رسالة السائل والمجيب لمحمد الأنصاري الأندلسي وجدل النصارى

إنضم
18/12/2005
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب
[ مجادلة محمد الأنصاري الأندلسي(ق.9هـ) لأساقفة النصارى في مدن قشتالة الأسبانية]




في سنة 1968 نشر العلامة المغربي محمد المنوني رحمه الله(ت.1999م) مقالا مفيدا في مجلة البحث العلمي العدد 13 السنة الخامسة صص:23- 32. عنوانه:" مناقشات أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث".
ذكر فيه جملة من المؤلفين المغاربة كان لهم باع وبلاء حسن في مناظرة اليهود والنصارى, وذكر من بينهم عالما لا يعرف عنه شيء ذو بال, له رسالة وحيدة فريدة موسومة بـ:" رسالة السائل والمجيب و روضة نزهة الأريب" كان غرضه من تأليفها ذكر طرف مما وقع له من محاورات ساخنة مع أساقفة النصارى بمدن قشتالة, حينما كان -على ما يبدو- أسيرا عندهم أو هاربا من بطش بعض الحكام.
ورسالته ممتعة جدا كتبها بأسلوب أدبي رفيع يكاد يحاكي(حسب رأي الدكتور إحسان عباس رحمه الله) رسالة الزوابع والتوابع لابن شهيد القرطبي(ت.426هـ), وقد كان المؤلف ذكيا إذ عرف بنفسه عن طريق مقامة فيها حكاية عن لقاء له عجيب مع محاور ذكي من مؤمني الجن الذي طفق يسأل المؤلف في شتى فنون العلم من نحو وصرف وفقه وبلاغة وشعر وفي كل ذلك يجيب المؤلف أجوبة محكمة نثر فيها جملة من إطلاعه الواسع, وكأنه يقول لقارئ رسالته أنا رجل عربي تعلمت كل هذه العلوم وأتقنتها, ولكن كان من قدر الله علي أن صرت إلى بلاد الروم فمكثت في بلادهم -مرغما- سنين تعلمت فيها لسانهم ودرست كتب دينهم, وأن الروم لما رأوا مني هذا حشروا إلى خفافا وثقالا لمناظرتي, وكنت بحمد الله أرد على أسئلتهم وأفحمهم, مما اضطرهم لاحترام النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا يقضون حوائجي وكنت أساعد من هناك من المسلمين في قضاء حوائجهم. وقد علم المؤلف إعراض مسلمي زمانه عن العناية بجدل النصارى لذلك لم يفاتح خطابهم في رسالته بمجريات مناظراته للقوم ولكن قدم لذلك ب34 بابا تشبه المقامة, ليأتي في الأخير إلى غرضه من كل الرسالة فينثر في الباب 35 من رسالته مجريات ستة مجالس من مناظراته للأساقفة فيقول:" إنما دعاني لتأليف هذه الرسالة ما يأتي من الفصول الجدلية إن شاء الله, وذلك أني لما رميت بسهم الاضطرار عن قوس من الأقدار إلى بلاد النصارى وطال المقام بين أظهرهم, اطلعت على عنادهم, وفهمت لغتهم وكتابهم, واجتهدت في البحث عن أصول ديانتهم, والقواعد التي هي أس شريعتهم, رأيت من ركاكة نصوصهم, وتضاد منصوصهم ما تمجه العقول ويخالفه صريح المعقول, فلما رأت أساقفتهم أني قد رأيت أحكامهم وفهمت أقلامهم, حشروا إلي خفافا وثقالا وسارعوا إلى مناظرتي ركبانا ورجالا, فدارت بيني وبينهم مجادلات ومحاورات, في مجالس عدة, جلها بقصر ملكهم, وهو ألفنش المعروف بابن الأصفر, ومنها بمنزلي, ومنها بدار رئيس كتبة الملك, وصاحب سره, وهو أعلم من بوطنه, وكان هذا اللعين يهوديا فتنصر وبلغ من الملك مبلغا عظيما, حتى استبد بتدبير ملكه. وها أنا أذكر إن شاء الله بعضا من تلك المجالس على جهة الاختصار والتقريب, لأن ذكرها بأسرها يستدعي طولا.

