رمضان هو هذا الشهر من الأشهر القمرية الذي اختاره الله ليكون زمنًا للتغيير ، فجعل فيه تنزل كتبه على رسله ، والذي كان آخرها كتابه العزيز ( القرآن العظيم ) ، فدل ذلك على أن هذا الشهر هو أفضل شهور العام ؛ ونبه - أيضًا - على علاقةٍ ما بين التغيير ورمضان . فلهذا الشهر خصوصية في حياة الكون ؛ إذ هو الشهر الذي ابتدأ فيه الوحي على رسول الإنسانية محمد e فتغيرت به أحوال الدنيا ؛ تغير الإنس والجن ، بل تغير الكون كله ببعثة محمد e ؛ فارتبط التغيير بهذا الشهر ، مما يلفت العقل إلى أن يتدبر هذه العلاقة بين التغيير ورمضان ؛ فكانت هذه الرسالة : ( رمضان والتغيير ) .
منذ زمن بعيد في أيام المراهقة كنا نسمع من أترابنا إذا قيل لأحدهم : لماذا لا تداوم على صلاتك ؟ فيقول : رمضان آت ، ولن أضيع صلاة ! وهكذا كانت إجابات كثير منهم إذا سئل عن تقصير ما ، في أمر من أمور الدين ؛ فكانت الإجابة لمثل هؤلاء : لا تربط توبتك بزمن ، فإنك لا تدري أتعيش إلى رمضان أم لا ؛ فسارع ولا تسوف . غير أن هذه الإجابة - على صحتها - لا تنفي أبدًا ما في رمضان من الأثر في تغيير المسلم ، فإننا ندرك تمامًا - كما يدرك غيرنا من المسلمين - هذا الأثر في الواقع . ففي رمضان تتغير أحوال كثيرة ظاهرة وباطنة ؛ وكم رأينا عصاة يسارعون إلى المساجد في الفرائض والنوافل ، ويحرصون على تلاوة القرآن ، وعلى بعض الأذكار ؛ وتتغير بعض سلوكياتهم ... يظهر ذلك جليًّا في كثير من المجتمعات . وإن كان هذا حال بعض العصاة ؛ فأحوال أهل الطاعة - أيضًا - تتغير فتزداد حسنًا إلى حسن ، فيزيدون من طاعتهم لله تعالى في هذا الشهر المبارك . ومن له تأمل في الكون وآياته لعله يستشعر تغييرًا لا يقف عليه من ليس له تأمل ؛ ولعلنا إذا قلنا : ( رمضان شهر تغيير ) لا نكون أبعدنا ، فتلك حقيقة يشهد لها الواقع ، ولله في خلقه شؤون . وفي هذه الرسالة ( رمضان والتغيير ) نتناول المحاور الآتية : معنى رمضان . من أسماء رمضان . معنى التغيير . أنواع التغيير . أدوات التغيير . حتى يغيروا ما بأنفسهم . بعثة النبي e والتغيير . رمضان والتغيير النفسي والسلوكي . لماذا أتغير ؟ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر . هل تغيرت في رمضان سابق ؟ وختامًا . هذا ، والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
رمضان عَلَمٌ على شهرالصوم؛مأخوذ - كماقالالقرطبي - من رمض الصائم يرمض ، إذا حر جوفه من شدة العطش ؛ والرمضاء : شدة الحر ( [1] ) . وقال غير واحد من أهل العلم : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموَّها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرِّ ؛ فسمي رمضان ( [2] ) . وقال الزمخشري :فإن قلت : لم سمي( شهر رمضان ) ؟ قلت : الصوم فيه عبادة قديمة ، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ، كما سمُّوه ناتقًا لأنه كان ينتقهم ، أي : يزعجهم إضجارًا بشدته عليهم ( [3] ) . وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر t قال : إنما سمي رمضان لأن الذنوب ترمض فيه ( [4] ) ؛ أي : تحترق بالأعمال الصالحة فيه . ونقل الرازي عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار ؛ والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها ، فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم ( [5] ). وكان اسم شهر رمضان في الجاهلية : نَاتِقًا ، أنشد المُفَضَّل :
وكل هذه المعاني موجودة في شهر رمضان ، فاجتمع فيه أن وقت التسمية كان زمن حرٍّ ، ثم إن الله فرض صومه ، والصوم فيه العطش والحرارة ، ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتمحوها وتغسل أثرها . وقد يُلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه سبحانه ، ثم يبينه لهم بعد ذلك ، وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية .
