محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم1
رسالة في تحريم الدخان
للمُلَّا حسين بن إسكندر الحنفي الرومي
ت. 1084 هـ.
تحقيق
محمود عبد الصمد الجيار
تمهيد:
فقد اتفقت المجامع الفقهية ودور الإفتاء الرسمية على أن التدخين ممَّا تأباه الفطرة السليمة، ويرفضه الشرع الحنيف؛ وكذلك حذَّرت المؤسسات الطبية المحلية والعالمية في بحوث عديدة ودراسات متخصصة، من مخاطر التدخين الصحية وعواقبه الوخيمة على صحة الإنسان، سواء على المدخِّن نفسِه أو مَن يلحقه أثرُ التدخين بالمجاورة والمخالطة؛ كما أصدرت دولٌ كثيرة قوانينَ تمنع من شرب الدخان في التجمعات والمركبات العامة، وفي المدارس والمستشفيات والمصارف وغير ذلك من الأماكن والمؤسسات.
غير أن طبع كثير من الناس: الإهمالُ، والتراخي في تنفيذ أوامر الشرع، وعدم الانقياد والانصياع لما يتفق عليه علماء المجتمع والمُصلحون، فيما ينفع الناس ويعود على المجتمع بالخير؛ ولعل عذره في ذلك ما تفعله تلك المادة من تأثير في الدم وإدمان على تعاطيها مما يصعب الاستغناء عنها؛ لكن عزيمة الشخصِ قويِّ النفس إيجابيِّ الإرادة تساعده على الخروج من ظلمة هذا الهلاك؛ بل إن المسلم مطالبٌ في الأساس بالعزيمة والحفاظ على صحته شرعًا، كما أنه سوف يُسأل عن صحته فيمَ أَبْلاها، كما يُسأل عن ماله فيمَ أنفقه، وعن وقته فيمَ قضاه.
وهي في بداية مجموعٍ فيه عشر رسائل، تحتفظ به مكتبة جامعة برنستون في بلدة برنستون Princeton University Library، بولاية نيوجيرسي، بالولايات المتحدة الأمريكية. تحت رقم: (3854Y)، تصنيف (لغة). وتاريخ نسخ المجموع كما هو في الوصف: 12 من محرم: 1003 هجرية، سبتمبر 1594 ميلادية. والحمد لله.
من كتبه: (كنز السعادة في بيان معنى الشهادة)، و(الجوهرة المنيفة في شرح وصية أبي حنيفة)، و(الترغيب باتباع الشريعة الشريفة والترهيب عن البدعة الخبيثة)؛ وهو شرح على كتابه: (الفوائد الفاخرة في أمور الفاخرة)؛ وهو اختصار لكتابه: (مفتاح الفلاح وكيمياء السعادة والصلاح)، ومن كتبه: (مجمع المهمات الدينية على مذهب الحنفية)، و(جواهر المسائل فيما يحتاج إليه كل جاهل وعاقل)، و(لباب التجويد للقرآن المجيد)؛ وهو شرح لكتابه المخطوط: (المختصر في تجويد القرآن) الذي نعمل على تحقيقه وإخراجه قريبًا بإذن الله تعالى. و(رسالة في تحريم الدخان) وهو الذي بين يديك، أخي الكريم، وقد وضعت التعليقات بين معقوفين [ ] بلون مختلف وبحجم أصغر، والحمد لله.
نسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصًا له سبحانه وتعالى، والحمد لله.
محمود عبد الصمد الجيار
[email protected]
الإسكندرية - مصر
الأحد: 19 – 8 – 2018 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول العبد الفقير إلى مولاه الغني: مُلَّا حسين بن إسكندر الحنفي، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة من رسالتي المسماة: (بالفوائد الفاخرة في أمور الآخرة) ، وفيها ذِكْر (الدخان) وهل هو من المباح أو من الحرام؟ ويأتي عليه الكلام إن شاء الله تعالى.
ورتَّبْتُها على فصول:
الفصل الأول [ رُؤْيَا ]:
اعلم أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرني بأن أكتب شيئًا في أمر الدخان، الذي ابْتُلي بشربه الخاصُّ والعامُّ، فأبلِّغه إلى أُمِّته المؤمنين، فأجبته ﷺ إلى ذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « مَنْ رَآنِي فِي الْمَنامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي». [هذه رواية مسلم (2266)، واللفظ له، وأخرجه البخاري (110) بنحوه].
وفيه روايات أُخَر. [في الحاشية: صدر الحديث: «تَسَمَّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». من صحيح البخاري. [أخرجه البخاري (110) واللفظ له، ومسلم: 2134، 2266].
