سمير القدوري
New member
[ مجادلة محمد الأنصاري الأندلسي(ق.9هـ) لأساقفة النصارى في مدن قشتالة الأسبانية]
في سنة 1968 نشر العلامة المغربي محمد المنوني رحمه الله(ت.1999م) مقالا مفيدا في مجلة البحث العلمي العدد 13 السنة الخامسة صص:23- 32. عنوانه:" مناقشات أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث".
ذكر فيه جملة من المؤلفين المغاربة كان لهم باع وبلاء حسن في مناظرة اليهود والنصارى, وذكر من بينهم عالما لا يعرف عنه شيء ذو بال, له رسالة وحيدة فريدة موسومة بـ:" رسالة السائل والمجيب و روضة نزهة الأريب" كان غرضه من تأليفها ذكر طرف مما وقع له من محاورات ساخنة مع أساقفة النصارى بمدن قشتالة, حينما كان -على ما يبدو- أسيرا عندهم أو هاربا من بطش بعض الحكام.
ورسالته ممتعة جدا كتبها بأسلوب أدبي رفيع يكاد يحاكي(حسب رأي الدكتور إحسان عباس رحمه الله) رسالة الزوابع والتوابع لابن شهيد القرطبي(ت.426هـ), وقد كان المؤلف ذكيا إذ عرف بنفسه عن طريق مقامة فيها حكاية عن لقاء له عجيب مع محاور ذكي من مؤمني الجن الذي طفق يسأل المؤلف في شتى فنون العلم من نحو وصرف وفقه وبلاغة وشعر وفي كل ذلك يجيب المؤلف أجوبة محكمة نثر فيها جملة من إطلاعه الواسع, وكأنه يقول لقارئ رسالته أنا رجل عربي تعلمت كل هذه العلوم وأتقنتها, ولكن كان من قدر الله علي أن صرت إلى بلاد الروم فمكثت في بلادهم -مرغما- سنين تعلمت فيها لسانهم ودرست كتب دينهم, وأن الروم لما رأوا مني هذا حشروا إلى خفافا وثقالا لمناظرتي, وكنت بحمد الله أرد على أسئلتهم وأفحمهم, مما اضطرهم لاحترام النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا يقضون حوائجي وكنت أساعد من هناك من المسلمين في قضاء حوائجهم. وقد علم المؤلف إعراض مسلمي زمانه عن العناية بجدل النصارى لذلك لم يفاتح خطابهم في رسالته بمجريات مناظراته للقوم ولكن قدم لذلك ب34 بابا تشبه المقامة, ليأتي في الأخير إلى غرضه من كل الرسالة فينثر في الباب 35 من رسالته مجريات ستة مجالس من مناظراته للأساقفة فيقول:" إنما دعاني لتأليف هذه الرسالة ما يأتي من الفصول الجدلية إن شاء الله, وذلك أني لما رميت بسهم الاضطرار عن قوس من الأقدار إلى بلاد النصارى وطال المقام بين أظهرهم, اطلعت على عنادهم, وفهمت لغتهم وكتابهم, واجتهدت في البحث عن أصول ديانتهم, والقواعد التي هي أس شريعتهم, رأيت من ركاكة نصوصهم, وتضاد منصوصهم ما تمجه العقول ويخالفه صريح المعقول, فلما رأت أساقفتهم أني قد رأيت أحكامهم وفهمت أقلامهم, حشروا إلي خفافا وثقالا وسارعوا إلى مناظرتي ركبانا ورجالا, فدارت بيني وبينهم مجادلات ومحاورات, في مجالس عدة, جلها بقصر ملكهم, وهو ألفنش المعروف بابن الأصفر, ومنها بمنزلي, ومنها بدار رئيس كتبة الملك, وصاحب سره, وهو أعلم من بوطنه, وكان هذا اللعين يهوديا فتنصر وبلغ من الملك مبلغا عظيما, حتى استبد بتدبير ملكه. وها أنا أذكر إن شاء الله بعضا من تلك المجالس على جهة الاختصار والتقريب, لأن ذكرها بأسرها يستدعي طولا.
