امانى يسرى محمد
New member
إنَّنا سنودِّع مَن كان مِنَّا حيَّاً عاماً ماضياً شهيداً، ويَستقبلُ عاماً مُقبلاً جديداً، وهذا مما يُوجب علينا الاعتبارَ والادِّكارَ، وأنْ نقفَ وقفةَ أُولي النُّهى والأبصارِ عبرَ الوقفاتِ التالية:
الوقفةُ الأولى: إنَّ كُلَّ ما رأتهُ عينُكَ أو سَمِعَتْ بهِ أُذنكَ مِن هذهِ الدُّنيا سَيؤُولُ إلى خراب، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
الوقفةُ الثانية: ذهابُ عامٍ ودُخولِ عامٍ يَتَنبَّهُ بهِ المسلمُ إلى أنَّ ذلكَ يزدادُ به قُرباً من أجله، إلى أن يصل موعده فينتقلُ من هذه الدار إلى دارٍ أُخرى، فالعاقلُ من يتفكَّر وهل تَسرُّه صحيفتُه إن لقيَ ربَّهُ هذا العام؟!
الوقفة الثالثة: ذهابُ هذا العام، يعني ذهاب أكثر من نصف مليون دقيقة من عُمُرِكَ، نبضَ قلبُكَ فيهِ قُرابةَ أربعينَ مليونَ نبضة! فكم في الدقيقةِ سبَّحتَ اللهَ وكبَّرتَهُ وهلَّلتَهُ وقرأتَ كتابَهُ؟
الوقفةُ الرابعة: حدث في هذا العام حوادث، سواءً عليكَ أو على أقاربك أو جيرانكَ أو مجتمعك، أو على مستوى العالَم، حوادِثٌ فيها هَمٌّ وغَمٌّ، وسُرورٌ وحُزنٌ، وَوَباءٌ وأسقامٌ، وفِتَنٌ وحُروبٌ، أطفالٌ تيَتَّمُوا، ونساءٌ تَرَمَّلت... فإذا سلَّمكَ اللهُ مِن ذلكَ فاحْمَدْهُ واشْكُرْهُ، وإنْ كُنتَ ابتُليتَ ببعضِ ذلكَ فانظرْ إلى مَن كانت مُصيبتُهم أعظم، فتعرفَ قدرَ نعمةَ اللهِ عليكَ.
الوقفةُ الخامسة: ذهابُ عامٍ يعني زيادةٌ في العُمُرِ، وتَقدُّمٌ في السِّنِّ، فهل نُحبُّ البقاءَ كما أحبَّهُ السَّلَفُ، فعن (أبي جَنَابٍ قالَ: لَمَّا احْتُضِرَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قالَ: أَعُوذُ باللهِ مِنْ صَبَاحٍ إلى النارِ، ثم قالَ: مَرْحَباً بالحَفَظَةِ، ثم قالَ: اللهُم إنكَ تَعْلَمُ أني لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ البَقَاءَ في الدنيا لحَفْرِ الأنهارِ، ولا لغَرْسِ الأشجارِ، ولكني كُنْتُ أُحِبُّ البَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، وظَمَأِ الْهَوَاجِرِ في الْحرِّ الشديدِ) رواه أبو بكرٍ الدينوري.
وقال ابنُ القيِّم: (وإنما حَسُنَ طُولُ الْعُمُرِ ونفَعَ ليحْصُلَ التذكُّرُ والاستدراكُ واغتنامُ الغَرَضِ والتوبةِ النَّصُوح، كما قالَ تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، فَمَن لَم يُورثهُ التعميرُ وطُولُ البَقَاءِ إصلاحُ مَعَائبهِ... وإلا فلا خيرَ لَهُ في حَيَاتهِ، فإنَّ العَبْدَ على جنَاحِ سَفَرٍ إمََّا إلى الجنََّةِ وإمََّا إلى النارِ) انتهى.
وقال عمر رضي الله عنه: (حاسِبُوا أنفُسَكُمْ قبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا، فإنهُ أَهْوَنُ -أوْ قالَ: أيْسَرُ- لحسابكُمْ، وزِنُوا أنفُسَكُمْ قبلَ أنْ تُوزَنُوا، وتجَهزُوا للعَرْضِ الأكْبَرِ: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) راه ابنُ المبارك في الزهد.
وعنِ الحَسَنِ البصري في قوله تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، (قالَ: لا يُلْقَى المؤمنُ إلاَّ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ: ماذا أَرَدْتُ بكَلِمَتِي؟ ماذا أَرَدْتُ بأَكْلَتِي؟ ماذا أَرَدْتُ بشَرْبَتِي؟ والعاجزُ يَمْضِي قُدُماً لا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ)، و(عن مَيْمُونِ بنِ مِهْرَانَ قالَ: لا يكُونُ الرجُلُ تَقِيَّاً حتى يكونَ لنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِن الشريكِ لشَرِيكِهِ) رواهُما ابنُ أبي الدُّنيا.
وجِماعُ محاسبة النفسِ كما قال ابنُ القيِّم: (أنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً على الفَرَائِضِ، فإذا تَذَكَّرَ فيها نَقْصاً تَدَارَكَهُ إما بقَضاءٍ أو إصلاحٍ، ثم يُحَاسِبُها على الْمَناهي، فإنْ عَرَفَ أنهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئاً تَدَارَكَهُ بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحيةِ، ثم يُحَاسِبُ نفْسَه على الغَفْلَةِ، فإن كانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله، ثم يُحَاسِبُهَا بما تَكَلَّمَ بهِ، أوْ مَشَتْ بهِ رِجْلاهُ، أو بَطَشَتْ يَدَاهُ، أو سَمِعَتْهُ أُذناهُ: ماذا أَرَدْتُ بهذا، ولِمَ فَعَلْتُه، وعلى أيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ، ويَعْلَمُ أنه لا بُدَّ أنْ يُنْشَرَ لِكلِّ حَرَكةٍ وكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانانِ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وكَيْفَ فَعَلْتَهُ؟ فالأوَّلُ: سُؤالٌ عن الإخلاصِ، والثاني: سُؤالٌ عن الْمُتَابَعَةِ: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92، 93] ) انتهى.
وقد قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ) رواه الترمذي وقال: (حَسَنٌ صَحِيحٌ).
الوقفةُ السادسة: العاقلُ عند دخول العامِ الجديدِ يُفكِّرُ ويُخطِّطُ ماذا سيفعلُ ويُنجزُ فيه من أعمالٍ صالحةٍ إن أطال الله بقاءه، وحُسنُ التخطيطِ هو من أهمِّ أسباب النجاح، قال صلى اللهُ عليه وسلم: (المؤمنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى اللهِ مِن المؤمنِ الضعيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ واسْتَعِنْ باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ لوْ أني فَعَلْتُ كانَ كذا وكَذا، ولكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشيطانِ) رواه مسلم.
الوقفة السابعة: من الأخطاء التي تقع عند نهاية كلِّ عامٍ، إرسال الرسائل بأن صحيفة هذا العام ستطوى فعليكم ختمه بالاستغفار، وبعضهم يطلب مسامحته وما شابه ذلك، وهذا كله لا حقيقة له، فالتوبةُ والمسامحةُ لا تُربط بنهاية عامٍ ودخولِ آخر
ومِنَ الأخطاءِ أيضاً: تخصيص الجمعة الأخيرة من العام بعبادةٍ لم يفعلها النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، وقد قال: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ) متفقٌ عليهِ.
اللهمَّ اجعلنا ووالدينا وأهلينا ممن طالَ عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُهُ وأجَلُه.
الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
شبكة الالوكة