[نصيحة من المؤلف لمن يريد خوض الجدل مع النصارى]


والقصد بذكر ما أذكر إعلام من لم يمتحن من المسلمين بأباطيلهم وتساويلهم, فإنه إن اضطر أحد إلى مناظرتهم يوما وهو غير عارف بأصولهم, ربما أفحموه وألبسوا له الحق بالباطل, فإن من شأنهم مكابرة العقول, وخلط المنقول بالمعقول.
ولتعلم عافاك الله أن ما في الملل, ولا في جميع الآراء والنحل, أسخف عقولا, ولا أجهل من الروم, ولا ينبغي لمن اضطر إلى مباحثتهم يوما أن يناظرهم إلا بنصوص إنجيلهم, وما بأيديهم من صحف الأنبياء, لأنهم لا يقبلون غير ذلك, ولا يحتاج الماهر فيما ذكر أكثر من تكذيبهم والرد عليهم, ويصون دينه ونبيه, لأنهم –أبادهم الله- مهما ذكرت لهم النبي صلى الله عليه وسلم نفروا وزادوا طغيانا ومعاندة, وسددوا ضروبا من الأهاويس والفرية, لا يقولها إلا أمثالهم من منتقصي الأنبياء عليهم السلام, إذ لا ينكر عليهم ولا على اليهود ذلك, إذ قد صدر منهم من الشتائم في الأنبياء- أعني في بعضهم- ما يكون كافيا في خلودهم في النار".
قال محمد النوني رحمه الله:" وقد تعددت هذه المجادلات وتناولت:
1- مكانة الدين المسيحي.
2- ومسألة الحلول والاتحاد والتجسد.
3- والسيد المسيح.
4- والشعائر الإسلامية.
5- والدين الإسلامي.
6- وبعض شؤون الآخرة.
7- والفرق بين الروح والنفس.

وباستثناء المجلس الأول فإن المؤلف يحدد البلدان التي عقدت بها المجالس التالية فيذكر أن الثاني كان بمدينة سلمنقةSALAMANCA, والثالث والسادس كانا بمدينة مجريطMADRID, والرابع ببلد الوليدVALADOLID, والخامس بمدينة شقوبية Segovia.
وقد كان المجادلون له: أساقفة ورهبان ووعاظ, وشمامسة". انتهى كلام المنوني رحمه الله.

قلت:
و لا شك أن علم المؤلف الواسع بالعلوم الإسلامية وبما اكتسبه من معرفة بأصول دين القوم وبما وقف عليه من نصوص كتبهم قد سلحه جيدا لخوض نزالات لا هوادة فيها انتصر فيها حق الإسلام على باطل التثليث والصلبان. فنحن نرى أن هذا الفقيه الجليل يشدد على وجوب تحصيل من يريد مجادلة القوم لمعرفة تامة بكتبهم ليتم له الإفحام والإلزام لأنهم يكابرون صريح المعقول.
وملاحظة المؤلف في محلها وقد أكدها من قبله بعض المهتدين للإسلام مشددين على أن أوكد الطرق لإفحام أهل الكتاب هو الاستلال عليهم بنص كتبهم. قال ذلك علي ابن ربن الطبري والسموأل المغربي وعبد الله الترجمان, وكذلك تجد أن أقدر المسلمين على جدل أهل الكتاب من جمع إلى معرفته بعلوم الإسلام الإطلاع على ما عند القوم من كتب.

وقد أحزنني أن أعلم أن من المسلمين اليوم من يستخف بفائدة مجادلة أهل الكتاب ويزعم أنه علم لا ينفع والجهل به لا يضر, وأنا أفسر رأيه هذا بالحكمة القائلة إن من جهل شيئا عاداه, فمن لا إطلاع له في هذا الميدان يتستر بتلك الأعذار ويا ليته سكت فلم يدم علما لا يحسنه بل تجده يغمز ويلمز من وقف نفسه على هذا الثغر الخطير وتراه يثنيه عن ذلك بدعوى أن عليه الاهتمام بما هو أفيد.
وكان الأجدر بهذا الناكص عن مناظرة القوم أن يعطي القوس باريها و لا يحجر على من له الأهلية للمناظرة.
وقد ضرب لنا محمد الأنصاري مؤلف رسالة السائل والمجيب أروع الأمثلة على عزة المسلم وسط بلاد الروم حين يدافع عن دينه باللسان.

ولعل بعض القراء قد اشتاق للإطلاع على طرف من تلك المناظرات.


فمن أحب الإطلاع عليها فل يعلمني بذلك لأقوم بنشر ما تيسر منها على الملتقى.


