كلما دار الفلك دورته، وأتى شهر رمضان تتوارد على الذهن خواطر وأفكار حول الغاية والهدف من شهر رمضان، فما وظيفة رمضان؟
كما أنَّ لكل واحد منَّا في حياته وظيفة يقوم بها؛ فإن لرمضان وظيفة يؤديها فما وظيفة رمضان ومهامه؟
وظيفة رمضان أنه يُطهِّر النفس، ويُزكِّي القلب، ويُنقِّي الفؤاد، ويُقوِّم السلوك والأخلاق، فندخل إلى مدرسة رمضان، ونخرج بقلب قد تزكَّى بالإيمان، ونفس قد ارتقت بالقرآن، وسلوك قد قُوِّم بالتقوى، فينظر الناس إلى سلوكك وإلى أخلاقك وإلى تصرفاتك وإلى حياتك، فيقولون هذا مسلم قد تعلَّم في مدرسة رمضان.
وظيفة رمضان قال عنها الحق جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾ (البقرة)، نعم، لعلكم تتقون، والتقوى كما عرَّفها الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأرضاه قال: (التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
وظيفة رمضان قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري).
وظيفة رمضان قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب؛ إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، وجهل عليك فقل: إني صائم" (مستدرك الحاكم على الصحيحين، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه).
ولعل فريضة الصوم وقدوم شهر رمضان يمثل مناسبةً لإثراء الحديث عن طبيعة العبادات ووظائفها، لا سيما وأن نسبة كبيرة من المسلمين يشعرون في هذا الشهر بيقظة في الضمير ونمو للوازع الديني والأخلاقي، ويندفعون للتعبد وتلافي التقصير الذي درجوا عليه في أيامهم العادية؛ ولئن كانت بعض هذه المستجدات في سلوك المسلم الرمضاني ترجع إلى العادات والتقاليد الاجتماعية في هذا الشهر الفضيل، فإن الوازع الأهم ديني بالدرجة الأولى؛ لأن المحور في ذلك هو الصوم، وهو فريضة فردية يمارسها المسلم.
إن المظاهر الإيجابية في سلوك المسلمين في رمضان لا تعكس وعيًا بدور الصوم فيها، لكن الوعي بدور العبادة يعزز تقويمها للسلوك، فالنصوص التي تتحدث عن العبادات مستفيضة بهذه الأبعاد الوظيفية التي ينبغي أن تؤديها ممارسة العبادة.
فقد شرع الإسلام العبادات والأركان لمساعدة المسلم على تغيير سلوكه وأخلاقه، ومن أجل تحقيق الغاية التي من أجلها بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخبر في حديثه لما سُئل عن الغاية التي من أجلها بُعث، فقال كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ" (سنن البيهقي).
فالصلاة عند إقامتها كما يجب تنمي لدى المسلم دافعًا للخير ووقاية من الشر، فهو يدخل إليها ليخرج وقد تغيَّر سلوكه؛ لأنه تَعَلَّم في مدرسة القرآن ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾ (العنكبوت)، وتَعَلَّم أيضًا ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾ (الحج).
وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة والصدقات التي هي علاقة اجتماعية ابتداءً، إذ هي تأدية حق المحتاج في المجتمع من مال الأفراد الذين فضُل المال لديهم عن حاجتهم، فأداء الزكاة إسهام فعَّال في تحقيق معنى إسلام المسلم في بعده الاجتماعي والأسري، وهو يؤديها يرتجي أن يخرج منها بما أخبر عنه الحق جل وعلا ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾ (التوبة).
وأما فريضة الحج؛ فهي تتويج لصفاء العلاقة بين الناس ورقيها وتجسيد لسلامة البيئة والناس من أذى المسلم بجميع أشكاله اللفظية والمادية والمعنوية﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾ (البقرة)، فهو يؤدي فريضة الحج وقد وضع نصب عينيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام البخاري بسنده، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (رواه البخاري).
وهكذا يرى المتأمل لأمر العبادات في الإسلام هذا المقصد العظيم، ويلمس هذا المفهوم الرائع أن من أجل وأعظم الأهداف التي من أجلها شرعت العبادات؛ هو تغيير السلوك الأخلاقي لدى المسلم.
