المؤلف ليس له علاقة بالشيعة إلا نقل أخبار كتبهم، وهذه ترجمة وجدتها للشيخ حاجي خليفة رحمه الله للشيخ محمد زاهد الكوثري:
ترجمة ( كاتب جلبي ) مؤلف ( كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون )
من أهم العلوم علم أحوال المؤلفات فإنه أول مرحلة من مراحل البحث لمن لم يتعود الاقتناع في العلم بما حضر وأراد التعمق في العلم الذي يعانيه بكل ما أمكن, ومن لا يعلم ما ألف من الكتب في موضوع بحثه يطول عليه أمد فحصه بدون أن يحصل منه علي طائل .
ومن أشهر ما ألف في علم أحوال الكتب , كتاب ( كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ) للعلامة مصطفى بن عبد الله الأسطنبولي المعروف بكاتب جلبي , من رجال الدولة العثمانية في القرن الحادي عشر , وإن لم يترجم له في خلاصة الأثر , وقد رأيت سرد ترجمته لرغبة كثير من الباحثين في معرفة أحوال هذا المؤلف الفذ , حيث كان ( كشف الظنون ) أول كتاب يتناولونه للبحث عما يريدون من الكتب , وقد آتاه الله شهرة بالغة بين أهل العلم في الشرق والغرب . وإلي القارئ , الكريم خلاصة ترجمته :
إن مؤلف الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ مصطفى بن عبد الله الحنفي الأسطنبولي , وهو معروف بين العلماء بلقب ( كاتب جلبي ) ، وبين زملائه الكتاب بلقب ( حاجي خليفة ) ، لقبوه بذلك بعد أن حج وترقى بين الكتاب - في القسم الذي كان موظفاً فيه - إلي رتبة النيابة عن رئيس القسم ، على مصطلح العثمانيين , وذلك أن صغار الكتاب يسمون في مصطلحهم الملازمين وفوقهم الخلفاء , وفوقهم الرئيس الأعلى للكتاب , ومؤلف الكشف معروف بين المستشرقين باسم ( حاجي قالفه ) علي طبق ما يلهج به العوام في عاصمة الخلافة .
وقد ولد صاحب الترجمة بأسطنبول سنة ألف وسبع عشرة من التاريخ الهجري علي ما يرويه هو نفسه عن والدته في كتابه ( سلم الوصول إلي طبقات الفحول ) المحفوظ في خزانة علي باشا الشهيد بالآستانة وهو بخطه . وتعلم مبادئ العلوم من علماء العاصمة على طريق الناشئين في ذلك العهد , وبرع في مدة يسيرة في الكتابة والحساب والسياقة - وهي كتابة رمزية تستعمل في الأمور المالية فقط , وكان كثير من الكتاب يستشكلونها في ذلك العهد وقل جداً من يعرفها اليوم – بالتحاقه بقلم محاسبات الجيش الأناضولي سنة 1032 حتى أصبح من ملازمي القلم المذكور , ينتقل في البلاد علي طبق ما ينتدب له من الأعمال الكتابية و الحسابية للجيش المنتقل , لأن والده كان من الصنف العسكري , فاتخذ نجله هذا المسلك العسكري مسلكا له يعيش به .
وبعد أن عاد من محاصرة أرزن الروم ( أرض روم ) إلي الآستانة سنة 1038 قصد جامع السلطان محمد خان الفاتح بأسطنبول يوما فرأى الشيخ محمد بن مصطفى الباليكسرى المعروف بقاضي زاده , يلقى الدرس فيه , وكان عالما طلق اللسان عظيم التأثير في نفوس سامعيه , فاجتذبه سحر بيانه إلي طلب العلم , فقرأ عليه علم التفسير , وشرح الشريف الجرجاني علي المواقف , وإحياء علوم الدين للغزالي , والدرر شرح الغرر لملا خسرو في الفقه , والطريقة المحمدية للتقي محمد البركوى , وكان قاضي زاده هذا تلميذ فضل الله ابن مؤلف الطريقة المحمدية السابق ذكرها , وهو أخذ العلم عن والده المذكور .
وبعد خمس سنوات انتقل صاحب الترجمة إلي حلب بحكم وظيفته في الجيش , وأقام الجيش هناك طول الشتاء , فألهم في أثناء ذلك تحرير أسماء الكتب التي يجدها عند الوراقين الكتبيين وفي خزانات الكتب حتى اشتغل بذلك مدة إقامته بحلب , وحج من حلب في موسم 1043 , وبعد أن حج وزار عاد ولحق سنة 1044 بالجيش في ديار بكر . ورافق الجيش في عدة حروب ولاسيما حرب ( روان ) ، ثم عاد إلي الآستانة سنة 1045 عام وفاه شيخه قاضي زاده المذكور , فشرع صاحب الترجمة في إتمام المهمة التي كان ابتدأها في حلب - وهي مهمة تدوين أسماء المؤلفات - وأقبل إقبالا تاما على المطالعة والتنقيب عن الكتب , ولا سيما كتب التاريخ والطبقات والوفيات , في خزانات الكتب بالآستانة , و أولع باقتناء المؤلفات واشترائها , وساعده علي ذلك أموال ورثها من بعض قرابته سنة 1047 ، حتى صرف لشراء الكتب نحو ثلاثمائة سنة ألف عثماني , ولم يشارك الجيش في الحروب بعد حرب ( روان ) مفضلا الإقامة بالآستانة على الرحيل مع الجيش .