من أسماء شهر رمضان
من أسماء شهر رمضان : شهر الصبر ؛ سمَّاه النبي e بذلك ، فقد روى أحمد والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ ، وَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ : صَوْمُ الدَّهْرِ " ( [7] )
[1] - انظر تفسير القرطبي عند تفسير الآية ( 185 ) من سورة البقرة . [2] - انظر ( الكشاف ) للزمخشري ، عند تفسير الآية ( 185 ) من سورة البقرة ، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ( مادة رمض ) ، وتفسير ابن كثير عند الآية ( 36 ) من سورة التوبة . [3] - انظر ( الكشاف ) للزمخشري ، عند تفسير الآية ( 185 ) من سورة البقرة . [4]- أخرجه ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 47 / 335 . [5] - انظر ( التفسير الكبير ) للرازي : 1 / 769 – دار إحياء التراث . [6]- قال الأزهري في ( تهذيب اللغة : 2 / 192) : العرب تقول في الجاهلية لشعبان : عاذل ، ولشهر رمضان : ناتق ، ولشوال : وَعِل ، ولذي القَعْدة : وَرْنة ، ولذي الحِجَّة : بُرَك ، ولمحرّم : مؤتمر ، ولصَفَر : ناجر ، ولربيع الأول : خَوّان ، ولربيع الآخِرِ : وَبْصان ، ولجمادى الأولى : رُنَى ، وللآخرة : حُنَين ، ولرجب : الأصمّ . [7] - أحمد : 2 / 253 ، والنسائي ( 2408 ) .
تغيَّر الشيءُ عن حاله تحوَّل ، وغَيَّرَه حَوَّله وبدَّله ، كأَنه جعله غير ما كان ، وفي التنزيل العزيز : ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ [ لأنفال : 53 ] ؛ قال ثعلب : معناه حتى يبدِّلوا ما أَمرهم الله .ا.هـ . وغَيَّرَ عليه الأَمْرَ : حَوَّله ، وورد في حديث الاستسقاء : " مَنْ يَكْفُرِ اللهَ يَلْقَ الغِيَرَ " أَي : تَغَيُّر الحال وانتقالَها من الصلاح إِلى الفساد ؛ والغِيَرُ الاسم من قولك : غَيَّرْت الشيء فتغيَّر ( [1] ) . قال الراغب - رحمه الله : والتغيير يقال على وجهين : أحدهما : لتغيير صورة الشيء دون ذاته ؛ يقال : غيَّرت داري : إذا بنيتها بناء غير الذي كان ؛ والثاني : لتبديله بغيره ، نحو : غيرت غلامي ودابتي ، إذا أبدلتهما بغيرهما ؛ نحو : ] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ [ الرعد : 11 ] ( [2] ) . وواضح من هذا التقسيم أن التغيير في الأول لا يمس ذات الشيء ، وإنما تتغير صفته وحالته ، فالدار موجودة ، لكنها أعيد بناؤها على صورة جديدة ؛ وأما في القسم الثاني فتغير الغلام ، وتغيرت الدابة ، بمعنى استبدل بهما غيرهما . وأما المراد بالتغيير في الآية فهو تغيير حالة النفس التي هي عليها من طاعة وشكر، إلى معصية وكفران .. إذ النفس هي النفس ، ولكن لما غيَّرت ما أمرها الله به ، وعصت وكفرت بالنعم ، استحقت أن تزول عنها النعم ، وأن يتغير حالها من النعمة إلى النقمة . فالمراد التغيير الداخلي لنفس الإنسان ، وهو ما يتم عادة بتغيير المفاهيم الذي يتم معه تغيير السلوك سلبًا أو إيجابًا .
[1]- انظر لسان العرب باب الراء فصل الغين ؛ والمحكم والمحيط الأعظم ، وتاج العروس من جواهر القاموس ( مادة غ ي ر ) . [2]- انظر ( مفردات ألفاظ القرآن ) مادة ( غ ي ر ) .
تتنوع قضايا التغيير تنوعًا كبيرًا بحسب النفوس والأحوال ، وينقسم هذا التنوع ابتداء إلى تغيير إيجابي وتغيير سلبي ، وكل واحد منهما درجات . فبحسب النفوس قد تتغير إلى الأحسن ، هذا تغيير إيجابي ، وهو في ذاته درجات ، وقد تتغير إلى الأسوأ ، وهذا تغيير سلبي ، وهو - أيضًا - في ذاته درجات . فالإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب ، قيل : قد تغير ؛ وكذلك إذا تغير خلقه ودينه ، مثل أن يكون فاجرًا فينقلب ويصير برًّا ، أو يكون برًّا فينقلب فاجرًا فإنه يقال : قد تغير . وأما بحسب الأحوال ، فكل حالة في الكون سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية ... أو غير ذلك ؛ فإنها تخضع للتغيير سلبًا أو إيجابًا . وموضوع رسالتنا هذه هو تغيير النفس إيجابيًا ، التغيير الذي يحفظ صاحبه نعمة الله عليه ، ويفوز بموعود الله لأهل هذا التغيير ، قال الله تعالى : ] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [ [ إبراهيم : 7 ] ، فشكر النعمة يحفظها ويزيدها ، وكفران النعم متوعد صاحبه بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا . وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته ؟ فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه ؛ ] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ [ الرعد : 11 ] . ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم ، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره ، وعصيان رسله ؛ وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه ، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب ، كما قيل :
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
فما حُفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه ؛ فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس ( [1] ) . وهذا التغيير نوعان : تغيير دائم ، وتغيير وقتي . أما الدائم فهو أن يداوم صاحبه على طاعة الله Y التي تاب من تركها ، ولا ينقطع عنها ؛ كمثل الذي كان لا يصلي ، فيتوب ويتغير فيصير مصليًّا محافظًا على صلاته . وأما التغيير الوقتي ، فهو أن ينقطع التائب عن طاعة تغيَّر إليها بعد وقتطالأوقصر؛ كمثل من تغير فعرف طريق المسجد ، فصار على ذلك مدة ، ثم رجع إلى الصلاة في بيته .