أما الصيام في شهر رمضان فإنه يأتي ليتجاوز معناه الحرفي الذي عرفه علماؤنا بقولهم (الامتناع عن المفطرات في زمن محدد)؛ ليتعلم الإنسان الصائم التحكم برغباته، والتحلي بالإرادة الجيدة الهادفة إلى تغيير العادات السيئة التي اعتادها الشخص في حياته، فتجده إن كان قد انتصر على نفسه، ومنعها عن الحلال؛ مرضاة لربه، فيخرج وقد عقد العزم أن يمتنع عن الحرام، وذلك من خلال الدور الرقابي الذاتي الذي يرافق أداء الفريضة التي تتميز بسريتها وخصوصيتها بين العبد وربه؛ لكن المطلوب لتؤتي الفريضة ثمارها، أن يتحول هذا الدور الرقابي من إطار الاعتياد واللا وعي إلى إطار الملاحظة والوعي، فالصائم يمتنع لا شعوريًّا عن المفطرات، دون أن يفكر بقدرته تلك على الامتناع، وإمكانية تعديتها إلى ممنوعات أخرى في غير الصيام، فملكة التحكم بالإرادة واحدة لدى الإنسان، ويمكن أن تنمو في بعض المجالات عندما تعزز الإرادة، فالصائم بصومه إنما يُدِين نفسه، ويُقيم الحجة على اعتذاره عن التقصير في شئونه الأخرى الدينية والدنيوية.
وقد نوهت آيات الصوم صراحةً على عدم قصدية الامتناع عن الطعام والشراب في الصوم لذاته، فنصت أن الله يريد اليسر ولا يريد العسر بالناس، فالمُبْتًغَى ليس المشقة إنما امتحان إرادة المسلم، وتنبيهه إلى مراقبة نفسه، واستشعاره بالمسئولية في شئونه، وقد جاءت نصوص السنة تؤكد هذه المقاصد في شريعة الصوم، والتي تتجاوز ترك الطعام والشراب إلى ترك سائر المنهيات لا سيما المتجاوزة في آثارها إلى الغير، فـهو قد تعلَّم في مدرسة الإسلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري)، وقد جاءت الأحاديث تترًا لتؤكد دور الصوم في تنمية الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه في سلوكه وحديثه، كما في الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري (أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" (صحيح البخاري) وفي رواية الإمام مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ" (صحيح مسلم).
وفي هذه إشارة كريمة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار؛ وليكن معلومًا أن أخلاق الصائم ليست وقفًا على شهر رمضان، وإنما هي مطلوبة في كل وقت؛ ولكنها تتأكد في رمضان وبصيام رمضان، فالصوم إذن يضع المسلم أمام قدراته الذاتية، ويصور له إمكاناته المستقبلية، وعندما يدرك المسلم هذه القدرات والإمكانات سيشعر بتقصيره في عمله وبقدرته على تجاوز أخطائه، وبالتالي سينمي الصوم لدى المسلم الشعور بالمسئولية في الحياة عمومًا وبالخصوص نحو الوقت، والجسد، والمجتمع، والقدرة على اتخاذ القرار، كما يؤكد الصوم للمسلم تمتعه بالحرية والإرادة والعقل، وقدرته على التحكم في السلوك، فهو بمثابة دورة تدريبية يتعلم المسلم من خلالها كيف يتحكم في نفسه وشهواتها ورغباتها؛ ليخرج وقد ألزم نفسه بعض الوقت أن تمتنع عن بعض الحلال والمباح ليلزمها طوال الوقت بالامتناع عن الحرام، وهذا ما عبر عنه الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عندما رسم ملامح الغاية التي من أجلها فرض الصيام، وهو يربط بين جهاد النفس وجهاد العدو، فيقول رحمه الله: (ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارًا لما عند الله من الرضا والمتاع.وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات.
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان. ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة... مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة، أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات، وذلك ارتكان إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه؛ ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري، فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري، أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾ (البقرة).
إن الله سبحانه يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وترضى عليه.
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾، وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى... فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه... والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾) انتهى كلامه- رحمه الله- في ظلال القرآن الشهيد سيد قطب (جـ1 صـ167- 168).
والصوم بهذا المفهوم كما قسمه علماؤنا على ثلاث مراتب:
الأولى: صوم العموم، وهو لا يعني إلا بمفهوم الصيام الظاهر الذي يمثله كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
والثانية: صوم الخصوص، وهو الهدف الذي نريد أن نخرج به هذا العام من صيامنا، ونسعى جاهدين أن نحققه في حياتنا ومعايشتنا مع شهر رمضان، وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل، بل وسائر الجوارح عن الآثام.
