الريح عبد القادر عثمان
New member
- إنضم
- 07/08/2007
- المشاركات
- 8
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
[align=justify]الباء في قوله تعالي: "سأل سائلٌ بعذاب واقع"
وقوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ"
الأخوة العلماء والأساتذة الأجلاء،
سلام الله عليكم،
وبعد، النص التالي جاء في إطار بحث لغوي. ولما كان موضوعه آيتين كريمتين من آي الذكر الحكيم، ولما لم أكن مفسّراً أو مشتغلاً بالتفسير، بل كنت أتناول الآيتين الكريمتين بالشرح اللغوي والبياني في معرض الحديث عن إحلال حروف الجر بعضها محل بعضها، من واقع كوني باحثاً لغوياً، فإنني أسمح لنفسي باقتباسه هنا، راجياً كريم تفضلكم بإبداء كل ما يمكن إبداؤه من النصائح والآراء من وجهة النظر التفسيرية.
وشكر الله جهدكم، وجزاكم عني خير الجزاء دنيا وأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
"سأل عن" و "سأل بـ"
ورد الفعل "سأل" ومشتقاته، أكثر ما ورد، متلوّاً بحرف الجر "عن"، قال تعالى:
- "ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم"
- "عمّ يتساءلون؟ عن النبأ العظيم"
لكن هذا الفعل قد ورد، على نحو استثنائي، متلواً بالباء في قوله تعالى:
- "سأل سائل بعذابٍ واقع"
- "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ.."
فما الفرق ما بين "سأل عن" و"سأل بـ"، ولأي غرض تصرّف التنزيل الحكيم في حرفي الجر على هذا النحو؟
تفيد "عن" التجاوز والبعد والمفارقة؛ فلو قلنا "سأل سائل عن عذاب واقع" ربما يدل ذلك على أن العذاب بعيد عن هذا الشخص الذي يسأل، ولعله لا يسأل عنه سؤال إنكار، بل سؤال الجاهل به، الذي يريد أن يعرف ما جهل بصورة موضوعية. لكن العلم الرباني يحيط بالأشياء، ويعلم بأن هذا العذاب الذي يسأل عنه ذلك الشخص إنما هو عذاب قريب منه، بل ملتصق به، ولا فكاك له منه، وإن هذا الشخص إنما يسأل، سؤال إنكار، عن شيء هو في الحقيقة آيل إليه لا محالة. فلهذا السبب لم يستخدم التنزيل حرف الجر "عن"، لأنه يفيد التجاوز والبعد والمفارقة، وهذا عكس مراد التنزيل الحكيم، بل استخدم حرف جر آخر يفيد القرب والالتصاق، ألا وهو الباء. ويتضح التفارق بين معاني الباء/"عن" من خلال الأمثلة التالية:
- هو بالبيت > دلالة على الحلول والوجود بالمكان
- ماذا به؟ > السؤال عن الحال المحيطة بالشخص
- ماذا عنه؟ > الشخص المسؤول عنه موضوعٌ بمعزل، من أجل النظر في أمره أو التعرف عليه
- إلىّ به > جئني به، قربه مني، ألصقه بي
- عليك به > خذه إليك، قربه منك...ألخ
- إليك عني > أبعد عنى
وفي المثال القرآني الثاني، نجد قوله تعالى " اللهَ الذي تساءلون به" ينطلق من نفس التفارق الدلالي ما بين الباء و"عن". تطلب الآية من الناس جميعاً أن يتقوا الله الذي يسأل كل شخص نفسه عنه. فلعل الآية الكريمة تعيد طرح أن التساؤل عن الله بوصفه أمر فطري لدى عموم الناس، فالناس يتساءلون فيما بينهم عن الله، أو يسأل الواحد منهم نفسه عنه، أو يتفكر في السموات والأرض بحثاً عن الله. لكن هل الله، بعيد عن هؤلاء المتسائلين؟ قد يكون بعيداً من وجهة النظر الخاطئة والضالة لبعضٍ منهم، لكن من واقع حق الله السميع العليم، الذي يعلم غيب السموات والأرض، والمحيط علماً بالناس وبالأشياء، فإنه تعالي قريب منهم جميعاً، خبير بتساؤلاتهم: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد". فلعل هذا السبب بالضبط اختارت بلاغة التنزيل الحكيم الباء في هذا السياق ولم تختر "عن".
