لا اعرف عالما قال بمناسبة الملك للطلاق في هذا الموضع، فسؤالك اخي محمد يجاب عليه باسئلة.
هل جاءت تلك الآية مباشره بعد آيات تتعلق بمسائل الطلاق واحكامه؟ لا ارى ذلك.
هل لتلك الآية تعلق بقضية الملك؟ لا ارى ذلك.
هل الملك في اسم السورة وفي الآية الاولى منها
تبارك الذي بيده الملك
هو الملك في الآية
إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا
؟ لا ارى ذلك.
هل من علاقة شكلية بين سورة البقرة وسورة الملك؟ لا ارى ذلك، فاسم سورة البقرة اسم موضوعي بينا اسم الملك اسم تعليمي - من التعليم والعلامة - سماها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الترمذي باسناد صحيح (ح: أحمد شاكر) بـ "تبارك الذي بيده الملك".
التدبر شعيرة عظيمة من شعائر القرآن الكريم، والمناسبة علامة من علاماتها، لكن المناسبة مستويات من جهة السياق، كما انها انواع من جهة التحليل : نظمي، وصوتي، وبلاغي .. الـخ.
الآية {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} هي القصة الثانية - قصة طالوت - والأولى {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} حيث نرى أن الاسترجاع هنا بأدة ( ألم تر ) التي تختلف عن ( وإذ ).
قال
فخر الدين الرازي في معالجته لوظيفة القصة الأولى:
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار للسامع، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد.
لكن هنا لم يحدد الأحكام فهل جاءت القصة بعد "أحكام الطلاق"؟ هذا ذهب إليه
برهان الدين البقاعي بقوله:
ولما انقضى ما لا بد منه مما سيق بعد الإعلام بفرض القتال المكروه للأنفس من تفصيل ما أحل في ليل الصيام من المشارب والمناكح وما تبعها وكان الطلاق كما سلف كالموت وكانت المراجعة كالإحياء وختم ذلك بالصلاة حال الخوف الذي أغلب صورة الجهاد ثم بتبيين الآيات أعم من أن تكون في الجهاد أو غيره عقب ذلك بقوله دليلا على آية كتب القتال المحثوث فيها على الإقدام على المكاره لجهل المخلوق بالغايات: {ألم تر}.
وقوله : (
وكان الطلاق كما سلف كالموت وكانت المراجعة كالإحياء ) هذا في فهمي متناول بعيد، لكن نرى وبكل وضوح انه كان يبحث في المناسبة على مستوى جزئي دقيق، في ظل مناسبة على مستوى اعم.
وأما قوله : (
وختم ذلك بالصلاة حال الخوف الذي أغلب صورة الجهاد ) فقد اشكل علي، وربما نظر اليها من اتجاه خطي فجعل الفاصلة التربوية الروحية خاتمة، او انا لم افهم السبب الذي جعله ينظر اليها بخلاف المقاربة التناسبية الدائرية التي نظر بـهـا - مثلا - الى الآية {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة}
بقوله : (
ولما كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديان كرر الحث عليها ) ؟ لا أدري، ولم اتفرغ بعد لقراءة بحث علمي تناول بالتفصيل أدوات ومنهج برهان الدين رحمه الله في "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور".
ارى ان تلك الآيات جاءت في ظل القتال {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} لتبين {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} في الجوانب المدنية، اذ ان تحقق الأمن يشمل الأمن القومي والاجتماعي والامن الروحي، فلابد من الجهاد بالتقوى والجهاد الروحي والجهاد العسكري، والسورة خطية عندما تنظر اليها كتجسيد لسيرة المجتمع المدني، لأن المسؤوليات متنوعة والظروف كذلك تتنوع وتختلف، اي ان ايام السلم غير ايام الحرب، ومهما كانت الايام فالثوابت ثوابت اي ان الصلاة صلاة رغم اختلاف صلاة الخوف عن صلاة الامن، ومن مميزات الخط التماثل البلوري:
- المؤمن على هدى من ربه لكن الكافر ختم على قلبه.
