محمود بن عبد الجليل روزن
New member
ستُّ وقفاتٍ مع قراءة القرآن بالألحان الموسيقيَّة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وبعد؛
***
موضوعٌ ما أكثرَ ما كُتِبَ فيه وقيل، ومن العجب أن ترى الاختلاف فيه لا بينَ مجوِّزٍ ومُحرِّزٍ، بل بينَ مُوجبٍ ومُبدِّعٍ! ومن العجبِ – كذلك - أنَّك ترى الدليلَ الواحدَ يحتجُّ به الفريقانِ، ولكلٍ مأخذٌ ومنزعٌ. وملخَّص الداء والدواء: «لو سكت مَن لا يعلم لقلَّ الخلاف».
ولا شكَّ أنَّ هناك جملةَ أمورٍ، هي أقربُ ألا يختلف فيها أحدٌ بإذن الله، ومن شأن البدايةِ بهذه الأمور – في تقديري - أن يحسمَ كثيرًا مما يُعدُّ خِلافًا في المسألةِ.
وسوفَ أعرضها في نقاطٍ، بغضِّ النظر عن اعتقادي الشخصيّ في حكم القراءة بالألحان، وأرجو ألا يتسرَّع القارئُ فينسبني إلى قولٍ لم أقلْ به. وتذكَّر: لازم القول ليس بقولٍ إلا بعد عرضه وقبوله.
والآن إلى الأمور التي إخالنا لن نختلفَ عليها بإذن الله:
***
أوَّلًا: مَنْ أحقُّ أهل العلم بالنَّظَر في حُكم القراءة بالألحان؟
وللإجابة عن هذا السؤال أقدِّم بهذه المقدِّمة القصيرة: الأصل أنَّ العلم النظريَّ بالشيءِ – ولو كان هذا الشيء حرامًا – خيرٌ من الجهل به؛ وذلك لمَنْ تعلَّمه ليعرف حقيقته فيستطيع أن يحكم عليه، فهذا محمودٌ. وأما إن تعلَّمه لِيستعمله في باطلٍ فهذا حرامٌ اتِّفاقًا.
وفي مسألة القراءة بالألحان؛ إن تعلَّمها عالم متبحِّرٌ في علوم القرآن وخصوصًا ما كان منها وثيق الصلة بأدائه وتجويده رواية ودرايةً، وهو في الوقت نفسه ضليعٌ من علوم الفقه أصولًا وفروعًا= فمثلُ هذا العالِم – إن وُجِدَ – هو الجدير أن يقال فيُسمع له ويُعتبَر قولُه في مسألة القراءة بالألحان. هذا العالم سيكونُ قد أوتي حظًّا من العلم في مجالات النظر المتعلقة بمسألة القراءة بالألحان: القرآن وعلوم التلاوة ، والفقه، وقواعد علم الموسيقى النظرية.
ولا يجوز بحالٍ أن يتصدَّى لتلك القضية مَن لا يُتقن التجويدَ نظريًّا وعمليًّا، ومَن لم يحصِّل من الفقه ما يعصمه عن تنكُّب منهج البحث، ومَن لم يُحصِّل من اللغة ما يفهم به مواقع الأدلة وفروق المصطلحات..إلخ.
أمَّا اشتراطُ أن يُضيفَ المتصدِّي لتلك المسألة إلى ما سبق شيئًا من العلم بقواعد الموسيقى، فتأمَّل الكلام الآتي، وقِسْ عليه قياسًا مع الفارق تعلمْ ضرورة هذا التأصيل:
قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن (1/48): «... وقال الشافعي رحمه الله: السحر معصيةٌ إن قتل بها الساحر قُتِلَ، وإن أضرَّ بها أُدِّبَ على قدر الضرر.... ثم قال ابن العربي مُتعقبًا الشافعيّ: وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنَّه لم يعلم السحر. وحقيقته أنَّه كلامٌ مؤلَّف يُعظَّم به غير الله تعالى....» إلى آخر ما قاله رحمه الله.
فابن العربيِّ يُبيِّن – من وجهة نظره – من أين أُتِيَ الشافعيُّ فيما قال به، ذلك أنَّه لم يعلم حقيقة السحر، وإن كان بها عالِمًا لَمَا توقَّف في تكفير الساحر؛ لأنَّه لا سِحرَ إلا بِكُفر، وتلك حقيقةٌ يعرفها كلُّ مَن عَلِمَ السحر، أفلا يقال: إنَّ العالِمَ إذا تعلَّم الجزءَ النظريَّ من السحر دون أن يصل إلى أفق التطبيق العمليِّ، مثلُ هذا العالِم هو الجدير بأن يتكلم في الأحكام الفقهية المتعلقة بالسحر؟
وأكرِّر أنِّي لا أقصد من كلامي التسوية بين السحر والمقامات الموسيقية، فهو كما قلتُ قياسٌ مع الفارق، نحاول أن نصل من خلاله إلى ردّ بعض الأمور إلى نصابها، وذلك بتقرير مَنْ أحقِّ الناس وأجدرهم بالكلام في هذه المسألة، ولا يُطعنُ في صدره بالقول الـمُسبَّق: إنَّ المقامات الموسيقية حرامٌ، وإنَّ الموسيقى بها وبها.... فهل بلغتْ مبلغ السِّحرِ؟ كلُّ ما في الأمر أنَّ الحكم على الشيْء فرعٌ عن تصوُّره، فكيفَ يحكم عليه مَنْ لا يعلم حقيقته، وإن كان أفقه الناس إجمالًا؟!
وللتوضيح العمليِّ؛ فإنَّ أحد الأدلة التي يستعملها المانعون للقراءة بالألحان قولهم: إنَّ القراءة بالألحان والالتزام بقواعدها يحمل القارئ على الإخلال بأحكام التجويد، ويمثِّلون على ذلك بتلاوات مُسجَّلة – صوتًا وصورةً - لمشاهير القرَّاء يخرجون فيها عن أحكام التجويد، فيمدُّون أربع الحركات ستًّا، وربمَّا أطول من ذلك، ويَغُـنُّون ما مقداره الطبعيُّ حركتان أربعًا وربَّما أطول، وقِس على ذلك...
ويُجيب الـفريق الآخر بأنَّ ذلك ليس لزامًا، ولا يعني الخطأ في التطبيق أنَّ النظريَّة فاسدة، وإلا فإنَّ الشيخ فلانًا – وهو ممن يُحذى على منوالهم في الأداء القرآني – لا تصدر عنه مثل هذه السقطاتِ والهناتِ، وهو في الذروة تحفُّظًا عن النشاز.
فأين الحقُّ في ذلك؟
لا يُمكن أن نحسم النزاع في هذه القضيَّة الفرعية إلا بتحديد موضع النزاع فيها تحديدًا دقيقًا، وموضع النزاع هو: لزوم تأثير الالتزام بقواعد الموسيقى حال القراءة على الالتزام بقواعد التجويد.
ولتقريب المقصود؛ نقول: هل من الممكن أن يُبحث في الالتزامات التي يجب ألا يحيد عنها الموقِّع على المقامات في قراءته، بحيث لو تركها لكانت قراءته في عُرف التغني (نشازًا)؟ وهل من الممكن أن يتأتَّى - لزامًا - مواقفُ يكون فيها الملتزمُ مقامًا معيَّنًا عرضةً للإخلال بحكم تجويديٍّ معين إن صادف وجوده في الآية المقروءة بهذا المقام؟
وهو بحثٌ راودتني فكرته منذ أمد بعيد، ولكن لم تسعفني معرفتي القليلة بالموسيقى في إتمامه، وإن كانت آلياته متخيَّلةً في ذهني..
وأذكر أنَّ بداية التفكير بهذا الأمر أنِّي سمعتُ قارئًا يتلو قوله تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن) فقرأ: (كالـمُوهْل، كالعِيهن)؛ بإطالة ضمة الميم وكسرة العين القصيرتين لتصيرا طويلتين بمقدار ثلاث حركات على الأقل يُلاحظها كل مُبتدئ في التجويد. ولـمَّا ذكرتُ ذلك لأحد أصحابي ممَّن لهم إلمامٌ بالقواعد الموسيقية أجاب بما معناه أنَّ التزام القارئ بتقصير الحركة - كما يقتضي الصواب – كفيلٌ بأن يجعل قراءته نشازًا؛ لأنه يقتضي منه تسريع المقام في غير موضع التسريع أو شيئًا من هذا القبيل لا أعلمه تفصيلًا. فالقارئ ليس جاهلًا بأنَّه أخلَّ بالحكم التجويديّ، ولكنه بين مطرقة النشاز وسندان اللحن! والواضح أنَّه اختار الثاني على الأولى!
فإنْ أُمكن إتمام مثل هذا البحث الموثَّق بأدلة لا يُماري فيها مَانعٌ أو مُبيحٌ؛ كان للباحثه القولُ الفصلُ الذي يُغلق الباب (بالضَّبَّة والمفتاح كما يقول المصريون) على كلِّ اجتهادٍ غير منضبطٍ، بَلْهَ كلّ كلام مرسل على عواهنه... وهذا لن يكون إلا إذا جَمَع ذلك الباحث العلم بالفقه والقراءة شيئًا غير قليلٍ من العلم بالموسيقى.
أيضًا؛ من القضايا الجديرة بالتأصيل العلميّ المتأنِّي: هل هناك فارق بين المقامات الموسيقية كحقيقةٍ كُليَّةٍ، وبين مقامات الأعاجم؟ وهل هناك فارقُ بينها – أو بينهما – وبين مقامات أهل الخنا والفسق؟
وإذًا؛ فنحن مطالبون بضبط تلك المصطلحات ضبطًا علميًّا دقيقًا، يُستعانُ فيه بقواعد الموسيقى ذاتها؛ لتبيين ما بينها من فروق، كما يُستعان بالتقطيع العروضيِّ لبيان ما بين البحور من فروق:
1. المقامات الموسيقية.
2. مقامات الأعاجم.
3. مقامات أهل الغناء وأهل الفسق والخنا.
وهل الفروق جوهريةٌ؟ وهل هي كيفيةٌ أم كمِّيَّةٌ؟ إلخ....
