ست مسائل في آية [المنافقون (1)]

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
ست مسائل في آية [المنافقون (1)]
{(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}) [المنافقون: 1]
  1. أيُّ الفعلين أقوَى دلالة [شَهِدَ] أم [عَلِمَ]؟
  2. لماذا قال المنافقون [نشهد]، ولم يقولوا [نعلم] في {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}؟
  3. لماذا قال الله عز وجل [يعلم] في الجملة الاعتراضية{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ولم يقل [يشهد]؟
  4. وما قيمة الجملة الاعتراضية: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}؟
  5. لماذا كَذَّبَ اللهُ عَزَّ وجل المنافقين بالفعل [يشهد] ولم يقل [يعلم] في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}؟
  6. لماذا كُسِرَت همزة [إنَّ] في الآية؟
الْمَسْأَلَة الأولى: أيُّ الفعلين أَقْوَى دِلالة [شَهِدَ] أم [عَلِمَ]؟
لو نظرنا في الْمَعاجِم سَنَجِد أن [عَلِمَ] بمعنى: عرف، وأدرك، وأَيْقَنَ، أما [شَهِدَ] فمِنْ مَعَانيه: شَاهَدَ وعَايَنَ، كقولك: شَهِدْتُ الحادث، أو بمعنى: حَضَر، كقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
قال ابن عاشور في معنى [نشهد] في تأويل آية المنافقين: "ونَشْهَدُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ؛ إِذْ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَيِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُعَايَنَةُ أَقْوَى طُرُقِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ: أَشْهَدُ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْيَقِينِ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ.

الْمَسْأَلَة الثانية: لماذا قال المنافقون [نشهد]، ولم يقولوا [نعلم] في {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}؟
لقد بَالَغَ المنافقون في النفاق والكذب، واستعملوا التعبير الأقوَى الْمُؤَكَّد بثلاثة مُؤكِّدات: [الفعل نشهد الذي يدل على القسم، وإنَّ، واللام]، فقال المنافقون [نشهد] ولم يكتفوا بـ [نعلم] ظَنًّا منهم أن ذلك سَيَخْفَي كذبهم ونفاقهم.

الْمَسْأَلَة الثالثة: لماذا قال الله عز وجل [يعلم] في الجملة الاعتراضية{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ولم يقل [يشهد]؟
إن الأمر لا يحتاج إلى تأكيد؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من اللهعز وجل، فالحال لا يقتضي أن يشهد الله على ذلك.

الْمَسْأَلَة الرابعة: ما قيمة الجملة الاعتراضية: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}؟
إذا أردتَ أنْ تعلم قيمة هذه الجملة الاعتراضية فاحذفها من الآية، واقرأ، وتَأَمَّلْ المعنى: ({إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)}.
ماذا تجد بعد الحذف؟
إن ظاهر الكلام يُوحِي أنَّ الجملة الْمُتَأَخِّرَة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} تُكَذِّبُ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّم {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، أيْ أنها تنكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من الله.
وهنا جاءت الجملة الاعتراضية، جاءت للاحتراز ومَنْعاً مِنَ الفهم الخطأ، وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله كلاما بديعا، قال: "والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه، فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين، ولولا هذا التحفظ لَأَوْهَمَ ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة، وليس هذا هو المقصود"

الْمَسْأَلَة الخامسة: لماذا كَذَّبَ اللهُ عَزَّ وجل المنافقين بالفعل [يشهد] ولم يقل [يعلم] في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}؟
لقد بَالَغَ المنافقون في الكذب والنفاق، فَبَالَغَ الله عز وجل في تكذيبهم، وبَالَغَ في كَشْفِ سَوْأَةِ نفاقهم. قال ابن عاشور رحمه الله: "وَجِيءَ بِفِعْلِ يَشْهَدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ لِلْمُشَاكَلَةِ حَتَّى يَكُونَ إِبْطَالُ خَبَرِهِمْ مُسَاوِيًا لِإِخْبَارِهِمْ".

الْمَسْأَلَة السادسة: لماذا كُسِرَت همزة [إن] في الآية؟
لو تَأَمَّلْنا سنجد أن [إن] لم تتصدر الكلام، فحق لها أن تفتح همزتها، فتكون: [قالوا نشهد أنك ..، والله يعلم أنك ...، والله يشهد أنك ...] فامتنع ذلك، امتنع فتح همزة [إن] والسبب دخول لام التوكيد الْمُزَحْلِقَة على خبر [إن] قال مُحْيِي الدين درويش: "وكُسِرَت همزة [إن] بسبب دخول اللام الْمُزَحْلِقَة على خبرها، إذ لا يصح دخول اللام الْمُزَحْلِقَة التوكيدية على خبر [أن] المفتوحة الهمزة.
ولعل البعض يتساءل: لماذا؟
لماذا مَالَ القرآن إلى [إن] المكسورة الهمزة وطَرَدَ [أن] المفتوحة الهمزة من الكلام؟
وأرى أن ذلك لسببين:
الأول: أن الجملة بـ [إن] صارت ابتدائية، وهذا النوع من الجمل أصل كل قول، وفي أهمية الجملة الابتدائية تقول الدكتور خلود العموش: "والجملة الابتدائية هي رأس الخطاب ومُفتَتَحَه، وهي جملة مستقلة .. لكنه شديدة التعلق بالتشكيل النَّصِّي كله، فكل حركة في النص ترتد إليها، وهي تؤدي وظائف متعددة تتصل بالمتلقي، فهي فاتحة اللِّقاء بين النَّصِّ والْمُتَلَقِّي، وهي تُشَكِّل مفتاحَ النَّصِّ، ومَطِيَّةَ نجاحه، وأَهَم تَـمَاسُكِه وتَرَابُطِه وانْسِجَامِه، ولهذا حَظِيَتْ باهتمام النُّحَاة والبلاغيين وعلماء القرآن"

الثاني: [إن] المكسورة الهمزة أقوَى تأكيدا من [أن] المفتوحة الهمزة، بدليل أنها الأشهر والأكثر استعمالا، وأنها تَسْتَغني بنفسها فلا تحتاج كلاما يتقدمها.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
 
عودة
أعلى