في الآية إشكالان الأول في قوله إلا ابتغاء رضوان الله ... ويزول إن جعلنا الاستثناء منقطعا بمعنى ما كتبناها عليهم وإنما كتبنا عليهم إرضاء الله فاخترعوا وسائلا من عند أنفسهم لإرضائه سبحانه .
أما الإشكال الثاني وهو موضع البحث فهو :
يقول الله : فما رعوها حق رعايتها ... إن مفهوم المخالفة من الآية ... أنهم لو رعوا الرهبانية التي ابتدعوها لما أصابهم الذم .... فإذا كان هذا المفهوم صحيحا فالسؤال هل الرهبانية المبتدعة إذا روعيت جازت ؟
ثم توصلت إلى جواب باجتهاد من عندي وهو أن الضمير في الرعاية رجع إلى الرهبانية لا إلى الابتداع أو يرجع إلى رهبانية مبتدعة وليس لبدعة محضة . وبالتالي يبقى النهي عن الابتداع عاما لا يخصصه شئ .
المعنى والله تعالى أعلم بمراده :
ثم أرسلنا في أعقاب نوح وإبراهيم رسلا آخرين كما أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وأدخلنا في قلوب أتباعه الرأفة والرحمة ، فابتدعوا رهبانية لم يأمرهم بها الله ، ولكنهم ألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله ولم يلتزموا بها ، فكتبنا للمؤمنين بالله ورسله منهم أجرهم ، ولكن كثيرا منهم فسقوا وخرجوا عن أوامر الله .
يبدو أنهم ابتدعوها أصلا فكتبت عليهم ابتغاء رضوان الله على ظاهر نيتهم من ابتداعها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف أن تكتب الطاعات التي يبتدئها مع المؤمنين عليهم فيعجزوا عنها ولا يرعوها حق رعايتها، ففي الحديث الصحيح :"عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ، فَثَابَ رِجَالٌ فَصَلَّوْا مَعَهُ بِصَلاتِهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، تَحَدَّثُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَاجْتَمَعَ اللَّيْلَةَ الْمُقَبِلَةَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَاجْتَمَعَ فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ بِصَلاتِهِ ، ثُمَّ أَصْبَحُوا فَتَحدَّثُوا بِذَلِكَ ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ نَاسٌ كَثِيرٌ حَتَّى كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، قَالَتْ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ ، قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ ، اجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى كَادَ الْمَسْجِدُ يَعْجِزُ عَنْ أَهْلِهِ ، قَالَتْ : فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخْرُجْ ، قَالَتْ : حَتَّى سَمِعْتُ نَاسًا مِنْهُمْ ، يَقُولُونَ : الصَّلاةَ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ سَلَّمَ ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَتَشَهَدَّ ، ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأَنُكُمُ اللَّيْلَةَ ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا". فيمكن فهم الآية أن أصل الرهبانية ابتداع من بعض أهل الكتاب فكتبها الله تعالى عليهم من نوع القربات التي يوجبها العباد على أنفسهم، لكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يرعوها حق رعايتها.
ونحن نحمد الله على دين الإسلام الذي من سنة نبيه الكريم أنه يقوم ويرقد ويصوم ويفطر ويتزوج النساء، صلى الله عليه وسلم.
وقد لخص الإمام الطبري القول بقوله المعلم بالأزرق:
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم، ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، ( رَأْفَةٌ ) وهو أشدّ الرحمة، ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) يقول: أحدثوها( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم، ( إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .
إذن المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.
وتتضمن الآية أمورا منها:
- أن الرهبانية ليست مما كتبه الله على عباده ولكنها ابتداع من بعض أهل الكتاب ابتغاء رضوان الله.
- أن الآية تدل على موقف الإسلام الحنيف من الرهبانية من وقت مبكر. ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية أن لا رهبانية في الإسلام.
-في الآية تظهر بلاغة القرآ ن الواضحة أبان الله تعالى بكلمات قليلة أنهم ابتدعوها، وأنهم حين فعلوها ابتغاء رضوان الله كانت كالنذر يكتبه العبد على نفسه فيجب أن يقضيه إذا كان من طاعة الله عز وجل ، وأبان تعالى ضعفهم وعجزهم فلم يستطيعوا أن يرعوا ما أوجبوه هم على أنفسهم من طاعات.
يبدو أنهم ابتدعوها أصلا فكتبت عليهم ابتغاء رضوان الله على ظاهر نيتهم من ابتداعها، ابتداع من بعض أهل الكتاب فكتبها الله تعالى عليهم من نوع القربات التي يوجبها العباد على أنفسهم، لكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يرعوها حق رعايتها.
الكلام أعلاه مقتبس من كلام الدكتور عبدالرحمن .
أقول :
لكن الله يقول : ( ما كتبناها عليهم ....)
إلا أن يكون المعنى : كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، وهذا لا يستقيم ! والله أعلم .
أما صلاة الليل فقد شرعها الله وعين لها وقتا ورغب فيها وعظم أجرها ، وقليل من رعاها !
أما الرهبانية فلم يشرعها الله ولا رغب فيها ، ولكنهم ألزموا أنفسهم بها ، ولم يرعوها !
أما الاحتجاج بالآية : ( إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ )
فليس في الآية ما يدل على أن الله شرع الرهبنة في زمن مريم ولا على أهل التوراة ، إنما كانت امرأة عمران واسمها حنة - بتشديد النون - عقيما لا تلد ، فلما حملت نذرت نذرا لم تكلف به وإنما من شدة فرحها وشكرها لله على هذا الحمل وهي عجوز لا يصدق أحد بحملها ، نذرت أن يكون المولود خادما لبيت المقدس ليس شاغل يشغله غير ذلك أبدا ، فتقبل الله نذرها الذي ألزمت نفسها به لصدقها في نيتها وعزمها ، فرعى الله ابنتها ،بأن جعل زكرياالذي كان أعلم وأتقى أهل زمانه هو من يكفلها ويرعاها ويعلمها ويأدبها لأن الله بسابق علمه قدر أن تلد نبيا ورسولا هو عيسى من دون أب فهي معجزة وابنهامعجزة أكبر منها ، ومن رعاية الله لها أن زكريا كان يجد عندها فاكهة الصيف في وقت الشتاء والعكس فكان عجبه لا ينقضي خلال تربيته لها حتى كبرت ...