[1] - اقتباس من كلام لابن القيم – رحمه الله ، وانظر ( بدائع الفوائد : 3 / 294 – 296 ) - دار الكتاب العربي - بيروت .
يملك كل إنسان من أدوات تغيير النفس ما لو اجتهد بها لحصل له التغيير الإيجابي بإذن الله تعالى ؛ وهذه الأدوات هي : العقل الفعال ، والإرادة الخيرة . وإنما قلت : العقل الفعال ، لأن العقل عقلان : معطل ، وفعال ؛ فالذي عطَّل عقله عن فهم الحق ، ومعرفة الهدى من الضلال ، والخير من الشر .. كيف يحصل له التغيير الإيجابي ؟ وقلت : الإرادة الخيرة ، لأن الإرادة نوعان : إرادة الخير ، وإرادة الشر ، وكلاهما موجود في الإنسان ؛ فإذا غلبت إرادة الخير في إنسان سهل عليه - بإذن الله - أن يتغير التغير الإيجابي . بقي من أدوات التغيير الإيجابي أمرٌ مهم ، وهو المنهج القويم : وهذا المنهج ليس إلا الإسلام الذي مرجعه القرآن الكريم والسنة المطهرة ؛ قال الله تعالى : ] إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ [ الإسراء : 9 ] ؛ وقال U : ] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ [ الحشر : 7 ] ، وقال Y : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [[آلعمران:31]. فمن وهب عقلا استعمله في الفهم الصحيح ، وملك إرادة خيرة ، واتضح له المنهج ، فهذا يرجى منه الخير ، ويؤمل منه أن يتغير إلى الأحسن دائمًا بإذن الله . ومن وهب عقلا عطله عن فهم الحق ، وكانت له إرادة شريرة ، ولم يتضح له المنهج القويم ؛ فهذا إن بقي على ما هو عليه ، ولم يُعْمِل عقله في فهم الحق ، فلا يرجى منه خير ، وغالبًا يكون تغييره إلى الأسوأ .
سنة من سنن الله تعالى ماضية في التغيير نجدها في آيتين من القرآن العظيم ؛ الأولى : قوله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ [ الرعد : 11 ] ، فيخبر Y عن هذه السنة الماضية في خلقه ، وهي أنه تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء ، بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي ، نتيجة الإعراض عن كتاب الله ، وإهمال شرعه ، وتعطيل حدوده ، والانغماس في الشهوات ، والضرب في سبيل الضلالات ( [1] ) . قال صاحب ( أضواء البيان ) : بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة ، أنه لا يغيِّر ما بقوم من النعمة والعافية ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا ؛ والمعنى : أنه لا يسلب قومًا نعمة أنعمها عليهم ، حتى يغيِّروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح ، وبيَّن هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ [ الأنفال : 53 ] ( [2] ) . وهذه هي الآية الثانية ؛ وتغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها ؛ فقوله تعالى : ] ذَلِكَ [ إشارة إلى العذاب الذي حلَّ بمن ذكرهم الله تعالى قبل هذه الآية ، بسبب ذنوبهم وكفرهم : ] فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ [ الأنفال : 52 ]، أي : ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم ، وذلك جرى على سنة الله تعالى أنه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ؛ قال الجزائري في تفسير الآية ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً [ : إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة ، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء ، أو الطهر والصفاء ، حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا ، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا ، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم ، فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ، ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد ؛ هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام ( [3] ) . قال ابن تيمية - رحمه الله : وهذا التغيير نوعان ؛ أحدهما : أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب . والثاني : أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض ، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله ، فيستحقون العذاب هنا [ النوع الثاني ] على ترك المأمور ، وهناك [ النوع الأول ] على فعل المحظور . وكذلك ما في النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه ؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة ، فإذا خلَّى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات ( [4] ) .ا.هـ . ففي هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب ، قاطع بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة ، ومالوا مع الأهواء ، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة ؛ حلَّ بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا ، ويفرق كلمتهم ، ويوهي قوتهم ، ويسلط عدوهم ( [5] ) .
[1] - انظر أيسر التفاسير عند الآية ( 11 ) من سورة الرعد . [2] - انظر ( أضواء البيان ) عند تفسير الآية ( 11 ) من سورة الرعد . [3] - انظر (أيسر التفاسير للجزائري ) عند تفسير الآية ( 53 ) من سورة الأنفال . [4]- انظر مجموع الفتاوى : 14 / 109 . [5]- انظر ( محاسن التأويل ) للقاسمي عند تفسير الآية ( 11 ) من سورة الرعد .
فائدة : روى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا حوَّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون ؛ ثم قال : إن تصديق ذلك في كتاب الله : ] إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [ ( [1] ) .
[1] - تفسير ابن أبي حاتم : 7 / 2232 ، 2233 ، وانظر الدر المنثور : 4 / 617 .