والثالثة: صوم خصوص الخصوص، وهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهي مرتبة الأنبياء والصديقين والمقربين.
أما ما يعنينا الآن في مدارستنا هذه فهو صوم الخصوص، وهو صوم الصالحين الذي نريد أن نجعل رمضان من خلاله هذا العام شهرًا للتغيير؛ ولنتفق على جملة أمور ليست حصرًا، ولكن بداية للتغيير المنشود ومرتبة صوم الخصوص، كما قلنا: كف للجوارح وكبح للشهوات ومجاهدة للنفس نجمل بعض ملامحها في:
1- غض البصر عن النظر المحرم، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، آملين أن نخرج منه بمجتمع نظيف تسوده العفة والطهارة والرقي الأخلاقي، فغض البصر هو حجر الأساس في بناء الكيان الأخلاقي المنشود، نحفظ النظر عن كل ما يشغل القلب عن ذكر الله، ويلهي النفس عن طاعته، وهذا صوم البصر متمثلين في ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" (أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وروى جابر عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة" (الجامع الكبير للسيوطي).
2- حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، بل وإلزامه بفضيلة السكوت، وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، وهذا صوم اللسان، وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم، رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم، إني صائم" (رواه البخاري ومسلم)، وجاء في الخبر (أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار؛ حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار، فأرسل إليهما قدحًا، وقال صلى الله عليه وسلم: "قل لهما قيئا فيه ما أكلتما"، فقاءت إحداهما نصفه دمًا عبيطًا ولحمًا غريضًا، وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "هاتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما، قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم".
3- كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه؛ ولذلك سوَّى الله عزَّ وجلَّ بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة: من الآية 42)، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ (المائدة: من الآية 63)، فالسكوت على الغيبة حرام، وقال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ (النساء: من الآية 140).
4- كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرًا ويهدم مصرًا؛ فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله.
وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا، والحرام سم مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ" (رواه الإمام أحمد في مسنده)، فقِيل هو الذي يفطر على الحرام، وقِيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقِيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
5- أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار؛ بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ من بطن مليء من حلال، وكيف يُستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؛ حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء؛ حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها.
فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلم ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار؛ حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدرًا من الضعف؛ حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء.
وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾ (القدر)، ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عزَّ وجلَّ، وذلك هو الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام.
6- أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؛ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها فقد روى عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: إن الله عزَّ وجلَّ جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك، وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم.
وعلى هذا فمن اقتصر في صيامه على كف شهوة البطن والفرج، وترك هذه المعاني، فقد قال الفقهاء: صومه صحيح، فما معناه فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة؛ لا سيما الغيبة وأمثالها ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته.
فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول إلى المقصود، ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عزَّ وجلَّ وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات.
والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة.
والملائكة مقربون من الله عزَّ وجلَّ، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يُقرب من الله عزَّ وجلَّ كقربهم؛ فإن الشبيه من القريب قريب وليس القريب، ثم بالمكان بل بالصفات، وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طوال النهار، ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"، ولهذا قال أبو الدرداء: (يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين)؛ ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم.
والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه.
ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل، فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة، فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل.
ومثل من جمع بينهما، كمن غسل كل عضو ثلاث مرات، فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته"، (أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود في حديث في الأمانة والصوم، وإسناده حسن).
ولما تلا قوله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (النساء: من الآية 58) وضع يده على سمعه وبصره، فقال: "السمع أمانة والبصر أمانة"، (أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة دون قوله: "السمع أمانة")، ولولا أنه من أمانات الصوم، لما قال صلى الله عليه وسلم "فليقل إني صائم" أي إني أودعت لساني لأحفظه، فكيف أطلقه بجوابك فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهرًا وباطنًا وقشرًا ولبًّا، ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات، فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب، أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب. (إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جـ1صـ235 بتصرف).
والآن فالأمر إلينا وبين أيدينا وقد أقبل رمضان فإما أن يُغيرنا رمضان فيأتي شفيعًا لنا بين يدي الله، وإما والعياذ بالله أن نُغير ونُبدل وننقض العهد مع رمضان فيأتي خصمًا لنا يوم القيامة.