[نصيحة من المؤلف لمن يريد خوض الجدل مع النصارى]
والقصد بذكر ما أذكر إعلام من لم يمتحن من المسلمين بأباطيلهم وتساويلهم, فإنه إن اضطر أحد إلى مناظرتهم يوما وهو غير عارف بأصولهم, ربما أفحموه وألبسوا له الحق بالباطل, فإن من شأنهم مكابرة العقول, وخلط المنقول بالمعقول.
ولتعلم عافاك الله أن ما في الملل, ولا في جميع الآراء والنحل, أسخف عقولا, ولا أجهل من الروم, ولا ينبغي لمن اضطر إلى مباحثتهم يوما أن يناظرهم إلا بنصوص إنجيلهم, وما بأيديهم من صحف الأنبياء, لأنهم لا يقبلون غير ذلك, ولا يحتاج الماهر فيما ذكر أكثر من تكذيبهم والرد عليهم, ويصون دينه ونبيه, لأنهم –أبادهم الله- مهما ذكرت لهم النبي صلى الله عليه وسلم نفروا وزادوا طغيانا ومعاندة, وسددوا ضروبا من الأهاويس والفرية, لا يقولها إلا أمثالهم من منتقصي الأنبياء عليهم السلام, إذ لا ينكر عليهم ولا على اليهود ذلك, إذ قد صدر منهم من الشتائم في الأنبياء- أعني في بعضهم- ما يكون كافيا في خلودهم في النار".
قال محمد النوني رحمه الله:" وقد تعددت هذه المجادلات وتناولت:
1- مكانة الدين المسيحي.
2- ومسألة الحلول والاتحاد والتجسد.
3- والسيد المسيح.
4- والشعائر الإسلامية.
5- والدين الإسلامي.
6- وبعض شؤون الآخرة.
7- والفرق بين الروح والنفس.
وباستثناء المجلس الأول فإن المؤلف يحدد البلدان التي عقدت بها المجالس التالية فيذكر أن الثاني كان بمدينة سلمنقةSALAMANCA, والثالث والسادس كانا بمدينة مجريطMADRID, والرابع ببلد الوليدVALADOLID, والخامس بمدينة شقوبية Segovia.
وقد كان المجادلون له: أساقفة ورهبان ووعاظ, وشمامسة". انتهى كلام المنوني رحمه الله.
قلت:
و لا شك أن علم المؤلف الواسع بالعلوم الإسلامية وبما اكتسبه من معرفة بأصول دين القوم وبما وقف عليه من نصوص كتبهم قد سلحه جيدا لخوض نزالات لا هوادة فيها انتصر فيها حق الإسلام على باطل التثليث والصلبان. فنحن نرى أن هذا الفقيه الجليل يشدد على وجوب تحصيل من يريد مجادلة القوم لمعرفة تامة بكتبهم ليتم له الإفحام والإلزام لأنهم يكابرون صريح المعقول.
وملاحظة المؤلف في محلها وقد أكدها من قبله بعض المهتدين للإسلام مشددين على أن أوكد الطرق لإفحام أهل الكتاب هو الاستلال عليهم بنص كتبهم. قال ذلك علي ابن ربن الطبري والسموأل المغربي وعبد الله الترجمان, وكذلك تجد أن أقدر المسلمين على جدل أهل الكتاب من جمع إلى معرفته بعلوم الإسلام الإطلاع على ما عند القوم من كتب.
وقد أحزنني أن أعلم أن من المسلمين اليوم من يستخف بفائدة مجادلة أهل الكتاب ويزعم أنه علم لا ينفع والجهل به لا يضر, وأنا أفسر رأيه هذا بالحكمة القائلة إن من جهل شيئا عاداه, فمن لا إطلاع له في هذا الميدان يتستر بتلك الأعذار ويا ليته سكت فلم يدم علما لا يحسنه بل تجده يغمز ويلمز من وقف نفسه على هذا الثغر الخطير وتراه يثنيه عن ذلك بدعوى أن عليه الاهتمام بما هو أفيد.
وكان الأجدر بهذا الناكص عن مناظرة القوم أن يعطي القوس باريها و لا يحجر على من له الأهلية للمناظرة.
وقد ضرب لنا محمد الأنصاري مؤلف رسالة السائل والمجيب أروع الأمثلة على عزة المسلم وسط بلاد الروم حين يدافع عن دينه باللسان.
ولعل بعض القراء قد اشتاق للإطلاع على طرف من تلك المناظرات.