كما يجب بيان الفرق بين المقامات الموسيقية وبين التغنِّي. وبعبارة أخرى: هل يمكن أن يقرأ قارئٌ قراءةً رصينةً وقُورًا لا يصفها أصحاب الأذواق المستقيمة بالنشاز وهي في الوقت نفسه لا تستقيم على أيِّ مقامٍ موسيقيٍّ معروف؟
لو نظم ناظم على أحد أوزان الخليل المهملة، أو نظم كلامًا مستقيمًا على وزنٍ غير خليليٍّ؛ فهل يعتدُّ به الشعراء؟ قد يُقال: نرجع إلى الذوق فإن قَبِلَ به وإلا فلا يُعتدُّ بذلك.
فإن كانت الإجابة (نعم)؛ قد يستقيم في الذوق قراءةُ قارئ بغير مقامٍ معروف، فساعتها قد يقال: هلمَّ نبحثْ في علم جديدٍ نستنبط من خلاله قواعد للتغني القرآني قسيمةً للمقامات الموسيقية المعروفة... وإن كانت الإجابة (لا) فما معنى قول بعضهم باختراع علم التغني بالقرآن، بمجرَّد الانتقاء من بعض المقامات ما يصلح للقراءة واستبعاد ما لا يصلح، ثمَّ استبدال بعض الأسماء بأسماء تلك المقامات؟ لو جاز ذلك لجاز لبعض المحافظين أن يقول – مثلًا : سأنتقي من بحور الشعر بعض البحور الرصينة، ولتكن تلك البحور المتباينة التفعيلة: الطويل والبسيط والمديد والخفيف والمنسرح...إلخ.. ثمَّ أنا مستبدلٌ الهطيل بالطويل، والمبسوط بالبسيط، والـمُفرِح بالمنسرح ...إلخ، ثمَّ أنا – بعد ذلك - مخترعٌ لكم علمًا اسمه علم عروض الرصانة! ففيمَ تباينَتْ قواعد هذا العلم المخترَع عن العروض الخليليِّ؟ وعلى أيِّ أساس، وبأيَّة معايير انتقيتَ واستبعدتَ؟ وهل يُسمَّى هذا الفعل اختراعًا؟
إنَّ في التأنِّي السلامة، ولو سكت مَن لا يعلم لقلَّ الخلاف، بل ولانعدمَ... وبتأصيل مثل تلك المسائل الجزئية؛ تتكامل النظرة إلى القضية، ويصير ساعتئذ الحُكمُ في القضيَّة – بإذن الله – من قبيل الحقِّ الذي هو أحقُّ أن يُتَّبع.
***
ثانيًا: التغنِّي بالقرآن وسيلةٌ أم غايةٌ؟
إنَّ أصل الالتذاذ إنَّما يكون بمحض الألحان والتوقيع الموسيقيّ على المقامات بغضِّ النظر عن المقروء ومعناه، وكلُّ بصيرٍ يرى ذلك من نفسه؛ إذ إنَّه يتأثر باللحن المعزوف المجرَّد عن الكلمات. ويتراوحُ نوع هذا التأثر ما بين النشوة والشوق والحزن والطرب وغير ذلك من ضروب التأثر، وإنَّما كان ذلك كذلك بسبب تغيُّر المقام الموسيقيّ، وتغيُّر طبيعة النغمة المعزوفة صعودًا وهبوطًا.
ويمكننا أن نذهب بعيدًا في إثبات هذا الزعم؛ إلا أنَّنا لسنا في حاجة إلى تأكيد المؤكَّد، وتجلية الواضح البيِّن، واكتفِ بأنْ تسمعَ لحنًا مُميَّزًا لأغنية بِلُغةٍ لا تجيدها، فإن فعلتَ فقد تتأثَّر تأثُّرًا بالغًا مع كونكَ لا تفقهُ كثيرًا ولا قليلًا مما تسمع.
ومما يؤثرُ في ترجمة الفارابي أنَّه كان في مجلس سيف الدولة، فأخرج عودًا وضرب عليه ففرح كلُّ أهل المجلس، وضحكوا من الطرب، ثمَّ غيَّر الضرب فنام كلُّ مَن هناك حتَّى البوَّاب. وربَّما كان غيَّر الضرب فبكوا جميعًا.
كان صاحبي الشابُّ طريحَ خَشَبَة الغُسْلِ، ولَطالما تواصيْنا – تفكُّهًا – مَن يمُتْ أوَّلًا فيُحسنْ صاحبُه غسلَه، ولا يتهاونْ فيما قد يأتي به البعضُ من بِدَعٍ يُلبسها العقلُ الخرافيُّ لُبسة الشرعِ، وما أكثر ما يفعلون، وما أكثر ما يفعلْنَ في الجنائز!
وها أنا أتذكَّرُ، فتعتمل الخواطرُ وتموج السرائرُ، وتبقى العبراتُ عييَّةً فهيهةً لا تُعربُ، وهكذا هي دائمًا: تخذلكَ أحوج ما تكون إليها. أتذكَّر – كذلك – طفلتيه الصغيرتين اللتين خَلَّـفَهما نَـبْـتـَتينِ لم تكادا تظهرانِ على وجه الأرضِ. أقلِّبُ الذاكرةَ الجموحَ بمداعباتٍ وضحكاتٍ مرحةٍ، فلا يظفرُ خدَّايَ إلا بدمعتينِ ضحلتينِ.
وها نحن ننطلقُ بالجنازةِ، فإذا بباكيةٍ ثكلى تُوقِّعُ بصوتٍ يتقاطرُ حزنًا على نياطِ آلاف القلوب، فتتصدَّع المآقي بسيولٍ من الدمعِ؛ ما كنتُ أظنُّ أنَّ في مساحة العينينِ متَّسعًا لأمثالها.
والسؤال الآن: هل الحاصل من التأثُّر عند قراءة القرآن مُوقَّعًا على المقامات بسبب المعاني نفسها، أم بسبب المقامات؟ فإن كان بسبب المقامات فلا يختلف التأثُّر حينئذٍ في كونه قد حدث بالاستماع للقرآن أو بالسماع للألحان المجرَّدة. وأمَّا إن كان بسبب معاني القرآن؛ فالتأثر والتدبُّر سيحدث بمجرَّد إمرار هذه المعاني على الذِّهن بأية وسيلة سواءً بالترتيل أو الحدر أو حتى القراءة الصامتة بالعين.
وقد يُقال: إنَّ القرآن حين يُسمع من شيخ ذي صوتٍ شجيٍّ فإن الانجذاب يحصل بذلك ما لا يحصل بالاستماع إلى مُهذرمٍ أو إلى غير ذي صوتٍ شجيٍّ. وتلك حقيقة لا يُمارَى فيها، ولكنَّ الإنصاف يقضي بأن نقول: إنَّ الصوت الشجيَّ كان وسيلةً لإمرار المعاني على الذهن، فإن فَهم السامع تلك المعاني وفَقِهَها حصل التدبُّر، وإلا فما عدى السامعُ طور التأثُّر بالصوت والالتذاذ باللحن.
إذًا؛ هناك درجتان من الانتباه يمرُّ بهما المستمع؛ الأولى: التأثُّر، وهذا التأثُّر يحصل بالاستماع إلى النغم سواءً صاحبه كلامٌ أم لم يصاحبه، وإن كان مجرَّد صوتٍ ملحونٍ يُخرجه العازف من بين شفتيه، وهذا ملاحظٌ مستفيضٌ.
الدرجة الثانية: وهي درجة التدبُّر، وتحصل بإعمال الفكر فيما تنطوي عليه الكلماتُ والعبارات من مقاصدَ ومعانٍ، وما تحمله في ثناياها من ضروبِ البيان والبديعِ. وهذا لن يكون إلا بإدراك معاني المفرداتِ قبل تركيبها، ثمَّ فهمها في سياقاتها، ثمَّ فهم التراكيب والجُمَل والعبارات. ويبقى التغنِّي مُجرَّد وسيلةٍ لإيقاظ التأثُّر وبعثه ومن ثمَّ توجيهه وتهيئته لتمام التدبُّر، على أنَّه ليس الوسيلة الوحيدة لذلك.
وهذا هو جوهر المسألة الذي يجب ألا يُغفل عنه: أنَّ التغنِّي وتزيين الصوت في القراءة وسيلةٌ لتحصيل التأثُّر الذي هو بدوره وسيلةٌ مُوصلةٌ إلى التدبُّر الذي هو غاية القراءة لقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولوا الألباب)[ص:29].
وعمومًا؛ فمن الوسائل المساعدة على التدبُّر نفسه: كلُّ ما من شأنه أن يفهمَ به القارئُ المعنى؛ مثل سَعَة الحصيلة اللغوية، والإلمام بقواعد علم البيان والبديع، والوقوف على أسباب النزول، ومعرفة الوقف والابتداء، وما إلى ذلك.
أمَّا من أسباب التأثُّر: فالاستعداد النفسيُّ، وتهيئة المكان المناسب للتلاوة بعيدًا عن الشواغل والصوارف، والطهارة بأنواعها، والتغنِّي الذي أمر به النبي .
ومن هنا نقف على منزلة التغنِّي، فهو وسيلة من وسائل التأثُّر الذي هو بدوره محفِّزٌ للتدبُّر. فاتَّضح أنَّ هناكَ أمورًا أكثر أهميةً بكثيرٍ من التغنِّي بدونها لا يحصل للقارئ كمال التدبُّر. ولا يُماري منصفٌ في أنَّ التدبُّر يمكن أن يحصل بدون التغنِّي، ولكنَّه لا يمكن بحالٍ أن يحصل بدون أن يكون القارئ مُدركًا لمعنى ما يقرأ. وبعبارة أخرى: فالتدبُّر يفتقر إلى أمورٍ ليس من بينها التغنِّي، وقد يكونُ التغنِّي ولا تدبُّر.