أما قول عنترة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالكٍ *** إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي؟
فلعله هو الذي مهّد لهذا التداخل في الاستخدام ما بين "عن" والباء، وإحلال الثانية محل الأولى لأغراض تتعلق بالبيان. فسياق البيت يتحمل وجهين:
1- سألتِ بما لم تعلمي 2 - جهلتِ بما لم تعلمي
الأمر الأقرب إلى الظن أن يتعلق الفعل "جهل" بالباء، لأن الشيء المجهول به إنما هو أمر كان ينبغي أن يكون قريباً وملتصقاً بالشخص، أي أن يكون الشخص عالماً به. ولعل الباء تعبر عن الاقتراب المفترض ما بين الجاهل بالشيء والشيء المجهول به؛ أما الفعل سأل" فهو أحق بـ "عن" لأن السائل إنما يسأل عن شيء بعد عنه، وتجاوز إدراك، فـ "عن" تعبّر عن هذا البعد الحاصل ما بين السائل والسؤال.
ومع أن تعلق الباء بـ "جاهلة" في هذا البيت من قصيدة عنترة قد يكون هو الأقرب للمنطق، ولا يمكن الزعم بإن الباء إنما تتعلق، بالضرورة، بـ "سأل"، إلا أن هذا البيت قد يكون مما هيأ الناس لتقبل إحلال الباء محل "عن" لأغراض بلاغية، كما رأينا، لم تجد تجسيداً لها في اللغة العربية أفضل مما رأيناه في الآيتين أعلاه.
أما أن تكون الأية الأخرى "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ" تشير إلى كون العرب في الجاهلية كان يسأل بعضهم بعضاً بالله، فهو قول لبعض المفسرين. ونظن ظناً – مستعيذين به تعالى من كل ظن آثم - أنه قول يشوبه بعض الضعيف؛ والسبب أن الآية الكريمة إنما تخاطب الناس، كل الناس، ولا تخاطب عرب الجاهلية وحدهم. فبما أن الخطاب موجه للناس أجمعين، بمختلف لغاتهم وعاداتهم، أفلا يكون من الأنسب أن يكون التساؤل المقصود هو ذلك التساؤل الوجودي الذي يشترك فيه الناس جميعاً: التساؤل عن وجود الله؟ وقد قال بذلك بعض المفسرين [إحالة ومراجع]، وإن كانوا قد فهموا الباء على أساس أنها حلت محل "عن". فلعل الآية تقول للناس بجميع أعراقهم ولغاتهم: إنكم، في عموم أمركم، لا يفتأ الواحد منكم يسأل نفسه ويسأل غيره عن وجود الله، فها قد جاءكم هديٌ ونور من ربكم، فآمنوا بالله واتقوه. ألا يبدو هذا الفهم أنسب لحقيقة أن الرسالة المحمدية رسالة عالمية لم تتوجه، فحسب، إلى عرب الجاهلية؟
لكن هناك من يقول من اللغويون والمفسرين إن التساؤل المقصود هو سؤال العرب - في زمن البعثة الشريفة، وماقبله، أي في العصر الجاهلي - بعضهم بعضاً بالله في نحو قولهم "أسألك بالله ألا فعلتَ لي كذا". لكن نحن نعلم جيداً أن العرب في جاهليتهم، وإن أقسموا بالله، فإنهم كانوا مشركين به، مخالفين لأوامره ونواهيه! فكيف يكون ذلك "الإيمان بالله المقرون بالشرك به" هو وحده مقصد الآية الكريمة؟ إلا يمكن أن يكون قصده تبارك وتعالى - وهو الأعلم بما يقصد ونعوذ به من التطاول على مقاصده العلية بغير علم- ذلك الشعور الذي يولد به عموم الناس ويجعلهم يبحثون عن الله، على نحو ما بحث خليل الله إبراهيم عليه السلام.