وبعد فلا أجد ما أختم به حديثي عن التغيير المنشود في شهر رمضان أبلغ ولا أعظم ولا أجمع من كلام الإمام ابن القيم الذي يعرض فيه فلسفته للصوم فيقول رحمه الله: (الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ وَفَوَائِدِهِ؛ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ وَفِطَامَهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَتُضَيّقُ مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ، وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ الْمُتّقِينَ وَجُنّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرّبِينَ وَهُوَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنّ الصّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النّفْسِ وَتَلَذّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَهُوَ سِرّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبّهِ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ، وَأَمّا كَوْنُهُ تَرْكَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ، وللصومِ تَأثِيرٌ عجيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوارحِ الظاهرةِ والقُوَى البَاطِنة وحميَّتها عَن التَّخلِيط الْجَالبِ لها المَوَاد الفَاسِدة التي إِذَا اسْتَولَت عَليْها أفسَدتْهَا، واسْتِفَراغُ الموادِّ الرَّديئةِ المَانِعَةِ لَها مِنْ صحتها، فالصَّومُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلبِ والْجَوَارِحِ صِحْتِهَا، ويُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَته مِنْهَا أَيْدِي الشّهَوَاتِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ (185)﴾ (الْبَقَرَةُ)، وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "الصّوْمُ جُنّةٌ"، وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَصَالِحَ الصّوْمِ لَمّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنّةً، وَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلْمَقْصُودِ وَأَسْهَلَهُ عَلَى النّفُوسِ، كَانَ فَطْمُ النّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا تَأَخّرَ فَرْضُهُ إلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمّا تَوَطّنَتْ النّفُوسُ عَلَى التّوْحِيدِ وَالصّلَاةِ وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ فَنُقِلَتْ إلَيْهِ بِالتّدْرِيجِ.
(زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام بن القيم جـ 2 صـ26- 29).
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وكلماته العلى كما بلغنا رمضان، أن يرزقنا فيه نية صادقةً وقلوبا خالصة وأعمالاً صالحة تدل على صدق هذه النية وإخلاص تلك القلوب ، كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم
كما أنَّ لكل واحد منَّا في حياته وظيفة يقوم بها؛ فإن لرمضان وظيفة يؤديها فما وظيفة رمضان ومهامه؟
وظيفة رمضان أنه يُطهِّر النفس، ويُزكِّي القلب، ويُنقِّي الفؤاد، ويُقوِّم السلوك والأخلاق، فندخل إلى مدرسة رمضان، ونخرج بقلب قد تزكَّى بالإيمان، ونفس قد ارتقت بالقرآن، وسلوك قد قُوِّم بالتقوى، فينظر الناس إلى سلوكك وإلى أخلاقك وإلى تصرفاتك وإلى حياتك، فيقولون هذا مسلم قد تعلَّم في مدرسة رمضان.
وظيفة رمضان قال عنها الحق جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾ (البقرة)، نعم، لعلكم تتقون، والتقوى كما عرَّفها الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأرضاه قال: (التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
وظيفة رمضان قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري).
وظيفة رمضان قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب؛ إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، وجهل عليك فقل: إني صائم" (مستدرك الحاكم على الصحيحين، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه).
ولعل فريضة الصوم وقدوم شهر رمضان يمثل مناسبةً لإثراء الحديث عن طبيعة العبادات ووظائفها، لا سيما وأن نسبة كبيرة من المسلمين يشعرون في هذا الشهر بيقظة في الضمير ونمو للوازع الديني والأخلاقي، ويندفعون للتعبد وتلافي التقصير الذي درجوا عليه في أيامهم العادية؛ ولئن كانت بعض هذه المستجدات في سلوك المسلم الرمضاني ترجع إلى العادات والتقاليد الاجتماعية في هذا الشهر الفضيل، فإن الوازع الأهم ديني بالدرجة الأولى؛ لأن المحور في ذلك هو الصوم، وهو فريضة فردية يمارسها المسلم.
إن المظاهر الإيجابية في سلوك المسلمين في رمضان لا تعكس وعيًا بدور الصوم فيها، لكن الوعي بدور العبادة يعزز تقويمها للسلوك، فالنصوص التي تتحدث عن العبادات مستفيضة بهذه الأبعاد الوظيفية التي ينبغي أن تؤديها ممارسة العبادة.
