محمد محمود إبراهيم عطية
Member
رمضان وقضايا الأمة
إنها إشارة واضحة إلى وحدة هذه الأمة ، وهي إشارة - أيضًا - إلى ضرورة إحساس المسلمين بعودة وحدة الأمة ، ليعود إليها عزها ومجدها .
إن معالم هذا الدين تدل على وحدة أهله ، فهم يعبدون ربًّا واحدًا ، ويتوجهون في صلاتهم إلى قبلة واحدة ، ويأمون في حجهم بيتًا واحدًا ؛ ويمارسون حياتهم - في الغالب - على نهج واحد : شريعة الإسلام .
أذكر أن بعض المستشرقين قال : إن الإسلام يريد من أهله إذا عطس أحدهم بالمغرب أن يشمته الذي بالهند ؛ أقول : نعم ؛ إذا سمعه ، فقد قال نبي الإنسانية e : " فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ " ؛ وقال e : " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " ؛ وقال - أيضًا : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ " .
هذه هي أمة الإسلام قبل أن يصيبها التفرق والضعف ، وتحل بها البلايا والرزايا ؛ فأصبحت تعاني - من أثر التشتت والهوان - أمورًا مؤلمة ، وأحوالا مبكية ، فهي تمر حاليًا بفترة هي من أشد وأحرج الفترات التي مرت عليها على مدى تاريخها .
فهل آن الأوان لمراجعة أسباب هذا الواقع المؤلم ؟! هل حان الوقت لإدراك الأسباب الحقيقية للضعف ، ومعرفة العوامل الرئيسة للأدواء والشكوى ؟! والوقوف على تشخيص صحيح للداء ، وتحديد وصفة العلاج الناجع لهذا الواقع الفاجع .
يأتي شهر رمضان ليجمع الأمة - على ما هي فيه - في زمان واحد على أداء هذه العبادة العظيمة بكيفية واحدة ، ويعيشون مع هذه العبادة جوًّا من الروحانية يوحدهم في الإحساس والعمل .
إن رمضان يغرس في نفوس أفراد الأمة قيمًا توحدها ؛ إنه يوحد طرائق التعبير والأداء والأكل ، ويوحد الآداب والأخلاق ، ويعلي من شأن القيم ويعطيها صبغتها العاملة في نفوس الأفراد والجماعات ، بحيث إنك لو سافرت - في رمضان - إلى مصر أو الهند أو أمريكا أو أوربا ؛ أو ذهبت إلى الجزائر أو الكويت أو السعودية ، أو حللت بماليزيا أو إندونيسيا أو الصين ، أو زرت تركيا أو باكستان أو نيجيريا ، أو صمت رمضان في غامبيا أو مالي أو موريتانيا أو اليمن أو جزر القمر ، فإنك تلاحظ جليًّا وحدة القيم والتعابير الثقافية التي يتحلى بها الناس في هذا الشهر الكريم في أي بقعة تعيش فيها جماعة من المسلمين .
فرغم اختلاف أفراد الأمة في المشارب اللغوية والفكرية والعرقية والقومية وغيرها ؛ فإن لرمضان سمته الخاص في توحيد هذه الأمة على موعد الأكل ، وطريقة الكلام ، وطريقة الصلاة ، بل وطريقة تلاوة القرآن .
ففي هذا الشهر الكريم تتلو ملايين من المسلمين القرآن كما لم تتله في بقية أيام السنة ، وتمتلئ المساجد بالمصلين على غير عادتها في الأيام الأخرى ، وتتحد مواقيت الوجبات ( سحورًا قبل الفجر ؛ وإفطارًا بعد غروب الشمس ) ، برغم بعد المسافات واختلاف الأجناس ، وتباين الأعراف ، وتغاير العادات .
بل يجد المتأمل أن الصائم يجاهد نفسه في رمضان محاولا اجتناب ما حرم الله عليه من الأقوال والأفعال , فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والشتم وفحش القول , ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات , ويحفظ أذنه عن الاستماع للحرام , ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم ؛ وبذلك فإن رمضان يفرض على المؤمنين – أيضًا – نوعًا من مجاهدة النفس ، والتي تكسب الإنسان الإحساس بضرورة التغيير .
