السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طرحٌ مميَّز للغاية ومبدع، وهذا ليس بغريب على كاتب مبدع مثل فضيلتكم أ.محمد بن جماعة، ونحن في مسيس الحاجة إليه، لإعادة ضبط دفَّة كثير من المشروعات الواعدة التي لمستُ فيها انحرافًا عن مسارها الـمرتجى بسبب عدم إحكام آلية التقويم بمعناه الشامل، والذي يمثِّل تحكيم المحرجات البحثية أحد أهمِّ عناصره.
ومما أعجبني للغاية فكرة الحكم (الكمومي) على درجة الأحاديث النبوية، وكل متخصِّص في العلوم التجريبية يعلم أهمية هذا التكميم فضلًا عن أنَّه ممكن للغاية، وبحكم تخصصي في الكيمياء الحيوية، وفي كيمياء الأغذية؛ فإننا نتعامل باستمرار مع مسائل من هذا النوع، بل إنَّ موضوع الألوان التي ضربتم به المثل على الأحكام الوصفية يتم تكميمه بطرق علمية فيما يُسمَّى بالنظام الدولي للألوان system) (CIE ، ولولا ذلك النظام الكمومي ما أمكن التعامل العملي التطبيقي مع الطابعات الملونة، ولا مع أجهزة التحليل اللوني والطيفي التي لا يخلو منها معمل من معامل التحليل، ولا مع الخطوط الآلية لإنتاج الغذاء والدواء وغيرها. وقل مثل ذلك في قياس الطعم والرائحة والملمس ...وغير ذلك من صفات المواد في الطبيعة التي ترصدها حواسّ الإنسان، فإنَّ التعامل العلمي العملي معها يكون كموميًّا. وإنما ضربتُ هذا المثال لأدلل على أنَّ الموضوع ممكنٌ، ولكنه يحتاج إلى من جمع بين قدر كافٍ من علوم الحديث، وقدر كافٍ من علوم الحاسوب وخصوصًا البرمجة، ويمكنني – إن شاء الله - أن أُسهم ببعض الأفكار إن توفرت الرغبة الصادقة في ذلك.
أمَّا مردوده التطبيقي العملي فقد يمثِّل فتحًا عظيمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنىً ليس على علم الحديث فحسب؛ بل على العلوم الشرعية ككل؛ وهذا متوقِّفٌ على دقَّة التأصيل، ودقَّة التنفيذ، وإذا كانت الثانية سهلة نسبيًّا، فإنَّ الأولى صعبة، ولكنها ليست مستحيلًا.
***
أما بقية طرحكم المميز فالإحاطة بمعظم جوانبه تحتاج لمناقشات مستفيضة، قد يضيق الوقت عنها، ولكن ما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه. وسوف أركِّز مداخلتي في بعض الموضوعات ذات الصلة بالطرح. وهي:
1. معايير تصنيف المجلات العلمية المحكمة.
2. قياس أهمية الكتب بشُهرة مقدِّميها ومقرِّظيها بغضِّ النظر عن قيمتها الفعلية، وإضافتها العلمية.
3. جناية المكتبة الشاملة على جودة البحوث الشرعية، والحاجة لبرمجية قياس نسبة الاقتباس المرجعيّ.
الموضوع الأول: معايير تصنيف المجلات العلمية المحكَّمة:
من المعروف أنَّ المجلات العلمية العالمية المحكَّمة في العلوم التطبيقية والإنسانية تخضع للتصنيف لتحديد قيمتها العلمية تبعًا لما يُسمَّى بـمعامل التأثير Impact factor، والذي يلاقي كثيرًا من الانتقادات والاعتراضات الواسعة، وأصبحت تصنيفات أخرى مثل
Eigen factor أكثر اعتمادية منه في كثير من الجامعات. وهي تصنيفات ترتَّب – بالدرجة الأولى – وَفقًا للتأثير العلمي للمجلة، والذي يخضع أساسًا لعدد مرات الاستشهاد بالأبحاث التي نشرتها المجلة في آخر عامين مقسومًا على إجمالي عدد المواد التي نشرتها المجلة والتي يمكن الاستشهاد بها.