ثم اعلم أن من رأى النبي عليه [الصلاة] والسلام في المنام، فأمره بأمرٍ، وجب عليه امتثاله في أحد الوجهين، واستحب في الآخر. كذا في «أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب» للجلال السيوطي.
قلتُ: فلو ادَّعى أحدٌ أنه رأى النبي عليه [الصلاة] والسلام في المنام، فأمره بأمرٍ مخالف لشريعته ﷺ لا يجوز له أن يفعله؛ لأن مخالفة شريعته ﷺ بدعةٌ وضلالةٌ، ويُحمَل الخطأ على الرائي، لا على الرؤيا.
ثم إن العبد مُبتلى: بين أن يطيع الله تعالى، فيثاب؛ وبين أن يعصي الله تعالى، فيعاقب. فإطاعة الله تعالى لا تكون إلا باتباع شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتباع شريعته ﷺ مِفْتاح الفلاح [في الحاشية: الفلاح: الفوز والنجاة]، وكيمياء السعادة والصلاح؛ وقد قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران: 31].
وكل شيء مخالف لشريعته صلى الله عليه وسلم بدعةٌ وضلالةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ». [أخرجه مسلم (867)، والنسائي (1578)، وأحمد (14984) وغيرهم].
قال المناوي: أي وكلُّ فِعْلةٍ أُحْدِثَتْ على خلاف الشرع.
وإذا علمتَ ما ذُكِر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي فَلَهُ أَجْرُ مِائةِ شَهِيدٍ» كما في الترغيب والترهيب. [الترغيب والترهيب، للمنذري، (كتاب السُّنَّة)، وقد ضعَّفه الألباني. وفي فاتحة كتاب السُّنَّة من الكتاب نفسه حديث صحيح، نصُّه: «عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا؛ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». وكذا رواه أبو داود (4607)، والترمذي (266)؛ واللفظ للمنذري].
الفصل الثاني [ بيان الدخان ]:
في بيان الدخان الذي حدث في هذا الزمان
وهل هو من المباح أم من الحرام؟ ويأتي عليه الكلام
فإن قيل: هل قال أحدٌ من العلماء بإباحة شرب الدخان أم لا؟
أجيب: ما رأيتُ أحدًا من العلماء قال بإباحته. بل قال شيخ الإسلام أحمد الوفائي في آخر جواب متعلق ( بالتُّـتُن ) [التُّتُن: اسم أطلق على (التبغ)، منحوت من اللفظ التركي tütün «توتون»، بمعنى: دخان. والتَّبغ هو: نباتٌ يُجَفَّف، ثم يُتعاطَى تدخينًا وسَعُوطًا ومَضْغًا، ويكثر استعمالُه في صناعة السجائر. انظر (الرائد: 193)، و(معجم اللغة العربية المعاصرة: 2/283)، و(معجم المصطلحات والألقاب التاريخية: 101].
مَا أَكَبَّ أَهْلُ الْفُجُورِ عَلَى تَعَاطِيه * لَا يَقُولُ بِحِلِّهِ مَنْ يَخْشَى اللهَ وَيَتَّقِيه
فإن قيل: هل في الدخان نفع أم لا؟
أجيب: لا نفع فيه أبدًا.
قال العلامة محمد البيروتي في جواب سؤال متعلق بالدخان:
اتبع طريق الهدى وامش على السنن * وخالف النفس وأنقذها من المحن
إياك من بدع تلقيك في عطب * لا سيما ما فشا في الناس من تـتن
مفتر الجسم لا نفع به أبدًا * بل يورث الضر والأسقام في البدن
تبًّا لشاربه كيف المقام على * ما ريحه يشبه السرجين في عطن
ولا يغرنك مَن في الناس يشربه * الناس في غفلة عن واضح السنن
يقضي على المرء في أيام محنته * حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
مهمة: ذكر اللقاني في رسالته: أن رجلًا كان لا ينفك عن شرب التُّـتُن، فحضرته الوفاة، وأخذ في النزع، وعرضت عليها [ الشهادتان ]، فقال: هذا دخان جيد، فزني منه! إلى أن فارق الدنيا، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
ثم اعلم أن شرب التُّـتُن عمدًا يفسد الصوم؛ لما فيه من الإدخال مع إمكان التحرُّز عنه. وتمام ما ذكر مبسوط في رسالتنا الأصل.
الفصل الثالث [ تحريم الدخان ] :
في ذِكْر تحريم شرب التُّـتُن
ويقال أيضًا : الدخان ، وله أسامٍ أُخَر
وقد صرح العلماء بتحريمه، واستدلوا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء والأطباء. ويأتي ذكرها مختصرا:
قال العلامة ابن سعد الدين محمد:
وأما شربه في كل وقت * مدى الأيام آناء الليالي
خصوصا شرب إدمان وفسق * بإعلان على وجه الضلال
حرام ليس فيه شوب شك * محال ذكره بين الحلال
وتمامه هناك.