وفي رمضان تتجلى قيمة من نوع آخر ؛ قيمة تتمنى النفوس أن تراها في عالم الناس التي شغلتهم الحياة المادية فأثرت على أفكارهم ومقاييسهم ؛ إنها الشعور بأن الناس جميعًا سواسية أمام الله تعالى لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ؛ فالحاكم والمحكوم ، والأمير والخفير ، والغني والفقير ، والأنثى والذكر ، والشيخ والفتى ، والعجوز والفتاة ، والعربي والأعجمي ؛ الجميع يمسكون عن المفطرات وقت الصيام ، ويفطرون بعد الغروب ؛ دون تمايز إلا بعذر شرعي ؛ فلا استثناء ولا خروج عن نهج هذه الشعيرة بناء على منصب أو جاه أو مال أو سنٍّ .. إلى غير ذلك مما يتمايز به الناس في دنيا المادة .
وهنا تظهر القيمة التوحيدية لهذه الشعيرة ، إذ يستوي في الالتزام بها الناس جميعًا ، ويدرك الجميع أنهم عباد لله تعالى ، لا فرق بينهم إلا بإحسان العمل لربهم ومليكهم ؛ فتتجلى معايير الإسلام في المفاضلة بين الناس ، ليس على أساس طبقي أو عرقي أو جنسي ، بل على أساس التقوى والعمل الصالح ، فيصير ميزان الحكم على العباد جميعًا هو : ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ [ الحجرات : 13 ] ؛ فإذا وعت القلوب ذلك سعى أصحابها إلى تحصيل التقوى التي هي أصل المفاضلة ، وهي في ذات الأمر الغاية من الصيام ؛ وعند ذلك يدرك الغني ما يعانيه الفقراء من همِّ الحاجة غالب أيام السنة ؛ فعندما يعيش جوع أيام معدودات ، يشعر بغيره ممن يعيش شبع أيام معدودات ؛ فترتفع عنده درجة الاهتمام بقضايا إخوانه المسلمين ، ويزداد شعوره بالمحرومين من حوله ؛ ويخفق قلبه كلما رأى أو سمع بمأساة تصيب الأمة والمجتمع ، بل لا يكتفي بالشعور القلبي ، وإنما يتعداه إلى الجانب العملي فيساهم بما يستطيع في تفريج كروب المكروبين وإغاثة الملهوفين ومساعدة المحرومين .
إن من بركات شهر رمضان أنه يقلل الفجوة بين فقراء الأمة وأغنيائها ، والواقع يشهد أن في رمضان تزداد صدقات الأغنياء وتبرعاتهم وعطاياهم ؛ وهذا من مقاصد هذا الشهر الكريم الذي يجعل هؤلاء الأغنياء يدركون ما يعانيه إخوانهم ممن أصابتهم الفاقة والفقر ؛ وبهذا تتجلى أهمية هذا الشهر الكريم في إحلال قيم التكافل الاجتماعي بين أبناء الأمة .
إن رمضان من أعظم الفُرص التي يجب على الأمة أفرادًا وجماعات ، حكامًا ومحكومين أن تقتنصها لتقييم الجهود ، وإصلاح الأوضاع ؛ إن الأمة في رمضان مهيئة لمثل هذا ، فهل ندرك ذلك قبل فوات الأوان ؟
ما أحوج الأمة إلى وقفات للمحاسبة الصادقة ، ما أحوجها إلى التأمل في الأحوال ، والتفكر في الشؤون والأوضاع ، ما أحوجها إلى وقفاتٍ تستلهم منها العبر والعظات ، فتبصر بها واقعها ، ومعالم حاضرها وغدها .
إن رمضان مناسبة عظيمة لإحياء الأمة ؛ ولولا معاول الهدم في رمضان لكان لأمتنا شأن عظيم في هذا الشهر .
إنه لابد من تضافر الجهود إلى العمل على إحياء الأمة ، مع الاستعانة بالله تعالى ؛ فسبحانه هو المستعان وعليه التكلان .
فهل تفهم الأمة ذلك ، ونحن على وشك توديع رمضان ؟