وجرِّب أن تُسمعَ سامعًا من عوامِّ الناس سورة (العاديات) مثلًا؛ بأجمل الأصواتِ، وأكثرها تقيُّدًا بقواعد التلاوة، وأكثرها إيفاءً بمتطلبات النغم والتوقيع الموسيقي، وذلك كلّه بعد أن تُهيِّئَ له الجوَّ المناسبَ للاستماع، والآن وقد انتهيتَ من التلاوة لا نشكُّ كثيرًا في أنَّه قد تأثَّر، وربَّما ذرفت عيناه بالدموع، سلْهُ إذًا عن المعنى الإجمالي للسورة، وما الذي تدبَّره؟ وما الذي استنبطه من القَسَمِ الربانيّ بالعادياتِ في هذا السياق؟ إلى غير ذلك...
ومرةً أخرى؛ جرِّبْ أن تكون رفيقَ أحد طُلَّاب علم التفسير الـمُجدِّين في سَفرةٍ صاخبةٍ مُضْنيَةٍ، وسله عن مناسبةِ القَسَمِ بالعادياتِ لِكَوْن الإنسان لربِّه كنودًا. غالب الظنّ أنَّه سيجيبُكَ – من اطِّلاعه أو من وجهة نظره – إجاباتٍ مُرضيةً.
والآن؛ قد يقال: ما الفائدةُ العمليَّةُ لهذا التقرير؟
الفائدةُ أن يتبوَّأ التغنِّي منزلته الحقَّيقية في أذهاننا على أنَّه وسيلةٌ لِوسيلةٍ لِغايةٍ؛ فلا يُقدَّم على الغاية. يقول تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) [الشورى:17]، فأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان بوضع الأمور في غير نصابها بتقديم تعلُّم المقامات على تعلُّم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه. فهل أُقيمَ الميزانُ بآلاف المسابقات والبرامج التي تتمحورُ حول الأصوات والتغنِّي في مقابل ما لا يذكرُ – قلَّةً – من مسابقاتٍ وبرامجَ تهتمُّ بالتفسيرِ والتدبُّر؟
وليسمح لي القارئ الكريم بشيءٍ من الاستطراد؛ إذ يلفتُ النظرَ ختامُ الآية الكريمة: (وما يدريك لعل الساعة قريب)[الشورى:17]، فكأنَّها – والله أعلم - إشارة ربَّانية إلى أنَّ الميزانَ إذا اختلَّ فلتنتظروا الساعة.
وهذا مُوافق ومنسجمٌ مع ما صحَّ عن النبي إذ قال: «بادروا بالأعمال ستًّا – فذكر منها - ونشأً يتخذون القرآن مزامير، يقدِّمونه يُغنِّيهم؛ وإن كان أقلَّ منهم فقهًا». وفي رواية : (لا يقدَّمون لأنَّهم فقهاء؛ ولكن ليُغنُّوا).
فكأنَّ من علامات الساعة اختلال الميزان؛ إذ يطغى الاهتمام بالوسيلة على الاهتمام بالغاية، وتُقدَّم الوسيلةُ لتؤمَّ الغايةَ!
وبهذا الميزان الحسَّاس يُمكنكَ أن تُثمِّنَ التجويد والتغنِّي كلًّا بثمنه الحقيقيِّ، فلا شكَّ أن القرآن والتجويدَ – الذي هو ضدُّ اللحنِ - وجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، أمَّا القرآن والتغنِّيي فليس الشأن فيهما كذلك. فليُقَمْ بالتجويد أوَّلًا، ثمَّ إن كان التغنِّي نقصًا من التجويد وعبئًا عليه؛ فليكن التجويد وإنْ بغير تَغَنٍّ.
وبهذا الميزان – أيضًا - يمكنكَ بلا تردُّد = أن تصنِّف القرَّاءَ في التمكُّنِ؛ فأعلاهم رتبةً هو الماهر بالتجويد المتقن أداءً في حسن صوتٍ، ويظلُّ كلُّ مُجوِّدٍ أفضلَ من كلِّ مَن ليس كذلك، وإن أوتيَ مزمارًا - أو أكثر - من مزامير آل داود.
***
ثالثًا: حول مناداة البعض بتغيير أسماء المقامات الموسيقية:
ولا شكَّ أنَّ ذلك لا يحلُّ أصل الإشكال، ولا هو في موضع النزاع من قريبٍ ولا من بعيد، فالعبرة بالمسمَّيات لا بالأسماء، يقول : «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الخمرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا...» الحديث.
وهذا عامٌ في ضروب المعاصي. ومَن ظنَّ أنَّ مَن ذهب من العلماء إلى تحريم توقيع القراءة على الألحان أو كراهته؛ إنما ذهب لذلك بسبب الاسم = فقد أساء الظنَّ بعلمهم ودقة استنباطهم.
فإن فرضنا فرضًا جدليًّا أنَّ القراءة بمقام (عجم) أو (نكريز) أو غيرهما؛ حرامٌ مُجمعًا على ذلك، أفهل تكونُ حلالًا إن سمَّيْناهما مثلًا: (عرب) بدل (عجم)، و(تبريز) بدل (نكريز) مع احتفاظهما بنفس أبعادهما؟! ما أظنُّ عاقلًا يقول بذلك.
أفهل يحلُّ الإشكال أن نسمِّيَ القراءة الحزينة من مقام (صبا) نغمةَ حزنٍ؛ إن كان مقام (صبا) نفسه - بتركيبته المعروفة - حرامًا؟
نحن بين احتمالين لا ثالث لهما: إمَّا أن تكون القراءة بهذه الطريقة حلالًا، وإمَّا أن تكون حرامًا، فإن كانت حلالًا فلا أبالي ما اسمُها، وإن كانت حرامًا؛ فلن يُغنيَ عنِّي تسميتها بتأويبِ الجبال وترصيع اللآل...
وغاية ما في أسماء المقاماتِ أنَّ لبعضها أسماءً أعجميةً؛ مثل: (رست)، (نهاوند)، (سيكاه)، (كار كرد) ... ونحو ذلك، أو أنَّ بعض تلك الأسماء مما لا يليقُ بجلال القرآن ووَقار قارئيه وحامليه؛ مثل (عُشَّاق)، (صبا) ونحو ذلك. فأمَّا الأسماء الأعجمية فلم يزل العرب يستخدمونها في وصف كثيرٍ من مفردات بيئتهم، وخصوصًا بعدما اختلط العرب بالأعاجم فرسًا ورومًا وغير ذلك. وأمَّا مفردات العشق ونحوه فيُمكن تغييرها بهذا الاعتبار.
ما أريد أن أقوله – ها هنا – إنَّ تصوير المشكلة على أنَّها مشكلة تسميةٍ وأسماءٍ فهذا اختزال مُخلٌّ، وبُعدٌ - كلَّ البعد - عن موضع النزاع لا يليقُ بعالمٍ أن يتورَّط فيه، بل يجب أن يُبحث في كُنه تلك المقامات بحثًا مُجرَّدًا عن أسمائها، فإن كانت حقيقتها تقضي بجوازها أُجيزت، ثمَّ بعد ذلك يأتي النظر في أسمائها، فما كان منها غير لائقٍ غُيِّرَ إلى ما يليق. وأمَّا إن أدَّى النظر الدقيق إلى أنَّ حقيقة تلك المقامات مما يجب أن يُنزَّه عنه القرآن؛ فمن الخيانةِ أن تُصوَّرَ القضيَّةُ على أنَّها قضيةُ أسماءٍ وألقابٍ.
ويمكن أن نُصعِّد الأمر إلى رموز السلَّم الموسيقي ذاته [دو ري مي فا صو لا سي ]، وهي الوعاء التي تُقدَّم من خلاله وجبةُ الموسيقى، فهل هي كأسٌ من الذهب والفضة يُقدَّمُ فيها الشراب العذب الزلال الحلال، أم يُقدَّم فيها الخمر؟ فأمَّا إن كان الذي يُقدَّم فيها الخمر فلا يصح أن نَدَع (دو ري مي) وأخواتهنَّ، ونرتشفُ بالشاليموه، وأما إن كان الشراب حلالًا فحينها يحق لنا أن نتساءل: هل (دو ري مي) فعلًا إناء من الذهب والفضَّة؟
***
رابعًا: إن كانت القراءة بالمقامات جائزةً، فكيفَ نتعلَّمها؟
نحن – كما قلنا - بين احتمالين لا ثالث لهما: إمَّا أن تكون القراءة بالألحان الموسيقية حلالًا، وإمَّا أن تكون حرامًا، فإن كانت حلالًا فإنَّ تعلُّمها بفهمٍ خيرٌ من تعلُّمها بالتقليد المجرَّد. وهذا حقيقةٌ لا يُمارَى فيها. أنت أمامك قصدٌ وبين يديكَ وسيلةٌ؛ فإن كان القصد والوسيلة مشروعَين كلاهما؛ فلا تُبالِ: امتطِ مطيَّتكَ واطرُق قصدكَ، أمَّا إن كان أحدهما أو كلاهما غير مشروعٍ؛ فقِفْ حيث أنت.
طبِّقْ هذه البدهيَّة على تعلُّم المقامات الموسيقية؛ فإن كانت القراءة بها مشروعةً؛ فتعلُّمها مشروعٌ ما التُزِمَ فيه بالوسيلة المشروعة.
أمَّا التعلُّم بمجرد التقليد بالمحاولة والتجربة، فيخطئ المقلد مرة، ويُصيب مرة حتى يُتقن فيقرأ قراءة مستقيمة غير نشازٍ = فإنَّ هذا يصير تورُّعًا في غير محلِّه ما دامت القراءة بالألحان مشروعة، ويصير تحايُلًا لا يليق بمسلم – فضلًا عن رجل من أهل القرآن - إن كانت القراءة ممنوعة، ولا ثالث لذينك الفرضين.
والمعروفُ المتواتر أنَّ لكثير من العلوم شقَّين: شقًا نظريًّا وشقًّا عمليًّا، وقد يُعبِّر عنهما المختصون بطرق التدريس والتربية: بالمجال المعرفي والمجال المهاري، وثالثهما المجال الوجدانيّ ولكنَّه لا يهمنَّا الآن. ومتى ما أتقن الطالب الجانب المعرفيّ كان أكثر قدرةً على التطبيق بمهارةٍ، فضلًا عن أنَّه يصير قادرًا على تعليم غيره وتوريث مهارته ومَلكتِه، كما يصير أكثر قدرة على ضبط الهَنَاتِ والتنبُّه لها. واعتبر بالتجويد، فمَن أخذه تقليدًا مجرَّدًا - وإن كان يقيمه إقامة القدح - لا يُقارن في القيمة العلمية بمَن أخذه نظريًّا وأتقنه عمليًّا في الوقت نفسه.