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
 
المجلس الخامس في مدينة شقوبية في دار رئيس كتبة الملِك وحاجبه

المجلس الخامس في مدينة شقوبية في دار رئيس كتبة الملِك وحاجبه

المجلس الخامس
وكان في مدينة شقوبية في دار رئيس كتبة الملِك وحاجبه، وهو الذي تقدم ذكره في أول الفصول. تولى هذا المجادلة هو بنفسه، وذلك أني جئت منزله يوم عيدهم لبعض الحوائج الضرورية، فألفيته على مائدة الأكل، وقد أضاف جماعة من الأساقفة والرهبان، فألفيتهم قاعدين معه على الطعام. وكان من عادتي معهم أن كانوا قد أمروا حُجَّـابهم ألا يمنعوني متى أردت الدخول من ليل أو نهار، إذ كنت أتولى الكلام عن جميع أشياخ المسلمين وقوادهم الذين كانوا هناك.
فلما قضيت منه حاجتي، قال وقد داخله السرور بأريحية الخمر: "إني سائلك عن أشياء في دينك، وطالب جوابك عليها. أول ذلك أن تفسر لي فاتحة كتابكم بلساننا حتى يسمع [جميع] من بحضرني من الأساقفة". ففسرتها له كلمة كلمة، فلما أتممتها [له] ، قال جميع الحاضرين: "ما أحسن هذا الكلام".
فقال اللعين: "ما أحسنه لو استند إلى أصل!".
فلما تكلم بهذا الكفر، هممت بمجاوبته، فقال: "مهلاً عليك إلى أن أتم كلامي ومسائلتي إياك، وحينئذ إن كانت لك حجة فادْل بها، أو جواب قاطع، فلا تقصر فيه ولا تراعي منزلتي من المَلِك، ولا يحملنك خوف ولا توقير على ترك إظهار حقك، فقد أبحت لك التكلم والاحتجاج بما أمكنك، لكن بشيء يجري على القوانين العقلية والنقلية، ولا عتب عليك ولا روع. فالتزم الإنصاف، واجتنب الحشو من الكلام، وتَـوخ جادة الحجج القاطعة".
فقلت: "سأفعل إن شاء الله تعالى". فقال: إن الدين كله واحد، أعني دين اليهود و[دين] النصارى، لا اختلاف فيه كما يظن من لم يحصل عنده تحقيق. وذلك أن مَثـل موسى وعيسى كرجلين زرع أحدهما زرعاً، وقام عليه حتى راع وزكا، ثم تركه، وهذا مَثل موسى ودين اليهود. ثم جاء عيسى بعد ذلك، فقام على ذلك الزرع حتى حصده ودرسه، وصنع منه طعاماً. فالطعام هو دين النصرانية، وأصل الزرع [هو] دين اليهودية ، وهما شيء واحد، لأن الفرع مع أصله شيء واحد. وسيدنا المسيح عليه السلام لم يجئ بدين آخر، بل جاء متمِّماً للتوراة، ومصدِّقاً لها ولِما بين يديها من جميع كتب الأنبياء عليهم السلام. فأَحلَّ حلالها، وحرَّم حرامها، وآمن به من سبقت له السعادة من بني إسرائيل، وهم الحواريون. وكانوا سبعين رجلاً، أقربهم منزلة لديه اثنا عشر [رجلاً] منهم . وكفر به أحبار بني إسرائيل وأهل الرئاسة منهم، للشقاوة التي كتبها الله عليهم في سابق علمه. ومن فضل المسيح أن ولادته كانت معجزة، ثم تكلم في المهد ، وأحيى الموتى، وأبرأ المرضى، حسبما يصف ذلك كتابكم . ثم كان من قصة صَـلبه واقتحامه المشقات ما كان، وقد نطق كتابكم بصدق كتابنا الإنجيل. وأنتم متفقون على أنا أهل كتاب، ومن كان ذا كتاب فمن اللازم أن يكون ذا دين، فهذه قواعدنا ثابثة في النقل، معروفة عندكم.
وأما دينكم، فمن أين جاءكم؟ ومن شهد لكم بصحته [من الأمم] كما تشهدون أنتم بصحة التوراة والإنجيل ؟، ونحن واليهود منكرون لكتابكم رأساً. فأتِني بدليل قاطع، على صحة نبُوة نبيكم، من كتاب نبي غيره، أو تفسير عالم من غير ملتكم، وأنا زعيم بتصديق كل ما جئتني به مما ذكرت [لك] من الدلائل القاطعة المستندة إلى كتب الأنبياء.
فجاوب الآن على قدر استطاعتك، واتساع باعك في ذلك، وجميع الحاضرين شهداء بيني وبينك، وهم الحاكمون علينا، بما يرونه صواباً من غير حيف ولا مراعاة جهة. فتكلم الآن بما أمكنك وأوجِز، فإنك تعلم ما ينوبني من الأشغال السلطانية التي قد استغرقت الوقت.
فلما أذن [لي] في الكلام، قلت: أقدم لك شيئاً بين يدي الجواب، لأن في نفسي منه شيئاً، وهو مما تكلمت به. أشهِدك أني قد عزلت حكامك الذين حكمت بيني وبينك، لأنهم في الحقيقة خصماء، والخصم لا يكون حكَماً على خصمه، ولا حاكم بيني وبينك إلا البرهان العقلي والدليل النقلي.