وقال العلامة اللقاني في الكلام على الدخان وقبائحه وضرره: فلا يشك عاقل في التحريم مطلقا. وأخبر أن شيخه العلَّامة سئل عن الدخان، وأفتى بتحريمه. وتمام البحث مبسوط في الشرح الكبير على جوهرة التوحيد.
ونُقِل عن ابن علان شارح الطريقة المحمدية، أنه ألَّف في تحريم الدخان مؤلَّفين: مطوَّل، وموجز. وقال في رسالة منسوبة للعلامة علاء الدين الرومي [...] في الكلام على الدخان، قد أفتى بتحريمه كثير من العلماء الحنفية وغيرهم، وقد كتب بعض المالكية في الديار الحجازية جوابًا يتعلق بالدخان، وهو أن استعمال الدخان حرام، كأصله. كذا في (مجالس الأبرار)، وتمامه هناك.
ونُقِل أيضًا مثل هذا الجواب عن الشيخ خالد مدرس الحرم المكي.
وقال العلامة عبد النافع في رسالته المتعلقة بالدخان وخبثه: إذا عرَفت هذا، فنحن نقول متمسِّكًا بحبل التوفيق: التُّنْبَاك مما في الأرض، والانتفاع به بغير الأكل وبغير شرب دخانه صحيح، لقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29]. وأما شرب دخانه فحرام؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ﴾ [الأعراف: 157]. فإن الخبائث جمعٌ مُحَلًّى بلام الاستغراق، فيدخل فيه كل فرد من أفراد الخبيث، إلا بدليل. [التنباك: اسم غير عربي للتبغ وغيره]
وقد ذكر أيضًا في رسالته سؤالًا وجوابًا؛ وصورة السؤال: والله الموفق، أنشدكم بالله تعالى، أيها العلماء والصلحاء، هل تستخبث طباعكم الشريفة شرب الدخان أم تستطيبه؟ أخبرونا لله تعالى، ولرسوله المجتبى، ما حكم طباعكم الشريفة؟ واكتبوه في هذه الصحيفة، نفع الله تعالى بوجودكم المسلمين، بمَنِّه وكرمه، آمين.
الجواب:
قال العالم العامل أبو يزيد المفتي الحنفي والمدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، لا شك ولا يرتاب ذو لُبٍّ أن يكون التـتن من الخبائث، ولا يخفى ذلك إلا على مُكابر ومعاندٍ سفيه بكمال سفاهته، لا يميز بين الخبيث والطيب.
وقال الشيخ العالم المفتي محمد الشافعي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، إنه خبيثٌ قويٌّ، ويكفي فيه: تنفر الملائكة، وبغض النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال الشيخ العالم التقي أبو نُمِي المفتي الحنبلي: الحمد لله الموفق للصواب، لا ريب أن الدخان من البدع الخبيثة في طبيعة كل منصف عليم، جُبِل قلبُه على الطبع السليم.
وقال أفضل العلماء العظام القاضي تاج الدين المكي المفتي المالكي المدرس في المسجد الحرام: لا شبهة في خبثه، وطبعي يستخبثه ويستقذره.
وقال الشيخ محمد الحنفي الخطيب والإمام في الحرم الشريف النبوي: أنه خبيثٌ قبيح، ولا يستطيبه إلا فضيح.
وقال الشيخ أحمد البري الحنفي المدرس والإمام والخطيب في الحرم الشريف: وأنا أستخبثه، وينفر طبعي منه.
وقال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن المالكي المدرس في الحرم الشريف النبوي: يستخبثه طبعي، ولا ينكر خبثه إلا الغَوِي.
وقال الشيخ محمد الحنفي المفتي والمدرس والخطيب في الحرم الشريف: طبعي يحكم بأنه خبيث كريه، ولا شك أن شاربه سفيه.
وقال الشيخ أحمد بن عبد الله المالكي المدرس في حرم رسول الله ﷺ : خبثه ظاهرٌ عند مَن طبعه طاهر.
وقال محمود أفندي الحنفي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، وطبعي يستقذره أشد الاستقذار، ويستخبثه غاية الاستخباث.
وقال الشيخ أبو بكر الحنفي: لا شك في أنه من الخبائث.
وقال الشيخ محمد الشامي الحنفي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، يستخبثه طبعي، وتستقذره نفسي.
والحق أنه لا يرتاب في خبثه.
وفي أصلها أجوبة أخر، لم أذكرها فرارًا من التطويل.
ثم اعلم أن رائحة الدخان منتنة كريهة، فيتأذى من رائحته الملائكة والمؤمنون الذين لا يستعملونه.