فمن أحب الإطلاع عليها فل يعلمني بذلك لأقوم بنشر ما تيسر منها على الملتقى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
في سنة 1968 نشر العلامة المغربي محمد المنوني رحمه الله(ت.1999م) مقالا مفيدا في مجلة البحث العلمي العدد 13 السنة الخامسة صص:23- 32. عنوانه:" مناقشات أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث".
ذكر فيه جملة من المؤلفين المغاربة كان لهم باع وبلاء حسن في مناظرة اليهود والنصارى, وذكر من بينهم عالما لا يعرف عنه شيء ذو بال, له رسالة وحيدة فريدة موسومة بـ:" رسالة السائل والمجيب و روضة نزهة الأريب" كان غرضه من تأليفها ذكر طرف مما وقع له من محاورات ساخنة مع أساقفة النصارى بمدن قشتالة, حينما كان -على ما يبدو- أسيرا عندهم أو هاربا من بطش بعض الحكام.
ورسالته ممتعة جدا كتبها بأسلوب أدبي رفيع يكاد يحاكي(حسب رأي الدكتور إحسان عباس رحمه الله) رسالة الزوابع والتوابع لابن شهيد القرطبي(ت.426هـ), وقد كان المؤلف ذكيا إذ عرف بنفسه عن طريق مقامة فيها حكاية عن لقاء له عجيب مع محاور ذكي من مؤمني الجن الذي طفق يسأل المؤلف في شتى فنون العلم من نحو وصرف وفقه وبلاغة وشعر وفي كل ذلك يجيب المؤلف أجوبة محكمة نثر فيها جملة من إطلاعه الواسع, وكأنه يقول لقارئ رسالته أنا رجل عربي تعلمت كل هذه العلوم وأتقنتها, ولكن كان من قدر الله علي أن صرت إلى بلاد الروم فمكثت في بلادهم -مرغما- سنين تعلمت فيها لسانهم ودرست كتب دينهم, وأن الروم لما رأوا مني هذا حشروا إلى خفافا وثقالا لمناظرتي, وكنت بحمد الله أرد على أسئلتهم وأفحمهم, مما اضطرهم لاحترام النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا يقضون حوائجي وكنت أساعد من هناك من المسلمين في قضاء حوائجهم. وقد علم المؤلف إعراض مسلمي زمانه عن العناية بجدل النصارى لذلك لم يفاتح خطابهم في رسالته بمجريات مناظراته للقوم ولكن قدم لذلك ب34 بابا تشبه المقامة, ليأتي في الأخير إلى غرضه من كل الرسالة فينثر في الباب 35 من رسالته مجريات ستة مجالس من مناظراته للأساقفة فيقول:" إنما دعاني لتأليف هذه الرسالة ما يأتي من الفصول الجدلية إن شاء الله, وذلك أني لما رميت بسهم الاضطرار عن قوس من الأقدار إلى بلاد النصارى وطال المقام بين أظهرهم, اطلعت على عنادهم, وفهمت لغتهم وكتابهم, واجتهدت في البحث عن أصول ديانتهم, والقواعد التي هي أس شريعتهم, رأيت من ركاكة نصوصهم, وتضاد منصوصهم ما تمجه العقول ويخالفه صريح المعقول, فلما رأت أساقفتهم أني قد رأيت أحكامهم وفهمت أقلامهم, حشروا إلي خفافا وثقالا وسارعوا إلى مناظرتي ركبانا ورجالا, فدارت بيني وبينهم مجادلات ومحاورات, في مجالس عدة, جلها بقصر ملكهم, وهو ألفنش المعروف بابن الأصفر, ومنها بمنزلي, ومنها بدار رئيس كتبة الملك, وصاحب سره, وهو أعلم من بوطنه, وكان هذا اللعين يهوديا فتنصر وبلغ من الملك مبلغا عظيما, حتى استبد بتدبير ملكه. وها أنا أذكر إن شاء الله بعضا من تلك المجالس على جهة الاختصار والتقريب, لأن ذكرها بأسرها يستدعي طولا.
[نصيحة من المؤلف لمن يريد خوض الجدل مع النصارى]
والقصد بذكر ما أذكر إعلام من لم يمتحن من المسلمين بأباطيلهم وتساويلهم, فإنه إن اضطر أحد إلى مناظرتهم يوما وهو غير عارف بأصولهم, ربما أفحموه وألبسوا له الحق بالباطل, فإن من شأنهم مكابرة العقول, وخلط المنقول بالمعقول.