فأما ضرب مثالك للدين بموسى وعيسى عليهما السلام، وأنهما كرجلين زَرَعا زرْعاً، زرعه أحدهما وجنى ثمرته الآخر، فهذا مثال مردود في العقل، فاسد في القياس، إذ يلزم منه أن دين موسى غير تام، إذ لا ثمرة له، لأنك جعلت ثمرته موقوفة على بعثة المسيح، فهو تصريح بفساد دين موسى، إذ لا ثمرة له عندك. وما لا ثمرة له، فهو كالمعدوم، لأن المعدوم شرعاً، كالمعدوم حِساً.
ومن فساد هذا التمثيل أيضاً نسبتك العبث فيه إلى الله تعالى، كونه تعبَّد كليمه موسى وبني إسرائيل بدين لا ثمرة له، إذ جعلت ثمرته موقوفة على بعثة المسيح كما تقدم. فقد أبطلت دين موسى من حيث أثبته. ولو سلمت لك هذا القول تسليم جدل لأجبتك بأن الزرع الذي ذكرت، أضاعه فلاحون السوء، وجعلوه نصباً للآفات، إلى أن أباح رب الأرض أرضه خير زارع وأشرف فلاح. فقدروا قدره، وقاموا على حفظه حتى جنوا من ثمراته ما لم يزالوا هم وعقبهم شاكرين رب الأرض على ذلك. فأورثهم أرض شرار الفلاحين وجناتهم، وأحب البقاع إليهم، وهذا مثال أهل الإسلام، والحمد لله.
وأما قولك: إن الدين كله واحد، تعني دين اليهود ودينكم فشيء اشتد له عجبي، إذ مثلك يقول هذا القول، وأنت تعلم أن ما مِن أمَّتين من الأمم بينهما من التنافر والتضاد ما بين اليهود والنصارى، إذ اليهود [إلى] الآن، لا يعمرون أنديتهم إلا بالضحك منكم ومن دينكم، مع ما ينسبون إليكم من الجهل والسفه العظيم. ومن العجب أيضاً دعواكم اتباع التوراة، وفيها تحريم الشحم والميتة والدّم ولحم الخنزير [ولحم الجمل] وأنواع [من] الحيتان إلى غير ذلك من محرماتها، وأنتم قد أرسلتم على ذلك أدراسكم. وفيها تعظيم يوم السبت، وتحريم العمل فيه ، فجعلتم عوضاً منه يوم الأحد.
وفيها في باب القصاص: "النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن، والسن بالسن"، وفي إنجيلكم بعكس ذلك كله. من ذلك: "إذا لطم أخوك خدك الأيمن، فانصب له الأيسر"، "وإذا ظلمك فاعف عنه" إلى غير ذلك من نصوص الإنجيل في ترك القصاص.
وفي التوراة أيضاً: "من كره امرأته فليكتب لها بالطلاق" ، وفي إنجيلكم: "من طلق امرأته فقد عرضها للزنى" ، فجعلتم الطلاق محرماً. فيا ليت شعري! في أي شيء اتبعتم التوراة؟
وأما دعواكم إتباع المسيح عليه السلام، فدعوى تشهد أفعالكم بتكذيبها، و إلا فأخبرني فيم اتبعتموه؟ فها أنتم هؤلاء اتفقتم أن المسيح كان مختوناً وأنتم غُرْل مغلفون. وعلمتم أيضاً أن المسيح كان يشرب الماء بيديه من الزهد، وأنتم تأكلون وتشربون في أواني الذهب والفضة بَطَراً وتَجَـبُّـراً.
وحرَّمتم اللحم في يوم الجمعة والسبت، وأكله المسيح وحواريه فيهما. واتخذتم النواقس، ولم يدر المسيح ما الناقوس. واتخذتم الأصنام في الكنائس، ولو رآها المسيح لأحرقها بالنار ومتخذيها. وقلتم فيه إنه ابن الله، والمحفوظ عنه الاقرار بالعبودية، والمسكنة والضعف. يكفيك من ذلك زهده، وشدة اجتهاده في العبادة. فيا ليت شعري! من كان المسيح يعبد؟ أتراه كان يعبد نفسه أو أباه كما يلزمكم من قولكم أنه الله، تعالى الله عن قولكم.
ولا أدري بأي مخالفتكم له أحاجيك إذ لم توافقوه في جزء واحد، صلاتكم خنوع للصليب وخضوع للأصنام، وعمدتها أشنع من كل شنيع. وهي اعتقادكم في رغيف من الخبز أنه جسم الله ، وشربة من الخمر يتناولها أسقفكم تزعمون أنها دم الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فانظر إلى هذه المتابعة، ما أوضح بطلانها! أما إن المسيح ليتبرأ مما ينسبون إليه من العظائم، وسيقتل خنزيركم، ويكسر صليبكم، ويذَركم وما تعبدون من دون الله .
