لو تأملت آية سورة نوح لو جدت أن لفظ"ناراً" نكرة، وهذا والله وأعلم عذاب خاص غير المذكور في حق آل فرعون فس سورة غافر وهو العرض على النار.
فتساوى الكفار في عذاب البرزخ ليس بلازم.
أما قوله تعالى : (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا)
فهي في سياق قصة قوم نوح عليه السلام
وقد اختلف في المراد بالنار هنا على أقوال أشهرها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد نار جهنم ، وهو قول ابن جرير الطبري وابن عطية والواحدي وابن جزي وأبي حيان وجماعة من المفسرين .
وعليه يكون التنكير للتهويل، والتعبير بالفعل الماضي لإفادة تحقق العذاب.
وتكون الفاء إما لبيان سرعة العقوبة وقرب اليوم الآخر كما قال تعالى: (ونراه قريبا) فكأنهم إذا عاينوا العذاب السرمدي كأنهم لم يلبثوا قبله إلا قليلاً ، نعوذ بالله من سخطه وعقابه.
وإما سببية مؤكدة لـ(مِن) السببية في قوله : (مما خطيئاتهم)
والتعقيب بالفاء لا يقتضي عدم تعذيبهم في البرزخ بالعرض على النار ، وإنما طوي على هذا المعنى ذكر عذاب البرزخ ، ودلت الفاء على قرب اليوم الآخر
قال الألوسي في معنى التعقيب بالفاء في الآية على هذا القول: (وهو على هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع)
والقول الثاني: أن المراد بالنار في هذه الآية نار يعذبون بها في البرزخ
وهذا القول ذكره السمعاني والزمخشري وأبو حيان والشوكاني والألوسي وغيرهم ولم أر من جزم به من المفسرين وإنما يذكرونه قولاً ، ولم أره منسوباً لأحد من المتقدمين ، وإن كان قد استدل بهذه الاية عدد من المتأخرين من المعتنين بعلم الاعتقاد على إثبات عذاب القبر، والذي يظهر أنهم إنما قالوه فهماً لا رواية.
والتعذيب بالنار في البرزخ ثابت في السنة أيضاً ففي الموطأ والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا وَرِقاً إلا الأموال الثياب والمتاع قال فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه و سلم غلاما أسود يقال له: مِدْعَم فوجَّه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى وادي القرى حتى إذا كنا بوادي القرى بينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاءه سهم عائرٌ فأصابه فقتلَه.
فقال الناس: هنيئا له الجنة!
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً).
قال: فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بِشِرَاك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (شراك أو شراكان من نار).
وللدارقطني تعليق لطيف على هذا الحديث، فليطلبه المعتنون بعلم العلل.
القول الثالث: أن النار هي من نار الدنيا عذبوا بها عند إغراقهم زيادة في تنويع العذاب عليهم جزاء وفاقاً لأعمالهم ، فكانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب
وهذا القول في تفصيله أقوال وهو بعمومه مروي عن الضحاك ، ذكره الثعلبي والبغوي وابن الجوزي وغيرهم.
وفي الآية أقوال أخرى وتوجيهات لغوية مختلفة وما ذكرته آنفاً هو خلاصة ما قيل في المراد بالنار في هذه الآية.
وعلى القول الأول الذي هو قول نخبة من أئمة المفسرين ليس في الآية دليل على عذاب القبر ولا على نفيه.
ومما يرجح هذا القول أن صرف المعنى إلى عذاب جهنم أولى وأعظم شأناً من صرفه لعذاب البرزخ لأن ذكر النار هنا مفرد فصرفه لأعظم المعنيين أولى
وأما آية غافر فقد فصلت ذكر العذابين فهي نص في إثبات عذاب البرزخ ، وهي كما هو معلوم في سياق قصة فرعون وقومه فلا تعارض أصلاً بين الآيتين على جميع الأقوال.
والعرض على نار جهنم نوع من أنواع عذاب البرزخ ، وهو غير التعذيب بالنار في البرزخ. نسأل الله السلامة والعافية.
وفي الموطأ والصحيحين من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ أحدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعَشِيِّ ، إنْ كان من أهل الجنةِ فمن أهلِ الجنةِ ، وإن كان مِنْ أهلِ النارِ فمن أهلِ النار ، فيقال : هذا مقعُدك حتى يبعَثَكَ الله يوم القيامة)
وقد استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم على أن العرض عام للمؤمنين والكفار.
نسأل الله تعالى الجنة ونعوذ به من خزي الدنيا ومن عذاب القبر وعذاب النار.
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.