وقد رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ». [ذكر ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1251) بأنه: حديث لا يصح، والأشج غير موثوق بقوله عند العلماء. وكذا الذهبي في «تلخيص كتاب العلل المتناهية» (790) قال: هذا في أكاذيب الأشج، عن علي. وكذا السيوطي في «الجامع الصغير»، قال: ضعيف. وحكم عليه الألباني بالوضع، في السلسلة الضعيفة 4233].
وقال المكناسي: الرائحة المنتنة تخرق الخياشيم، وتصل إلى الدماغ، وتؤذي الأسنان؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، لأنه يؤذينا بريحه». [للحديث روايات؛ منها ما جاء في صحيح مسلم: من أَكلَ من هذِه الشَّجرةِ فلا يقربنَّ مسجدَنا . ولا يؤذيَنَّا بريحِ الثُّومِ].
والمراد من هذه الشجرة: كل ما له رائحة كريهة يتأذى منها الإنسان، بدليل تعليله عليه الصلاة والسلام. والمعنى: أن مَن أكل شيئًا مما له رائحة كريهة يتأذى بها الإنسان فلا يقربن مسجدنا؛ لأنه يؤذينا برائحته الكريهة.
وقد ثبت في صحيح مسلم، أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا وجد من رجل في المسجد ريح البصل والثوم، أمر به، فأخرج إلى البقيع .
ولهذا قال الفقهاء: كل من وجد فيه رائحة كريهة يتأذى بها الإنسان، يلزم إخراجه من المسجد... كذا في (مجالس الأبرار). [من حديث لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومنه: ثم إنَّكم- أيُّها الناسُ- تأكلون شجرتينِ لا أراهما إلَّا خبيثتين: هذا البصل و الثُّوم ؛ لقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، إذا وَجَدَ رِيحَهما مِن الرَّجلِ في المسجد، أَمَرَ به فأُخْرِجَ إلى البَقيعِ؛ فمَن أَكَلَهما فلْيُمِتْهما طَبْخًا. (صحيح مسلم: 567). وكذا في (البحر الزخار المعروف بمسند البزار). ومكان النقاط: (ولو بجَرِّه من يده ورِجْله دون لحيته وشعر رأسه). والقصد: المبالغة في التنبيه على أن لا يكون بين المصلين أحدٌ يؤذيهم برائحته].
وقال جالينوس: اجتنبوا ثلاثة، وعليكم بأربعة، ولا حاجة لكم إلى الطبيب. اجتنبوا: الدخان، والغبار، والنتن. وعليكم: بالدسم، والحلوى، والطيب، والحَمَّام. كذا في (مجالس الأبرار) أيضًا.
خاتمة :
اعلم أن العبد المكلَّف مآله إما في الجنة وإم في النار، فيجازى من جنس عمله، فإن كان عمله خيرًا فجزاؤه خير، وإن كان عمله شرًّا فجزاؤه شر.
ثم اعلم أن عذاب الله شديدٌ.
ورَدَ: لو أن ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعًا من حَرِّه.
و وَرَدَ أيضًا: لو أن رجلًا من أهل النار، أخرج إلى الدنيا، لمات أهل الدنيا من وحشة منظره، ونتن ريحه. والعياذ بالله!
وينبغي للمؤمن أن يعتبر ويتعظ بما ذكر، ويستحيي من الله تعالى، ويخاف من عذابه، ويتوب إليه من الدخان، ومن جميع الذنوب، قبل أن يمسه العذاب، فإن عذاب الله شديد، ولا ينفعه الندم بعد مسه، ولا يعذر بالجهل والغفلة والكسل.
الفصل الرابع ( في بيان التوبة ) :
التوبة أن تستغفر بلسانك، وتندم بقلبك، وتعزم أن لا تعود إلى ذنبك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. كذا في (الطريقة المحمدية). [صحَّح أهل الحديث الجزء الأول، وهو (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، أما الزيادة فضعَّفوها، انظر السلسلة الضعيفة للألباني: 616].
وينبغي للمسلم أن يتعوذ بهذا الدعاء، وهو: (اللهم أجرنا من النار). [الحديث رواه الإمام أحمد في المسند 17362، وأبو داود 5079، ولفظه : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ: اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ يَوْمِكَ ذَلِكَ، كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا صَلَّيْتَ الْمَغْرِبَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ: اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ تِلْكَ، كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ].
وتمام ما ذكر في هذه الرسالة المبسوطة في رسالتي المسماة بالفوائد الفاخرة في أمور الآخرة، التي اختصرتُ هذه منها، وبالله التوفيق.
تمت رسالة المُلَّا حسين المختصرة، بحمد الله وعونه.
والحمد لله رب العالمين!
رسالة في تحريم الدخان
للمُلَّا حسين بن إسكندر الحنفي الرومي
ت. 1084 هـ.