هذا، واستغفر الله العظيم لي وللمسلمين، وصدق الله في كتابه في ما قصده وهو الأعلم بقصده،
فنوّرونا أنار الله طريقكم
ولكم خالص التحية والتقدير
أخوكم/ الرّيَّح عبد القادر عثمان [/align]
وقوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ"
الأخوة العلماء والأساتذة الأجلاء،
سلام الله عليكم،
وبعد، النص التالي جاء في إطار بحث لغوي. ولما كان موضوعه آيتين كريمتين من آي الذكر الحكيم، ولما لم أكن مفسّراً أو مشتغلاً بالتفسير، بل كنت أتناول الآيتين الكريمتين بالشرح اللغوي والبياني في معرض الحديث عن إحلال حروف الجر بعضها محل بعضها، من واقع كوني باحثاً لغوياً، فإنني أسمح لنفسي باقتباسه هنا، راجياً كريم تفضلكم بإبداء كل ما يمكن إبداؤه من النصائح والآراء من وجهة النظر التفسيرية.
وشكر الله جهدكم، وجزاكم عني خير الجزاء دنيا وأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
"سأل عن" و "سأل بـ"
ورد الفعل "سأل" ومشتقاته، أكثر ما ورد، متلوّاً بحرف الجر "عن"، قال تعالى:
- "ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم"
- "عمّ يتساءلون؟ عن النبأ العظيم"
لكن هذا الفعل قد ورد، على نحو استثنائي، متلواً بالباء في قوله تعالى:
- "سأل سائل بعذابٍ واقع"
- "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ.."
فما الفرق ما بين "سأل عن" و"سأل بـ"، ولأي غرض تصرّف التنزيل الحكيم في حرفي الجر على هذا النحو؟
تفيد "عن" التجاوز والبعد والمفارقة؛ فلو قلنا "سأل سائل عن عذاب واقع" ربما يدل ذلك على أن العذاب بعيد عن هذا الشخص الذي يسأل، ولعله لا يسأل عنه سؤال إنكار، بل سؤال الجاهل به، الذي يريد أن يعرف ما جهل بصورة موضوعية. لكن العلم الرباني يحيط بالأشياء، ويعلم بأن هذا العذاب الذي يسأل عنه ذلك الشخص إنما هو عذاب قريب منه، بل ملتصق به، ولا فكاك له منه، وإن هذا الشخص إنما يسأل، سؤال إنكار، عن شيء هو في الحقيقة آيل إليه لا محالة. فلهذا السبب لم يستخدم التنزيل حرف الجر "عن"، لأنه يفيد التجاوز والبعد والمفارقة، وهذا عكس مراد التنزيل الحكيم، بل استخدم حرف جر آخر يفيد القرب والالتصاق، ألا وهو الباء. ويتضح التفارق بين معاني الباء/"عن" من خلال الأمثلة التالية:
- هو بالبيت > دلالة على الحلول والوجود بالمكان
- ماذا به؟ > السؤال عن الحال المحيطة بالشخص
- ماذا عنه؟ > الشخص المسؤول عنه موضوعٌ بمعزل، من أجل النظر في أمره أو التعرف عليه
- إلىّ به > جئني به، قربه مني، ألصقه بي
- عليك به > خذه إليك، قربه منك...ألخ
- إليك عني > أبعد عنى
وفي المثال القرآني الثاني، نجد قوله تعالى " اللهَ الذي تساءلون به" ينطلق من نفس التفارق الدلالي ما بين الباء و"عن". تطلب الآية من الناس جميعاً أن يتقوا الله الذي يسأل كل شخص نفسه عنه. فلعل الآية الكريمة تعيد طرح أن التساؤل عن الله بوصفه أمر فطري لدى عموم الناس، فالناس يتساءلون فيما بينهم عن الله، أو يسأل الواحد منهم نفسه عنه، أو يتفكر في السموات والأرض بحثاً عن الله. لكن هل الله، بعيد عن هؤلاء المتسائلين؟ قد يكون بعيداً من وجهة النظر الخاطئة والضالة لبعضٍ منهم، لكن من واقع حق الله السميع العليم، الذي يعلم غيب السموات والأرض، والمحيط علماً بالناس وبالأشياء، فإنه تعالي قريب منهم جميعاً، خبير بتساؤلاتهم: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد". فلعل هذا السبب بالضبط اختارت بلاغة التنزيل الحكيم الباء في هذا السياق ولم تختر "عن".
