رمضان وقضايا الأمة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
رمضان وقضايا الأمة
يأتي رمضان ليجمع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله في أي بقعة من بقاع الأرض تحت مظلة واحدة على أداء ركن من أركان هذا الدين العظيم ( الإسلام ) ، هو ركن الصيام .
إنها إشارة واضحة إلى وحدة هذه الأمة ، وهي إشارة - أيضًا - إلى ضرورة إحساس المسلمين بعودة وحدة الأمة ، ليعود إليها عزها ومجدها .
إن معالم هذا الدين تدل على وحدة أهله ، فهم يعبدون ربًّا واحدًا ، ويتوجهون في صلاتهم إلى قبلة واحدة ، ويأمون في حجهم بيتًا واحدًا ؛ ويمارسون حياتهم - في الغالب - على نهج واحد : شريعة الإسلام .
أذكر أن بعض المستشرقين قال : إن الإسلام يريد من أهله إذا عطس أحدهم بالمغرب أن يشمته الذي بالهند ؛ أقول : نعم ؛ إذا سمعه ، فقد قال نبي الإنسانية e : " فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ " ؛ وقال e : " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " ؛ وقال - أيضًا : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ " .
هذه هي أمة الإسلام قبل أن يصيبها التفرق والضعف ، وتحل بها البلايا والرزايا ؛ فأصبحت تعاني - من أثر التشتت والهوان - أمورًا مؤلمة ، وأحوالا مبكية ، فهي تمر حاليًا بفترة هي من أشد وأحرج الفترات التي مرت عليها على مدى تاريخها .
فهل آن الأوان لمراجعة أسباب هذا الواقع المؤلم ؟! هل حان الوقت لإدراك الأسباب الحقيقية للضعف ، ومعرفة العوامل الرئيسة للأدواء والشكوى ؟! والوقوف على تشخيص صحيح للداء ، وتحديد وصفة العلاج الناجع لهذا الواقع الفاجع .
يأتي شهر رمضان ليجمع الأمة - على ما هي فيه - في زمان واحد على أداء هذه العبادة العظيمة بكيفية واحدة ، ويعيشون مع هذه العبادة جوًّا من الروحانية يوحدهم في الإحساس والعمل .
إن رمضان يغرس في نفوس أفراد الأمة قيمًا توحدها ؛ إنه يوحد طرائق التعبير والأداء والأكل ، ويوحد الآداب والأخلاق ، ويعلي من شأن القيم ويعطيها صبغتها العاملة في نفوس الأفراد والجماعات ، بحيث إنك لو سافرت - في رمضان - إلى مصر أو الهند أو أمريكا أو أوربا ؛ أو ذهبت إلى الجزائر أو الكويت أو السعودية ، أو حللت بماليزيا أو إندونيسيا أو الصين ، أو زرت تركيا أو باكستان أو نيجيريا ، أو صمت رمضان في غامبيا أو مالي أو موريتانيا أو اليمن أو جزر القمر ، فإنك تلاحظ جليًّا وحدة القيم والتعابير الثقافية التي يتحلى بها الناس في هذا الشهر الكريم في أي بقعة تعيش فيها جماعة من المسلمين .
فرغم اختلاف أفراد الأمة في المشارب اللغوية والفكرية والعرقية والقومية وغيرها ؛ فإن لرمضان سمته الخاص في توحيد هذه الأمة على موعد الأكل ، وطريقة الكلام ، وطريقة الصلاة ، بل وطريقة تلاوة القرآن .
ففي هذا الشهر الكريم تتلو ملايين من المسلمين القرآن كما لم تتله في بقية أيام السنة ، وتمتلئ المساجد بالمصلين على غير عادتها في الأيام الأخرى ، وتتحد مواقيت الوجبات ( سحورًا قبل الفجر ؛ وإفطارًا بعد غروب الشمس ) ، برغم بعد المسافات واختلاف الأجناس ، وتباين الأعراف ، وتغاير العادات .
بل يجد المتأمل أن الصائم يجاهد نفسه في رمضان محاولا اجتناب ما حرم الله عليه من الأقوال والأفعال , فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والشتم وفحش القول , ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات , ويحفظ أذنه عن الاستماع للحرام , ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم ؛ وبذلك فإن رمضان يفرض على المؤمنين – أيضًا – نوعًا من مجاهدة النفس ، والتي تكسب الإنسان الإحساس بضرورة التغيير .