فإن علمتَ ذلك؛ يُصبح – في تقديري – من التورُّع الفاسد أن يُقال: المقامات لا تؤخذ ولا تُتعلَّم إلا تقليدًا بدون الخوضِ في قواعد الموسيقى النظرية وقوانين النغم وأبعاد المقامات وما أشبه ذلك مما يعرفه المختصون.
وإذا اتفقنا على ما سبق يمكن أن ننتقل إلى جزئيَّةٍ فرعيَّة، وهي وسائل التعليم، فلا يُطلب هذا العلم من الملحِّنين الموسيقيين ونحوهم من أهل الغناء، ولا يُطلَب بآلات الموسيقى، ولا يُطلَبُ بتوقيع ما لا يليق من كلام الأغاني السائرة في عصرنا مما طفح بساقط الإشارات وفاحش العبارات.
فإن قيل: لا نجدُ هذا العلمَ إلا عند هؤلاء الموصوفين. وهذه الفرضية على ما فيها من (الفنقلة) التعجيزية؛ يُجاب على (مُفنقلها)، بالقواعد الفقهية التي تضبط الضروريات وما تبيحه من المحظورات، فيقال: هل هذه ضرورة؟ وما مبلغها في الضروريَّات؟ وهنا يتبيَّن أهمية تقرير: هل التغنِّي وسيلة أم غاية. ويقال: هل الفائدة المرجوَّة من أمثال هؤلاء المعلمين من مُلحِّني الأغاني لا تتحقق إلا بهم؟ فإن قيل (نعم): يمكن الأخذ عنهم بشروط وتقييدات؛ أهمها: ألا يطلب بآلات، ولا يُطلب باختلاطٍ مع طُلَّاب الموسيقى للغناء، ولا يُطلب باختلاطٍ بين الرجال والنساء، ولا تمكَّن منه النساء وإن كنَّ قارئاتٍ، ولا يُمكَّن منه مشتهَرٌ بالتردُّد بين القرآن والغناءِ من باب سدِّ الذريعةِ... وغير ذلك من الضوابط والتقييدات التي تتأتى بالنظر والتجريب وجدَّة الجديد.
خامسًا: إن كانت القراءة بالمقامات جائزةً، فهل يُمكن أن يتخصص في طلبها وتعليمها بعضُ طلَّاب العلم ممن لديهم المَلَكَة الموسيقية؟
التخصص في العلوم مطلوبٌ، وكم أبدع المختصُّون وأضافوا بدقة نظرهم في الجزئيات التي لا يسبر غورها إلا مَنْ عاناها السنين ذوات العدد، فهل يمكنُ لبعض طُلَّاب العلم الشرعيِّ ممَّن ألـمُّوا بقدر كافٍ من علوم القرآن، وخصوصًا التفسير والتجويد واللغة أن يتخصصوا في التغنِّي بالقرآن تنظيرًا وتطبيقًا؟
لا تنسَ أنَّ الإجابةَ عن هذا السؤال فرعٌ عن القول بجواز تعلُّم المقامات الموسيقية بغرض إتقان التغنِّي بالقرآن. وأمَّا مَن لا يقول بالجواز فلا معنى عنده لهذا السؤال أصلًا.
وأمَّا عند القائلين بالجواز - وربَّما ذهبوا لأبعد من هذا الجواز = فيبقى التخصُّص في هذا الفرع مطلوبًا؛ على أن يُتنبَّه إلى ما يأتي:
• أنَّ شرف هذا التخصُّص لا ينهض للمقارنة بشرف التخصُّص في التفسير أو القراءات أو التجويد أو التعليم القرآني أو نحو ذلك.
• أنَّ المتخصِّص في هذا الفنِّ لابدَّ أن يُحصِّل قدرًا كافيًا من الفقه والتجويد والتفسير واللغة؛ لأنَّ هذا التخصُّص لم يُطلب لذاته وإنَّما طُلِبَ للتدبُّر المعتمد على التفسير، على ألَّا يُمسَّ التجويدُ بسوءٍ. وهذا ما لا يقوم به إلا من وُصِفَ من ذوي الـمَلكاتِ.
• أنَّ المتخصِّصَ مطالَبٌ بأن يجيبَ – بحثًا وتنظيرًا – على كثيرٍ من الأسئلة المطروحة في ثنايا هذا الكلام، وغيره مما يعتمل في الفكر؛ مثل:
ما الفرق بين المقامات الموسيقية وبين مقامات الأعاجم، وبينهما وبين مقامات أهل الغناء وأهل الفسق والخنا؟
ما الفرق بين التغنِّي وبين المقامات الموسيقية؟ وهل يمكن أن يقرأ قارئٌ فيأتي بما ترتضيه الأذواقُ وهو في قراءته تلك لا يسير على مقامٍ من المقامات المعروفة لا أصلًا ولا فرعًا؟
هل من الممكن أن يُبحث في الالتزامات التي يجب ألا يحيد عنها الموقِّع على المقامات في قراءته، بحيث لو تركها لكانت قراءته في عُرف التغني (نشازًا)؟ وهل من الممكن أن يتأتَّى - لزامًا - مواقفُ يكون فيها الملتزمُ مقامًا معيَّنًا عرضةً للإخلال بحكم تجويديٍّ معين إن صادف وجوده في الآية المقروءة بهذا المقام؟
هل يمكن تطوير آلياتٍ غير السلَّم الموسيقي لضبط قواعد التغنِّي؟ على أن تكون ذات فائدة عمليَّة في إكساب تلك المهارة فهمًا وأداءً؟
وغير تلك الأسئلة كثيرٌ....
***
سادسًا: هل يقاس التغنِّي على علم التجويد والعروض والنحو وغيرها؟
يُحاجج بعض المنظرين للتغنِّي بأنَّ علومًا لم تكن معروفةً للصحابة صارت من العلوم التي لا غنى عنها بحالٍ، مثل التجويد والنحو والعروض وغير ذلك، فهل يُقاس التغنِّي على هذه العلوم؟
المدقِّقُ قد يرى فروقًا جليَّةً بين هذه العلوم من جهة وبين التغنِّي من جهة أخرى؛ من أهمِّ هذه الفروق:
1. أنَّ القواعد الضابطة لهذه العلوم أُخِذَت باستقراءِ ما هو ثابتٌ في الميراث العلميِّ عن العرب قبل البعثة ثمَّ عن النبي وعن أصحابه وعن كبار تابعيهم. ولا مجال للتشكيك في المصدر التي استُنبطت منه تلك العلوم، فالنحو مأخوذٌ عن العرب الاقحاح وعن القرآن الثابت بالتواتر القطعيّ لفظًا وخطًّا، والتجويد مأخوذٌ بالتلقِّي المتواتر قطعًا، والذي لا مدخل للطعنِ فيه بحال، والعروض مستنبطٌ باستقراء آلاف الأبيات التي لا مطعن فيها - كذلك - اللهم إلا من (مرجليوث) و(طه حسين) ومَن سار على ضربهما ممن تهافت في هذه المسألة. مع العلم أنَّ هذا الطعن لا يؤثر على صحة الاستقراء والتقعيد للعروض.
أمَّا التغنِّي بالقرآن فلا يُمكن نسبة كيفيَّةٍ معيَّنةٍ منه إلى النبي وأصحابه، ولا يمكن نسبة كيفيةٍ معيَّنةٍ منه إلى العرب إبَّان نزول القرآن، فكيف يُقال بإمكان وضع قواعدَ للتغنِّي القرآنيّ على أصولٍ لا يمكن إثباتها؟!
إذًا؛ لا سبيلَ بحالٍ إلى نسبة هذا العلم إلى السلف، أو إلى قياسه على النحو أو التجويد أو العروض، ولا يعني هذا القولُ أنَّ – بالضرورة – بدعةٌ.
2. أنَّ ثمرة علمي النحو والتجويد كانت ظاهرةً بالسليقة في كلام الصحابة والتابعين وقراءتهم للقرآن قبل أن يفسد اللسان، أما علم النغم ( وأعني به – بالطبع – علم الموسيقى عامَّةً لا التغني بالقرآن) فليس عربيًّا – على الترجيح - حتى يقال: قد فسد بمخالطة العجم، بل نسبته إلى القراءة السليقيّة كاللحن إلى الفصاحة، لا كالنحو إلى العجمة. وحينئذٍ؛ يكون التصنيف فيه والتقعيد محافظة على اللسان الأعجميّ لا العربيّ. ويؤكِّد ذلك أنَّ السلف لم يفعلوه، في الوقت الذي ظهر تحذيرهم من كيفيات معيَّنة من التغنِّي، إذًا؛ فالدافع الذي دفعهم إلى وضع النحو والتجويد كان موجودًا مثلُه في حالة التغنِّي، فَلِـمَ لمْ يضعوا لنا علمًا في التغنِّي القرآني؟ إنَّ مسلكهم هذا يدلُّ على أنَّهم لم يروا لحفظ نمط التغنِّي العربيّ – إن جاز الاصطلاح - ضرورةً؛ إذ فهموا أنَّ المطلوب هو القراءة على السجيَّة، مع محاولة تحسين الصوتِ وتجميله على إمكانات كل قارئ وقدراته، ولو كان الأمر يتطلب أكثر من ذلك لفعلوه، كما فعلوا بوضعهم النحو والتجويد والعروض وغيرها من العلوم. وعندها يسعُنا ما وسعهم.
وقد يقال: إن ما سبق صحيح ولكننا صرنا الآن – والآن فحسب – إلى الضرورة التي لو صاروا إليها في زمانهم لفعلوا ما نريد أن نفعله الآن. فيقال: اثبت العرش ثمَّ انقش!
