رسالة ابن طفيل الأندلسي وقصيدته في أمر المصحف العثماني

إنضم
07/12/2007
المشاركات
120
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
لقد كان من السنن الحميدة للكتاب والأدباء أن يخلدوا الأحداث الجسيمة والمآثر العظيمة التي ييتهج بها المسلمون، حتى تبقى تلك الأحداث ماثلةً على مر الأزمان، ويشارك الكتاب فيها على الأقل بالبديع والبيان، ومن أبرز الأمثلة على ذلك رسالة "الفيح القُسِّي في الفتح القدسي"، التي حبرها الأديب الجليل الكاتب أبو عبد الله محمد بن حامد بن عبد الله بن علي المعروف بالعماد الأصبهاني ( ت:597هـ )، كتبها احتفاءً بيوم من أيام الإسلام العظيمة، حين أعاد الناصر صلاح الدين رحمه الله فتح بيت المقدس، وردها تحت راية الإسلام.
وهذه الرسالة التي بين أيدينا الآن تندرج في هذا المسلك، حيث إنها كتبت تخليداً لحادثة عظيمة، هي دخول المصحف العثماني إلى المغرب في بداية عهد الموحدين، في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أميرهم عبد المؤمن بن علي ( ت: 558 هـ )، وقد احتفوا به احتفاءً منقطع النظير، يحاول الكاتب أن يصف بعضاً منه، مستخدما كل براعته في النثر والنظم، حتى يعطي الحدث ما يستحقه من التعظيم.
كاتب الرسالة هو الوزير أبو بحر محمد بن عبد الملك بن طفيل، الفيلسوف المشهور، صاحب رسالة " حي بن يقظان"، توفي بمراكش سنة ( 581 هـ )، وهو شاعر وناثر وعالم كبير، وممن تأثروا بأقوال الفلاسفة، ويظهر ذلك من رسالته المشار إليها، غير أن المراكشي في "المعجب" يقول عنه : (وكان قد صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونبذ ما سواه، وكان حريصاً على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظماً لأمر النبوات ظاهراً وباطنا ). فلعله يكون قد رجع عن ذلك.
وبغض النظر عن الكاتب وعن الموحدين، وعن ما في الرسالة من ملاحظات، فإنها تحتفظ بقيمة كبيرة، نظراً لموضوعها البالغ الأهمية.
ومن الرسالة يتضح أن المصحف العثماني قد صنع له قالب من السندس الأخضر وفوقه قالب آخر من الذهب والفضة واليواقيت، يوضع على حمالة مصحف أيضا مصنوعة من أجود أنواع الخشب، منقوشة بمختلف الزخارف، وتوضع فوق كرسي مخصص لها، ويوضع الكل في داخل صندوق كبير منقوش أيضا ومزخرف، له دفتان، ويتم فتحه بمفتاح خاص، بمجرد إدارته فيه تنفتح الدفتان إلى الخلف، وينسحب الكرسي إلى الخارج حاملا المصحف، من دون الحاجة إلى لمسه بالأيدي، ويغلق أيضا بالطريقة نفسها. ولا شك أنها طريقة رائعة لحفظ المصحف الشريف من كثرة اللمس والتحريك، وما يترتب على ذلك من إضعاف رقوق المصحف وتعريضها للتلف، وفي داخل الصندوق أيضا موضع خاص وضع فيه مصحف المهدي بن تومرت، إمام الموحدين.

وفي ما يلي نص الرسالة، مع شيء من التنسيق وتشكيل ما يشكل، ووضع علامات الترقيم :

وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيّران، وأميراها المتخيَّران، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف، ومازال ينقله خلف عن سلف، قد حُفظ شخصُه على كثرة المتناولين، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس، وتَحَفَّظَه من أهل الأندلس الرائسُ والمرؤوس، فتلقّي عند وصوله بالإجلال والإعظام، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام، وعكف عليه أطول العكوف والـتُزِم أشدّ الالتزام، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبَرٌ لأولي الألباب، وبلاغ في الإغراب والإعجاب، وذلك أن سيّدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين، أدام الله له عوائد النصر والتمكين، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم، وحرّكته إليه دواعي خلقه العظيم، وتراءى مع نفسه المطمئنّة المرضيّة، وسجاياه الحسنة الرضيّة، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه، فأوصله الله إليه تحفةً سنية، وهديةً هنية، وتحيّة من عنده مباركة زكية، دون أن يكدرها من البشر اكتساب، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقّه، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقّه، ما اطُّلِعَ بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه، وعضدت مخايلَ برقه سواكبُ ودْقه، وكان ذلك من كرامات سيّدنا ومولانا الخليفة معدوداً، وإلى أمره - الذي هو أمر الله - مردوداً، وجُمِع عند ذلك بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - سائرُ الأبناء الكرام، والسادة الأعلام، بدور الآفاق، وكواكب الإشراق، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق،
فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيراً إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة، والتئام خطوطها على مركز الدائرة، ووصول المتقدّم ذكره، المشهور في جميع المعمور أمره، وهو هذا:​