- المؤمن يعلم ان المثل حق من ربه لكن الذين في قلوبهم مرض قالوا : ( ادع لنا ربك يبين لنا ماذا اراد بهذا مثلا ؛ إن المثل تشابه علينا وانا ان شاء الله لمؤمنون ) واذا {خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} فهو مرض عضال تجسد في الواقع ويرى المؤمن كيف تتحقق {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} ليعلموا ان {الله يستهزئ} بهذا الصنف من {المغضوب عليهم}، اذ تتجلى الآية في الواقع المحسوس كما يتجلى المثل للعقل في صورة حسية، وفي الوقت الذي ينقلهم هذا المشهد - ما وقر في القلب وترسخ في الفكر وتجسد في الآفاق - عبر الزمن ليكونوا شهداء على تشابه القلوب اذ هؤلاء قالوا {ماذا اراد الله بهذا مثلا ؟} واولئك قالوا {أتتخذنا هزواً ؟}!!! فاياكم ان تكونوا مثلهم، واجتنبوا كل ما يؤدي إلى سبلهم. الم تسجدوا وتقتربوا بـ {اهدنا الصراط المستقيم} ؟ أم انكم {تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} ؟ او هل {عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا}؟
- وهكذا حتى حفل التتويج والتخريج ليظهر مركز البلورة مختما التماثلات كما يختم النموذج الروحي الاجتماعي الفكري الحضاري سلسلة النبوات، فتنتهي آخر نغمة يرقص عليها الملعون وتكتمل دائرة المستثنى {إلا عبادك منهم المخلصين} التي ستفتح مكة وتُستخلَف في الأرض، وتشهد بالصلاة على الأسوة الحسنة قائلة " أشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده، وعبدت مخلصا فكنت عبدا شكورا، حتى اتاك اليقين " إلى يوم الدين، بتحقق القطيعة مع كل سبل النوابت: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} تنتهي قصة اصحاب البقرة، و{وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} تنتهي قصة اصحاب النموذج الفاضل في المدينة الفاضلة .
وكل ذلك في بيئة جدلية ترمز اليها السورة بـ (يسألونك) و (سل) و (قل) وغير ذلك، فكانت المعطيات الاجتماعية الفكرية متنوعة، وكل حالة حسب موقعها ومقامها، فهذا يسأل ماذا ينفق {قل العفو} والآخر او الآخرون يقال لهم {ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} او هي حالة واحدة لكن في مرحلة اخرى من مراحل تطور الفئة التي ستفتح مكة وتستخلف في الارض.
فـي نظري التدبري أرى أن مسألة وضع حدود الجزئيات مسألة نسبية، نسبة للموضوع الذي يتم اختياره، الا ان اسم السورة ورد في نص نبوي صحيح. ومن هنا نستشعر اهمية قصة البقرة، وهي التي نجعلها المركز في المقاربة الدائرية، بالتوازي مع المقاربة الخطيه.
قصة البقرة تتمحور حول نموذج فاشل من نماذج الاستخلاف، والذي هو مسألة وجودية {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}، وهذا النموذج الاسرائلي (( مــا هي؟ .. ومــا لونها؟ )) نموذج فاشل، وبالتالي سورة البقرة في صورة خطية اعداد لجماعة صالحة تستحق عهد الله {إني أعلم ما لا تعلمون} ليستمر السؤال الملائكي فتستمر التجليات التي تجعلهم يرددون : ( {سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا} وسع كرسيك السماوات والارض ) .
وفي هذه الصورة الخطية سورة البقرة كلها قصة في شكل زهرة - تسمى كذلك بنص حديثي صحيح - وانظر الى الزهرة كما شئت من جهة نموها او مظهرها او سيرتها (دورة الحياة) او غير ذلك، فانك ستصل الى نفس النتيجة.