ومهما يكن من أمرٍ؛ فقد ظهر أنَّ قياس التغني على النحو والتجويد لا يستقيم. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
***
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وبعد؛
***
موضوعٌ ما أكثرَ ما كُتِبَ فيه وقيل، ومن العجب أن ترى الاختلاف فيه لا بينَ مجوِّزٍ ومُحرِّزٍ، بل بينَ مُوجبٍ ومُبدِّعٍ! ومن العجبِ – كذلك - أنَّك ترى الدليلَ الواحدَ يحتجُّ به الفريقانِ، ولكلٍ مأخذٌ ومنزعٌ. وملخَّص الداء والدواء: «لو سكت مَن لا يعلم لقلَّ الخلاف».
ولا شكَّ أنَّ هناك جملةَ أمورٍ، هي أقربُ ألا يختلف فيها أحدٌ بإذن الله، ومن شأن البدايةِ بهذه الأمور – في تقديري - أن يحسمَ كثيرًا مما يُعدُّ خِلافًا في المسألةِ.
وسوفَ أعرضها في نقاطٍ، بغضِّ النظر عن اعتقادي الشخصيّ في حكم القراءة بالألحان، وأرجو ألا يتسرَّع القارئُ فينسبني إلى قولٍ لم أقلْ به. وتذكَّر: لازم القول ليس بقولٍ إلا بعد عرضه وقبوله.
والآن إلى الأمور التي إخالنا لن نختلفَ عليها بإذن الله:
***
أوَّلًا: مَنْ أحقُّ أهل العلم بالنَّظَر في حُكم القراءة بالألحان؟
وللإجابة عن هذا السؤال أقدِّم بهذه المقدِّمة القصيرة: الأصل أنَّ العلم النظريَّ بالشيءِ – ولو كان هذا الشيء حرامًا – خيرٌ من الجهل به؛ وذلك لمَنْ تعلَّمه ليعرف حقيقته فيستطيع أن يحكم عليه، فهذا محمودٌ. وأما إن تعلَّمه لِيستعمله في باطلٍ فهذا حرامٌ اتِّفاقًا.
وفي مسألة القراءة بالألحان؛ إن تعلَّمها عالم متبحِّرٌ في علوم القرآن وخصوصًا ما كان منها وثيق الصلة بأدائه وتجويده رواية ودرايةً، وهو في الوقت نفسه ضليعٌ من علوم الفقه أصولًا وفروعًا= فمثلُ هذا العالِم – إن وُجِدَ – هو الجدير أن يقال فيُسمع له ويُعتبَر قولُه في مسألة القراءة بالألحان. هذا العالم سيكونُ قد أوتي حظًّا من العلم في مجالات النظر المتعلقة بمسألة القراءة بالألحان: القرآن وعلوم التلاوة ، والفقه، وقواعد علم الموسيقى النظرية.
ولا يجوز بحالٍ أن يتصدَّى لتلك القضية مَن لا يُتقن التجويدَ نظريًّا وعمليًّا، ومَن لم يحصِّل من الفقه ما يعصمه عن تنكُّب منهج البحث، ومَن لم يُحصِّل من اللغة ما يفهم به مواقع الأدلة وفروق المصطلحات..إلخ.
أمَّا اشتراطُ أن يُضيفَ المتصدِّي لتلك المسألة إلى ما سبق شيئًا من العلم بقواعد الموسيقى، فتأمَّل الكلام الآتي، وقِسْ عليه قياسًا مع الفارق تعلمْ ضرورة هذا التأصيل:
قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن (1/48): «... وقال الشافعي رحمه الله: السحر معصيةٌ إن قتل بها الساحر قُتِلَ، وإن أضرَّ بها أُدِّبَ على قدر الضرر.... ثم قال ابن العربي مُتعقبًا الشافعيّ: وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنَّه لم يعلم السحر. وحقيقته أنَّه كلامٌ مؤلَّف يُعظَّم به غير الله تعالى....» إلى آخر ما قاله رحمه الله.
فابن العربيِّ يُبيِّن – من وجهة نظره – من أين أُتِيَ الشافعيُّ فيما قال به، ذلك أنَّه لم يعلم حقيقة السحر، وإن كان بها عالِمًا لَمَا توقَّف في تكفير الساحر؛ لأنَّه لا سِحرَ إلا بِكُفر، وتلك حقيقةٌ يعرفها كلُّ مَن عَلِمَ السحر، أفلا يقال: إنَّ العالِمَ إذا تعلَّم الجزءَ النظريَّ من السحر دون أن يصل إلى أفق التطبيق العمليِّ، مثلُ هذا العالِم هو الجدير بأن يتكلم في الأحكام الفقهية المتعلقة بالسحر؟
وأكرِّر أنِّي لا أقصد من كلامي التسوية بين السحر والمقامات الموسيقية، فهو كما قلتُ قياسٌ مع الفارق، نحاول أن نصل من خلاله إلى ردّ بعض الأمور إلى نصابها، وذلك بتقرير مَنْ أحقِّ الناس وأجدرهم بالكلام في هذه المسألة، ولا يُطعنُ في صدره بالقول الـمُسبَّق: إنَّ المقامات الموسيقية حرامٌ، وإنَّ الموسيقى بها وبها.... فهل بلغتْ مبلغ السِّحرِ؟ كلُّ ما في الأمر أنَّ الحكم على الشيْء فرعٌ عن تصوُّره، فكيفَ يحكم عليه مَنْ لا يعلم حقيقته، وإن كان أفقه الناس إجمالًا؟!
وللتوضيح العمليِّ؛ فإنَّ أحد الأدلة التي يستعملها المانعون للقراءة بالألحان قولهم: إنَّ القراءة بالألحان والالتزام بقواعدها يحمل القارئ على الإخلال بأحكام التجويد، ويمثِّلون على ذلك بتلاوات مُسجَّلة – صوتًا وصورةً - لمشاهير القرَّاء يخرجون فيها عن أحكام التجويد، فيمدُّون أربع الحركات ستًّا، وربمَّا أطول من ذلك، ويَغُـنُّون ما مقداره الطبعيُّ حركتان أربعًا وربَّما أطول، وقِس على ذلك...
ويُجيب الـفريق الآخر بأنَّ ذلك ليس لزامًا، ولا يعني الخطأ في التطبيق أنَّ النظريَّة فاسدة، وإلا فإنَّ الشيخ فلانًا – وهو ممن يُحذى على منوالهم في الأداء القرآني – لا تصدر عنه مثل هذه السقطاتِ والهناتِ، وهو في الذروة تحفُّظًا عن النشاز.
فأين الحقُّ في ذلك؟
لا يُمكن أن نحسم النزاع في هذه القضيَّة الفرعية إلا بتحديد موضع النزاع فيها تحديدًا دقيقًا، وموضع النزاع هو: لزوم تأثير الالتزام بقواعد الموسيقى حال القراءة على الالتزام بقواعد التجويد.
ولتقريب المقصود؛ نقول: هل من الممكن أن يُبحث في الالتزامات التي يجب ألا يحيد عنها الموقِّع على المقامات في قراءته، بحيث لو تركها لكانت قراءته في عُرف التغني (نشازًا)؟ وهل من الممكن أن يتأتَّى - لزامًا - مواقفُ يكون فيها الملتزمُ مقامًا معيَّنًا عرضةً للإخلال بحكم تجويديٍّ معين إن صادف وجوده في الآية المقروءة بهذا المقام؟
وهو بحثٌ راودتني فكرته منذ أمد بعيد، ولكن لم تسعفني معرفتي القليلة بالموسيقى في إتمامه، وإن كانت آلياته متخيَّلةً في ذهني..
وأذكر أنَّ بداية التفكير بهذا الأمر أنِّي سمعتُ قارئًا يتلو قوله تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن) فقرأ: (كالـمُوهْل، كالعِيهن)؛ بإطالة ضمة الميم وكسرة العين القصيرتين لتصيرا طويلتين بمقدار ثلاث حركات على الأقل يُلاحظها كل مُبتدئ في التجويد. ولـمَّا ذكرتُ ذلك لأحد أصحابي ممَّن لهم إلمامٌ بالقواعد الموسيقية أجاب بما معناه أنَّ التزام القارئ بتقصير الحركة - كما يقتضي الصواب – كفيلٌ بأن يجعل قراءته نشازًا؛ لأنه يقتضي منه تسريع المقام في غير موضع التسريع أو شيئًا من هذا القبيل لا أعلمه تفصيلًا. فالقارئ ليس جاهلًا بأنَّه أخلَّ بالحكم التجويديّ، ولكنه بين مطرقة النشاز وسندان اللحن! والواضح أنَّه اختار الثاني على الأولى!
فإنْ أُمكن إتمام مثل هذا البحث الموثَّق بأدلة لا يُماري فيها مَانعٌ أو مُبيحٌ؛ كان للباحثه القولُ الفصلُ الذي يُغلق الباب (بالضَّبَّة والمفتاح كما يقول المصريون) على كلِّ اجتهادٍ غير منضبطٍ، بَلْهَ كلّ كلام مرسل على عواهنه... وهذا لن يكون إلا إذا جَمَع ذلك الباحث العلم بالفقه والقراءة شيئًا غير قليلٍ من العلم بالموسيقى.
أيضًا؛ من القضايا الجديرة بالتأصيل العلميّ المتأنِّي: هل هناك فارق بين المقامات الموسيقية كحقيقةٍ كُليَّةٍ، وبين مقامات الأعاجم؟ وهل هناك فارقُ بينها – أو بينهما – وبين مقامات أهل الخنا والفسق؟
وإذًا؛ فنحن مطالبون بضبط تلك المصطلحات ضبطًا علميًّا دقيقًا، يُستعانُ فيه بقواعد الموسيقى ذاتها؛ لتبيين ما بينها من فروق، كما يُستعان بالتقطيع العروضيِّ لبيان ما بين البحور من فروق:
1. المقامات الموسيقية.
2. مقامات الأعاجم.
3. مقامات أهل الغناء وأهل الفسق والخنا.
وهل الفروق جوهريةٌ؟ وهل هي كيفيةٌ أم كمِّيَّةٌ؟ إلخ....