وما أبين كذب دعوى أمة تزعم الاقتداء بنبي، وهي مخالفة له في الأصول والفروع، والاعتقادات والعبادات والعادات.
ومن المعلوم أن الفائدة في إرسال الرسل إلى الخلق هي التعريف بالله [عز وجل] ، والأمر بتوحيده، وتلقين الاعتقادات، وتبيين ضروب العبادات. ولو لم يبين الرسول للناس ما يعتقدون، وكيف يعبدون، لكان إرساله عبثاً يستحيل على الحكيم العليم.
وهذا أصل دينكم، وفرعه معلوم معروف هل تعلمون للمسيح فيه نصاً تعتمدون عليه، أو فعلاً تصمدون إليه. وإلا فأنت أكبر علماء دينك إذا سئلت عن نصٍّ للمسيح في القول بالآب والإبن والاتحاد والحلول، هل تجده؟ أما إنه لا يمكنك القول به؟
ثم إذا سئلت عن عبادته وعادته ، هل هي موافقة لما أنتم عليه اليوم أم لا؟ ماذا تقول؟ أما إن المنصوص ليضطرك إلى القول بأن جميع ما أنتم عليه، مخالف لما كان عليه. فصح أن دعواكم اتباعَه خطأ عظيم. وإن لم تشهد بصدق مقالتي، فكذبني بنصٍّ واحد للمسيح، يشهد بصحة ما أنتم قائلون، وصواب ما أنتم معتقدون.
وأما قولك: إن كتابنا يشهد أنكم أهل كتاب، ومن كان له كتاب فيجب أن يكون له دين. فاعلم أن الله تعالى مولانا أخبرنا في كتابه، على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنكم وعن جميع الأمم السالفة، من لدن آدم إلى بعثة نبينا. وزيادة أنه أعلمنا بأمور من الغيب لم تكن بعد بل هي كائنة، ولكن إخباره تعالى عن وجودكم ووجود اليهود.
وصدق التوراة والإنجيل في نفس الأمر، لا يستلزم صدقكم ولا صدق اليهود. بل أخبرنا تعالى بكفركم وافترائكم عليه، فقال عز من قائل: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثةٍٍَ" . ولا ريب أن هذه صفتكم وسمتكم، لا يشارككم فيها أحد [من الأمم] .
وكذلك أخبرنا في غير ما موضع من كتابه عن كفر اليهود بقوله تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيئِينَ يِغَيْرِ الْحَقِّ" ، وقوله تعالى: "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً" .
وأخبرنا أيضاً عنهم أنه قد سخط عليهم وفي العذاب هم خالدون ، وهل في الكفر من هو أسوأ حالاً ممن هذه حاله، والعياذ بالله؟ فتبين بما قلناه أن التوراة لم تنفع اليهود، كما لم ينفعكم الإنجيل. فكيف تستدل بصحة الكتب على صحة ما أنتم عليه، وهي حجة عليكم لا لكم؟ بل [أنتم] أسوأ حالاً ممن لم يبلغه كتاب، إذ لا حجة لكم عند الله بعد إطلاعكم على الحق وجحدكم له. على أنَّا لا ننكر حق من آمن من بني إسرائيل بنبي زمانه، ولم يقع في شتم نبي كقوم موسى، ومن آمن بداوود وسليمان وسائر أنبياء بني إسرائيل، فقد كان فيهم الصالحون والعُبّاد والزّهاد، بل إن الذي آمن منهم بنبيه، وحفظ شريعته على ما أمر به، ثم أظله زمان نبي آخر فآمن به له أجران.
هذا كله إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، ووجب ببعثته على جميع الأمم الدخول في ملته. فمن سمع به من سائر الملل، فاستمسك بدينه، ولم يدخل في ملة هذا النبي الكريم، فهو من أصحاب النار، لأنه قد أقام على شيء ارتفع حكمه، ونسخ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما طلبك الدليل على صحة ديننا، وصدق رسالة نبينا، فلعمري إنكم لتعلمون صحة ذلك كما تعلمون صحة وجودكم لو صحبكم التوفيق السابق في الأزل، ولكن "مَنْ يُضْلِل الله فَلاَ هَادِيَ لَـهُ" .

