بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد سادتي الأفاضل تحية طيبة
كنت قد فرغت -ولله الحمد- من الجزء الأول من كتاب متواضع عنونته (قطوف قرآنية) وهو مقالات في آيات قرآنية ولم يزل الكتاب حبيس الأوراق ريثما تمر به عين ناقد بصير ليقضي فيه قضاءه أيصلح للطباعة وللنشر أم يرمى وراء الظهر .. وتباعا سلسلة مقالات من هذا الكتاب فمن وجد عيبا فرحم الله أهدى إلي عيبي وإن أصبت فمن توفيق الله وفضله ..
{.. واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس }
الوثنية معنى لا هـيئة .. معنى منصوب إزاء البصيرة لا هيئة قائمة إزاء البصر ..
قضية جوهرية حري بالمسلم أن يعيها وعيا دقيقا, ولا يُعذَرُ جهله بها, وإلا كان جهله مَقادا يسوقه الشيطان سوق البهيمة السائمة, ويرمي بـه في شَرَكٍ من شِراك الوثنية من حيث لا يدري ولا يحتسب ..
نعم .. انقرض عهد الأصنام وعبادة الأوثان, مذ أربعة عشر قرنا أو يزيد, ولو جُبت بلاد الإسلام شبرا شبرا فلا ولن تجد صنما حوله الناس ركعا سجدا .. والحمد لله رب العالمين ..
ولكن .. هل الوثنية هي الأصنام والتماثيل وحسب ..؟؟! وهـل عدم وجود اللات والـعزّى ويغوث ويعوق ومناة يعني أن الوثنية انـدرست في غيابت القبور, فلا بعث لها ولا نشور ..؟؟! .
كلا وربي !! إن عبادة الأصنام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت مظهرا من مظاهر الوثنية, وليست هي الوثنية بكل ضروبها وأطيافها, أو قل إن الأصنام والتماثيل طور من أطوار الوثنية, ومن وراءه أطوار بعد كثيرة, حيث روح الوثنية بلا وثن, وحيث التوجه لغير الله بلا صنم ..!!.
الوثنية معنى لا هيئة, وروح لا جسد, وقصيروا النظر هم من يقفون عند المظهر لا يجاوزوه, والآية الكريمة تكشف لنا روح الوثنية ومعناها, وبنور الآية نستهدي الطريق, وبنورها نميز ملامح الوثنية, حتى وإن لبست أثوابا قـشيبة بعد أن بَلِيَت أثوابها القديمة, أثواب الحجارة والتماثيل ..
* * *
هذه هي روح الوثنية وهذا هو معناها, الإضلال, إضلال الناس عن طريق التوحيد الخالص لرب العالمين, وإضلالهم عن هدي الله ونهجه, إضلالهم عن المحجة البيضاء, وإضلال القلوب حتى تفرغ من الله, وكم اليوم في الأرض من مُضِلاتٍ لـعباد الله وهم في غفلة ساهون, بل كم اليوم من أوثان استعبدت قلوب الناس بغير ركوع أو سجود وهم جاهلون, ولا يشعرون أنهم عاكفون على معنى من معاني الوثن غير أن ليس له شكل الوثن ..
ويروي التاريخ أنه بلغ عمر رضي الله عنه في خلافته, إن ناسا يصلون عند الشجرة التي كانت البيعة عندها ويطوفون بها [تـأمل] فخاف رضي الله عنه من اتساع الأمر وظهور البدعة وأن تعبد كالأصنام ..!! فأمر بهـا فقطعت ..
وجاء في إغاثة اللهفان لابن القيم "قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البراء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها" ..
* * *
أرأيت.. تلك الريفية الساذجة, ارتمت عند ضريح من الأضرحة خاشعة متصدعة, باكية متضرعة, تناجي صاحب الضريح (الميت)!! أن يقضي حاجتها, ويؤتيها سؤلها, ويرفع عنها الشدة, ويكشف عنها الضُّر, ويحفظ أبناءها (الميت) إي وربي (الميت) ..!! وتسأل (الميت) –لو علمتَ- ولدا لابنتها التي لم تَنسِل بعد ..! وأن يوسع رزق زوجها, ويشفي مريضها, إي والذي كرم بني آدم بالعقل, وهي في سرّ نفسها موقنة أنه سميع بصير .. بل وقدير-سبحان الله سبحان الله- وبـيده إذا رضي النفع, وإذا غضب الضر..!! .
تلك –لعمر الله- وثنية لكن بثوب جديد, وذاك الضريح وثن في معناه وإن خالف شكل الوثن, ولكن أكثر الناس كتلك .. جاهلون ساذجون ..
* * *
تلك وثنية لكن بأحجار جديدة, وذاك الغِرُّ إنما يعكف على وثن وإن لم يكن له هيئة الوثن ..
والحديث عن هذا النوع من الأوثان يرجع بنا لكلمة للإمام علي رضي الله عنه تناسب هذا المقام, فقد جاء في الأثر[1] "مر على كرم الله وجهه على قوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال"ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون" ..
وهذه وتلك في الشبه من نصاب واحد ..
* * *
تــلك وثنية وإن لم تقم حجرا على حجر, وذاك القلب بعيد عن الله, مُسِخَ خزانة عليها أقفالها, لا المال يخرج منها ولا الإيمان ينفذ إليها, وذاك القلب ليس عبدا لله العزيز الغفار, بل هو عبد لوثن الدرهم والدينار..
* * *
تلك –سادتي الأكارم- وثنية مقيتة وثنها الطغاة المستبدين لا أوثان الحجارة والطين, وتلك الشعوب عبيد هذا الوثن البشري, عبيد وإن أقاموا لله الصلوات ورفعوا له الدعوات ..
* * *
وأمـة إلهها الأعراف البالية والعادات القديمة والتقاليد الخاوية, لا تملك أن تحيد عنها أو تخالفها, تلك وثنية وثنها المألوف والعادات والتقاليد ..
وأمة منغلقة على موروثها لا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ولو كان هذا الخير هو شرعة الله, تلك وثنية وثنها تراث الآباء والأجداد ..
ولماذا نبعد الخطى وثمة ضرب من الوثنية ليس عنا بالبعيد, بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد, تلك الوثنية هي عبادة الذات وتأليه الهوى, وفي ذلك قال تعالى
{أفَرَءيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَـهُ هَواهُ وأضَلَّهُ الله عَلَى عِلمٍ}[2]
* * *
لكن برغم هذا الوثنية الضاربة في الأرض الغائرة في النفوس, فنحن آمنون ما دمنا نستهدي الطريق, طريق التوحيد بنور الآية الكريمة, ونسبر القلوب بهذا المسبار الرباني الدقيق, ولا خوف من الوثنية, لا خوف بأي زي تزيت, ووراء أي ثوب توارت ..
{ربِّ إنهنَّ أضللنَ كَثِيرَاً مِنَ النّـاس فَمَن تَبِعَنِي فَـإنَّه مِنِّي ومَن عَصَانِي فَـإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيم}[3]
[1] مصنف بن أبي شيبة ..
[2] الجاثية [23] .
[3] إبراهيم [36].