كما يجب بيان الفرق بين المقامات الموسيقية وبين التغنِّي. وبعبارة أخرى: هل يمكن أن يقرأ قارئٌ قراءةً رصينةً وقُورًا لا يصفها أصحاب الأذواق المستقيمة بالنشاز وهي في الوقت نفسه لا تستقيم على أيِّ مقامٍ موسيقيٍّ معروف؟
لو نظم ناظم على أحد أوزان الخليل المهملة، أو نظم كلامًا مستقيمًا على وزنٍ غير خليليٍّ؛ فهل يعتدُّ به الشعراء؟ قد يُقال: نرجع إلى الذوق فإن قَبِلَ به وإلا فلا يُعتدُّ بذلك.
فإن كانت الإجابة (نعم)؛ قد يستقيم في الذوق قراءةُ قارئ بغير مقامٍ معروف، فساعتها قد يقال: هلمَّ نبحثْ في علم جديدٍ نستنبط من خلاله قواعد للتغني القرآني قسيمةً للمقامات الموسيقية المعروفة... وإن كانت الإجابة (لا) فما معنى قول بعضهم باختراع علم التغني بالقرآن، بمجرَّد الانتقاء من بعض المقامات ما يصلح للقراءة واستبعاد ما لا يصلح، ثمَّ استبدال بعض الأسماء بأسماء تلك المقامات؟ لو جاز ذلك لجاز لبعض المحافظين أن يقول – مثلًا : سأنتقي من بحور الشعر بعض البحور الرصينة، ولتكن تلك البحور المتباينة التفعيلة: الطويل والبسيط والمديد والخفيف والمنسرح...إلخ.. ثمَّ أنا مستبدلٌ الهطيل بالطويل، والمبسوط بالبسيط، والـمُفرِح بالمنسرح ...إلخ، ثمَّ أنا – بعد ذلك - مخترعٌ لكم علمًا اسمه علم عروض الرصانة! ففيمَ تباينَتْ قواعد هذا العلم المخترَع عن العروض الخليليِّ؟ وعلى أيِّ أساس، وبأيَّة معايير انتقيتَ واستبعدتَ؟ وهل يُسمَّى هذا الفعل اختراعًا؟
إنَّ في التأنِّي السلامة، ولو سكت مَن لا يعلم لقلَّ الخلاف، بل ولانعدمَ... وبتأصيل مثل تلك المسائل الجزئية؛ تتكامل النظرة إلى القضية، ويصير ساعتئذ الحُكمُ في القضيَّة – بإذن الله – من قبيل الحقِّ الذي هو أحقُّ أن يُتَّبع.
***
ثانيًا: التغنِّي بالقرآن وسيلةٌ أم غايةٌ؟
إنَّ أصل الالتذاذ إنَّما يكون بمحض الألحان والتوقيع الموسيقيّ على المقامات بغضِّ النظر عن المقروء ومعناه، وكلُّ بصيرٍ يرى ذلك من نفسه؛ إذ إنَّه يتأثر باللحن المعزوف المجرَّد عن الكلمات. ويتراوحُ نوع هذا التأثر ما بين النشوة والشوق والحزن والطرب وغير ذلك من ضروب التأثر، وإنَّما كان ذلك كذلك بسبب تغيُّر المقام الموسيقيّ، وتغيُّر طبيعة النغمة المعزوفة صعودًا وهبوطًا.
ويمكننا أن نذهب بعيدًا في إثبات هذا الزعم؛ إلا أنَّنا لسنا في حاجة إلى تأكيد المؤكَّد، وتجلية الواضح البيِّن، واكتفِ بأنْ تسمعَ لحنًا مُميَّزًا لأغنية بِلُغةٍ لا تجيدها، فإن فعلتَ فقد تتأثَّر تأثُّرًا بالغًا مع كونكَ لا تفقهُ كثيرًا ولا قليلًا مما تسمع.
ومما يؤثرُ في ترجمة الفارابي أنَّه كان في مجلس سيف الدولة، فأخرج عودًا وضرب عليه ففرح كلُّ أهل المجلس، وضحكوا من الطرب، ثمَّ غيَّر الضرب فنام كلُّ مَن هناك حتَّى البوَّاب. وربَّما كان غيَّر الضرب فبكوا جميعًا.
كان صاحبي الشابُّ طريحَ خَشَبَة الغُسْلِ، ولَطالما تواصيْنا – تفكُّهًا – مَن يمُتْ أوَّلًا فيُحسنْ صاحبُه غسلَه، ولا يتهاونْ فيما قد يأتي به البعضُ من بِدَعٍ يُلبسها العقلُ الخرافيُّ لُبسة الشرعِ، وما أكثر ما يفعلون، وما أكثر ما يفعلْنَ في الجنائز!
وها أنا أتذكَّرُ، فتعتمل الخواطرُ وتموج السرائرُ، وتبقى العبراتُ عييَّةً فهيهةً لا تُعربُ، وهكذا هي دائمًا: تخذلكَ أحوج ما تكون إليها. أتذكَّر – كذلك – طفلتيه الصغيرتين اللتين خَلَّـفَهما نَـبْـتـَتينِ لم تكادا تظهرانِ على وجه الأرضِ. أقلِّبُ الذاكرةَ الجموحَ بمداعباتٍ وضحكاتٍ مرحةٍ، فلا يظفرُ خدَّايَ إلا بدمعتينِ ضحلتينِ.
وها نحن ننطلقُ بالجنازةِ، فإذا بباكيةٍ ثكلى تُوقِّعُ بصوتٍ يتقاطرُ حزنًا على نياطِ آلاف القلوب، فتتصدَّع المآقي بسيولٍ من الدمعِ؛ ما كنتُ أظنُّ أنَّ في مساحة العينينِ متَّسعًا لأمثالها.
والسؤال الآن: هل الحاصل من التأثُّر عند قراءة القرآن مُوقَّعًا على المقامات بسبب المعاني نفسها، أم بسبب المقامات؟ فإن كان بسبب المقامات فلا يختلف التأثُّر حينئذٍ في كونه قد حدث بالاستماع للقرآن أو بالسماع للألحان المجرَّدة. وأمَّا إن كان بسبب معاني القرآن؛ فالتأثر والتدبُّر سيحدث بمجرَّد إمرار هذه المعاني على الذِّهن بأية وسيلة سواءً بالترتيل أو الحدر أو حتى القراءة الصامتة بالعين.
وقد يُقال: إنَّ القرآن حين يُسمع من شيخ ذي صوتٍ شجيٍّ فإن الانجذاب يحصل بذلك ما لا يحصل بالاستماع إلى مُهذرمٍ أو إلى غير ذي صوتٍ شجيٍّ. وتلك حقيقة لا يُمارَى فيها، ولكنَّ الإنصاف يقضي بأن نقول: إنَّ الصوت الشجيَّ كان وسيلةً لإمرار المعاني على الذهن، فإن فَهم السامع تلك المعاني وفَقِهَها حصل التدبُّر، وإلا فما عدى السامعُ طور التأثُّر بالصوت والالتذاذ باللحن.
إذًا؛ هناك درجتان من الانتباه يمرُّ بهما المستمع؛ الأولى: التأثُّر، وهذا التأثُّر يحصل بالاستماع إلى النغم سواءً صاحبه كلامٌ أم لم يصاحبه، وإن كان مجرَّد صوتٍ ملحونٍ يُخرجه العازف من بين شفتيه، وهذا ملاحظٌ مستفيضٌ.
الدرجة الثانية: وهي درجة التدبُّر، وتحصل بإعمال الفكر فيما تنطوي عليه الكلماتُ والعبارات من مقاصدَ ومعانٍ، وما تحمله في ثناياها من ضروبِ البيان والبديعِ. وهذا لن يكون إلا بإدراك معاني المفرداتِ قبل تركيبها، ثمَّ فهمها في سياقاتها، ثمَّ فهم التراكيب والجُمَل والعبارات. ويبقى التغنِّي مُجرَّد وسيلةٍ لإيقاظ التأثُّر وبعثه ومن ثمَّ توجيهه وتهيئته لتمام التدبُّر، على أنَّه ليس الوسيلة الوحيدة لذلك.
وهذا هو جوهر المسألة الذي يجب ألا يُغفل عنه: أنَّ التغنِّي وتزيين الصوت في القراءة وسيلةٌ لتحصيل التأثُّر الذي هو بدوره وسيلةٌ مُوصلةٌ إلى التدبُّر الذي هو غاية القراءة لقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولوا الألباب)[ص:29].
وعمومًا؛ فمن الوسائل المساعدة على التدبُّر نفسه: كلُّ ما من شأنه أن يفهمَ به القارئُ المعنى؛ مثل سَعَة الحصيلة اللغوية، والإلمام بقواعد علم البيان والبديع، والوقوف على أسباب النزول، ومعرفة الوقف والابتداء، وما إلى ذلك.
أمَّا من أسباب التأثُّر: فالاستعداد النفسيُّ، وتهيئة المكان المناسب للتلاوة بعيدًا عن الشواغل والصوارف، والطهارة بأنواعها، والتغنِّي الذي أمر به النبي .
ومن هنا نقف على منزلة التغنِّي، فهو وسيلة من وسائل التأثُّر الذي هو بدوره محفِّزٌ للتدبُّر. فاتَّضح أنَّ هناكَ أمورًا أكثر أهميةً بكثيرٍ من التغنِّي بدونها لا يحصل للقارئ كمال التدبُّر. ولا يُماري منصفٌ في أنَّ التدبُّر يمكن أن يحصل بدون التغنِّي، ولكنَّه لا يمكن بحالٍ أن يحصل بدون أن يكون القارئ مُدركًا لمعنى ما يقرأ. وبعبارة أخرى: فالتدبُّر يفتقر إلى أمورٍ ليس من بينها التغنِّي، وقد يكونُ التغنِّي ولا تدبُّر.