وفي رمضان تتجلى قيمة من نوع آخر ؛ قيمة تتمنى النفوس أن تراها في عالم الناس التي شغلتهم الحياة المادية فأثرت على أفكارهم ومقاييسهم ؛ إنها الشعور بأن الناس جميعًا سواسية أمام الله تعالى لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ؛ فالحاكم والمحكوم ، والأمير والخفير ، والغني والفقير ، والأنثى والذكر ، والشيخ والفتى ، والعجوز والفتاة ، والعربي والأعجمي ؛ الجميع يمسكون عن المفطرات وقت الصيام ، ويفطرون بعد الغروب ؛ دون تمايز إلا بعذر شرعي ؛ فلا استثناء ولا خروج عن نهج هذه الشعيرة بناء على منصب أو جاه أو مال أو سنٍّ .. إلى غير ذلك مما يتمايز به الناس في دنيا المادة .
وهنا تظهر القيمة التوحيدية لهذه الشعيرة ، إذ يستوي في الالتزام بها الناس جميعًا ، ويدرك الجميع أنهم عباد لله تعالى ، لا فرق بينهم إلا بإحسان العمل لربهم ومليكهم ؛ فتتجلى معايير الإسلام في المفاضلة بين الناس ، ليس على أساس طبقي أو عرقي أو جنسي ، بل على أساس التقوى والعمل الصالح ، فيصير ميزان الحكم على العباد جميعًا هو : ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ [ الحجرات : 13 ] ؛ فإذا وعت القلوب ذلك سعى أصحابها إلى تحصيل التقوى التي هي أصل المفاضلة ، وهي في ذات الأمر الغاية من الصيام ؛ وعند ذلك يدرك الغني ما يعانيه الفقراء من همِّ الحاجة غالب أيام السنة ؛ فعندما يعيش جوع أيام معدودات ، يشعر بغيره ممن يعيش شبع أيام معدودات ؛ فترتفع عنده درجة الاهتمام بقضايا إخوانه المسلمين ، ويزداد شعوره بالمحرومين من حوله ؛ ويخفق قلبه كلما رأى أو سمع بمأساة تصيب الأمة والمجتمع ، بل لا يكتفي بالشعور القلبي ، وإنما يتعداه إلى الجانب العملي فيساهم بما يستطيع في تفريج كروب المكروبين وإغاثة الملهوفين ومساعدة المحرومين .
إن من بركات شهر رمضان أنه يقلل الفجوة بين فقراء الأمة وأغنيائها ، والواقع يشهد أن في رمضان تزداد صدقات الأغنياء وتبرعاتهم وعطاياهم ؛ وهذا من مقاصد هذا الشهر الكريم الذي يجعل هؤلاء الأغنياء يدركون ما يعانيه إخوانهم ممن أصابتهم الفاقة والفقر ؛ وبهذا تتجلى أهمية هذا الشهر الكريم في إحلال قيم التكافل الاجتماعي بين أبناء الأمة .
إن رمضان من أعظم الفُرص التي يجب على الأمة أفرادًا وجماعات ، حكامًا ومحكومين أن تقتنصها لتقييم الجهود ، وإصلاح الأوضاع ؛ إن الأمة في رمضان مهيئة لمثل هذا ، فهل ندرك ذلك قبل فوات الأوان ؟
ما أحوج الأمة إلى وقفات للمحاسبة الصادقة ، ما أحوجها إلى التأمل في الأحوال ، والتفكر في الشؤون والأوضاع ، ما أحوجها إلى وقفاتٍ تستلهم منها العبر والعظات ، فتبصر بها واقعها ، ومعالم حاضرها وغدها .
إن رمضان مناسبة عظيمة لإحياء الأمة ؛ ولولا معاول الهدم في رمضان لكان لأمتنا شأن عظيم في هذا الشهر .
إنه لابد من تضافر الجهود إلى العمل على إحياء الأمة ، مع الاستعانة بالله تعالى ؛ فسبحانه هو المستعان وعليه التكلان .
فهل تفهم الأمة ذلك ، ونحن على وشك توديع رمضان ؟
 
عودة
أعلى