واختار من بين العلماء العلامة مصطفى الأعرج القاضي ليكون أستاذاً له فلازمه عدة سنين بعد وفاة شيخه السابق ذكره - وكان أستاذه هذا أبرع مشايخه في المعقول والمنقول , وكان له نظر عال في صاحب الترجمة - وقد تلقى عن أستاذه هذا تفسير البيضاوي , وشرح مختصر المنتهى للقاضي عضد الدين في الأصول , وشرح أشكال التأسيس , وشرح الجغميني , وعروض الأندلسي , والتوضيح في الأصول , وشرح الطوالع , وشرح هداية الحكمة وآداب البحث , وشرح الفنارى على الأثيرية , وشرح التهذيب , وشرح الشمسية , وغير ذلك , وكانت وفاة شيخه هذا في 13 ربيع الآخر سنة 1063 عن ثمانين سنة .
ومن جملة شيوخه أيضاً الشيخ عبد الله الكردي المدرس بأيا صوفيا المتوفى سنة 1064 ، وكان ضليعا في المعقول والمنقول أيضا , وكانت ملازمته لدرسه سنة 1049 , وتلقى سنة 1050 العلوم العربية من الشيخ محمد الألباني المتوفى سنة 1054 , وكان صاحب تحقيق وتدقيق في العربية لا يتداخل فيما لا يحسنه من العلوم العقلية , ومن جملة شيوخه أيضا الشيخ ولى الدين- تلميذ الشيخ أحمد بن حيدر السهرانى صاحب محمد أمين بن صدر الدين الشرواني العالم المشهور- تلقى منه المنطق و المعاني و البيان بمناسبة وروده الآستانة سنة 1050 , ومن شيوخه أيضا الشيخ ولي الدين المنتشاوي الواعظ المتوفى سنة 1065 , لازمه سنتين من سنة 1052 في النخبة وألفية المصطلح و الحديث فأجازه بمروياته عن شيخه المحدث إبراهيم اللقانى المصري المشهور , و أصبح له سند متصل بكتب الحديث و مرويات المحدثين المشاهير .
ثم اشتغل صاحب الترجمة بتدريس العلوم وإلقاء الدروس علي الطلاب نحو عشر سنين علي طريقة مشايخ ذلك العهد .
ثم توفى فجاءة في 15 من ذي الحجة سنة 1067 عن خمسين سنة , كما في ( معيار الدول ومسبار الملل ) ودفن في ساحة الكتاب المنسوب إليه علي شمال المنازل من جهة ( وفا ) إلي غور ( زيرك ) بالآستانة رحمة الله تعالى ورضوانه عليه .
وقد ذكرت هنا شيوخه وما تلقاه عنهم من الكتب ليعلم ما اشتغل فيه من العلوم حتى صار أهلا للتكلم عنها في ( كشف الظنون ) ومؤلفاته الكثيرة تدل على مبلغ براعته في العلوم والفنون .
ومن مؤلفاته القيمة ( كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون ) وهو من أوسع ما بأيدي الباحثين اليوم من الكتب المؤلفة في استقصاء ذكر المؤلفات في الإسلام وأنفعها في بيان أحوال الكتب , وإن كان لا يخلو من أغلاط في الوفيات وأسماء المؤلفين كما هو شأن من قام بنفسه بمثل هذه المهمة العظيمة المشكورة , وقد غمطه حقه المستشرق هربلو الفرنسي , وعده جامع الغث والسمين , مع أن هذا المستشرق إنما يرتكن في كتابه ( مكتبة الشرق ) على كشف الظنون , بل استمد جل ما في كتابه من هذا الكتاب , ويوجد بين المستشرقين من ينصف ويناصر صاحب الكشف ضد ذاك المستشرق .
وكشف الظنون في مجلدين ضخمين يتكلم علي نحو ثلاثمائة علم وفن مرتب علي الحروف في أسماء الكتب , وهو يحتوى على نحو ( 14501 ) من أسماء الكتب و الرسائل , وعلي نحو ( 9512 ) من أسماء المؤلفين . والشيخ إبراهيم الواعظ في جامع ( آرابه جيلر ) - بالآستانة - المتوفى سنة 1187 بقرب مصر أثناء عودته من الحج - له ذيل علي كشف الظنون ممتع طبع ممزوجا مع الأصل بمصر سنة 1674 , وأعيد طبعه بالآستانة سنة 1310 علي طبق الطبعة المصرية , وصاحب الذيل المذكور تلميذ المحدث عبد الله بن محمد الأماسى يوسف أفندي زاده مؤلف ( نجاح القارى في شرح صحيح البخاري ) في ثلاثين مجلداً .