أما قول عنترة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالكٍ *** إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي؟
فلعله هو الذي مهّد لهذا التداخل في الاستخدام ما بين "عن" والباء، وإحلال الثانية محل الأولى لأغراض تتعلق بالبيان. فسياق البيت يتحمل وجهين:
1- سألتِ بما لم تعلمي 2 - جهلتِ بما لم تعلمي
الأمر الأقرب إلى الظن أن يتعلق الفعل "جهل" بالباء، لأن الشيء المجهول به إنما هو أمر كان ينبغي أن يكون قريباً وملتصقاً بالشخص، أي أن يكون الشخص عالماً به. ولعل الباء تعبر عن الاقتراب المفترض ما بين الجاهل بالشيء والشيء المجهول به؛ أما الفعل سأل" فهو أحق بـ "عن" لأن السائل إنما يسأل عن شيء بعد عنه، وتجاوز إدراك، فـ "عن" تعبّر عن هذا البعد الحاصل ما بين السائل والسؤال.
ومع أن تعلق الباء بـ "جاهلة" في هذا البيت من قصيدة عنترة قد يكون هو الأقرب للمنطق، ولا يمكن الزعم بإن الباء إنما تتعلق، بالضرورة، بـ "سأل"، إلا أن هذا البيت قد يكون مما هيأ الناس لتقبل إحلال الباء محل "عن" لأغراض بلاغية، كما رأينا، لم تجد تجسيداً لها في اللغة العربية أفضل مما رأيناه في الآيتين أعلاه.
أما أن تكون الأية الأخرى "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ" تشير إلى كون العرب في الجاهلية كان يسأل بعضهم بعضاً بالله، فهو قول لبعض المفسرين. ونظن ظناً – مستعيذين به تعالى من كل ظن آثم - أنه قول يشوبه بعض الضعيف؛ والسبب أن الآية الكريمة إنما تخاطب الناس، كل الناس، ولا تخاطب عرب الجاهلية وحدهم. فبما أن الخطاب موجه للناس أجمعين، بمختلف لغاتهم وعاداتهم، أفلا يكون من الأنسب أن يكون التساؤل المقصود هو ذلك التساؤل الوجودي الذي يشترك فيه الناس جميعاً: التساؤل عن وجود الله؟ وقد قال بذلك بعض المفسرين [إحالة ومراجع]، وإن كانوا قد فهموا الباء على أساس أنها حلت محل "عن". فلعل الآية تقول للناس بجميع أعراقهم ولغاتهم: إنكم، في عموم أمركم، لا يفتأ الواحد منكم يسأل نفسه ويسأل غيره عن وجود الله، فها قد جاءكم هديٌ ونور من ربكم، فآمنوا بالله واتقوه. ألا يبدو هذا الفهم أنسب لحقيقة أن الرسالة المحمدية رسالة عالمية لم تتوجه، فحسب، إلى عرب الجاهلية؟
لكن هناك من يقول من اللغويون والمفسرين إن التساؤل المقصود هو سؤال العرب - في زمن البعثة الشريفة، وماقبله، أي في العصر الجاهلي - بعضهم بعضاً بالله في نحو قولهم "أسألك بالله ألا فعلتَ لي كذا". لكن نحن نعلم جيداً أن العرب في جاهليتهم، وإن أقسموا بالله، فإنهم كانوا مشركين به، مخالفين لأوامره ونواهيه! فكيف يكون ذلك "الإيمان بالله المقرون بالشرك به" هو وحده مقصد الآية الكريمة؟ إلا يمكن أن يكون قصده تبارك وتعالى - وهو الأعلم بما يقصد ونعوذ به من التطاول على مقاصده العلية بغير علم- ذلك الشعور الذي يولد به عموم الناس ويجعلهم يبحثون عن الله، على نحو ما بحث خليل الله إبراهيم عليه السلام.
هذا، واستغفر الله العظيم لي وللمسلمين، وصدق الله في كتابه في ما قصده وهو الأعلم بقصده،
فنوّرونا أنار الله طريقكم
ولكم خالص التحية والتقدير
أخوكم/ الرّيَّح عبد القادر عثمان [/align]