ولتعلم عافاك الله أن ما في الملل, ولا في جميع الآراء والنحل, أسخف عقولا, ولا أجهل من الروم, ولا ينبغي لمن اضطر إلى مباحثتهم يوما أن يناظرهم إلا بنصوص إنجيلهم, وما بأيديهم من صحف الأنبياء, لأنهم لا يقبلون غير ذلك, ولا يحتاج الماهر فيما ذكر أكثر من تكذيبهم والرد عليهم, ويصون دينه ونبيه, لأنهم –أبادهم الله- مهما ذكرت لهم النبي صلى الله عليه وسلم نفروا وزادوا طغيانا ومعاندة, وسددوا ضروبا من الأهاويس والفرية, لا يقولها إلا أمثالهم من منتقصي الأنبياء عليهم السلام, إذ لا ينكر عليهم ولا على اليهود ذلك, إذ قد صدر منهم من الشتائم في الأنبياء- أعني في بعضهم- ما يكون كافيا في خلودهم في النار".
قال محمد النوني رحمه الله:" وقد تعددت هذه المجادلات وتناولت:
1- مكانة الدين المسيحي.
2- ومسألة الحلول والاتحاد والتجسد.
3- والسيد المسيح.
4- والشعائر الإسلامية.
5- والدين الإسلامي.
6- وبعض شؤون الآخرة.
7- والفرق بين الروح والنفس.
وباستثناء المجلس الأول فإن المؤلف يحدد البلدان التي عقدت بها المجالس التالية فيذكر أن الثاني كان بمدينة سلمنقةSALAMANCA, والثالث والسادس كانا بمدينة مجريطMADRID, والرابع ببلد الوليدVALADOLID, والخامس بمدينة شقوبية Segovia.
وقد كان المجادلون له: أساقفة ورهبان ووعاظ, وشمامسة". انتهى كلام المنوني رحمه الله.
قلت:
و لا شك أن علم المؤلف الواسع بالعلوم الإسلامية وبما اكتسبه من معرفة بأصول دين القوم وبما وقف عليه من نصوص كتبهم قد سلحه جيدا لخوض نزالات لا هوادة فيها انتصر فيها حق الإسلام على باطل التثليث والصلبان. فنحن نرى أن هذا الفقيه الجليل يشدد على وجوب تحصيل من يريد مجادلة القوم لمعرفة تامة بكتبهم ليتم له الإفحام والإلزام لأنهم يكابرون صريح المعقول.
وملاحظة المؤلف في محلها وقد أكدها من قبله بعض المهتدين للإسلام مشددين على أن أوكد الطرق لإفحام أهل الكتاب هو الاستلال عليهم بنص كتبهم. قال ذلك علي ابن ربن الطبري والسموأل المغربي وعبد الله الترجمان, وكذلك تجد أن أقدر المسلمين على جدل أهل الكتاب من جمع إلى معرفته بعلوم الإسلام الإطلاع على ما عند القوم من كتب.
وقد أحزنني أن أعلم أن من المسلمين اليوم من يستخف بفائدة مجادلة أهل الكتاب ويزعم أنه علم لا ينفع والجهل به لا يضر, وأنا أفسر رأيه هذا بالحكمة القائلة إن من جهل شيئا عاداه, فمن لا إطلاع له في هذا الميدان يتستر بتلك الأعذار ويا ليته سكت فلم يدم علما لا يحسنه بل تجده يغمز ويلمز من وقف نفسه على هذا الثغر الخطير وتراه يثنيه عن ذلك بدعوى أن عليه الاهتمام بما هو أفيد.
وكان الأجدر بهذا الناكص عن مناظرة القوم أن يعطي القوس باريها و لا يحجر على من له الأهلية للمناظرة.
وقد ضرب لنا محمد الأنصاري مؤلف رسالة السائل والمجيب أروع الأمثلة على عزة المسلم وسط بلاد الروم حين يدافع عن دينه باللسان.
ولعل بعض القراء قد اشتاق للإطلاع على طرف من تلك المناظرات.
فمن أحب الإطلاع عليها فل يعلمني بذلك لأقوم بنشر ما تيسر منها على الملتقى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.