كانت بعثة النبي محمد e مؤذنة بتغيير عظيم في النفوس والأحوال ، تغيير شمل جميع نواحي الحياة ؛ فتغير بها الإنس والجن ، وتغيرت بها الحياة كلها ... إنها رسالة الله الخاتمة إلى خلقه . فانظر إلى تغير الجن في قوله تعالى : ] وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ [ الأحقاف : 29 – 32 ] . وفي قوله : ] قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [ [ الجـن : 1 ، 2 ] . لقد تغيرت الجن بعد استماعهم لآيات الله ، فأمنوا وتركوا الشرك ، بل عابوا أهله الذين كانوا مثلهم قبل تغيرهم ، ] وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا . وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [ [ الجـن : 3 ، 4 ] . هكذا تغيرت الجن باطنًا بالإيمان بالقرآن ، وظاهرًا بالدعوة إلى الله تعالى ، وبيان فساد عقيدة السفهاء الذين قالوا : اتخذ الله ولدًا . وقد أذن الله تعالى أن يبدأ ذلك في شهررمضان ،فقال تعالى : ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [ البقرة : 185 ] . وكتب أن يظهر هذا الدين على الدين كله ولوكره المشركون ، وهذا يعني تغيُّر العالم ، ذلك لأن ظهور دين الإسلام معناه أن يدين له كل من على الأرض ، فالمؤمن بإيمانه ، وغيره بنزوله تحت حكمه وسلطانه ؛ وقد كان ذلك وسيعود بإذن الله تعالى ؛ روى أحمد والطبراني والحاكم وصححه عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ t قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللهِ e : " لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ : إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللهُ U فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا " ( [1] ) . قال الله تعالى : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ [ التوبة : 33 ، والصف : 9 ] . فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ، ودين الحق هو الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة ، ] لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ أي : على سائر الأديان([2]). روى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا " ([3]) . وروى أحمد وغيره عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ : " لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ : عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ " وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ : قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ ( [4] ) .
[1] - أحمد : 6 / 4 . ورواه الطبراني في الكبير : 20 / 254 ( 601 ) ، وابن حبان ( 6701 ) ، والحاكم : 4 / 430 ، وصححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي . [2] - انظر تفسير ابن كثير عند الآية ( 33 ) من سورة التوبة . [3] - جزء من حديث رواه مسلم ( 2889 ) عن ثوبان . [4] - أحمد : 4 / 103 ، وإسناده صحيح . ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 58 ( 1280 ) ، ومسند الشاميين ( 951 ) ؛ ورواه البخاري في الكبير : 2 / 150 في ترجمة تميم الداري ( 2016 ) ، مختصرًا كعادته في تاريخه . ورواه الحاكم : 4 / 430 ، 431 ، وصححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي . وله شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني ، رواه الطبراني في مسند الشاميين ( 523 ) ، والحاكم : 1 / 488 ، 489 ثم قال : هذا حديث رواته مجمع عليهم بأنهم ثقات إلا أبا فروة يزيد بن سنان ، وله شاهد ؛ ثم ساق له شاهدًا عن ابن عمر .
تقدم أن من أسماء رمضان ( شهر الصبر ) ؛ وأَصْلُ الصَّبْر كما قَالَ الطَّبَرِيُّ - رحمه الله : مَنْع النَّفْس مَحَابَّهَا وَكَفَّهَا عَنْ هَوَاهَا ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَنْ لَمْ يَجْزَع : صَابِرٌ ، لِكَفِّهِ نَفْسه عَنِ الْجَزَعِ ؛ وَقِيلَ لِرَمَضَان : شَهْر الصَّبْر ، لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارًا ( [1] ) ؛ وبنحوه قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رحمه الله : شَهْرُ الصَّبْرِ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وَأَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْس ، فَسُمِّيَ الصِّيَام صَبْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ حَبْس النَّفْس عَنْ الطَّعَام وَمَنْعهَا عَنْ وَطْء النِّسَاء وَغِشْيَانهنَّ فِي نَهَارِ الصِّيامِ .ا.