وكنا نأمل أن يكون هناك مشروع عربي مشترك لتوحيد معايير التقويم والتصنيف للمجلات العلمية في الدراسات الشرعية. وهو مشروع تكلفته أقل بكثير من عشرات المشروعات الشكلية التي لا تُقدِّم ولا تؤخِّر، والتي لا تعدو أكثر من كونها حبرًا على ورقٍ.
ومن المعايير المقترحة لتقويم المجلات العلمية في الدراسات الشرعية خلافًا لمعامل التأثير:
·
ضيق نطاق التخصص: فمجلة متخصصة في الدراسات القرآنية، ستكون ذات تصنيف أعلى للباحثين المتخصصين في الدراسات القرآنية من مجلة أخرى منفتحة على نشر الأبحاث الشرعية بصفة عامة. فكلما كانت المجلة أكثر تخصصًّا وأضيق نطاقًا فهي ذات تصنيف أعلى لبحوث التخصص. وحبذا لو وجدنا المجلة المتخصصة في فرع معين من فروع الدراسات القرآنية؛ كالأبحاث التفسيرية أو التعليم القرآني أو الإعلام القرآني أو نحو ذلك. ولعل مجلة (تطوير) تُلبي بعض هذه الحاجة، وتكون فاتحة خير في هذا الباب.
·
القيمة التطبيقية للبحوث المنشورة في المجلة خلال آخر فترة معينة (آخر سنتين مثلًا). وتتحدد القيمة التطبيقية بناءً على: المردود التطبيقي الآني والآجل، وإمكانية التطبيق.
·
الثقل العلمي للمحكمين. ويتحدَّد الثقل العلمي للمحكمين بقيمة إنتاجهم العلمي كمًّا وكيفًا، ويُهتمُّ بالنظر في درجة إتقانهم للعلوم البينية المشتركة مع تخصصهم الدقيق، وتتضح من خلال اتجاهاتهم البحثية. كما يتحدد الثقل العلمي بخبراتهم العملية؛ وخصوصًا في مجال التحكيم العلمي، وإتقان علوم الآلة الشرعية، بالإضافة لإتقان أكثر من لغة وعلوم الحاسب، ونحو ذلك.
·
مساحة الانتشار الورقي والإلكتروني للمجلة. وإتاحة تحميل الأبحاث الكاملة أو الملخصات الوافية من قواعد البيانات الرقمية مقابل رسوم معينة كما هي الحال في Elsevier .
·
الاهتمام الجديّ باختيار المحكمين في الأبحاث النوعية الدقيقة: إذ يترتب على اتساع نطاق النشر في المجلة إيكال التحكيم إلى مُحكِّم معروف بقيمته العلمية في تخصص قريبٍ من تخصص البحث، ولكنَّه ليس هو هو، مما ينتج عنه سوء تصوُّر لمسائل البحث، فتكثر اعتراضات المحكم الدالة على عدم إلمامه بفكرة البحث، أو تكون تعليقاته سطحية، مما يُهدر على الباحث فرصة الاستفادة من ملحوظات التحكيم.
·
اختيار عدد المحكمين الكافي في الأبحاث البينية: وهو أمرٌ تهتمُّ به المجلات العالمية في العلوم التطبيقية، إذ فضلًا عن الاهتمام باختيار المحكم المناسب المتخصص في هذه المنطقة البينية بعينها؛ تهتمُّ تلك المجلات باختيار محكم واحد على الأقل في كلِّ تخصصٍ من التخصصات التي تكتنف هذه المنطقة البينية. فإذا كان البحث – على سبيل المثال - في تقنية التعليم القرآني، فإنَّه يجب أن يُحكِّم البحث ثلاثة محكمين، وليس اثنين كما هو المعتاد في السواد الأعظم من مجلات الدراسات الشرعية، على أن يكون أحدهم متخصصًّا تخصصًا دقيقًا في تقنية التعليم القرآني، والثاني متخصصًا في تقنية التعليم، والثالث متخصصًا في التعليم القرآني. ولو كان المجال والوقت يتسعان للإفاضة في شرح أهمية ذلك والتدليل عليه لفعلتُ.