دراريُّ من نور الهدى تتوقّد=مطالعُها فوق المجرّة أسعُد
وأنهار جودٍ كلّما أمسك الحيا=يمدّ بها طامي الغوارب مُزبِد
وآسادُ حربٍ غابُها شجر القنا=ولا لِبدةٌ إلاّ العجاج الملبّد
مساعيرُ في الهيجا مساريعُ للنّدى=بأيديهم يحمى الهجير ويبرد
تُشَبُّ بهم ناران: للحرب والقرى=ويجري بهم سيلان: جيشٌ وعسجد
ويستمطرون البرق والبرق عندهم=سيوفٌ على أفق العداة تجرّد
إذا عنّ سجفَ الساريات مضاؤها=فماذا الذي يغني الحديد المسرّد
ويسترشدون النجمَ، والنجمُ عندهم=نُصولٌ إلى حَبّ القلوب تسدّد
تَزاحَمُ في جوّ السّماء كأنّما=عواملُها في الأفْق صرحٌ مُمرّد
تَخازَرُ ألحاظُ الكواكب دونها=ويَفْرَق منها المِرزمانِ وفرقد
ألم ترها في الأفق خافقةَ الحشا=كما تطرفُ العينان والقلبُ يزْأد
وليس احمرارُ الفجر من أثر السّنا=ولكنّه ذاك النّجيع المورّد
وما انبسطت كفّ الثريّا فدافعت=ولكنّها في الحرب شلوٌ مقدّد
وحطّ سهيلاً ذُعرُه عن سميّه=فأضحى على أفق البسيطة يُرعَـد
ولمّا رأى نسرٌ وقوع أليفه=تطاير من خوفٍ فما زال يَجهد
مواقعُ أمر الله في كلّ حالةٍ=يكاد لها رأس الثرى يتَميّد
أهاب بأقصى الخافقين فنظّمت=وهيّب جمع المخفقين فبدّدوا
وأضفى على الدّنيا ملابس رحمةٍ=نضارتها في كلّ حين تَجَدّد
وأخضل أرجاء الرّبى فكأنّما=عليها من النّبت النضيرِ زَبَرْجَد
فمِن طربٍ ما أصبح البرق باسماً=ومن فرحٍ ما أضحت المزن تُرعِد
وغنّى على أفنان كل أراكةٍ=غذاها حيا النُّعمى حمامٌ مُغرِّد
وكبّر ذو نطقٍ وسبّح صامتٌ=وكاد به المعدوم يحيا ويوجد
وأبرز للأذهان ما كان غائباً=فسيّان فيها مطلقٌ ومقيّد
سلامٌ على المهديِّ، أمّا قضاؤه=فحتمٌ، وأمّا أمره فمؤكّد
إمام الورى عمّ البسطة عدله=على حين وجه الأرض بالجور أُبَّدُ[1]
بصيرٌ رأى الدّنيا بعينٍ جليةٍ=فلم يغنه إلا المقام الممجّد
ولمّا مضى والأمر لله وحده=وبُلّغَ مأمولٌ وأُنجِـز موعد
تردّى أمير المؤمنين رداءه=وقام بأمر الله والناس هجّد
