويجوزُ أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثنيْ عشرَ من الملوك وبعضُهم من صيادي السمك وبعضُهم من القصّارين وبعضُهم من الصبَّاغين والكلُّ سُمّوا بالحَواريين لأنهم كانوا أنصارَ عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانَه والمخلِصين في طاعته ومحبتِه".(
[22])
ـ ونقل عنه بعض المفسرين في قوله تعالى:{مباركاً وهدىً للعالمين}( آل عمران:96) قوله: " ويجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله :{ يُجْبى إليه ثمرات كل شيء} (القصص : 57).(
[23])
ـ وفي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}(سورة آل عمران) قال القفال:"يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلاً بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعياً للمسلمين إلى الإقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضاً ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم ، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفاً بهم "(
[24]).
ـ وجاء عنه في قوله تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}(سورة النساء) قوله:" لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطعم في أموالهم وتمنّيها ". (
[25])
والأمثلة في نقل العلماء عنه كثيرة جدا ، ولولا خشية الإطالة لذكرت غيرها ، ولكن حسبنا مما ذكر الإشارة لفضل هذا العالم الجليل ، وإبراز قيمة أقواله في التفسير.
ولا شك بأننا في حاجة لكشف أقوال غيره من العلماء ممن في كتب وصنف في التفسير، وهذا ما أستحث إخواني على إماطة اللثام عنه ، وإفادة الناس به.
ــ الحواشي ـــ
([1])انظر: طبقات الشافعية الكبرى (ج 3 / ص 205ـ 209).
([2]) انظر: غريب الحديث للخطابي (ج 1 / ص 652) والفجر الساطع (ج 2 / ص 85).
([3]) انظر: طبقات الفقهاء الشافعية (ج 1 / ص 229) وسير أعلام النبلاء (ج 16 / ص 285) وطبقات المفسرين (ج 1 / ص 79) طبقات الفقهاء (ج 1 / ص 112) واللباب في علوم الكتاب (ج 1 / ص 105).
([4]) الكشف والبيان (ج 1 / ص 74).
([5]) سير أعلام النبلاء (ج 16 / ص 285).
([6])انظر:كتاب: شرط القراءة على الشيوخ ، للحافظ المسند أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني(ت:576هـ) (ص37) بتصرف.
([7]) أحكام القرآن(ج 1 / ص 327).
([8]) انظر: تفسير السمعاني (ج 5 / ص 327).
([9]) تفسير السمعاني (ج 5 / ص 359).
([10]) تفسير السمعاني (ج 5 / ص454ـ 456).
([11]) تفسير السمعاني (ج 5 / ص 466).
([12])تفسير الرازي (ج 1 / ص 337).
([13])تفسير الرازي (ج 4 / ص 135).
([14])تفسير الرازي (ج 5 / ص 378).
([15])تفسير الرازي (ج 16 / ص 437).
([16])تفسير الرازي (ج 2 / ص 450).
([17])تفسير الرازي (ج 2 / ص 163).
([18])البحر المحيط (ج 1 / ص 163).
([19]) انظر: البحر المحيط (ج 1 / ص 168).
([20]) البحر المحيط (ج 1 / ص 211).
([21]) تفسير أبي السعود (ج 1 / ص 276).
([22]) تفسير أبي السعود (ج 1 / ص 396) وتفسير الألوسي (ج 3 / ص 58).
([23]) البحر المحيط (ج 3 / ص 335) وتفسير الألوسي (ج 3 / ص 135).
([24]) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، للنيسابوري(ج 2 / ص 257) وتفسير الألوسي (ج 3 / ص 211).
([25])تفسير أبي السعود (ج 2 / ص 74) وتفسير الألوسي (ج 4 / ص 35).