فقد شرع الإسلام العبادات والأركان لمساعدة المسلم على تغيير سلوكه وأخلاقه، ومن أجل تحقيق الغاية التي من أجلها بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخبر في حديثه لما سُئل عن الغاية التي من أجلها بُعث، فقال كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ" (سنن البيهقي).
فالصلاة عند إقامتها كما يجب تنمي لدى المسلم دافعًا للخير ووقاية من الشر، فهو يدخل إليها ليخرج وقد تغيَّر سلوكه؛ لأنه تَعَلَّم في مدرسة القرآن ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾ (العنكبوت)، وتَعَلَّم أيضًا ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾ (الحج).
وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة والصدقات التي هي علاقة اجتماعية ابتداءً، إذ هي تأدية حق المحتاج في المجتمع من مال الأفراد الذين فضُل المال لديهم عن حاجتهم، فأداء الزكاة إسهام فعَّال في تحقيق معنى إسلام المسلم في بعده الاجتماعي والأسري، وهو يؤديها يرتجي أن يخرج منها بما أخبر عنه الحق جل وعلا ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾ (التوبة).
وأما فريضة الحج؛ فهي تتويج لصفاء العلاقة بين الناس ورقيها وتجسيد لسلامة البيئة والناس من أذى المسلم بجميع أشكاله اللفظية والمادية والمعنوية﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾ (البقرة)، فهو يؤدي فريضة الحج وقد وضع نصب عينيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام البخاري بسنده، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (رواه البخاري).
وهكذا يرى المتأمل لأمر العبادات في الإسلام هذا المقصد العظيم، ويلمس هذا المفهوم الرائع أن من أجل وأعظم الأهداف التي من أجلها شرعت العبادات؛ هو تغيير السلوك الأخلاقي لدى المسلم.
أما الصيام في شهر رمضان فإنه يأتي ليتجاوز معناه الحرفي الذي عرفه علماؤنا بقولهم (الامتناع عن المفطرات في زمن محدد)؛ ليتعلم الإنسان الصائم التحكم برغباته، والتحلي بالإرادة الجيدة الهادفة إلى تغيير العادات السيئة التي اعتادها الشخص في حياته، فتجده إن كان قد انتصر على نفسه، ومنعها عن الحلال؛ مرضاة لربه، فيخرج وقد عقد العزم أن يمتنع عن الحرام، وذلك من خلال الدور الرقابي الذاتي الذي يرافق أداء الفريضة التي تتميز بسريتها وخصوصيتها بين العبد وربه؛ لكن المطلوب لتؤتي الفريضة ثمارها، أن يتحول هذا الدور الرقابي من إطار الاعتياد واللا وعي إلى إطار الملاحظة والوعي، فالصائم يمتنع لا شعوريًّا عن المفطرات، دون أن يفكر بقدرته تلك على الامتناع، وإمكانية تعديتها إلى ممنوعات أخرى في غير الصيام، فملكة التحكم بالإرادة واحدة لدى الإنسان، ويمكن أن تنمو في بعض المجالات عندما تعزز الإرادة، فالصائم بصومه إنما يُدِين نفسه، ويُقيم الحجة على اعتذاره عن التقصير في شئونه الأخرى الدينية والدنيوية.
وقد نوهت آيات الصوم صراحةً على عدم قصدية الامتناع عن الطعام والشراب في الصوم لذاته، فنصت أن الله يريد اليسر ولا يريد العسر بالناس، فالمُبْتًغَى ليس المشقة إنما امتحان إرادة المسلم، وتنبيهه إلى مراقبة نفسه، واستشعاره بالمسئولية في شئونه، وقد جاءت نصوص السنة تؤكد هذه المقاصد في شريعة الصوم، والتي تتجاوز ترك الطعام والشراب إلى ترك سائر المنهيات لا سيما المتجاوزة في آثارها إلى الغير، فـهو قد تعلَّم في مدرسة الإسلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري)، وقد جاءت الأحاديث تترًا لتؤكد دور الصوم في تنمية الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه في سلوكه وحديثه، كما في الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري (أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" (صحيح البخاري) وفي رواية الإمام مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ" (صحيح مسلم).