بِعَزْمة شيحان الفؤاد مصمّمٍ=يقوم به أقصى الوجود ويقعد
مشيئتُه ما شاءه الله، إنّه=إذا همّ فالحكم الإلهيّ يُسعِد
كتائبه مشفوعةٌ بملائكٍ=ترادفها في كلّ حالٍ وتُرفِد
وما ذاك إلاّ نيّةٌ خلصت له=فليس له فيما سوى الله مقصد
إذا خطبت راياتُه وسْط محفلٍ=ترى قمم الأعداء في التّرب تسجد
وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفُه=أقرّ بأمر الله من كان يجحد
مُعيدُ علوم الدين بعد ارتفاعها=ومبدي علومٍ لم تكن قبل تعهد
وباسطُ أنوار الهداية في الورى=وقد ضمّ قرص الشمس في الغرب مَلحْد
وقد كان ضوء الشمس عند طلوعها=يُغَانُ بأكنان الضلال ويغمد
فما زال يجلو عن مطالعها الصّدا=ويبرزها بيضاء والجوّ أسود
جزى الله عن هذا الأنام خليفةً=به شربوا ماء الحياة فخُلّدوا
وحيّاه ما دامت محاسنُ ذكره=على مدرج الأيام تتلى وتنشَد
بمصحف عثمان الشهيد وجمعه=تبيّن أنّ الحقّ بالحقّ يعضَد
تحامته أيدي الروم بعد انتسافه=وقد كاد - لولا سعدُه - يتبدّد
فما هو إلاّ أن تَمرّسَ صارخٌ=بدعوته العليا فصين المبدّد
وجاء وليَّ الثأر يرغبُ نصرَه=فلبّاه منه عزمُه المتجرّد
رأى أثر المسفوح في صفحاته=فقام لأخذ الثأر منه مؤيّد
وشبّهه بالبدر وقت خسوفه=فلله تشبيهٌ له الشرع يشهد
زمانُ ارتفاع العلم كان خسوفَه=وقد عاد بالمهديّ والعود أحمد
أتتك أميرَ المؤمنين ألوكةٌ=من الحرم الأقصى لأمرك تَمهَد
سيوفُ بني عيلانَ قامت شهيرةً=لدعوتك العلياء تهدي وترشد
وطافت ببيت الله فاشتدّ شوقُه=إليك ولبّى منه حِجرٌ ومسجد
وحجّ إليك الركن والمروُ[2] والصّفا=فأنت لذاك الحجّ حجٌّ ومقصد
مشاعرُها الأجسام والروحُ أمركم=ومنكم لها يرضى البقاء المخلَّد
فلله حجٌّ واعتمارٌ وزَورةٌ=أتتنا ولم يبرحْك بالغرب مشهد
ولله سبعٌ نَـيّراتٌ تقارنت=بها فئة الإسلام تحمى وتسعد
فدم للورى غيثاً وعزّاً ورحمةً=فقربك في الدارين مُنجٍ ومُسعِد
وزادت بك الأعيادُ حسناً وبهجةً=كأنّك للأعياد زيٌّ مُجدَّد
ولا زلت الأيّام تُبلي جديدَها=وعمرُك في ريعانه ليس ينفد