فصل يذكر فيه [ما بشرت به] صحف الأنبياء ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأول ذلك في نص الإنجيل عن المسيح من رواية لوقش ، يقول [فيه] : "إني ذاهب عنكم، وإنه سيأتي بعدي البارقليط المبارك، ولا ينطق إلا بالحق، ولا يقول شيئاً من نفسه، وإنه يتكلم بما يوحى إليه ويؤمر به، وأنا قد جئتكم بالأمثال، وهو يجيئكم بالشرح والبيان" .

وفي فصل آخر منه يقول فيه في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: "إنه ينقذ من الضلالة، ويهدي من الجهالة، ويفتح الأعين العور والآذان الصم، لا يصخب ولا يمزح في الأسواق، ولا يغلب ولا يتكلم إلا بالحق والحِكم" . فيا ليت شعري! من هذا الرسول الذي بشر المسيح أنه يأتي بعده ، وهذه أوصافه. أخبرني من هو، أمَا أن هذا النص الصريح لم يترك لكم متعلقاً.
وفي فصل من التوراة، حيث بشر الله خليله إبراهيم، أنه استجاب دعوته في ابنه إسماعيل، وأنه سيكون من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال له: "قد أجبت دعوتك في إسماعيل، وسأبارك فيه، وأكثِّره وأنمِّيه جداً جداً ، وسيضع فسطاطه في بلاد إخوته" . وإخوة إسماعيل بنو إسرائيل، وبلادهم مصر والشام. ومعلوم أنه لم تكثر ذرية إسماعيل، ولا ظهرت البركة فيها إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وضع فسطاطه في بلادهم، واكتسب العز والسلطان الأبدي، رهطه ذرية إسماعيل. ونقل الله النبوة والسلطان من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل، بهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ولهذه الحكمة، أسكنه الله وأمه مكة لأن يورث فيها خير الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم.
وفي فصل من التوراة أيضاً، يقول الله لموسى: "سيقوم نبي من إخوان بني إسرائيل، وهو نبي مثلك، أجعل فيه خطابي، ويتكلم بجميع ما أمر به" . فصل وفي صحف أشعياء عليه السلام، يقول له: "هذا عبدي أمسك فيه مصطفاي وفخاري، أحببته لجلالتي. لا ينطق حتى يجعل في الأرض ديناً، ولشريعته جميع الأمم منتظرون" .
فيا ليت شعري! من هذا النبي الذي بشر به أشعياء، اسمه المصطفى؟، أو لمن كانت الأمم تنتظر؟ أو لم يعلم بعد أشعياء نبياً غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي صحف دانيال، يقول: "رأيت بسحاب السماء ابن آدم طالعاً حتى وصل إلى الرب، وبين يديه تقرب" ، ثم قال في نص بعد هذا: "ولمحمد تُعطى العزة والمملكة، وكثرة الأمم والشعوب والألسن كلها راجعة إليه. دينه ثابت لا يزال، ورئاسة أمته لا تحول" . أما إن هذا تصريح بالإسراء، حيث قال: "طالعاً بسحاب السماء"، وإثبات لجميع أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي صحف أرمياء، يقول الله له فيها في وصف محمد عليه السلام : "تكون الجلالة منه، والاقتحام من صميم فؤاده، وأقرِّبه وأدنيه إلي، ومَن الذي يطيق التقرب إلي، يقول: هذا الرب جل وتعالى" . ومن المقطوع به أن الجلالة والرفعة، والوصول إلى العرش لم يكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
فصل ومن كلام عزير حين تكلم على خاتمة التوراة يقول أن خاتم النبيئين وسيد المرسلين يبعث في آخر الزمان، ونص ذلك عن الله: "إني باعث رسولي، ينقي الطريق بين يدي، وفي غفلة يأتي إلى مكة السيد الذي أنتم له يا أنبياء طالبون، ورسول العهد الذي أنتم له محبون، ها هو ذا يأتي" .