وجرِّب أن تُسمعَ سامعًا من عوامِّ الناس سورة (العاديات) مثلًا؛ بأجمل الأصواتِ، وأكثرها تقيُّدًا بقواعد التلاوة، وأكثرها إيفاءً بمتطلبات النغم والتوقيع الموسيقي، وذلك كلّه بعد أن تُهيِّئَ له الجوَّ المناسبَ للاستماع، والآن وقد انتهيتَ من التلاوة لا نشكُّ كثيرًا في أنَّه قد تأثَّر، وربَّما ذرفت عيناه بالدموع، سلْهُ إذًا عن المعنى الإجمالي للسورة، وما الذي تدبَّره؟ وما الذي استنبطه من القَسَمِ الربانيّ بالعادياتِ في هذا السياق؟ إلى غير ذلك...
ومرةً أخرى؛ جرِّبْ أن تكون رفيقَ أحد طُلَّاب علم التفسير الـمُجدِّين في سَفرةٍ صاخبةٍ مُضْنيَةٍ، وسله عن مناسبةِ القَسَمِ بالعادياتِ لِكَوْن الإنسان لربِّه كنودًا. غالب الظنّ أنَّه سيجيبُكَ – من اطِّلاعه أو من وجهة نظره – إجاباتٍ مُرضيةً.
والآن؛ قد يقال: ما الفائدةُ العمليَّةُ لهذا التقرير؟
الفائدةُ أن يتبوَّأ التغنِّي منزلته الحقَّيقية في أذهاننا على أنَّه وسيلةٌ لِوسيلةٍ لِغايةٍ؛ فلا يُقدَّم على الغاية. يقول تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) [الشورى:17]، فأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان بوضع الأمور في غير نصابها بتقديم تعلُّم المقامات على تعلُّم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه. فهل أُقيمَ الميزانُ بآلاف المسابقات والبرامج التي تتمحورُ حول الأصوات والتغنِّي في مقابل ما لا يذكرُ – قلَّةً – من مسابقاتٍ وبرامجَ تهتمُّ بالتفسيرِ والتدبُّر؟
وليسمح لي القارئ الكريم بشيءٍ من الاستطراد؛ إذ يلفتُ النظرَ ختامُ الآية الكريمة: (وما يدريك لعل الساعة قريب)[الشورى:17]، فكأنَّها – والله أعلم - إشارة ربَّانية إلى أنَّ الميزانَ إذا اختلَّ فلتنتظروا الساعة.
وهذا مُوافق ومنسجمٌ مع ما صحَّ عن النبي إذ قال: «بادروا بالأعمال ستًّا – فذكر منها - ونشأً يتخذون القرآن مزامير، يقدِّمونه يُغنِّيهم؛ وإن كان أقلَّ منهم فقهًا». وفي رواية : (لا يقدَّمون لأنَّهم فقهاء؛ ولكن ليُغنُّوا).
فكأنَّ من علامات الساعة اختلال الميزان؛ إذ يطغى الاهتمام بالوسيلة على الاهتمام بالغاية، وتُقدَّم الوسيلةُ لتؤمَّ الغايةَ!
وبهذا الميزان الحسَّاس يُمكنكَ أن تُثمِّنَ التجويد والتغنِّي كلًّا بثمنه الحقيقيِّ، فلا شكَّ أن القرآن والتجويدَ – الذي هو ضدُّ اللحنِ - وجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، أمَّا القرآن والتغنِّيي فليس الشأن فيهما كذلك. فليُقَمْ بالتجويد أوَّلًا، ثمَّ إن كان التغنِّي نقصًا من التجويد وعبئًا عليه؛ فليكن التجويد وإنْ بغير تَغَنٍّ.
وبهذا الميزان – أيضًا - يمكنكَ بلا تردُّد = أن تصنِّف القرَّاءَ في التمكُّنِ؛ فأعلاهم رتبةً هو الماهر بالتجويد المتقن أداءً في حسن صوتٍ، ويظلُّ كلُّ مُجوِّدٍ أفضلَ من كلِّ مَن ليس كذلك، وإن أوتيَ مزمارًا - أو أكثر - من مزامير آل داود.
***
ثالثًا: حول مناداة البعض بتغيير أسماء المقامات الموسيقية:
ولا شكَّ أنَّ ذلك لا يحلُّ أصل الإشكال، ولا هو في موضع النزاع من قريبٍ ولا من بعيد، فالعبرة بالمسمَّيات لا بالأسماء، يقول : «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الخمرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا...» الحديث.
وهذا عامٌ في ضروب المعاصي. ومَن ظنَّ أنَّ مَن ذهب من العلماء إلى تحريم توقيع القراءة على الألحان أو كراهته؛ إنما ذهب لذلك بسبب الاسم = فقد أساء الظنَّ بعلمهم ودقة استنباطهم.
فإن فرضنا فرضًا جدليًّا أنَّ القراءة بمقام (عجم) أو (نكريز) أو غيرهما؛ حرامٌ مُجمعًا على ذلك، أفهل تكونُ حلالًا إن سمَّيْناهما مثلًا: (عرب) بدل (عجم)، و(تبريز) بدل (نكريز) مع احتفاظهما بنفس أبعادهما؟! ما أظنُّ عاقلًا يقول بذلك.
أفهل يحلُّ الإشكال أن نسمِّيَ القراءة الحزينة من مقام (صبا) نغمةَ حزنٍ؛ إن كان مقام (صبا) نفسه - بتركيبته المعروفة - حرامًا؟
نحن بين احتمالين لا ثالث لهما: إمَّا أن تكون القراءة بهذه الطريقة حلالًا، وإمَّا أن تكون حرامًا، فإن كانت حلالًا فلا أبالي ما اسمُها، وإن كانت حرامًا؛ فلن يُغنيَ عنِّي تسميتها بتأويبِ الجبال وترصيع اللآل...
وغاية ما في أسماء المقاماتِ أنَّ لبعضها أسماءً أعجميةً؛ مثل: (رست)، (نهاوند)، (سيكاه)، (كار كرد) ... ونحو ذلك، أو أنَّ بعض تلك الأسماء مما لا يليقُ بجلال القرآن ووَقار قارئيه وحامليه؛ مثل (عُشَّاق)، (صبا) ونحو ذلك. فأمَّا الأسماء الأعجمية فلم يزل العرب يستخدمونها في وصف كثيرٍ من مفردات بيئتهم، وخصوصًا بعدما اختلط العرب بالأعاجم فرسًا ورومًا وغير ذلك. وأمَّا مفردات العشق ونحوه فيُمكن تغييرها بهذا الاعتبار.
ما أريد أن أقوله – ها هنا – إنَّ تصوير المشكلة على أنَّها مشكلة تسميةٍ وأسماءٍ فهذا اختزال مُخلٌّ، وبُعدٌ - كلَّ البعد - عن موضع النزاع لا يليقُ بعالمٍ أن يتورَّط فيه، بل يجب أن يُبحث في كُنه تلك المقامات بحثًا مُجرَّدًا عن أسمائها، فإن كانت حقيقتها تقضي بجوازها أُجيزت، ثمَّ بعد ذلك يأتي النظر في أسمائها، فما كان منها غير لائقٍ غُيِّرَ إلى ما يليق. وأمَّا إن أدَّى النظر الدقيق إلى أنَّ حقيقة تلك المقامات مما يجب أن يُنزَّه عنه القرآن؛ فمن الخيانةِ أن تُصوَّرَ القضيَّةُ على أنَّها قضيةُ أسماءٍ وألقابٍ.
ويمكن أن نُصعِّد الأمر إلى رموز السلَّم الموسيقي ذاته [دو ري مي فا صو لا سي ]، وهي الوعاء التي تُقدَّم من خلاله وجبةُ الموسيقى، فهل هي كأسٌ من الذهب والفضة يُقدَّمُ فيها الشراب العذب الزلال الحلال، أم يُقدَّم فيها الخمر؟ فأمَّا إن كان الذي يُقدَّم فيها الخمر فلا يصح أن نَدَع (دو ري مي) وأخواتهنَّ، ونرتشفُ بالشاليموه، وأما إن كان الشراب حلالًا فحينها يحق لنا أن نتساءل: هل (دو ري مي) فعلًا إناء من الذهب والفضَّة؟
***
رابعًا: إن كانت القراءة بالمقامات جائزةً، فكيفَ نتعلَّمها؟
نحن – كما قلنا - بين احتمالين لا ثالث لهما: إمَّا أن تكون القراءة بالألحان الموسيقية حلالًا، وإمَّا أن تكون حرامًا، فإن كانت حلالًا فإنَّ تعلُّمها بفهمٍ خيرٌ من تعلُّمها بالتقليد المجرَّد. وهذا حقيقةٌ لا يُمارَى فيها. أنت أمامك قصدٌ وبين يديكَ وسيلةٌ؛ فإن كان القصد والوسيلة مشروعَين كلاهما؛ فلا تُبالِ: امتطِ مطيَّتكَ واطرُق قصدكَ، أمَّا إن كان أحدهما أو كلاهما غير مشروعٍ؛ فقِفْ حيث أنت.
طبِّقْ هذه البدهيَّة على تعلُّم المقامات الموسيقية؛ فإن كانت القراءة بها مشروعةً؛ فتعلُّمها مشروعٌ ما التُزِمَ فيه بالوسيلة المشروعة.
أمَّا التعلُّم بمجرد التقليد بالمحاولة والتجربة، فيخطئ المقلد مرة، ويُصيب مرة حتى يُتقن فيقرأ قراءة مستقيمة غير نشازٍ = فإنَّ هذا يصير تورُّعًا في غير محلِّه ما دامت القراءة بالألحان مشروعة، ويصير تحايُلًا لا يليق بمسلم – فضلًا عن رجل من أهل القرآن - إن كانت القراءة ممنوعة، ولا ثالث لذينك الفرضين.
والمعروفُ المتواتر أنَّ لكثير من العلوم شقَّين: شقًا نظريًّا وشقًّا عمليًّا، وقد يُعبِّر عنهما المختصون بطرق التدريس والتربية: بالمجال المعرفي والمجال المهاري، وثالثهما المجال الوجدانيّ ولكنَّه لا يهمنَّا الآن. ومتى ما أتقن الطالب الجانب المعرفيّ كان أكثر قدرةً على التطبيق بمهارةٍ، فضلًا عن أنَّه يصير قادرًا على تعليم غيره وتوريث مهارته ومَلكتِه، كما يصير أكثر قدرة على ضبط الهَنَاتِ والتنبُّه لها. واعتبر بالتجويد، فمَن أخذه تقليدًا مجرَّدًا - وإن كان يقيمه إقامة القدح - لا يُقارن في القيمة العلمية بمَن أخذه نظريًّا وأتقنه عمليًّا في الوقت نفسه.