تحقيق
محمود عبد الصمد الجيار
تمهيد:
- مقدمة:
فقد اتفقت المجامع الفقهية ودور الإفتاء الرسمية على أن التدخين ممَّا تأباه الفطرة السليمة، ويرفضه الشرع الحنيف؛ وكذلك حذَّرت المؤسسات الطبية المحلية والعالمية في بحوث عديدة ودراسات متخصصة، من مخاطر التدخين الصحية وعواقبه الوخيمة على صحة الإنسان، سواء على المدخِّن نفسِه أو مَن يلحقه أثرُ التدخين بالمجاورة والمخالطة؛ كما أصدرت دولٌ كثيرة قوانينَ تمنع من شرب الدخان في التجمعات والمركبات العامة، وفي المدارس والمستشفيات والمصارف وغير ذلك من الأماكن والمؤسسات.
غير أن طبع كثير من الناس: الإهمالُ، والتراخي في تنفيذ أوامر الشرع، وعدم الانقياد والانصياع لما يتفق عليه علماء المجتمع والمُصلحون، فيما ينفع الناس ويعود على المجتمع بالخير؛ ولعل عذره في ذلك ما تفعله تلك المادة من تأثير في الدم وإدمان على تعاطيها مما يصعب الاستغناء عنها؛ لكن عزيمة الشخصِ قويِّ النفس إيجابيِّ الإرادة تساعده على الخروج من ظلمة هذا الهلاك؛ بل إن المسلم مطالبٌ في الأساس بالعزيمة والحفاظ على صحته شرعًا، كما أنه سوف يُسأل عن صحته فيمَ أَبْلاها، كما يُسأل عن ماله فيمَ أنفقه، وعن وقته فيمَ قضاه.
- أصل الرسالة:
وهي في بداية مجموعٍ فيه عشر رسائل، تحتفظ به مكتبة جامعة برنستون في بلدة برنستون Princeton University Library، بولاية نيوجيرسي، بالولايات المتحدة الأمريكية. تحت رقم: (3854Y)، تصنيف (لغة). وتاريخ نسخ المجموع كما هو في الوصف: 12 من محرم: 1003 هجرية، سبتمبر 1594 ميلادية. والحمد لله.
- المُلَّا حسين بن إسكندر الرومي:
من كتبه: (كنز السعادة في بيان معنى الشهادة)، و(الجوهرة المنيفة في شرح وصية أبي حنيفة)، و(الترغيب باتباع الشريعة الشريفة والترهيب عن البدعة الخبيثة)؛ وهو شرح على كتابه: (الفوائد الفاخرة في أمور الفاخرة)؛ وهو اختصار لكتابه: (مفتاح الفلاح وكيمياء السعادة والصلاح)، ومن كتبه: (مجمع المهمات الدينية على مذهب الحنفية)، و(جواهر المسائل فيما يحتاج إليه كل جاهل وعاقل)، و(لباب التجويد للقرآن المجيد)؛ وهو شرح لكتابه المخطوط: (المختصر في تجويد القرآن) الذي نعمل على تحقيقه وإخراجه قريبًا بإذن الله تعالى. و(رسالة في تحريم الدخان) وهو الذي بين يديك، أخي الكريم، وقد وضعت التعليقات بين معقوفين [ ] بلون مختلف وبحجم أصغر، والحمد لله.
نسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصًا له سبحانه وتعالى، والحمد لله.
محمود عبد الصمد الجيار
[email protected]
الإسكندرية - مصر
الأحد: 19 – 8 – 2018 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول العبد الفقير إلى مولاه الغني: مُلَّا حسين بن إسكندر الحنفي، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة من رسالتي المسماة: (بالفوائد الفاخرة في أمور الآخرة) ، وفيها ذِكْر (الدخان) وهل هو من المباح أو من الحرام؟ ويأتي عليه الكلام إن شاء الله تعالى.
ورتَّبْتُها على فصول:
الفصل الأول [ رُؤْيَا ]:
اعلم أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرني بأن أكتب شيئًا في أمر الدخان، الذي ابْتُلي بشربه الخاصُّ والعامُّ، فأبلِّغه إلى أُمِّته المؤمنين، فأجبته ﷺ إلى ذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « مَنْ رَآنِي فِي الْمَنامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي». [هذه رواية مسلم (2266)، واللفظ له، وأخرجه البخاري (110) بنحوه].
وفيه روايات أُخَر. [في الحاشية: صدر الحديث: «تَسَمَّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». من صحيح البخاري. [أخرجه البخاري (110) واللفظ له، ومسلم: 2134، 2266].