ثم إنّهم أدام الله سبحانه تأييدهم، ووصل سعودهم، لِما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير، شرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وتأنقوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصْوِنته، فحشروا له الصّنّاع المتقنين، والمهرة المتفنّنين، ممن كان بحضرتهم العليّة، أو سائر بلادهم القريبة والقصية، فاجتمع لذلك حذّاقُ كل صناعة، ومهرةُ كل طائفة؛ من المهندسين والصواغين والنظّامين والحلائين والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين، ولم يبق من يوصف ببراعة، أو ينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة، وأشكال مبتدعة، وضمّنوها من غرائب الحركات، وخفيّ إمداد الأسباب للمسببات، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم، واستفرغوا فيه جهد قوتهم، والهمةُ العليّة - أدام الله سموها - تترقى فوق معارجهم، وتتخلّص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم، وتُنيف على ما ظنّوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شِعب، ورأبوا من منتشرها كل شَعب، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها، والخواطر تكرّ راجعةً عن خفيّ مذهبها، حتى أطلع الله خليفته في خلقه، وأمينه المرتضى لإقامة حقّه، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خلاصها، ألقوا ذلك - أيدّهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره - إلى المهندسين والصنّاع فقبلوه أحسن القبول، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول، فوقفهم حسن تنبيهه ممّا جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم، وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم - وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة، والأشكال المونقة المعجبة، إن شاء الله تعالى
ممّا صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة، والأحفظة العجيبة:
- أنّه كسي كلّه بصوان واحد من الذهب والفضّة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضاً، قد أجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال، ولا عَمَرَ قبله بشبهه خاطرٌ ولا بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم، قد أسلست للتحرّك أعطافها، وأُحكِم إنشاؤها على البُغية وانعطافُها، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدّرّ وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وترداده، وتظنّ العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلَم لشذوذه في صنفه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألؤه واتقاده، وأشبهه الروض المزخرف غبَّ سماء أقلعت عن إمداده.
وأتى هذا الصّوان الموصوف رائقَ المنظر، آخذاً بمجامع القلب والبصر، مستولياً بصورته الغريبة على جميع الصّور، يدهش العقول بهاءً، ويحير الألباب رواءً، ويكاد يعشي الناظر تألّقاً وضياءً.
فحين تمّت خصاله، واستركبت أوصاله، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله، رأوا - أدام الله تأييدهم، وأعلى كلمتهم - مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات، والإشراف على جميع الثنيات، أن يتلطف في وجه يكون به هذا الصّوان المذكور طوراً متصلاً، وطوراً منفصلاً، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذّلاً، وتارة للعموم متجمّلاً، إذ معارجُ الناس في الاستبصار تختلف، وكلٌّّ له مقام إليه ينتهي وعنده يقف.
فعُمِل فيه على شاكلة هذا المقصد، وتُلُطِّف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذي حلية خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيباً يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر، فيلتئم به التئاماً يغطي على العين من هذا الأثر، وكمل ذلك كلّه على أجمل الصفات وأحسنها، وأبدع المذاهب وأتقنها، وصنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصيغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مغشىًّ كلّه بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع، لم تعمل قطّ في زمان من الأزمان، ولا انتهت قطّ إلى أيسره نوافذ الأذهان، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصّع مثل ترصيعه الغريب، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب.
وصنع لذلك كلّه تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها، والصدور على محفوظ أفكارها، مكعب الشكل سامٍ في الطول، حسن الجملة والتفصيل، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل، جارٍ مجرى المحمل في التزيين والتجميل، وله في أحد غواربه بابٌ ركبت عليه دفتان قد أحكم إرتاجهما، ويُسِّر بعد الإبهام انفراجُهما، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه وتركب المحمل عليه، ما دُبِّرت الحركات الهندسيّة، وتُلقِّيَت تلك التنبيهات القدسية، وانتظمت العجائب المعنويّة والحسيّة، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسيّة، وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلاً فيه موضعٌ قد أُعِدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه، فإذا أُدخِل ذلك المفتاح فيه وأُديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفاً إلى مقدمه، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولاً انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره، فإذا عاد كلٌّ إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضاً من تلقائه، كل ذلك يترتَّب على حركة المفتاح، كالذي كان في حال خروجه، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، وهي ممّا يدقّ وصفها، ويصعب ذكرها، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد، وتنبيهات سيّدنا ومولانا الخليفة، أدام الله تعالى أمرهم وأعزّ نصرهم.
وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر، وفرائد العمر، أمروا - أدام الله تعالى تأييدهم - ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش – حرسها الله تعالى - فبدئ ببنيانه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور، على أكمل الوجوه، وأغرب الصنائع، وأفسح المساحة، وأبعد البناء والنجارة، وفيه من شمسيّات الزجاج وحركات المنبر المقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستُغرِب تمامُه، فكيف في هذا الأمر اليسير الذي لم يتخيّل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلاً عن بنائه؟ وصليت في الجمعة منتصف شعبان المذكور، ونهضوا - أدام الله سبحانه تأييدهم - عقب ذلك لزيارة البقعة المكرمة، والروضة المعظمة، بمدينة تينملل[3] أدام الله رفعتها، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم، وأكثر شهر رمضان المعظم، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه، وأحكمت فيه إحكاماً كمل به معناه، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها.​

المصدر : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن المقري التلمساني، تحقيق : إحسان عباس، الناشر : دار صادر- بيروت - لبنان [1 /607 - 612]،



[1]- الأبد: الوحوش،
[2]- المرو : جمع المروة
[3]- تينملل: المدينة التي دفن فيها المهدي ابن تومرت.
 
لله دركم، وجزاكم الله خيرا يا فضيلة الشيخ، وشكرا جزيلا لكم، على بعثكم لهذا الكنز الثمين من مرقده.
 
عودة
أعلى