فإن علمتَ ذلك؛ يُصبح – في تقديري – من التورُّع الفاسد أن يُقال: المقامات لا تؤخذ ولا تُتعلَّم إلا تقليدًا بدون الخوضِ في قواعد الموسيقى النظرية وقوانين النغم وأبعاد المقامات وما أشبه ذلك مما يعرفه المختصون.
وإذا اتفقنا على ما سبق يمكن أن ننتقل إلى جزئيَّةٍ فرعيَّة، وهي وسائل التعليم، فلا يُطلب هذا العلم من الملحِّنين الموسيقيين ونحوهم من أهل الغناء، ولا يُطلَب بآلات الموسيقى، ولا يُطلَبُ بتوقيع ما لا يليق من كلام الأغاني السائرة في عصرنا مما طفح بساقط الإشارات وفاحش العبارات.
فإن قيل: لا نجدُ هذا العلمَ إلا عند هؤلاء الموصوفين. وهذه الفرضية على ما فيها من (الفنقلة) التعجيزية؛ يُجاب على (مُفنقلها)، بالقواعد الفقهية التي تضبط الضروريات وما تبيحه من المحظورات، فيقال: هل هذه ضرورة؟ وما مبلغها في الضروريَّات؟ وهنا يتبيَّن أهمية تقرير: هل التغنِّي وسيلة أم غاية. ويقال: هل الفائدة المرجوَّة من أمثال هؤلاء المعلمين من مُلحِّني الأغاني لا تتحقق إلا بهم؟ فإن قيل (نعم): يمكن الأخذ عنهم بشروط وتقييدات؛ أهمها: ألا يطلب بآلات، ولا يُطلب باختلاطٍ مع طُلَّاب الموسيقى للغناء، ولا يُطلب باختلاطٍ بين الرجال والنساء، ولا تمكَّن منه النساء وإن كنَّ قارئاتٍ، ولا يُمكَّن منه مشتهَرٌ بالتردُّد بين القرآن والغناءِ من باب سدِّ الذريعةِ... وغير ذلك من الضوابط والتقييدات التي تتأتى بالنظر والتجريب وجدَّة الجديد.
خامسًا: إن كانت القراءة بالمقامات جائزةً، فهل يُمكن أن يتخصص في طلبها وتعليمها بعضُ طلَّاب العلم ممن لديهم المَلَكَة الموسيقية؟
التخصص في العلوم مطلوبٌ، وكم أبدع المختصُّون وأضافوا بدقة نظرهم في الجزئيات التي لا يسبر غورها إلا مَنْ عاناها السنين ذوات العدد، فهل يمكنُ لبعض طُلَّاب العلم الشرعيِّ ممَّن ألـمُّوا بقدر كافٍ من علوم القرآن، وخصوصًا التفسير والتجويد واللغة أن يتخصصوا في التغنِّي بالقرآن تنظيرًا وتطبيقًا؟
لا تنسَ أنَّ الإجابةَ عن هذا السؤال فرعٌ عن القول بجواز تعلُّم المقامات الموسيقية بغرض إتقان التغنِّي بالقرآن. وأمَّا مَن لا يقول بالجواز فلا معنى عنده لهذا السؤال أصلًا.
وأمَّا عند القائلين بالجواز - وربَّما ذهبوا لأبعد من هذا الجواز = فيبقى التخصُّص في هذا الفرع مطلوبًا؛ على أن يُتنبَّه إلى ما يأتي:
• أنَّ شرف هذا التخصُّص لا ينهض للمقارنة بشرف التخصُّص في التفسير أو القراءات أو التجويد أو التعليم القرآني أو نحو ذلك.
• أنَّ المتخصِّص في هذا الفنِّ لابدَّ أن يُحصِّل قدرًا كافيًا من الفقه والتجويد والتفسير واللغة؛ لأنَّ هذا التخصُّص لم يُطلب لذاته وإنَّما طُلِبَ للتدبُّر المعتمد على التفسير، على ألَّا يُمسَّ التجويدُ بسوءٍ. وهذا ما لا يقوم به إلا من وُصِفَ من ذوي الـمَلكاتِ.
• أنَّ المتخصِّصَ مطالَبٌ بأن يجيبَ – بحثًا وتنظيرًا – على كثيرٍ من الأسئلة المطروحة في ثنايا هذا الكلام، وغيره مما يعتمل في الفكر؛ مثل:
ما الفرق بين المقامات الموسيقية وبين مقامات الأعاجم، وبينهما وبين مقامات أهل الغناء وأهل الفسق والخنا؟
ما الفرق بين التغنِّي وبين المقامات الموسيقية؟ وهل يمكن أن يقرأ قارئٌ فيأتي بما ترتضيه الأذواقُ وهو في قراءته تلك لا يسير على مقامٍ من المقامات المعروفة لا أصلًا ولا فرعًا؟
هل من الممكن أن يُبحث في الالتزامات التي يجب ألا يحيد عنها الموقِّع على المقامات في قراءته، بحيث لو تركها لكانت قراءته في عُرف التغني (نشازًا)؟ وهل من الممكن أن يتأتَّى - لزامًا - مواقفُ يكون فيها الملتزمُ مقامًا معيَّنًا عرضةً للإخلال بحكم تجويديٍّ معين إن صادف وجوده في الآية المقروءة بهذا المقام؟
هل يمكن تطوير آلياتٍ غير السلَّم الموسيقي لضبط قواعد التغنِّي؟ على أن تكون ذات فائدة عمليَّة في إكساب تلك المهارة فهمًا وأداءً؟
وغير تلك الأسئلة كثيرٌ....
***
سادسًا: هل يقاس التغنِّي على علم التجويد والعروض والنحو وغيرها؟
يُحاجج بعض المنظرين للتغنِّي بأنَّ علومًا لم تكن معروفةً للصحابة صارت من العلوم التي لا غنى عنها بحالٍ، مثل التجويد والنحو والعروض وغير ذلك، فهل يُقاس التغنِّي على هذه العلوم؟
المدقِّقُ قد يرى فروقًا جليَّةً بين هذه العلوم من جهة وبين التغنِّي من جهة أخرى؛ من أهمِّ هذه الفروق:
1. أنَّ القواعد الضابطة لهذه العلوم أُخِذَت باستقراءِ ما هو ثابتٌ في الميراث العلميِّ عن العرب قبل البعثة ثمَّ عن النبي وعن أصحابه وعن كبار تابعيهم. ولا مجال للتشكيك في المصدر التي استُنبطت منه تلك العلوم، فالنحو مأخوذٌ عن العرب الاقحاح وعن القرآن الثابت بالتواتر القطعيّ لفظًا وخطًّا، والتجويد مأخوذٌ بالتلقِّي المتواتر قطعًا، والذي لا مدخل للطعنِ فيه بحال، والعروض مستنبطٌ باستقراء آلاف الأبيات التي لا مطعن فيها - كذلك - اللهم إلا من (مرجليوث) و(طه حسين) ومَن سار على ضربهما ممن تهافت في هذه المسألة. مع العلم أنَّ هذا الطعن لا يؤثر على صحة الاستقراء والتقعيد للعروض.
أمَّا التغنِّي بالقرآن فلا يُمكن نسبة كيفيَّةٍ معيَّنةٍ منه إلى النبي وأصحابه، ولا يمكن نسبة كيفيةٍ معيَّنةٍ منه إلى العرب إبَّان نزول القرآن، فكيف يُقال بإمكان وضع قواعدَ للتغنِّي القرآنيّ على أصولٍ لا يمكن إثباتها؟!
إذًا؛ لا سبيلَ بحالٍ إلى نسبة هذا العلم إلى السلف، أو إلى قياسه على النحو أو التجويد أو العروض، ولا يعني هذا القولُ أنَّ – بالضرورة – بدعةٌ.
2. أنَّ ثمرة علمي النحو والتجويد كانت ظاهرةً بالسليقة في كلام الصحابة والتابعين وقراءتهم للقرآن قبل أن يفسد اللسان، أما علم النغم ( وأعني به – بالطبع – علم الموسيقى عامَّةً لا التغني بالقرآن) فليس عربيًّا – على الترجيح - حتى يقال: قد فسد بمخالطة العجم، بل نسبته إلى القراءة السليقيّة كاللحن إلى الفصاحة، لا كالنحو إلى العجمة. وحينئذٍ؛ يكون التصنيف فيه والتقعيد محافظة على اللسان الأعجميّ لا العربيّ. ويؤكِّد ذلك أنَّ السلف لم يفعلوه، في الوقت الذي ظهر تحذيرهم من كيفيات معيَّنة من التغنِّي، إذًا؛ فالدافع الذي دفعهم إلى وضع النحو والتجويد كان موجودًا مثلُه في حالة التغنِّي، فَلِـمَ لمْ يضعوا لنا علمًا في التغنِّي القرآني؟ إنَّ مسلكهم هذا يدلُّ على أنَّهم لم يروا لحفظ نمط التغنِّي العربيّ – إن جاز الاصطلاح - ضرورةً؛ إذ فهموا أنَّ المطلوب هو القراءة على السجيَّة، مع محاولة تحسين الصوتِ وتجميله على إمكانات كل قارئ وقدراته، ولو كان الأمر يتطلب أكثر من ذلك لفعلوه، كما فعلوا بوضعهم النحو والتجويد والعروض وغيرها من العلوم. وعندها يسعُنا ما وسعهم.
وقد يقال: إن ما سبق صحيح ولكننا صرنا الآن – والآن فحسب – إلى الضرورة التي لو صاروا إليها في زمانهم لفعلوا ما نريد أن نفعله الآن. فيقال: اثبت العرش ثمَّ انقش!
ومهما يكن من أمرٍ؛ فقد ظهر أنَّ قياس التغني على النحو والتجويد لا يستقيم. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
***