وفي صحف حبقوق، يقول الله له: "قم فانظر وأخبر بما ترى. فقال: إني أرى رجلين، أحدهما راكب على جمل، والآخر راكب على حمار. وبيد الراكب على الجمل قضيب يشير به على أصنام بابل فتسقط" .
والاتفاق واقع منا ومنكم أن صاحب الجمل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحب الحمار عيسى عليه السلام. ومعلوم عند جميع الأمم أن أصنام بابل لم تسقط إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
فهل عندك مطعن في هذه النصوص، أو مدفع أو تجد عنها محيداً، إلا أن تأولوها بتأويلاتكم الهذبانـيـة السخيفة، التي لا تقوم على ساق لبعدها وركاكتها.
فقال وقد التفت إلى جلسائه الأساقفة: "كيف رأيتم جوابه؟".
فقالوا له: "أدام الله عزك، ما أرانا إلا أردنا أن نُنَصِّرَهُ، فكاد يقودنا إلى دينه".
فضحك اللعين، وقال: "لعمري إنه لكذلك! ولقد أجاب فأطنب"، ثم التفت إلي وقال لي: "ما أنكرت شيئاً من جوابك، إذ هو جار على نسق السؤال، ولا بد من إجابتك عليه في مجلس غير هذا إن شاء الله، لأن هذا أوان ركوبي إلى الملك، والموعد بيني وبينك يوم الأحد الأقرب، لأني أتفرغ فيه عن الأشغال".
فيسر الله هروبي في أثناء هذه المدة، فكان آخر العهد به، فلله أتم الحمد، وأكمل الشكر على الخلاص من بلادهم الكافرية والامتنان ببلاد الإسلام، ولوجهه عميم الشكر كما هو أهله، لا إله إلا هو الرءوف الرحيم.
 
المجلس الرابع
ببلد [وليد] أعادها الله للإسلام.
كان هذا المجلس بدار رئيس الكتبة مع أسقف ذي حدة وجدل، جلس إلي وجعل يستدرجني للسؤال عن صلاة المسلمين وصيامهم وحجهم، وقد فهمت غرضه فأخبرته بذلك على جهة الاختصار.
من ذلك أنه قال: "ما كيفية صلاتكم؟".
قلت: "هي على هيئة صلاة الأنبياء عليهم السلام وصلاة الملائكة، من الركوع والسجود والخضوع ووضع الجبهة بالأرض ، وهي أشرف الأعضاء، والقيام للصلاة صفوفاً كما تصطف الملائكة، ولم تفعل ذلك أمة غير هذه الأمة، ولا نقرب الصلاة إلا بطهارة الأجسام، وطهارة الثياب، وطهارة البقاع. فإنما أمِرنا أن نُنزِّه مساجدنا عن النجاسات" .
قال: "فهلا اكتفيتم بطهارة القلوب".
قلت: "وطهارة [القلوب ] مأمورة[في ديننا أكيد فعل جزم طلب و] زيادة ما ذكرت لك من الطهارة، لأن المصلي في ديننا يناجي ربه، فأمِر أن يكون على أكمل الحالات وأنظفها".
قال: "فإنا لا نرى شيئاً مما ذكرت عدا طهارة القلوب عن الأوصاف الذميمة، فإن الله لا ينظر من بني آدم إلا إلى قلوبهم".
قلت: قد قلت لك إنا قد أمِرنا بذلك، وقد[ع: 312] قال نبينا عليه السلام في هذا الفن: "إن الله لا ينظر إلى حسن صوركم ولباسكم، ولكنه ينظر إلى ما في قلوبكم" ، ولو فهمتم عن الله لوجدتم الطهارة الحسية.
وكفاكم في ذلك ما تعلمونه من قصة موسى عليه السلام، حيث أمره الله أن ينزع نعليه بالواد المقدس ، سبب ذلك عند كافة العلماء أنها كانت من جلد غير طاهر. هذا في المنصوص، وأما في العرف, فلو أن رجلاً دخل على الملِك وثيابه وسخة لاستقذره و[م:136] استجفاه [واستقصاه] ، فكيف بمن يناجي رب العالمين، "ولله المَثَـل الأعلى" . ولتعلم أنَّـا لسنا ممن يجيز أن يكون بيت صلاته كنيفاً ومحلاًّ للقاذورات.
قال: "كأنك تُعَرِّضُ بي".
قلت: "أن يكون هذا عندكم".
قال: "إنه قد يقع ذلك من بعض جهالنا وصبياننا وسفهائنا".
قلت: "فإن إقراركم لهم عليه من غير أن تأخذوا على أيديهم رضاً منكم بفعله، واتفاق على جوازه".
فطأطأ رأسه فقال: "صف لي كيفية صيامكم".
قلت: "هو الإمساك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، عن كل ما يصل إلى الحلق من جميع المنافذ، وعن الجماع، وعن استدعاء الإنزال بأي وجه كان، ووقته [وقت] شهر رمضان".
قال: "فإن صيامنا خمسة وأربعون يوماً".
قلت: "فكيف يجب عليكم، أ مَرَّة في العمر أم أكثر؟".
قال: "كأنك لم ترنا بين أظهرنا منذ زمان وأنت تشاهدنا نصومه في كل عام".
قلت: "فإني لم أر لكم صياماً منذ إقامتي فيكم، بل رأيتكم تأكلون على ما جرت به عادتكم أكلة هائلة في نصف النهار، ومن أراد الأكل منكم باليل فإنه يأكل من المعاجن ما شاء بقدر معلوم عندكم من الخبز، ومن اشتهى الشرب منكم شرب متى أحب من ليل أو نهار، فما كنت أظن أن مثل هذا يعد صياماً".
قال: "فإن هذا صيام المسيح وصيام حواريه".
قلت: "من أعلمكم أن هذا كان صيام المسيح مع اضطرابكم في جميع أموره، واختلاف اليهود مضليكم في أمره، واضطراب أقوالهم في صلبه، فمن أخبارهم من أثبته، ومنهم من أنكره، وهم منكرون لدينكم جملة وتفصيلاً، وكل ما بيدكم في قصة المسيح إملاء من أحبارهم المسؤولين من قسطنطينكم بعد موت المسيح ببرهة من الزمان، فأنت تعلم من يأخذ دينه تقليداً من أعدائه المنكرين له ولدينه المـ(فراغ) به".
قال: "أما أنك قد غلوت في الرد والنيل من ديننا، وأثنيت على دينك، وبالغت في إطراء صلاتكم وشريعتكم، ولا ينفعكم من ذلك شيء إلا أن تؤمنوا بالمسيح أنه ابن الله".
قلت: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" ، على أني أطالبك في شيء، فإن جئت به صحيحاً في النقل فأنا أول الشاهدين على صحة دينك".
قال: "ما هو؟".
قلت: "أن تأتي بنص من التوراة والإنجيل من كلام المسيح عليه السلام، يقول فيه أنه الله أو ابن الله".
قال: "إنه ربما سيوجد ذلك".
قلت: "فهلُمّه".
وكان قد دار بنا (313)/ جماعة من الرهبان والعامة، فقال له الرهبان: "هذا شيء لا يوجد في كتاب من كتبنا ، إذ لم يُحفَظ قط عن المسيح شيء من ذلك إلا كلاماً فيه احتمال ضعيف، الإنكار فيه أظهر من الاثبات، وهو أن أحد الحواريين سأله المسيح: "ما يقول الناس في؟"، فقال: "يا روح الله! منهم من يقول إنه ساحر، ومنهم من يقول إنه كاذب. (فراغ) : " وأنت، ما عندك في أمري؟". قال: "عندي أنك ابن الله"، فقال له المسيح: "أنت قلتها" .
هذا أكثر ما يوجد عندنا، والإنكار أظهر فيه من الاقرار، وأنه يوجد في ذلك نصّ صريح فلا".
فقال لي الأسقف عند ذلك: "من أين علمت أنه لا يوجد نص في كتابنا للمسيح يقول فيه أنه ابن الله؟".
قلت: "لأني رأيت من كتبكم جل ما تتعاطونها، وأيضاً فإن مثل هذه المقالة الشنعاء تستحيل على المسيح عليه السلام، إذ هو نبي معصوم، ولا يمكن بل ولا يجوز أن يتكلم بهذا القول العظيم الذي أحوجتموه إلى إنكاره، والاعتذار منه عند الله، وإنكم لتحسبونه هيِّناً وهو عند الله عظيم. وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه أنه سائله عنه يوم القيامة ليكون أبلغ في توبيخكم وتكذيبكم، وإقراركم بحضرة الخصم.

فنسأل الله العظيم أن يعصمنا من الخذلان والضلال، وأن لا يجعل للشيطان علينا سبيلاً".
ثم انفصلت عنه وهو أشهى ما كان لمحاورتي والخوض فيما كان بسبيله، وكان خنقه أشد على الرهبان من كونهم ردوا عليه ما كان ينتحله ويزعمه.
 
عودة
أعلى