الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد ..
أستاذي الكريم ( جمال ) جمَّلك الله بالمعتقد الصالح والعلم والعمل النافع .
هذا السؤال قد أجاب عليه كثير من أهل العلم وقالوا بإثباته ، ولم ينكره إلا المعتزلة والعقلانيون ، وهم قِلَّة ، والحق بالدليل مع الكثرة . وهي مشهورة مستفيضة .
ونقولاتهم على اختلاف مذاهبهم الاعتقادية تثبت هذا خلا المعتزلة كما ذكرت .، ومنها :
_ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((
دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة))
_ وقال أيضاً: ((
وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ومن أنكر ذلك وادَّعى أن الشرع يُكَّذِبُ ذلك ، فقد كَذَبَ على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفى ذلك )) المجموع (24/276-277)
وانظر لمزيد بسط :
جامع البيان للطبري (3 /101)
وتفسير القرطبي ( وتعلم مذهبه ! ) (3/355)
وقد عاب على من أنكر ذلك وقال قد مضى الرد على من فساد من أنكر ذلك في آية المس وأخبرتني أنك لم تهتدِ لإحالته ، وأقولك لك الآن تجدها عند تفسيره لأية نبي الله سليمان ( آية 102 ) من سورة البقرة ؛ الفائدة الرابعة عشر ( على ما أذكر )
وتفسير البغوي (1/261)
وتفسير ابن كثير (1/326)
وحكى الإجماع على ذلك من المفسرين ابن جزي الكلبي في التسهيل (1/98)
وقد تعترض على الإجماع ولكن ليس ثمة ناقض معتبر ، ومتى فعلت بناقض معتبر يكون أمراً آخر .
وألَّف سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في إثبات ذلك (( إيضاح الحق في دخول الجني بدن الإنسي ))
ثم أعلم رحمني الله وإياك : أن نكرانه من بعض أهل العلم ! مما لا يقوم عندهم دليل سوى رده للتوهم واستحالة ذلك عقلاً !!
ولو نظر المسلم بتمعُّنٍ وإنصافٍ وتريُّثٍ في المسألة ، وتجردٍ للحق من غير تعجّل لبان له الحق شرعاً ، وصدَّقه المحسوس المشاهد القائم على تصديقه .
وبعض العقلانيين (
كحسان عبد المنان العابث بالمكتبة الإسلامية ) حين ألَّف رسالته ( الأسطورة الكاذبة ) جاء بأكاذيب وحِيَلٍ في ردِّ الأحاديث ، وشابه بصنيعه صنيع
حسن السقاف عليه من الله ما يستحق من التلاعب بالنصوص والبتر والتدليس على القراء ( وهكذا أهل البدع والأهواء يفعلون ) فردَّ عليه غير واحد ، ونقضتُ رسالته بحمد الله في كتابي : (( فتح الكريم الرحمن بنقض علاقة الجان بالإنسان )) وأصلتها تأصيلاً أحمد ربي أني لم أسبق إليه ، والتوفيق من الله وحده .
ثم لمَّا خرجتَ _ غفر الله لك _ في قناة الجزيرة ( ولم أكن قد التقيتُ بك ) عجبتُ كلَّ العجب من أجوبتك التي تدل على عدم الإحاطة والإلمام بالمسألة ! وقلت : سبحان الله !
كيف يقبلُ هذا الرجل أن يخرج على ملأٍ ويُعرِّف الناس على عقله بهذا التفكير الغريب ، والقول بالعُمومِيَّات والكليات بقولك ( لا . لا . لم يصح شيء ) في نفيك للأحاديث ! وتنقيصك لقدر بعض العلماء بعبارات فيها بعد عن الأدب ، وأنت _ أيها الرجل _ لم تقتل المسألة بحثاً . وتعلم علم اليقين أن الحكم بالعموم والكل دونما بحث ودراسة مظنة الخطأ .
ولكن رحم الله العلامة المفسر الشنقطي ؛ فقد كان كثير التذكير بهذه الأبيات ( العذب النمير ( 1 /53 ) :
إذا ما قتلتَ الشيء علماً فقل به *** ولا تقلِ الشيءَ الذي أنتَ جاهلُهْ
فمَنْ كان يهوى أن يُرى متصدرا *** ويكره (( لا أدري )) أُصِبتْ مقاتلُهْ
فكتبتُ رداً مع بعض الإخوة قديماً على قولك ولقائك الغريب العجيب .
ولما شاء الله أن أرحل للأردن والتقيت بك عرفت ذلك عنك عن قرب ، فأعطيتُك الردَّ في مجموعة أوراق ،
ولكنك للأسف لم تقرأها ! والسبب أني رأيت بأمَّ عيني أنها مكثت في مكتبك شهوراً بل على زاوية من الأوراق المهملة .( الأرفف التي أمامك الموضوعه على الحائط في المكتب الذي أجلس عليه )
فبالله عليك يا أستاذ كيف تريد أن تعرف الحق في المسألة ؟ وقد لمست منك أمران وكنتُ حريصاً على تغيير هذه الفكرة عندك ( من باب نصح التلميذ للأستاذ ) :
الأول : وهو خطير ؛ أنك لم تتجرَّد من رأيك السابق ؛ وعلمت هذا من خلال التحاور معك لسرعة ردك قبل إنهاء الدليل ؛فالعجلة ظاهرة في ردك غفر الله لك .
