لا شك أن حفظ القرآن و عدم تعريضه للنسيان أمر مطلوب من كل من أقبل على كتاب الله تعالى. فهو دليل قوي و برهان ساطع على محبة العبد لكلام رب العالمين و شدة تعلقه به. و فضائل الحفظ و التلاوة أكثر من أن تحصى و ما يترتب على ذلك من الخيرات في الدنيا و البرزخ و يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لكن على السائر في هذا الطريق أن يحذر من الانقطاع عن القراءة و مراجعة المحفوظ كيلا يكون ممن هجر القرآن و تركه ناسيا له غير مبالٍ. و قد حكى الله شكاية الرسول صلى الله عليه و سلم لربه هجران قومه القرآن, فقال سبحانه: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" , قوله "مهجوراً" – أي: أنه متروك بالكلية فلم يؤمنوا به و لم يرفعوا إليه رأساً و لم يتأثروا بوعيده و وعده. و في ذلك تلويحاً إلى أن الواجب على المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن كي لا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإن ظاهره ذم الهجر مطلقاً .
و قد حث النبي صلى الله عليه و سلم على تعاهد القرآن و حذر من نسيانه, فقال صلوات الله و سلامه عليه: "إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَت" . و قال صلى الله عليه وسلم : "بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ, وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ" . و في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا" . يقول ابن كثير: "مضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده؛ لئلًَّا يعرضه حافظه للنسيان، فإن ذلك خطأ كبير، نسأل الله العافية منه" .
و عن عبدالرحمن بن شبل رضي الله عنه أنه قال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، فَإِذَا عَلِمْتُمُوهُ، فَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ" . "و لا تجفوا عنه" أي: تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته, وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء . و المقصود أن المسلم يمتثل هذه الأوامر النبوية و يأخذ بهديه الكريم فلا يفرّط في هذا الجانب. و يسير على منهج السلف من الصحابة و التابعين و من سلك سبيلهم و يقتدي بهم في هذا الأمر و يقتفي آثارهم عسى الله أن يجعله ممن اتبع سبيلهم فيفوز في الدارين . و إن حدثته نفسه بالإشتغال بشيء آخر فليكن على علم بأن هذه "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ" . و لا ينبغي له أن يصرف همته و يبذل جهده في تحصيل شيء من ملذات هذه الدنيا و زخرفها و يترك الإشتغال بكلام رب العالمين حفظاً و تلاوة و عملاً, قال جل و علا: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴿87﴾ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ". يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى لنبيه: كما آتيناك القرآن العظيم، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك... وقوله: "لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ", أي: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية" .
و قد ورد عن السلف ذم نسيان القرآن و التحذير من هجره حتى يُنسى. يقول ابن المنادي : "ما زال السلف يرهبون نسيان القرآن بعد الحفظ لما في ذلك من النقص" . فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إني لأمقت القارئ أن أراه سمينًا نسيًا للقرآن" . و قال أبو العالية رحمه الله: "كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه" . و عن "محمد بن سيرين رحمه الله في الذي ينسى القرآن: كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا" . و قال طلق بن حبيب: "من تعلم القرآن ، ثم نسيه من غير عذر حط عنه بكل آية درجة ، وجاء يوم القيامة مخصوما" .و قال الضحاك بن مزاحم: "ما تعلم رجل القرآن، ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}ثم قال الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟ " .
وقبل ذكر حكم نسيان القرآن لا بد أن نعرف أن نسيان القرآن نوعان:
النوع الأول: الذي ينشأ لاشتغاله بأمر دنيوي – ولا سيما إن كان محظوراً – حتى يؤدي بصاحبه إلى إهمال مراجعة القرآن و ترك تلاوته, و هذا هو المذموم الذي ورد فيه الوعيد.
النوع الثاني: الذي لا ينشأ عن تقصير و إهمال, و إنما هو ناتج عن ضعف الذاكرة أو تقدم السن أو الإشتغال بأمور لا طاقة له في دفعها, و لا سيما إن كان نسيانه عن اشتغال بأمر ديني كالجهاد, و كذا تعلم العلم الواجب أو المندوب, و مثله الإشتغال بتعليم العلوم الشرعية, فكل ذلك لا يدخل في هجر الحفظ المذموم. و قد نقل ابن رشد المالكي الإجماع على ذلك .