·
إتاحة التغذية الراجعة من الباحث. وهو أمر يُميِّز المجلات العالمية. ومن المجلات القرآنية التي لمست فيها تميُّزًا في هذا الجانب في الفترة الأخيرة: مجلة تبيان للدراسات القرآنية.
***
الموضوع الثاني: قياس أهمية الكتب بشُهرة مقدِّميها ومقرِّظيها بغضِّ النظر عن قيمتها الفعلية.
وهو موضوع طرحته قديمًا، وتجده على هذا الرابط:
تقديم من لا يُحسن لمن لا يستحقّ، وأثره على الإبداع النقدي.
***
الموضوع الثالث: جناية المكتبة الشاملة على جودة البحوث الشرعية، والحاجة لبرمجية قياس نسبة الاقتباس المرجعي:
لا شكَّ أنَّ مشروع المكتبة الشاملة من أفضل المشروعات العلمية الإسلامية في نصف القرن المنصرم على الأقل، ولكنّها كانت سببًا غير مباشر في ظهور كتابات علمية ليست على المستوى العلمي الكافي من التحرير والتدقيق. والسبب الذي لمسته بنفسي أن كثيرًا من الباحثين يكتفون بإدخال كلمات بحث معينة، ثمَّ يقرؤون ما يخرجه لهم محرك بحث المكتبة، ثم ينقلونه حرفيًّا، بما يتضح للمدقق أنَّهم أخذوه نسخًا ولصقًا Copy & Paste بدون أن يقرؤوه قراءة متمعنة! إي والله.
ولعل ذلك يُعلمنا: لِـمَ كان بعض السلف ينقم على مُخترع فهرسة الكُتب؛ لأنه يركن بطالب العلم إلى الدَّعة، والاقتصار من الكتاب على قراءة الموضوع المراد استلالًا من سياق الكتاب؛ فكيف لو عاش ليشهد ما نحن فيه من رفاهية؟!
وقد صرتُ أمسكُ بكتابٍ لبعض المشاهير المشار إليهم، فلو كان للكلام المزبور آذانٌ صاغية وقيل له: ارجع من حيث أتيتَ = لم يَبق للمؤلف إلا الورق الأبيض!
ولقد وقفتُ على أخطاء ناجمة عن سوء توظيف المكتبة الشاملة ونحوها يمكن تقسيمها إلى أربعة مستويات من الخطورة:
الأولى: من ينسخ ويلصق بدون أن يقرأ قراءة متأنية مدققة، فيأتي كلامه ناقضًا أوله لآخره، مليئًا بالأخطاء العلمية، خاليًا من التحرير والفائدة. وهذه أخطرها.
الثاني: من يكتفي بقراءة ما تخرجه له المكتبة من نصوص تَصادَف أن وُفِق في كتابة اللفظ المبحوث به، فأخرجت له نصوصًا ذات علاقة بموضوعه، ولكنها أغفلت نصوصًا أكثر منها أهمية وصلة ببحثه، لأنَّ المؤلف لم يفطن إلى أنَّه سيأتي بعده أقوامٌ يبحثون بلفظٍ معيَّن، فعبَّر عن مراده بعباراتٍ صفرًا من هذا اللفظ! وما أُشبِّه هذه الحال إلا بحامل كَنْزٍ يسعى خلفه مطاردوه بكلب بوليسيٍّ شمَّموه قطعة من ثياب حامل الكَنزِ، فلما أحسَّ صاحبنا منهم ذلك خلع ثيابه وتركها مستبدلًا بها، ومضى في سبيله حاملًا كنزه، فلم يُدركه الرصد، لأنَّ الكلب مال بهم إلى الملابس الخاوية! ولو شئت لأتيتُ على ذلك بمئات الأمثلة من مؤلفات المشاهير.