هـ . وقال ابن عبد البر - رحمه الله - في ( الاستذكار ) : والصوم في لسان العرب : الصبر ؛ قال ابن الأنباري : إنما سمي الصوم صبرًا لأنه حبس النفس عن المطاعم والمشارب والمناكح والشهوات ( [2] ) . وقال البيهقي - رحمه الله - في ( شعب الإيمان ) : وإنما سمي الصيام صبرًا لأن الصبر في كلام العرب الحبس ، والصائم يحبس نفسه عن أشياء ، جعل الله تعالى قوام بدنه بها ، وسمي الصبر ضياء ؛ لأن الشهوات إذا انقمعت به انجلى من القلب الظلام الغاشي إياه باستيلاء الشهوات على النفس ، فأبصر مواقع النفع له من عبادة الله تعالى ، فآثرها وابتدر إليها ، ومواقع الضرر الذي يلحقه من معاصي الله فاعتزلها وكف عنها ، وقد سماه في خبر آخر : نصف صبر .ا.هـ . فهكذا اتحدت علاقة الصوم بالصبر والتغيير ؛ إذ الصوم يقمع الشهوات ، فيجلي القلب فيبصر طريق نجاته ؛ فمن تصبر في رمضان على ذلك قويَ عنده خلق الصبر ، وصار بعد ذلك الصبر له سجية ؛ فيتغير مع ذلك إلى الأحسن صابرًا ، فيطيب عيشه ، وتحسن عاقبته . ولا تخفى علاقة التغيير بالصبر والصوم ، إذ الصائم تتغير في نفسه وحياته أمور كثيرة ، باطنة وظاهرة ، وهو يصبر عليها . وفي هذا السياق ما رواه مَالِك والشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " الصِّيَامُ جُنَّةٌ ؛ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ ، إِنِّي صَائِمٌ " ( [3] ) ؛ وَما رواه النسائي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ ، فَمَنْ أصْبَحَ صَائِما فَلا يَجْهَلْ يَوْمَئِذٍ ؛ وَإنِ امْرُؤ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلا يَشْتِمْهُ وَلا يَسُبَّهُ ؛ وَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ " الحديث ( [4] ) . فتأمل - رحمني الله وإياك - بيان النبي e لك : كيف تحفظ صيامك وتصونه ليكون لك جُنَّة من النار ؛ فنهاك - أيها الصائم - عن الرَّفَثِ ، والمراد به هُنَا : الْكَلَام الْفَاحِش ؛ كالشتم والخنا والغيبة والجفاء ، وأن تغضب صاحبك بما يسوءه ، والمراء .. ونحو ذلك ؛ كما نهاك - أيضًا - أن تََجْهَل ؛ أَيْ : تَفْعَل شَيْئًا مِنْ أَفْعَال أَهْل الْجَهْل ، كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَه وَنَحْو ذَلِكَ ... إنه يريد منك أن تتغير . بل وفوق هذا قال لك e : ؛ " فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ ، " وَإنِ امْرُؤ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلا يَشْتِمْهُ وَلا يَسُبَّهُ ، وَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ " ، أي : فإن رأى الصائم من امرئ مبادأة بالشتم أو المقاتلة ؛ فلا يقابل ذلك بمثله ؛ فإن الجهل لا يليق بحال الصائم ، بل عليه أن يقول : " إِنِّي صَائِمٌ ، إِنِّي صَائِمٌ" ؛ ففيها تذكرة له بأن الصيام جنة فلا يجهل ، ولا يقابل الجهل بمثله ؛ كما أن فيها تذكرة لمن يريد أن يشاتمه أو يقاتله ؛ فلعله أن يكف ... إنه يريد أن يتغير الجميع إلى الخير . إن الانتصار على النفس في معركة ترى النفس أنه لابد من الانتصار لها - مع القدرة على الانتصار - لرتبة عالية في الجهاد الذي يجعل صاحبه في وقاية من الوقوع في الإثم المستوجب لعذاب النار ؛ والجزاء من جنس العمل ، فمن عفا عُفي عنه ، ومن غَفَرَ غُفِرَ له ؛ والله تعالى يقول : ] وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [ النور : 22 ] ؛ وما أجمل أن يتغير الإنسان إلى الأحسن والأمثل ، وإن كان له الحق في رد العدوان،قال الله تعالى: ] وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ [ الشورى : 41 - 43 ] .
[1] - انظر تفسير ابن جرير الطبري عند الآية ( 45 ) من سورة البقرة .
[2] - انظر ( الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار ) : 3 : 375 .
[3] - رواه مالك في الموطأ ، ومن طريقه البخاري ( 1894 ) ، ورواه مسلم ( 1151 ) من وجه آخر .
[4] - النسائي ( 2234 ) ، وصححه الألباني في صحيح النسائي .
حاجتنا للتغيير ملحة ، إذ التوبة واجبة من كل ذنب ، وقد أخبر النبي e أن كل بني آدم خطاء ، وأن خير الخطائين التوابون ؛ فكل بني آدم يحتاجون إلى الرجوع إلى الله تعالى ، والفرار إليه ؛ ولا يكون هذا إلا بالتغيير من حال إلى حال ، بل من نفس إلى نفس ؛ من نفس أثقلتها آثار الذنوب ، إلى نفس تخففت من ذلك بالتوبة إلى الله تعالى ، فتحوَّل حالها من نفس كانت عاصية مذنبة إلى نفس طائعة تائبة ... من نفس كانت بعيدة عن الله تعالى إلى نفس قريبة منه Y ... من نفس كانت على درب الغواية إلى نفس صارت على درب الهداية . وقد تتحول النفس الطائعة إلى نفس أكثر طاعة ، من نفس قريبة من الله تعالى ، إلى نفس أكثر قربًا ، من نفس سلكت طريق الهداية إلى نفس ثبتت في هذه الطريق وتلذذت بالجهاد على هذا الثبات ... إنه تغيير من الحسن إلى الأحسن ثم إلى الأكثر حسنًا ، والله الموفق سبحانه .