فإذا عُلم هذا سهل معرفة حكم المسألة. الذي يظهر أن نسيان القرآن الناشئ عن إهمال و تقصير إلى الكبيرة أقرب و يعد ذنباً عظيماً. و ذلك و إن لم يصح في الباب شيء إلا أنه يدخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم في حديث الرؤيا الذي في البخاري و غيره: "أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ ", و الرفض هو الترك, و عند محمد بن نصر المروزي بلفظ: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يوما فقال : إني رأيت الليلة رؤيا ، بينا أنا نائم إذ جاء رجل فقال لي : قم ، فقمت ، فقال : امض أمامك ، فمضيت ، فإذا أنا برجلين رجل نائم ، وآخر قائم ، فإذا هو يجيء بحجارة فيضرب بها رأس النائم فيشدخه فإلى أن يجيء بحجر آخر قد ارتد رأسه كما كان ، قلت : سبحان الله : ما هذا ؟ قال : رجل تعلم القرآن فنام عنه حتى نسيه لا يقرأ منه شيئا ، كلما رقد في القبر أوقذه بالحجارة". و خاصة إذا جعلنا رواية محمد بن نصر المروزي مفسرة لهذه, و هي "رجل تعلم القرآن فنام عنه حتى نسيه لا يقرأ منه شيئا". و هذا إن حمل عليه, و إلا فكلام الرسول صلى الله عليه و سلم عام. قال ابن هبيرة : "رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة, لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس" . و ذكر الحافظ من فوائد الحديث: "التحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة ، وعن رفض القرآن لمن يحفظه". قال القرطبي : "من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه ، فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك ، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل ، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد" .
و ممن صرح بأنه كبيرة: النووي و السيوطي و ابن حجر الهيتمي و المناوي . و لم يزد شيخ الإسلام ابن تيمية على قوله: "فإن نسيان القرآن من الذنوب" .
يقول المناوي: " لأنه إنما نشأ عن تشاغله عنها بلهو أو فضول أو لاستخفافه بها وتهاونه بشأنها وعدم اكتراثه بأمرها فيعظم ذنبه عند الله لاستهانة العبد له بإعراضه عن كلامه... وفيه أن نسيان القرآن كبيرة ولو بعضاً منه وهذا لا يناقضه خبر : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان", لأن المعدود هنا ذنباً التفريط في محفوظه بعدم تعاهده ودرسه .
فعلى هذا هو من الكبائر في حق المفرّط المعرض, و أما المقبل المعتني الحريص على المراجعة فلا إثم عليه إن حصل له النسيان. و قد سئل العلامة ابن عثيمين: "نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟" فأجاب قائلًا : نسيان القرآن له سببان:
الأول: ما تقتضيه الطبيعة.
والثاني: الإعراض عن القرآن وعدم المبالاة به.
فالأول لا يأثم به الإنسان ولا يعاقب عليه، فقد وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ونسي آية، فلما انصرف ذَكَّرَه بها أبي بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا كنت ذكرتنيها", وسمع رسول الله قارئًا يقرأ، فقال: "يرحم الله فلانًا فقد ذكرني آية كنت أنسيتها". وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة ليس فيه لوم على الإنسان. أما ما سببه الإعراض وعدم المبالاة فهذا قد يأثم به . وبعض الناس يكيد له الشيطان ويوسوس له ألا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } فليحفظ الإنسان القرآن لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به" . و سئل: " لقد كنت أحفظ من القرآن الكريم ما يقارب من عشرة أجزاء ومنذ ثلاث سنوات نسيت ما كنت أحفظه إلا قليلاً وذلك بسبب دراستي فهل علي إثم في ذلك وهل أدخل في قوله تعالى "كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى"؟
فأجاب رحمه الله تعالى: لا تدخل في هذه الآية لأن قوله تعالى "كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا" المراد: فتركتها يعني فتركت العمل بها ولم ترفع بها رأسا ولم تر في مخالفتها بأسا هذا معنى النسيان هنا والنسيان يأتي بمعنى الترك كما في قول الله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي تركهم لأن الرب عز وجل لا ينسى النسيان الذي هو ضد الذكر ولكن لا ينبغي لمن من الله عليه بحفظ القرآن أن يهمله حتى ينساه بل يحافظ عليه ويتعهده لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بذلك... فإذا أمكنك الآن وأرجو أن يمكنك أن تعيد ما مضى فإن استعادته سهلة فاستعن بالله والتفت إلى القرآن واستذكر ما نسيت واسأل الله أن يفتح عليك وأن يذكرك ما نسيت" .
و الله تعالى أعلم