الثالثة: من ينقل النصَّ كما هو بأخطائه الإملائية والنحوية، وأغلاطه الناتجة عن إغفال مقابلة المطبوع. وقد يُنشِّط خيار الضبط بالشكل الكامل المتَّبع في كثير من كتب الشاملة، -وهو مما يحتاج إلى وقفة مع القائمين على المشروع؛ لأنَّ الضبط بالشكل الكامل غير مستحبٍّ في غير القرآن؛ وإنما اصطلح المحقِّقون على الاكتفاء بشكل ما يُوهِم غالبًا. وهو أمرٌ نسبيٌّ، ولكنه لا يعني أنَّ الشكل الكامل هو الخيار الأمثل، فضلًا عن أنَّ الأخطاء الناتجة عن التزام الشكل الكامل قد تتجاوز – في كثير من الأحيان – التقصير الناتج في ضبط الألفاظ الـمُوهِمة. أضف إلى ذلك الجهد والوقت المبذولين في الضبط الكامل. المهم أنَّ صاحبنا يُنشِّط هذا الخيار فيبدو بعض كتابه مشكولًا شكلًا كاملًا بعُجره وبُجره، وبعضه خلوًا من الشكل تمامًا. بل قد تجد نقلًا عن أحد العلماء مشكولًا وحديثًا نبويًّا شريفًا غير مشكول.
الرابع: أخطاء في العزو والتخريج؛ ناتجة عن عدم المقابلة بالمطبوع.
ولا أريد أن يفهم أحدٌ من كلامي غير مُراده ولا أن يُحمِّله ما لا يحتمل، فللمكتبة الشاملة يدٌ بيضاء على كلِّ طالب علم جادٍّ، ولكنَّها في الوقت نفسه أتاحت للمتسوِّرين مرتقىً ذلولًا، وحملتْ بعض طلبة العلم على الدَّعة.
والخلاصة أن استخدام المكتبة الشاملة في البحث العلمي له حدود وضوابط وأصول يجب ألا يتجاوزها طالب العلم الجاد. وهو موضوع مطروح للمناقشة.
والسؤال المتعلق بموضوعنا الأساسيّ حول جودة الأبحاث الشرعية:
هل يمكن ابتكار برمجية تُقيس حجم الاقتباس في الأبحاث النظرية من الإنترنت ومن الأبحاث المسجلة في قواعد البيانات الرقمية، ومن الكتب الإلكترونية في الشاملة، وغير ذلك من النصوص الإلكترونية؟ وأمَّا فائدة ذلك فمن وجوه:
الأول: اتخاذ نسبة الاقتباس كدالَّة على جودة البحث وأصالته في كثير من الأحيان، والعلاقة بينهما عكسية.
الثاني: الوقوف على الأفكار غير المعزوَّة. وهذا يجعل كثيرًا من الباحثين يُفكر ألف مرة قبل أن ينتحل أفكار غيره. وكثيرةٌ هي المعارك المثارة حول سرقة الأبحاث العلمية من طروحات المدونين وروّاد الملتقيات العلمية الجادَّة؛ اتكالًا على أنّ المجلات العلمية التي تنشر فيها هذه السرقات لا يطَّلع عليها إلا المحكمون وأعضاء لجان الترقيات!
الثالث: دفع الباحثين إلى زيادة مساحة مناقشة النصوص وتحليلها وتحريرها رغبةً في تقليل النسبة المشار إليها، ومنع الباحثين من الاستطراد والتضخيم الكمِّي للبحوث.
ولا شكَّ أن مجموع هذه الأمور يجعل البحوث الشرعية تتجه تصاعدًا نحو الجودة النوعية المرغوبة.
***
ملحوظة: رابط تحميل بحوث الندوة المشار إليها لا يعمل، فنرجو إعادة تحميلها ممن عنده نسخة منها.