ولقد كانت زهرة جذابة عرفت بفضل الله الطريق الى الفتح والبهاء والفلاح فاستحقت بصبرها وايمانها وجهادها وتضامنها ان تسجد لها الرياح تكريما لها بحمل خيراتها الى الآفاق، وان تسجد لها السماء تكريما لها بابتسامة في صورة وردة كالدهان شاهدة ومشهودة، رغم ان الطريق كان مليئا بالاشواك أو الـنـوابـت (المفهوم كما هو عند الفارابي لا ابن ماجة) الا انها عرفت كيف التعامل مع بيئتها، فرسمت بذلك معالم نهاية التاريخ ان {لا إكراه في الدين: قد تبين الرشد من الغي؛}.
وبهذه الصورة في تشكلها الخطي نسجل بعض الملاحظات ونتمنى ان تساعد في اداء شعيرة التدبر: {الم} تاكيد للمصدر العلوي، {ذلك} تاكيد ثان بالاشارة الى
علو منزلته {الـ} استغراق تاكيد ثالث {كتاب} الذي {لاريب فيه}، وإن كنتم في ريب منه فأتوا بسورة من مثله {إن كنتم صادقين} فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاعلموا انه {هدى للمتقين} الذين سألوا ربهم الهداية الى {الصراط المستقيم} صراط المنعم عليهم الذين {يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون؛ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم} قد اتبعوا هدى الله فـ {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، و
أولئك هم المفلحون
الذين اجتنبوا سبل {المغضوب عليهم} الظالمين "النوابت" من الكافرين والمنافقين والمتحايلين.
هذه هي المقدمة تكررت في القصة بصور متنوعة، وكل صورة تقابلها سورة في القرآن، وهذا تراه بتصوير دائري لمواضيع القصة، الا انها خطية من حيث الغاية التي هي اعداد تربة صالحة، وهذا ما تختتم به، فالخط يربط بين {يؤمنون} و {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ..}.
قال الدكتور محمد الربيعة حفظه الله:
بعد أن بيّن الله عز وجل لهم تلك التشريعات العظيمة التي لا يحملها إلا من هيأه الله لها، بعد هذا التعليم والتربية والاعداد والتشريع، الله أكبر! تأتي الشهادة. تأتي الشهادة من الله عز وجل لهذه الأمة، ما هذه الشهادة؟ شهادة نزلت من تحت العرش "أبشر بنورين أنزلهما الله تعالى لم يؤتهما نبي قبلك" ما هاتان البشارتان؟ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. كنز وفي رواية "كنز" وفي رواية "بنور" وهما والله كنز!. أليست الشهادة التي يحصل عليها الطالب -ولله المثل الأعلى- كنز؟ أليست شرف؟ أليست هي نتيجة جهد سنوات بعد التعب والدراسة والسنوات التي قضاها للتعليم؟ ثم يأخذ الشهادة فيها خلاصة الأمر يتعين بها. هذه الشهادة جاءت من الله عز وجل بقوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ (285)) لاحظوا قوله (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ)، (مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) الله أكبر! شهادة للرسول وشهادة للمؤمنين أمة محمد صلى الله عليه وسلم (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) كما فرّق بنو إسرائيل. (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولم يقولوا سمعنا وأطعنا وأننا يا ربنا قد كمُلنا في ديننا، ما قالوا كذلك! قالوا (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) يعني يا ربنا مع أننا مستجيبين وممتثلين ونسمع ونطيع إلا أننا بشر مذنبون مقصّرون فتب علينا واغفر لنا. فماذا قال الله وهو الرحيم المعلّم؟ علمنا الدعاء ثم عفا عنا قال الله (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (286)) أي افعلوا ما استطعتم، اتقوا الله ما استطعتم. الله أكبر! هذه الأمة رفع عنها الله الآصار رفع الله عنها الأغلال والتشديد يوم أن أقبلت فمن أقبل على الله واستجاب لأمره يسّر الله أمره (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) الليل) ما قال سنيسره لليسرى في كذا وكذا! فسنيسره لليسرى، من أقبل على دين الله برغبة وبكل شوق وكل إيمان وبكل طواعية وتذلل لله فوالله سييسر له الأمور كلها سيجد حياته مستقرة، سيجد حياته في طعم وراحة وطمأنينة [
الرابط ].
هذا، والله أعلم.