ثم اعلم أن من رأى النبي عليه [الصلاة] والسلام في المنام، فأمره بأمرٍ، وجب عليه امتثاله في أحد الوجهين، واستحب في الآخر. كذا في «أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب» للجلال السيوطي.
قلتُ: فلو ادَّعى أحدٌ أنه رأى النبي عليه [الصلاة] والسلام في المنام، فأمره بأمرٍ مخالف لشريعته ﷺ لا يجوز له أن يفعله؛ لأن مخالفة شريعته ﷺ بدعةٌ وضلالةٌ، ويُحمَل الخطأ على الرائي، لا على الرؤيا.
ثم إن العبد مُبتلى: بين أن يطيع الله تعالى، فيثاب؛ وبين أن يعصي الله تعالى، فيعاقب. فإطاعة الله تعالى لا تكون إلا باتباع شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتباع شريعته ﷺ مِفْتاح الفلاح [في الحاشية: الفلاح: الفوز والنجاة]، وكيمياء السعادة والصلاح؛ وقد قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران: 31].
وكل شيء مخالف لشريعته صلى الله عليه وسلم بدعةٌ وضلالةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ». [أخرجه مسلم (867)، والنسائي (1578)، وأحمد (14984) وغيرهم].
قال المناوي: أي وكلُّ فِعْلةٍ أُحْدِثَتْ على خلاف الشرع.
وإذا علمتَ ما ذُكِر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي فَلَهُ أَجْرُ مِائةِ شَهِيدٍ» كما في الترغيب والترهيب. [الترغيب والترهيب، للمنذري، (كتاب السُّنَّة)، وقد ضعَّفه الألباني. وفي فاتحة كتاب السُّنَّة من الكتاب نفسه حديث صحيح، نصُّه: «عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا؛ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». وكذا رواه أبو داود (4607)، والترمذي (266)؛ واللفظ للمنذري].
الفصل الثاني [ بيان الدخان ]:
في بيان الدخان الذي حدث في هذا الزمان
وهل هو من المباح أم من الحرام؟ ويأتي عليه الكلام
فإن قيل: هل قال أحدٌ من العلماء بإباحة شرب الدخان أم لا؟
أجيب: ما رأيتُ أحدًا من العلماء قال بإباحته. بل قال شيخ الإسلام أحمد الوفائي في آخر جواب متعلق ( بالتُّـتُن ) [التُّتُن: اسم أطلق على (التبغ)، منحوت من اللفظ التركي tütün «توتون»، بمعنى: دخان. والتَّبغ هو: نباتٌ يُجَفَّف، ثم يُتعاطَى تدخينًا وسَعُوطًا ومَضْغًا، ويكثر استعمالُه في صناعة السجائر. انظر (الرائد: 193)، و(معجم اللغة العربية المعاصرة: 2/283)، و(معجم المصطلحات والألقاب التاريخية: 101].
مَا أَكَبَّ أَهْلُ الْفُجُورِ عَلَى تَعَاطِيه * لَا يَقُولُ بِحِلِّهِ مَنْ يَخْشَى اللهَ وَيَتَّقِيه
فإن قيل: هل في الدخان نفع أم لا؟
أجيب: لا نفع فيه أبدًا.
قال العلامة محمد البيروتي في جواب سؤال متعلق بالدخان:
اتبع طريق الهدى وامش على السنن * وخالف النفس وأنقذها من المحن
إياك من بدع تلقيك في عطب * لا سيما ما فشا في الناس من تـتن
مفتر الجسم لا نفع به أبدًا * بل يورث الضر والأسقام في البدن
تبًّا لشاربه كيف المقام على * ما ريحه يشبه السرجين في عطن
ولا يغرنك مَن في الناس يشربه * الناس في غفلة عن واضح السنن
يقضي على المرء في أيام محنته * حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
مهمة: ذكر اللقاني في رسالته: أن رجلًا كان لا ينفك عن شرب التُّـتُن، فحضرته الوفاة، وأخذ في النزع، وعرضت عليها [ الشهادتان ]، فقال: هذا دخان جيد، فزني منه! إلى أن فارق الدنيا، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
ثم اعلم أن شرب التُّـتُن عمدًا يفسد الصوم؛ لما فيه من الإدخال مع إمكان التحرُّز عنه. وتمام ما ذكر مبسوط في رسالتنا الأصل.
الفصل الثالث [ تحريم الدخان ] :
في ذِكْر تحريم شرب التُّـتُن
ويقال أيضًا : الدخان ، وله أسامٍ أُخَر
وقد صرح العلماء بتحريمه، واستدلوا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء والأطباء. ويأتي ذكرها مختصرا:
قال العلامة ابن سعد الدين محمد:
وأما شربه في كل وقت * مدى الأيام آناء الليالي
خصوصا شرب إدمان وفسق * بإعلان على وجه الضلال
حرام ليس فيه شوب شك * محال ذكره بين الحلال
وتمامه هناك.