والتوبة تغيير النفس والحال ، ومنزلتها - كما يقول ابن القيم - رحمه الله : هي أول المنازل وأوسطها وآخرها ، لا يفارقه العبد ولا يزال فيه إلى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به ؛ فالتوبة هي بداية العبد ونهايته ، وحاجته إليها في النهاية ضرورية ؛ كما أن حاجته إليه في البداية كذلك ؛ فقد قال تعالى : ] وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [ [ النور : 31 ] ، وهذه الآية في سورة مدنية ؛ خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وجهادهم ، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه ، وأتى بأداة ( لعل ) المشعرة بالترجي ، إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح ، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون ... جعلنا الله منهم ؛ وقال تعالى : ] وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ [ الحجرات : 11 ] ، قسَّم العباد إلى تائب وظالم ، فليس ثَمَّ قسم ثالث البتة ، وأوقع اسم ( الظالم ) على من لم يتب ، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه ، وبعيب نفسه وآفات عمله ( [1] ) . فأي القسمين تريد أيها الإنسان : أن تكون في قسم التائبين ، أم في قسم الظالمين ؟ من هنا تكون الإجابة على السؤال : لماذا أتغير ؟ والله الموفق والمستعان .
" يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ " بهذا النداء الودود الشفيق ينادي مناد الله تعالى عند دخول أول ليلة من رمضان .. إنه نداء لعباد الله أجمعين أن أقبلوا على الله تعالى ؛ فمن كان منهم يريد الخير فهذا شهر الخيرات والفضائل ، فليقبل ويتزود من الخيرات ؛ وهذا هو التغيير الإيجابي بدرجاته ؛ فمن كان على حالة سيئة فتاب وانتقل إلى حالة طيبة ، فهو تغيير من السيئ إلى الحسن ، ومن كان على حالة حسنة ، فازداد طاعة ، ازدادت حالته حسنًا ، فصار إلى حالة أحسن ... وهكذا . ومن كان من العباد يبتغي الشر فالمنادي يقول له : أقصر .. أي : امتنع عن الشر .. اتركه .. تب إلى الله Y وأقبل عليه بقلب منيب ، فإنك في شهر الخير، ولا يناسب أن تكون فيه مبتغيًا للشر ... تغيَّر ، فإن كل ما حولك يتغيَّر في رمضان إلى الأحسن . إن كل شيء في رمضان يساعد من يريد التوبة على الإنابة والرجوع إلى الله تعالى ، فهو يجد فيه من العون ما لا يجده في غيره ، فالقلوب على ربها مقبلة ، وأبواب الجنان مفتحة ، وأبواب النيران مغلقة ، وأبواب الرحمة مفتحة ، وأسباب الشر مضيقة ، والشياطين ومردة الجن مصفدة ، وأنواع الطاعة من فروض ونوافل ميسرة ، وفيه تعتق الرقاب من النار ؛ وكل ذلك مما يعين المرء على التوبة والرجوع إلى الله العظيم ؛ كل ذلك يدعوه إلى التغيير الإيجابي ويعينه عليه . روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ"، وفي رواية لمسلم: " فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ " ، ورواه الترمذي وابن ماجة بلفظ : " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ " ( [1] ) ؛ وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ " ( [2] ) . إن الحديث عن التوبة حديث يتجدد مع يوم كل مسلم ؛ إنه حديث الفهم التام لطبيعة الإنسان ، والذي نجده في قول نبي الإنسانية e : " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " ( [3] ) . والتوبة تغيير إيجابي في حياة العقلاء ، فهي تغيير إلى الأحسن ... تغيير إلى الأقوم ... تغيير إلى النجاة والفوز . وإذا كان الله U قد دعا عبادهالمؤمنينإلىالتوبةالصادقةالنصوحفيكلزمان فقال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [ [ التحريم : 8 ] ، فإن التوبة في رمضان أولى وآكد ، لما ذكرنا من الأسباب التي تعين على التوبة . فإن كان الحديث عن التوبة يحسن في كل حين ، لكن يطيب ذكره أكثر في رمضان ؛ لأنه موسم للرجوع والإنابة ، والنفوس تجد في هذا الشهر عونًا على التوبة من الأخطاء والسيئات أكثر من غيره . والتوبة النصوح هي الخالصة الصادقة التي تقع لمحض خوف الله وخشيته والرغبة والرهبة له سبحانه ؛ الجازمة التي تلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات ؛ سئل عمر t عن التوبة النصوح فقال : أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدًا ( [4] ) ؛ ولهذا قال العلماء : التوبة النصوح : هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ، ويندم على ما سلف منه في الماضي ، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه .
