موقع الدكتور عمر المقبل
New member
ساعةٌ مع طالب جامعي
[align=justify]
جمعني لقاء بطالب في المستوى الأول من كلية الشريعة، وكان يتوقد حيوية وحماساً لدراسته، ورأيت فيه وسمعت منه اعتدالاً في طرحه، لكنه فاجأني بأن بعض أصدقائه الذين حضروا بعض دروس العلماء وكبار طلاب العلم صاروا ينتقدون تلك الدروس، ويتحدثون عما فيها من أخطاء! فقال لي: صديقي فلانٌ الذي يكبرني بسنة ـ عمر صديقه عشرون سنة فقط ـ ينتقد العالم الفلاني، وله تحفظ على منهج فلان في دروسه ـ الشيخُ المشار إليه له عشرون سنة يلقي دروساً في المساجد وأعرفه جيداً ـ، وقال: إن طريقة العالم الفلاني ـ من العلماء الكبار ـ ليست جيدة، ولماذا يختار المتن الفلاني؟ المفروض يختار المتن الفلاني!
هذه خلاصة السويعة التي تحدث لي فيها عما لحظه من صديقه.
قد يبدو شيئاً صحياً أن يكون للشاب قدرة على النقد، وبيان ما هو جيد من غيره، ولكن السؤال الأهم: هل هذا السنُّ يؤهله لذلك؟ وما مدى رصيده من التجارب الذي جعله يقتعد هذا المقعد ليصوّب هذا ويخطّئ ذاك؟! وما مدى حضور النية الصالحة في هذا النقد؟
قلتُ لهذا الشاب: لو أردتَ أن تبني بيتاً، فهل ستذهب لمهندس حديث التخرج؟ أم تستشير مهندساً ذا خبرةٍ؟ فقال: الثاني بلا شك، فقلتُ: أتظن أن هذا المهندس المتخرج حديثاً لديه من الخبرة ما يمكّنه من تقويم وتقييم المشاريع الكبار؟ فقال: لا! فقلتُ له: إذا كان هذا لا يصح في علوم الهندسة أفيصح في نقد علوم الشريعة التي تشيب فيها اللحى حتى تُتقَن وترسخ فيها القدم؟!
ذكّرني هذا الموقف وما حكاه الطالب بمثلٍ مذكور في كتب الأمثال، نصّه: (إنَّكَ بَعْدُ في العَزَازِ فَقُمْ) والعَزَاز: الأرض الصُّلْبة، وإنما تكون في الأطراف من الأرَصِينَ، وهو يُضرَب لمن لم يَتَقَصَّ الأمر، وهو يظن أنه قد تقصَّاه!
وذكرَ شُرّاحُ هذا المثل القصة المشهورة التي وقعت للإمام المحدث الشهير الزُّهْري (ت:125هـ) حيث يقول رحمه الله: كنتُ أختلف إلى عبيدالله بن عبدالله بن مسعود (ت:94هـ)، فكنت أخْدُمه، وكان يقوم له إذا دخل، وإذا خرجَ وضع عليه ثيابه، ثم قال الزهري: فقدّرتُ أني استنطقت ما عنده ـ أي: حصّلتُ ما عنده من علم ـ، فلما خرجَ لم أقُمْ له، ولم أُظهِر له ما كنت أظهره من قبلُ! قال: فنظر إليَّ وقال: إنك بعدُ في العَزَاز فقم!! أي: ما زلت في أطراف العلم ولم تبلغ وسطه([1]).
كما أرجعني هذا اللقاء بهذا الطالب ـ وما حكاه عن صديقه ـ بالذاكرة ربعَ قرنٍ من الزمان، حين كنا في كلية الشريعة، وتزامَلْنا مع طلابٍ كانت عادتهم وهجّيراهم نقدَ فلان وفلان، والإزراءَ بالدراسة النظامية، وكنا نسمعُ منهم أن العالمَ الفلانيَّ في طريقة تدريسه أخطاء! والشيخَ فلانٌ كثيرُ اللحن في حديثه! في سلسلة من الملاحظات والانتقادات التي تتكرر في مجالس مختلفة، بمناسبة وبغير مناسبة.
دارت الأيام، ولا أذكر أحداً منهم ثبت على الطلب والتحصيل، بل إن بعضهم سلك مسالك غير محمودة، هدى الله الجميع للصواب.
والمقصود: أن أمثال هذه النماذج من الشخصيات التي تربت على لغة النقد المرتفعةِ وهي بعدُ في بواكير حياتها، ولا تقف عند الصورة التي ذكرها هذا الطالب الجامعي، بل تمتد إلى نقدِ المجتمع، والأمةِ بأكملها= هذه النماذج يجب أن تفهم أن ممارسة النقد علامةٌ صحية، لكن بشروط، من أهمها:
- الصدق مع الله، وأن يكون القصدُ النصحُ، لا الصعود على أكتاف من ينتقدهم من المشاهير، فإن هذا مزلق خطيرٌ قد يعاقَب عليه الشخص إذا ساء قصده.
- التجربةُ التي تؤهل لممارسة النقد، وإبداء وجهات النظر.
- التواصل ما أمكن مع صاحب الشأن، بدلاً من التحدث في كل مناسبة، فإن هذا قد لا يخلو من حظِّ النفس، وما أعزّ الإخلاص!
وختاماً: فإنني أوصي نفسي وإخوتي وأبنائي من شُداة العلم والخير، أن يتهموا الرأي، فللشباب شرّته، وللشباب حدّته وقوّته.
ولقد رأيتني حين كنا في بواكير الشباب نسمعُ من شيخنا العثيمين وغيره من أكابر شيوخنا ـ رحمهم الله ـ آراءَ كنا ننتقدها، واجتهاداتٍ كنا نستضعفها، وننظر لها بعين الاستغراب، فلما كبرنا، وتجاوزنا سنّ الأشد، وزاد العلم قليلاً= عرفنا وأدركنا كم كنّا نعمى عن كثير من العواقب التي حجبنا عن رؤيتها: ضعف العلم، وقلة التجربة.[/align]
[line]-[/line]
([1]) ينظر: مجمع الأمثال (1/ 52).
* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4106.html