وقال العلامة اللقاني في الكلام على الدخان وقبائحه وضرره: فلا يشك عاقل في التحريم مطلقا. وأخبر أن شيخه العلَّامة سئل عن الدخان، وأفتى بتحريمه. وتمام البحث مبسوط في الشرح الكبير على جوهرة التوحيد.
ونُقِل عن ابن علان شارح الطريقة المحمدية، أنه ألَّف في تحريم الدخان مؤلَّفين: مطوَّل، وموجز. وقال في رسالة منسوبة للعلامة علاء الدين الرومي [...] في الكلام على الدخان، قد أفتى بتحريمه كثير من العلماء الحنفية وغيرهم، وقد كتب بعض المالكية في الديار الحجازية جوابًا يتعلق بالدخان، وهو أن استعمال الدخان حرام، كأصله. كذا في (مجالس الأبرار)، وتمامه هناك.
ونُقِل أيضًا مثل هذا الجواب عن الشيخ خالد مدرس الحرم المكي.
وقال العلامة عبد النافع في رسالته المتعلقة بالدخان وخبثه: إذا عرَفت هذا، فنحن نقول متمسِّكًا بحبل التوفيق: التُّنْبَاك مما في الأرض، والانتفاع به بغير الأكل وبغير شرب دخانه صحيح، لقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29]. وأما شرب دخانه فحرام؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ﴾ [الأعراف: 157]. فإن الخبائث جمعٌ مُحَلًّى بلام الاستغراق، فيدخل فيه كل فرد من أفراد الخبيث، إلا بدليل. [التنباك: اسم غير عربي للتبغ وغيره]
وقد ذكر أيضًا في رسالته سؤالًا وجوابًا؛ وصورة السؤال: والله الموفق، أنشدكم بالله تعالى، أيها العلماء والصلحاء، هل تستخبث طباعكم الشريفة شرب الدخان أم تستطيبه؟ أخبرونا لله تعالى، ولرسوله المجتبى، ما حكم طباعكم الشريفة؟ واكتبوه في هذه الصحيفة، نفع الله تعالى بوجودكم المسلمين، بمَنِّه وكرمه، آمين.
الجواب:
قال العالم العامل أبو يزيد المفتي الحنفي والمدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، لا شك ولا يرتاب ذو لُبٍّ أن يكون التـتن من الخبائث، ولا يخفى ذلك إلا على مُكابر ومعاندٍ سفيه بكمال سفاهته، لا يميز بين الخبيث والطيب.
وقال الشيخ العالم المفتي محمد الشافعي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، إنه خبيثٌ قويٌّ، ويكفي فيه: تنفر الملائكة، وبغض النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال الشيخ العالم التقي أبو نُمِي المفتي الحنبلي: الحمد لله الموفق للصواب، لا ريب أن الدخان من البدع الخبيثة في طبيعة كل منصف عليم، جُبِل قلبُه على الطبع السليم.
وقال أفضل العلماء العظام القاضي تاج الدين المكي المفتي المالكي المدرس في المسجد الحرام: لا شبهة في خبثه، وطبعي يستخبثه ويستقذره.
وقال الشيخ محمد الحنفي الخطيب والإمام في الحرم الشريف النبوي: أنه خبيثٌ قبيح، ولا يستطيبه إلا فضيح.
وقال الشيخ أحمد البري الحنفي المدرس والإمام والخطيب في الحرم الشريف: وأنا أستخبثه، وينفر طبعي منه.
وقال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن المالكي المدرس في الحرم الشريف النبوي: يستخبثه طبعي، ولا ينكر خبثه إلا الغَوِي.
وقال الشيخ محمد الحنفي المفتي والمدرس والخطيب في الحرم الشريف: طبعي يحكم بأنه خبيث كريه، ولا شك أن شاربه سفيه.
وقال الشيخ أحمد بن عبد الله المالكي المدرس في حرم رسول الله ﷺ : خبثه ظاهرٌ عند مَن طبعه طاهر.
وقال محمود أفندي الحنفي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، وطبعي يستقذره أشد الاستقذار، ويستخبثه غاية الاستخباث.
وقال الشيخ أبو بكر الحنفي: لا شك في أنه من الخبائث.
وقال الشيخ محمد الشامي الحنفي المدرس في الحرم الشريف النبوي: الحمد لله، يستخبثه طبعي، وتستقذره نفسي.
والحق أنه لا يرتاب في خبثه.
وفي أصلها أجوبة أخر، لم أذكرها فرارًا من التطويل.
ثم اعلم أن رائحة الدخان منتنة كريهة، فيتأذى من رائحته الملائكة والمؤمنون الذين لا يستعملونه.