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي مُوسَى t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ U يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا " ( [5] ) ؛ فإذا كان ذلك في كل يوم ، فكيف برمضان ، الذي يصوم العبد نهاره ، ويقوم ليله .. فيكون أقرب إلى الله تعالى عبادة وأقرب قبولا لتوبته ؛ إنه فرصة عظيمة لا يضيعها عاقل . وهكذا يجد المتأمل الناس في رمضان على حال من الطاعة أفضل من غيره ؛ فالمساجد ممتلئة بالمصلين ، ومجالس العلم تزدحم بالمستمعين ، ومقارئ القرآن يكثر فيها التالون ، كما يجد الذاكرين والقارئين لكتب العلم ... إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على رجوع هؤلاء إلى الله Y ... ثبتنا الله وإياهم . إلا أننا نجد تفاوت الناس في الاستمرار على هذه الحالة بعد رمضان ، وتطويع النفس عليها على الدوام : فمن الناس من يرجع إلى ما كان عليه قبل رمضان - من ترك الواجبات ، وفعل المحرمات - عندما يرى هلال شوال ؛ وهذا الصنف يحتاج إلى مراجعة شديدة للنفس ؛ وتقوية لإرادة الخير ، ومجاهدة لنفسه وللشيطان .. إن كان يريد النجاة ! ويقال لهؤلاء : إن رمضان محطة للتزود ، ووسيلة لتربية النفس في رمضان وبعد رمضان ، وبئس القوم لا يعرفون الله ويخشونه إلا في رمضان . ولهذا الصنف يقال أيضًا : اتق الله تعالى ، فإنك لله عبد في رمضان وفي غيره ، وعليك أن تقوم بحق العبودية حتى يأتيك الموت ؛ قال الله تعالى : ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ [ الحجر : 99 ] ؛ فليست النجاة في أن تتوب لأيام ، إنما النجاة في أن تتوب على الدوام : ] إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[ [ الفرقان : 70 ] . وصنف آخر من الناس يستمر على الطاعة بعد رمضان مدة ، لكنه يضعف عن المداومة ، ولعله يستجيب لتزيين الشيطان له فعل المعصية ، أو يطاوع رفقةَ سوءٍ كان يصحبها ، فيعود إلى بعض ذلك ، ويقال لهؤلاء : اتقوا الله ، ولا تنقضوا توبتكم ، ولا تبطلوا أعمالكم ، واعلموا أن التوبة تتجدد ، فجددوا توبتكم ، واتركوا مصاحبة الأشرار ، واحرصوا على مصاحبة الأبرار ، يعينوكم على صدق التوبة ، فتكون النجاة بإذن الله الغفار . وصنف ثالث ، وهم الأخيار الذين وفقهم الله لتزكية نفوسهم في رمضان ثم واصلوا تزكيتها ، وداموا على توبتهم ، و ] إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[ [ الأعراف : 201 ] ، فتابوا وأنابوا واستغفروا وجددوا عزمهم على الطاعة ، فهم في جهاد دائم لأنفسهم وللشيطان حتى يلقواربهم . فاربأ بنفسك - أيها القارئ - أن تكون من الصنفين الأولين ؛ بل اجعل من رمضان فرصة لتزكية نفسك طيلة أيامك ومدة حياتك ؛ فالله تعالى يقول : ] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[ [ الشمس : 9 ] ، أي : طهرها من الذنوب ورقاها بطاعة الله ، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح ؛ فإياك وتدنيس نفسك الكريمة بالرذائل ، واستعمال ما يشينها ويدسيها ، فالله يقول : ] وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ [ الشمس : 10 ] ، أي : أخفاها في مزابل المعاصي ، وأمات استعدادها للخير بالمداومة على اتباع طرق الشيطان وفعل الفجور . إن رمضان فرصة عظيمة للتعود على الطاعة ثم الثبات عليها .. إنه فرصة عظيمة للصدق مع الله تعالى في أيامه ولياليه ، ومداومة الصدق بعد ذلك حتى ينال الصادق ما أعده الله للصادقين ؛ ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ [ التوبة : 119 ] ؛ إن هذه الآية جاءت مع آية توبة الله تعالى على الثلاثة الذين خلفوا ... إنهم كانوا صادقين ، فقال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ ؛ اللهم اجعلنا من الصادقين .
[1] - البخاري ( 1898 ، 1899 ، 3277 ) ، ومسلم ( 1079 ) ، والترمذي ( 682 ) ، وابن ماجة ( 1642 ) . [2] - أحمد : 2 / 230 ، 285 ، والنسائي ( 2106 ) . [3] - رواه الترمذي ( 2499 ) ، وابن ماجة ( 4251 ) والحاكم ( 7617 ) وصححه عن أنس t . [4] - رواه ابن جرير : 28 / 107 ، 108 ، من طرق عن سماك به ، وهو صحيح عن عمر t . ورواه الحاكم : 2 / 495 ، وصححه ووافقه الذهبي . [5] - مسلم ( 2759 ) .
أسئلة تطرح نفسها : إذا كان للتغيير علاقة برمضان ، فهل تغيرت في رمضان سابق ؟ وهل بقي معك هذا التغير ؟ أم أنه كان تغيرًا وقتيًّا ؟ أو كان بعضه دائمًا وبعضه وقتيًّا ؟ إنها أسئلة مهمة في طريق التغيير الإيجابي ... طريق النجاة ؛ ولا أشك في أن كل مسلم عاقل له تغيُّرٌ إيجابي ما ، في رمضان ، ولكن المهم أن يستمر معه هذا التغيير الإيجابي ، وأن يضيف إليه من الطاعة ما يجعله أكثر حسنًا ، فإن مرَّ بك تغيُّر وقتي ، فاسع جهدك أن تعيده ، وسل الله تعالى أن يعينك ويثبتك ؛ وأكثر من الدعاء الذي علَّمه النبي e معاذًا t : " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " ( [1] ) ؛ فأنت في حاجة إلا عون الله دائمًا وفي كل شيء ، وخاصة على تلكم الثلاث المذكورة . وكذلك أكثر من الدعاء الذي كان يكثر منه النبي e :" يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " ( [2] ) ؛ فإن أم سلمة - رضي الله عنها - قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ : يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ؟ قَالَ : " يَا أُمَّ سَلَمَةَ ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ " . ها أنت مقبل على رمضان فاجتهد عازمًا التغيير ، وسل الله التوفيق والسداد ، واعلم بأنك إذا صدقت بلغت ما تريد ، قال الله تعالى : ] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ [ العنكبوت : 69 ] . وفقنا الله والمسلمين إلى التغيير الإيجابي وهدانا إليه وثبتنا عليه ... آمين .