وسبق أن طبع الكشف في لايبزيغ سنة 1835- 1858 ميلادية بمعرفة المستشرق الألماني ( فلوكل ) طابع فهرست ابن النديم ، مع ( آثارنو ) ذيل الشيخ أحمد طاهر حنيفة زاده - المتوفى سنة 1217 – وكان قد جمع في ذيله ما استدركه علي الكشف مما وجده في ست وعشرين خزانه من خزانات الكتب في الآستانة ومصر والشام وحلب , فأصبح ما طبعه المستشرق ( فلوكل ) في سبعة مجلدات .
وممن ذيل علي كشف الظنون شيخ الإسلام العلامة المسند عارف حكمة صاحب المكتبة المعروفة بالمدينة المنورة المتوفى سنة 1275 .
و أجمع ما ألف من الذيول عليه – فيما نعلم – كتاب ( إيضاح المكنون في الذيل علي كشف الظنون ) في مجلدين ضخمين تأليف العالم البحاثة إسماعيل باشا البغدادي المتقاعد من مديرية الشعبة الثانية من دائرة الضبطية بإسطنبول - سنة 1339 - المدفون في مقبرة ( ماقرى كوى ) في الآستانة , وقد ألف هذا الذيل بسعي متواصل منه في نحو ثلاثين سنة , وزاد علي الأصل مع ما في طبعة أوربة نحو 19000 كتاب , وله أيضا كتاب ( أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ) في ثلاثة مجلدات حاول فيه أن يجمع المؤلفين من صدر الإسلام بأسمائهم وكناهم , مع ذكر أسماء مؤلفاتهم على طراز الطبعة الأوربية , وكان الذيل المذكور محفوظا عند أسرة المؤلف بالآستانة .
والحاصل أن كشف الظنون هو المرجع الوحيد إلي اليوم في الكشف عن الكتب القديمة , ومن أتي بعده عالة عليه سواء عرف جميله وفضله أم لم يعرف , وأما كتب الأقدمين في هذا الصدد فليست بمتناول أيدينا .
ولصاحب الكشف مؤلفات أخرى , منها ( تقويم التواريخ ) ألفه في شهرين سنة 1053 وبه حاز رتبه ( الخليفة الثاني ) ، ومنها ( تحفة الكبار في أسفار البحار ) في الحروب البحرية العثمانية , ومنها جهاتنما ( مرى العالم ) في تقويم البلدان بديع في بابه , ومنها ( سلم الوصول إلي طبقات الفحول ) في مجلد كبير ألفه علي ثلاثة أقسام : (1) التراجم (2) الكنى والأنساب (3) وفوائد تاريخية , ومنها ( رجم الرجيم بالسين والجيم ) في المسائل الغريبة والفتاوى العجيبة , ولم أطلع عليه , ومنها ( دستور العمل لإصلاح الخلل ) في تنظيم شؤون الدولة , ومنها ( الإلهام المقدس من الفيض الأقدس ) في حكم فاقد وقت العشاء من الأقاليم , ومنها ( لوامع النور في ترجمة أطلس مينور ) ، ومنها ( تحفة الأخيار في الحكم و الأمثال و الاشعار) في المحاضرات , ومنها ( فذلكة أفوال الأخيار في علم التاريخ و الأخبار ) ، ومنها ( جامع المتون ) يحتوي علي ثلاثين متنا من المتون المتداولة , ومنها (ميزان الحق في اختيار الأحق ) رسالة نافعة فيما يجب الأخذ به في أمور يحتدم فيها الجدال , وفي آخره ترجم لنفسه كما فعل في سلم الوصول , ومنها ( الفذلكة ) في مجلدين يذكر فيها ما بين 1000 و 1065 من الأنباء العثمانية , ومنها ( شرح الرسالة المحمدية ) لعلى المعروف بقوشجي في علم الهيئة , ومنها ( رونق السلطنة ) وهو تاريخ خاص بالآستانة , وله غير ذلك من المؤلفات .
وقد ألف صديقنا الأستاذ المؤرخ طاهر بك – رحمه الله – جزءا في ترجمة صاحب الترجمة , و توسع أيضا في ترجمته في كتابه عن المؤلفين العثمانيين .
ولا يتسع المقام لأكثر مما ذكرناه , وفيه كفاية في معرفة أحواله ومنزلته في العلوم ومقدار خدماته العلمية , كافأه الله سبحانه برضوانه و أعلي منزلته في الجنة.