وقد رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ». [ذكر ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1251) بأنه: حديث لا يصح، والأشج غير موثوق بقوله عند العلماء. وكذا الذهبي في «تلخيص كتاب العلل المتناهية» (790) قال: هذا في أكاذيب الأشج، عن علي. وكذا السيوطي في «الجامع الصغير»، قال: ضعيف. وحكم عليه الألباني بالوضع، في السلسلة الضعيفة 4233].
وقال المكناسي: الرائحة المنتنة تخرق الخياشيم، وتصل إلى الدماغ، وتؤذي الأسنان؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، لأنه يؤذينا بريحه». [للحديث روايات؛ منها ما جاء في صحيح مسلم: من أَكلَ من هذِه الشَّجرةِ فلا يقربنَّ مسجدَنا . ولا يؤذيَنَّا بريحِ الثُّومِ].
والمراد من هذه الشجرة: كل ما له رائحة كريهة يتأذى منها الإنسان، بدليل تعليله عليه الصلاة والسلام. والمعنى: أن مَن أكل شيئًا مما له رائحة كريهة يتأذى بها الإنسان فلا يقربن مسجدنا؛ لأنه يؤذينا برائحته الكريهة.
وقد ثبت في صحيح مسلم، أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا وجد من رجل في المسجد ريح البصل والثوم، أمر به، فأخرج إلى البقيع .
ولهذا قال الفقهاء: كل من وجد فيه رائحة كريهة يتأذى بها الإنسان، يلزم إخراجه من المسجد... كذا في (مجالس الأبرار). [من حديث لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومنه: ثم إنَّكم- أيُّها الناسُ- تأكلون شجرتينِ لا أراهما إلَّا خبيثتين: هذا البصل و الثُّوم ؛ لقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، إذا وَجَدَ رِيحَهما مِن الرَّجلِ في المسجد، أَمَرَ به فأُخْرِجَ إلى البَقيعِ؛ فمَن أَكَلَهما فلْيُمِتْهما طَبْخًا. (صحيح مسلم: 567). وكذا في (البحر الزخار المعروف بمسند البزار). ومكان النقاط: (ولو بجَرِّه من يده ورِجْله دون لحيته وشعر رأسه). والقصد: المبالغة في التنبيه على أن لا يكون بين المصلين أحدٌ يؤذيهم برائحته].
وقال جالينوس: اجتنبوا ثلاثة، وعليكم بأربعة، ولا حاجة لكم إلى الطبيب. اجتنبوا: الدخان، والغبار، والنتن. وعليكم: بالدسم، والحلوى، والطيب، والحَمَّام. كذا في (مجالس الأبرار) أيضًا.
خاتمة :
اعلم أن العبد المكلَّف مآله إما في الجنة وإم في النار، فيجازى من جنس عمله، فإن كان عمله خيرًا فجزاؤه خير، وإن كان عمله شرًّا فجزاؤه شر.
ثم اعلم أن عذاب الله شديدٌ.
ورَدَ: لو أن ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعًا من حَرِّه.
و وَرَدَ أيضًا: لو أن رجلًا من أهل النار، أخرج إلى الدنيا، لمات أهل الدنيا من وحشة منظره، ونتن ريحه. والعياذ بالله!
وينبغي للمؤمن أن يعتبر ويتعظ بما ذكر، ويستحيي من الله تعالى، ويخاف من عذابه، ويتوب إليه من الدخان، ومن جميع الذنوب، قبل أن يمسه العذاب، فإن عذاب الله شديد، ولا ينفعه الندم بعد مسه، ولا يعذر بالجهل والغفلة والكسل.
الفصل الرابع ( في بيان التوبة ) :
التوبة أن تستغفر بلسانك، وتندم بقلبك، وتعزم أن لا تعود إلى ذنبك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. كذا في (الطريقة المحمدية). [صحَّح أهل الحديث الجزء الأول، وهو (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، أما الزيادة فضعَّفوها، انظر السلسلة الضعيفة للألباني: 616].
وينبغي للمسلم أن يتعوذ بهذا الدعاء، وهو: (اللهم أجرنا من النار). [الحديث رواه الإمام أحمد في المسند 17362، وأبو داود 5079، ولفظه : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ: اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ يَوْمِكَ ذَلِكَ، كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا صَلَّيْتَ الْمَغْرِبَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ: اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ تِلْكَ، كَتَبَ اللهُ لَكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ].
وتمام ما ذكر في هذه الرسالة المبسوطة في رسالتي المسماة بالفوائد الفاخرة في أمور الآخرة، التي اختصرتُ هذه منها، وبالله التوفيق.
تمت رسالة المُلَّا حسين المختصرة، بحمد الله وعونه.
والحمد لله رب العالمين!