[1] - أحمد : 5 / 244 ، 2447 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 690 ) ، وأبو داود ( 1522 ) ، والنسـائي ( 1303 ) ، والطبراني في الدعاء ( 654 ) ، والحاكم : 3 / 273 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .
[2] - حديث صحيح : رواه أحمد : 6 / 294 ، 302 ، 315 ، والترمذي (3522)عنأمسلمة؛وأحمد: 3 / 112 ، 257 ، والترمذي ( 2140 ) ، وابن ماجة ( 3834 ) عن أنس ؛ وأحمد : 4 / 182، وابن ماجة ( 199 ) عن النواس بن سمعان ، وأحمد : 6 / 91 ، 251 عن عائشة .
تدبر هذه الموعظة الجليلة وقِف على فوائد التغيير الإيجابي بترك المعاصي وفعل الطاعات ؛ عندها تَذَكَّرْ : من أحب تصفية الأحوال ، فليجتهد في تصفية الأعمال ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : ومن عقوبات الذنوب إنها تزيل النعم ، وتُحِلُّ النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب ، ولا حلت به نقمة إلا بذنب ؛ كما قال علي بن أبي طالب t : ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع بلاء إلا بتوبة ؛ وقد قال تعالى : ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ [ الشورى : 30 ]؛ وقال تعالى : ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ [ الأنفال : 53 ] ؛ فأخبر الله تعالى إنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه ، فيغير طاعة الله بمعصيته ، وشكره بكفره ، وأسباب رضاه بأسباب سخطه ؛ فإذا غَيَّر غُيِّر عليه ، جزاءً وفاقًا ، وما ربك بظلام للعبيد . فإن غيَّر المعصية بالطاعة ، غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية ، والذل بالعز ؛ قال تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ [ الرعد : 11 ] ؛ وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى إنه قال : ( وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل عنه إلى ما أكره ، إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره ؛ ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل عنه إلى ما أحب ، إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب ) وقد أحسن القائل :
وروى أبو نعيم عن مطرَّف بن الشخِّير قال : من صَفَّى صُفي له ، ومن خَلَطَ خُلط له ( [2] ) ؛ والمعنى : من صفَّى عمله لله تعالى كان جزاؤه صافيًا وافيًا ، ومن لم يكن عمله صافيًا بأن خلطه بشيء من حظوظ النفس ، فذلك ينقص من ثوابه بحسبه ، والعلم عند الله تعالى .
وتأمل هذه التجربة الفريدة لابن الجوزي - رحمه الله - حيث قال في ( صيد الخاطر ) : من رُزق قلبًا طيبًا ، ولذة مناجاة ، فليراع حاله ،وليحترز من التغيير ؛ وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى ؛ وكنت قد رزقت قلبًا طيبًا ، ومناجاةُ خَلْوَةٍ ، فأحضرنيب عض أرباب المناصب إلى طعامه فما أمكن خلافه ؛ فتناولت وأكلت منه ، فلقيت الشدائد ، ورأيت العقوبة في الحال ، واستمرت مدة ، وغضبتُ على قلبي ، وفقدت كل ما كنت أجده . فقلت : واعجبًا ، لقد كنت في هذا كالمكره ! فتفكرت ، وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة ، إنما التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة . فقالت النفس : ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟ فقالت اليقظة : وأين الورع عن الشبهات ؟ فلما تناولت بالتأويل لقمة ، واستجلبتها بالطبع ، لقيت الأمرين بفقد القلب ، فاعتبروا يا أولي الأبصار .ا.هـ . فيا لها من موعظة عملية بليغة : طعام فيه شبهة أكله - رحمه الله - بتأويل ، فتغيَّرعليه ما كان يشعر به من حال طيبة ؛ فكيف بمن يأكل الحرام الذي لا شبهة فيه ؟!! ولذا قال - رحمه الله : فاعتبروا يا أولي الأبصار . واعلم - وفقك الله - أنه لايحس بضربه مُبَنَّج ، وإنما يَعرِفُ الزيادة من النقصان المحاسبُ لنفسه ؛ ومتى رأيت تكديرًا في حال فاذكر نعمةً ما شكرتها ، أو زلةً قد فعلت ، و احذر من زوال النعم ، ومفاجأة النقم ، و لا تغتر ببساط الحلم ، فربما عجل انقباضه ؛ وقد قال الله U : ] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ ؛ وكان أبو علي الروذباري يقول : من الاغترار أن تسيء ، فيحسن إليك ، فتترك التوبة ، توهمًا أنك تُسامح في العقوبات ( [1] ) .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1]- اقتباس من كلام ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه ( صيد الخاطر ) .