وفي هذه إشارة كريمة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار؛ وليكن معلومًا أن أخلاق الصائم ليست وقفًا على شهر رمضان، وإنما هي مطلوبة في كل وقت؛ ولكنها تتأكد في رمضان وبصيام رمضان، فالصوم إذن يضع المسلم أمام قدراته الذاتية، ويصور له إمكاناته المستقبلية، وعندما يدرك المسلم هذه القدرات والإمكانات سيشعر بتقصيره في عمله وبقدرته على تجاوز أخطائه، وبالتالي سينمي الصوم لدى المسلم الشعور بالمسئولية في الحياة عمومًا وبالخصوص نحو الوقت، والجسد، والمجتمع، والقدرة على اتخاذ القرار، كما يؤكد الصوم للمسلم تمتعه بالحرية والإرادة والعقل، وقدرته على التحكم في السلوك، فهو بمثابة دورة تدريبية يتعلم المسلم من خلالها كيف يتحكم في نفسه وشهواتها ورغباتها؛ ليخرج وقد ألزم نفسه بعض الوقت أن تمتنع عن بعض الحلال والمباح ليلزمها طوال الوقت بالامتناع عن الحرام، وهذا ما عبر عنه الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عندما رسم ملامح الغاية التي من أجلها فرض الصيام، وهو يربط بين جهاد النفس وجهاد العدو، فيقول رحمه الله: (ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارًا لما عند الله من الرضا والمتاع.وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات.
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان. ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة... مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة، أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات، وذلك ارتكان إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه؛ ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري، فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري، أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾ (البقرة).
إن الله سبحانه يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وترضى عليه.
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾، وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى... فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه... والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾) انتهى كلامه- رحمه الله- في ظلال القرآن الشهيد سيد قطب (جـ1 صـ167- 168).
والصوم بهذا المفهوم كما قسمه علماؤنا على ثلاث مراتب:
الأولى: صوم العموم، وهو لا يعني إلا بمفهوم الصيام الظاهر الذي يمثله كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
والثانية: صوم الخصوص، وهو الهدف الذي نريد أن نخرج به هذا العام من صيامنا، ونسعى جاهدين أن نحققه في حياتنا ومعايشتنا مع شهر رمضان، وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل، بل وسائر الجوارح عن الآثام.
والثالثة: صوم خصوص الخصوص، وهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهي مرتبة الأنبياء والصديقين والمقربين.
أما ما يعنينا الآن في مدارستنا هذه فهو صوم الخصوص، وهو صوم الصالحين الذي نريد أن نجعل رمضان من خلاله هذا العام شهرًا للتغيير؛ ولنتفق على جملة أمور ليست حصرًا، ولكن بداية للتغيير المنشود ومرتبة صوم الخصوص، كما قلنا: كف للجوارح وكبح للشهوات ومجاهدة للنفس نجمل بعض ملامحها في:
1- غض البصر عن النظر المحرم، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، آملين أن نخرج منه بمجتمع نظيف تسوده العفة والطهارة والرقي الأخلاقي، فغض البصر هو حجر الأساس في بناء الكيان الأخلاقي المنشود، نحفظ النظر عن كل ما يشغل القلب عن ذكر الله، ويلهي النفس عن طاعته، وهذا صوم البصر متمثلين في ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" (أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وروى جابر عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة" (الجامع الكبير للسيوطي).
2- حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، بل وإلزامه بفضيلة السكوت، وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، وهذا صوم اللسان، وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم، رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم، إني صائم" (رواه البخاري ومسلم)، وجاء في الخبر (أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار؛ حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار، فأرسل إليهما قدحًا، وقال صلى الله عليه وسلم: "قل لهما قيئا فيه ما أكلتما"، فقاءت إحداهما نصفه دمًا عبيطًا ولحمًا غريضًا، وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "هاتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما، قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم".
3- كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه؛ ولذلك سوَّى الله عزَّ وجلَّ بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة: من الآية 42)، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ (المائدة: من الآية 63)، فالسكوت على الغيبة حرام، وقال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ (النساء: من الآية 140).
4- كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرًا ويهدم مصرًا؛ فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله.
وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا، والحرام سم مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ" (رواه الإمام أحمد في مسنده)، فقِيل هو الذي يفطر على الحرام، وقِيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقِيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
5- أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار؛ بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ من بطن مليء من حلال، وكيف يُستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؛ حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء؛ حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها.
فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلم ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار؛ حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدرًا من الضعف؛ حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء.
وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾ (القدر)، ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عزَّ وجلَّ، وذلك هو الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام.
6- أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؛ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها فقد روى عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: إن الله عزَّ وجلَّ جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك، وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم.
وعلى هذا فمن اقتصر في صيامه على كف شهوة البطن والفرج، وترك هذه المعاني، فقد قال الفقهاء: صومه صحيح، فما معناه فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة؛ لا سيما الغيبة وأمثالها ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته.
فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول إلى المقصود، ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عزَّ وجلَّ وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات.
والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة.
والملائكة مقربون من الله عزَّ وجلَّ، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يُقرب من الله عزَّ وجلَّ كقربهم؛ فإن الشبيه من القريب قريب وليس القريب، ثم بالمكان بل بالصفات، وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طوال النهار، ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"، ولهذا قال أبو الدرداء: (يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين)؛ ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم.
والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه.
ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل، فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة، فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل.
ومثل من جمع بينهما، كمن غسل كل عضو ثلاث مرات، فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته"، (أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود في حديث في الأمانة والصوم، وإسناده حسن).
ولما تلا قوله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (النساء: من الآية 58) وضع يده على سمعه وبصره، فقال: "السمع أمانة والبصر أمانة"، (أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة دون قوله: "السمع أمانة")، ولولا أنه من أمانات الصوم، لما قال صلى الله عليه وسلم "فليقل إني صائم" أي إني أودعت لساني لأحفظه، فكيف أطلقه بجوابك فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهرًا وباطنًا وقشرًا ولبًّا، ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات، فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب، أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب. (إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جـ1صـ235 بتصرف).
والآن فالأمر إلينا وبين أيدينا وقد أقبل رمضان فإما أن يُغيرنا رمضان فيأتي شفيعًا لنا بين يدي الله، وإما والعياذ بالله أن نُغير ونُبدل وننقض العهد مع رمضان فيأتي خصمًا لنا يوم القيامة.
وبعد فلا أجد ما أختم به حديثي عن التغيير المنشود في شهر رمضان أبلغ ولا أعظم ولا أجمع من كلام الإمام ابن القيم الذي يعرض فيه فلسفته للصوم فيقول رحمه الله: (الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ وَفَوَائِدِهِ؛ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ وَفِطَامَهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَتُضَيّقُ مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ، وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ الْمُتّقِينَ وَجُنّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرّبِينَ وَهُوَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنّ الصّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النّفْسِ وَتَلَذّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَهُوَ سِرّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبّهِ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ، وَأَمّا كَوْنُهُ تَرْكَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ، وللصومِ تَأثِيرٌ عجيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوارحِ الظاهرةِ والقُوَى البَاطِنة وحميَّتها عَن التَّخلِيط الْجَالبِ لها المَوَاد الفَاسِدة التي إِذَا اسْتَولَت عَليْها أفسَدتْهَا، واسْتِفَراغُ الموادِّ الرَّديئةِ المَانِعَةِ لَها مِنْ صحتها، فالصَّومُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلبِ والْجَوَارِحِ صِحْتِهَا، ويُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَته مِنْهَا أَيْدِي الشّهَوَاتِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ (185)﴾ (الْبَقَرَةُ)، وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "الصّوْمُ جُنّةٌ"، وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَصَالِحَ الصّوْمِ لَمّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنّةً، وَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلْمَقْصُودِ وَأَسْهَلَهُ عَلَى النّفُوسِ، كَانَ فَطْمُ النّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا تَأَخّرَ فَرْضُهُ إلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمّا تَوَطّنَتْ النّفُوسُ عَلَى التّوْحِيدِ وَالصّلَاةِ وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ فَنُقِلَتْ إلَيْهِ بِالتّدْرِيجِ.
(زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام بن القيم جـ 2 صـ26- 29).
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وكلماته العلى كما بلغنا رمضان، أن يرزقنا فيه نية صادقةً وقلوبا خالصة وأعمالاً صالحة تدل على صدق هذه النية وإخلاص تلك القلوب ، كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم