رسالة ابن فارس لأحد أصحابه – طريفة مفيدة ممتعة

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,144
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
الموقع الالكتروني
www.tafsir.net
قال الإمام الثعالبي في كتابه النفيس في تراجم الشعراء (يتيمة الدهر) , في ترجمته لابن فارس اللغوي رحمه الله :

( وأنا أكتب من رسالة لأبي الحسين –ابن فارس- كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب , فصلاً في نهاية الملاحة , يناسب كتابي هذا في محاسن أهل العصر، ويتضمن أنموذجاً من ملح شعراء الجبل وغيرها من العصريين وظرف أخبارهم .. والفصل من الرسالة المذكورة :

ألهمك الله الرشاد ، وأصحبك السداد ، وجنبك الخلاف ، وحبب إليك الإنصاف .
وسبب دعائي بهذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامك ذلك ، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده ، ويرد المنهل الذي يَؤُمُّه ، لاستدرك من جيد الشعر ونَقِّيِّه , ومُختَاره ورَضِّيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول ، فماذا الإنكار ؟ ولِمَه هذا الاعتراض ؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادَّة المتقدم ؟
ولِمَه تأخذ بقول من قال : ما ترك الأول للآخِر شيئاً . وتدع قول الآخَر : كم ترك الأول للآخِر ؟ وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمان منها رجال ؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول ؟
ومن قصر الآداب على زمان معلوم ، ووقفها على وقت محدود ؟ ولِمَه لا ينظر الآخِر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه , ويجمع مثل جمعه ، ويرى في كل ذلك مثل رأيه ؟
ما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم ؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً , ولكل خاطر نتيجة ؟
ولِمَه جاز أن يُقَال بعد أبي تمام مثل شعره , ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه(*)؟
ولِمَه حجرت واسعاً ، وحظرت مباحاً ، وحرمت حلالاً ، وسددت طريقاً مسلوكاً ؟ وهل حبيبُ إلا واحدٌ من المسلمين ؛ له ما لهم وعليه ما عليهم ؟ ولم جاز أن يُعارَض الفقهاء في مؤلفاتهم ، وأهل النحو في مصنفاتهم ، والنُّظَّار في موضوعاتهم ، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم ، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شَذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمرٌ لا يُدرَك ولا يُدرَى قدره ؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علمٌ كثير ، ولذهب أدبٌ غزير ، ولضَلَّت أفهامٌ ثاقبة ، ولكَلَّت ألسنٌ لَسِنَة ، ولما تَوَشَّى أحد الخطابة ، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة ، ولَمَجَّت الأسماعُ كلَّ مُرَدَّد مُكّرَّر ، وللفظت القلوب كل مُرَجَّعٍ مُمَضَّغ ، وحتَّامَ لا يُسأَمُ :
[align=center]لو كنت من زمان لم تستبح إبلي[/align]
وإلى متى :
[align=center]صفحنا عن بني ذهل[/align]
ولِمَه أنكرت على العجلي معروفاً ، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً وإيطاءً وإقواءً ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها .. إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة ، وأمور عليلة ، ولِمَه رضيت لنا بغير الرضى ؟
وهَلَّا حثثت على إثارة ما غيبته الدهور ، وتجديد ما أخلقته الأيام ، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر ، وأفكار هذا العصر ؟
على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه ، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله ، من جد يروعك ، وهزل يروقك ، واستنباط يعجبك ، ومزاح يلهيك .
وكان بقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني , حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول , فأحَسَّ أبو حامد بجودةِ أكله ، فقال :
[align=center]وصاحب لي بطنُه كالهاويهْ ... كأن في أمعائه معاويهْ[/align]
فانظر إلى وجازة هذا اللفظ ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية ، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عارٌ على مثبته ؟ أو في تدوينه وصمة على مدونيه ؟
وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني ، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق وقميص شديد البياض وخفُّه أحمر ، وهو مع ذلك كله قصير ، على برذون أبلق هزيل الخَلق , طويل الحَلق ، فقال حين نظر إليه :
[align=center]وحاكمٍ جاء على أبلقٍ ... كعقعقٍ جاء على لقلق[/align]
فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل ، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار :
[align=center]كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه[/align]
فما تقول لهذا ؟ وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده ؟
وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل , لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني -وهو اليوم حي يرزق- وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه :
[align=center]وُقِيتَ الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكا المرضَ المجدُ لما مرض ... ت فلما نهضت سليماً أبَل
لك الذنب لا عُتبَ إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السَّفَل
طعامٌ يُسوَّى ببتع النبيذ ... ويُصلحُ من خِدرِ ذاكَ العمل[/align]
وأنشدني له في شاعر -هو اليوم هناك- يعرف بابن عمرو الأسدي ، وقد رأيته فرأيت صفةً وافقت الموصوف :
[align=center]وأصفر اللون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غيرُ ثقة
كأنه مالك الحزين إذا ... هم برزق وقد لوى عنقه
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعرٍ أقوله صدقه[/align]
وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه من أهل قزوين , ويعرف بابن المنادى:
[align=center]إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظره الأنيقُ
له لطفُ وليس لديه عرفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تُريقُ
فما يخشى العدوُّ له وعيداً ... كما بالوعد لا يثق الصديقُ[/align]
وليوسف محاسن كثيرة ، وهو القائل -ولعلك سمعت به- :
[align=center]حجُّ مثلي زيارَةُ الخمَّار ... واقتنائي العقارَ شربُ العُقار
ووقاري إذا توقَّر ذو الشي ... بة وسطَ النَّديِّ تركُ الوقار
ما أبالي إذا المُدامَةُ دامت ... عذلُ ناهٍ ولا شناعةُ جارِ
رُبَّ ليلٍ كأنه فرعُ ليلى ... ما به كوكبٌ يلوح لساري
قد طويناه فوق خَشْفٍ كحيلٍ ... أحور الطرف فاترٍ سَحَّار
وعكفنا على المُدامَة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري[/align]
وهي مليحة كما ترى ، وفي ذكرها كلها تطويل ، والإيجاز أمثل ، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأساً .
ومَدَحَ رجلٌ بعضَ أمراء البصرة ثم قال بعد ذلك -وقد رأى توانيا في أمره- قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً :
[align=center]جَوَّدتَ شعرك في الأم ... ير فكيف أمرك ؟ قلت فاتِر[/align]
فكيف تقول لهذا ؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه ؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام ؟ وأنت الذي أنشدتني :
[align=center]سد الطريق على الزما ... ن وقام في وجه القطوب[/align]
كما أنشدتني لبعض شعراء الموصل :
[align=center]فديتُك ما شبت عن كبرةٍ ... وهذي سِنِيَّ وهذا الحساب
ولكن هُجرتُ فحلَّ المشيبُ ... ولو قد وُصِلتُ لعاد الشباب[/align]
فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر ؟
وأنشدني عبد الله المغلسي المراغي لنفسه :
[align=center]غداة تولَّت عيسُهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مقلتي أدَّت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ[/align]
وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمتُ ذكره , -وهو اليوم حتى يرزق- :
[align=center]زارني في الدجى فنمَّ عليه ... طِيبُ أردانه لدى الرُّقباءِ
والثريا كأنها كفُّ خُودٍ ... أُبْرِزت من غلالةٍ زرقاء[/align]

وسمعت أبا الحسين السروجي يقول : كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر ، فقال فيه صديق لي :
[align=center]أقول لنعمان وقد ساق طِبُّهُ ... نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضنا ... حنانيكَ بعض الشرِّ أهون من بعضِ[/align]

[line][/line]
(*) : يقصد حماسة أبي تمام .
 
عودة
أعلى