الثاني : عزوفك عن القراءة حين طلبت الردَّ وأحضرته لك ، ولم تفعل .
أستاذي الكريم :
ربما قسوت بكلامي عليك ، وأخشى ان يكون هذا من سوء أدب التلميذ مع أستاذه ، وما كان ينبغي علي أن أفعل لو لا أن بعض النصح قد يحتاج إلى ... !
غير أن محبة الحق أحب إلينا من محبة الخلق . ( ومثلك يعذر )
على كل الشيخ القرطبي رحمه الله أجاب على هاته الأسئلة في تفسيره لآية سليمان عليه السلام الآنفة الذكر . ولا أقول إلا زادك الله توفيقاً وعلماً نافعاً ومعتقداً صالحاً وعملاً متقبلاً .
واما الشواهد الشعرية في لغة العرب فكثيرة , ومنها :
1_ قال السراج القاري في كتابه ( مصارع العشاق ) عن ابن دريد الأزدي ( ت 321هـ ):
صارَمتِهِ فَتَواصَلَت أَحزانُهُ *** وَهَجَرتِهِ فَتَهاجَرَت أَجفانُهُ
قَالَت تُعَرِّضُ مَسُّ شَيطانٍ بِهِ *** بَل أَنتِ حينَ مَلَكتِهِ شَيطانُه
2_
2_ وقال أبو منصور الثعالبي في كتابه ( يتيمة الدهر ) :
في ترجمة أبي طالب عبد السلام بن حسين المأموني ( ت383 هـ) ، وله في الجمر والمدخنة :
وقوارة من أديم الصخور *** تخيم في حلل الخيزران
تفري قطاعا كعرف الحبيب *** وترقى وليس بها مس جان
3_ _ وقال ابن المقرِّب العيوني ( ت 629 هـ ) :
فَتُزعِجُها حَتّى كَأن قَد أَصابَها *** مِنَ المَسِّ ما لا يُتَّقى بِالتَمائِمِ
وقال أيضاً :
وَهَيبَةٌ لَو سُلَيمانُ النَبيُّ أَتى *** بِها الشَياطِينَ أَهلَ المَسِّ وَاللَمَمِ
4_ وقال ابن درَّاج القسطلي ( ت 421 هـ) :
فَمنْ ذا الَّذِي مِنْ بُعْدِ أَرْضِي ومَشْهَدِي *** تَخَبَّطَهُ شيطانُ ضِغْني من المَسِّ
5_ وقال أبو العتاهية ( 211هـ ) :
أُمسي وَأُصبِحُ مِن تَذَكُّرِكُم *** وَكَأَنَّ بي طَرفاً مِنَ المَسِّ
6_ وقال أبو المعالي الطالوي ( 1014هـ ) :
وَجئنا حمى التَقديس وَاللَيلُ راقِدٌ *** وَقَد جُنَّ حَتّى لا يَفيقُ مِنَ المَسِّ
7_ وقال أبو نوَّاس ( 198هـ ) :
كَنَظَرِ المَجنونِ أَو ذي المَسِّ *** حَتّى إِذا أَقصَدَ بَعدَ الحَبسِ
8_ وقال الشريف الرضي ( 406هـ ) :
جِنَّيَّةٌ وَقَبيلُها بَشَرٌ *** عَظُمَ البَلاءُ بِها عَلى الإِنسِ
عَجَباً لَهُ إِذ جاءَ يَسأَلُ مِن *** مَسِّ الفُؤادِ رُقىً مِنَ المَسِّ
وفي ما ذكر كفاية لمن رام الحق
وذكرها ا يطول كثيراً ؛ إذ بعضها صريح ، وبعضها تلويح وآخر تعريج مليح .
وقد رفعتها لك ذات مرة ولكن كما سبق ذكره .!!
وإن كنت أعجب شدة اهتمامك الشديد من سنين على هذه المسألة الفرعية .
و سواء حصلت الموافقة أم لم تحصل ؛ فماذا يكون بعد ذلك ؟!.
ولكن أظنها : ردة الفعل من سوء تصرفات بعض الرقاة أصحاب الأموال هو ما دفعكم للنقم الشديد على المسألة ولكن ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ .
ولله درُّ العلامة النقاد المعلمي اليماني رحمه الله رحمة واسعة حين قال:
((
الناس تختلف مداركهم وأفهامهم وآراؤهم ولا سيما في ما يتعلق بالأمور الدينية والغيبية لقصور علم الناس في جانب علم الله تعالى وحكمته، ولهذا كان في القرآن آيات كثيرة يستشكلها كثير من الناس وقد ألفت في ذلك كتب ، وكذلك استشكل كثير من الناس كثيراً من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما هو رواية كبار الصحابة أو عدد منهم كما مر،
وبهذا يتبين أن استشكال النص لا يعني بطلانه. ووجود النصوص التي يستشكل ظاهرها لم يقع في الكتاب والسنة عفواً
وإنما هو أمر مقصود شرعاً ليبلو الله تعالى ما في النفوس ويمتحن ما في الصدور. وييسر للعلماء أبواباً من الجهاد يرفعهم الله به درجات .)) الأنوار الكاشفة
والله أعلم .
محبكم المقصر في حقكم