رسالة إلى مريض

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وعلى أله وصحبه ، وبعد :
فهذه رسالة موجهة إلى إخوتنا وأخواتنا ممن ابتلاهم الله تعالى بمرض من الأمراض ؛ يختبر إيمانهم ، ويمتحن صبرهم ، ليمحو خطاياهم ، ويرفع درجاتهم ، ويجزيهم عظيم الأجر إذا صبروا عند ابتلاء الله تعالى لهم . مما يحدو بالمؤمن أن يلزم الصبر مع الابتلاء ، لينال هذا الفضل وذلكم الأجر ؛ وحتى لا تكون المصيبة مصيبتين : البلاء الذي وقع ، والحرمان من الأجر عند عدم الصبر ؛ والثانية أصعب :

والصبر في النائبات صعب ... لكن فوت الثواب أصعب

وعن الحسن البصري - رحمه الله - قال : إنما يصيب الإنسان الخير في صبر ساعة ( [1] ) .
وقال عبد الله بن المبارك : من صبر فما أقل ما يصبر ، ومن جزع فما أقل ما يتمتع ( [2] ) .
وقال رجل للأحنف بن قيس : ما أصبرك ! قال : الجزع شر الحالين ، يباعد المطلوب ، ويورث الحسرة ، ويبقي على صاحبه عارا ( [3] ) .
واعلموا - رحمني الله وإياكم – أن الابتلاءات أحد أمور ثلاثة لا ينفك عنها إنسان في هذه الحياة الدنيا ؛ وهي : النعم ، والابتلاءات ، والذنوب .
فالنعم واجبها : الشكر .
والابتلاءات واجبها : الصبر .
والذنوب واجبها : الاستغفار والتوبة .
وقد جاء التأكيد في كتاب الله تعالى على أن الابتلاء من سنن الله في خلقه .
كما جاء بيان الفضل العظيم والأجر الجزيل للصبر على الابتلاء في الكتاب والسنة ؛ مما يحدو بالمؤمن أن يلزم الصبر مع الابتلاء ، لينال هذا الفضل وذلكم الأجر
ومن أنواع الابتلاء : المرض ، وهو فساد يعتري الجسم فيخرجه عن حد الصحة ، وهو أصناف كثيرة ، ومتفاوت في درجاته ؛ يبتلي الله تعالى من شاء بما شاء متى شاء ؛ ويلزم العبد أن يستقبل قضاء ربه بالصبر ، فإن رقي في درجة العبودية رضي بالقضاء على ما فيه من شدة .
ولما كان الناس متفاوتين في فهمهم وإيمانهم ، رأينا بعض الناس إذا ابتلي جزع ، وتلفظ بألفاظ أقل ما يقال أنها سوء أدب مع الله تعالى ؛ وهذا ذنب عظيم .
وعن الحسن البصري - رحمه الله - قال : إنما يصيب الإنسان الخير في صبر ساعة ( [4] ) .
وقال عبد الله بن المبارك : من صبر فما أقل ما يصبر ، ومن جزع فما أقل ما يتمتع ( [5] ) .
وقال رجل للأحنف بن قيس : ما أصبرك ! قال : الجزع شر الحالين ، يباعد المطلوب ، ويورث الحسرة ، ويبقي على صاحبه عارا ( [6] ) .
وقد ضمنت هذه الرسالة فصولا ثلاثة :
الفصل الأول : فقه الابتلاء
الفصل الثاني : لست وحدك
الفصل الثالث : أحكام تهم المريض ( الطهارة – الصلاة – الصيام )
واقتصرت على هذه الأحكام لأنها - غالبا - التي يحتاج إليها المريض .

هذا ، وأسأل الله تعالى أن يعجل الشفاء لإخوتنا وأخواتنا ، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم يوم نلقاه .
وأن يتقبل هذه السطور من كاتبها ، ويجعلها خالصة لوجهه ، وأن يجعلها في ميزان حسنات كل من ساهم في إخراجها ونشرها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

وكتبه


راجي عفو رب البرية


محمد بن محمود بن إبراهيم عطية


[1] - ( الصبر والثواب عليه ) لابن أبي الدنيا ( 112) .

[2] - المصدر السابق ( 144) .

[3] - المصدر السابق ( 195) .

[4] - ( الصبر والثواب عليه ) لابن أبي الدنيا ( 112) .

[5] - المصدر السابق ( 144) .

[6] - المصدر السابق ( 195) .
 
جزاكم الله خيرا أستاذ نسأل الله أن يرزقنا الصبر والثبات وقلبا سليما حيا راض بقضاء الله محتسبا
ولو تلا أحدنا هاتين الآيتين لكفتاه لأن يعيش سعيدا وإن كان في نظر الناس مكروبا وهما: (وبشر الصّابرين)، و(إن الله مع الصّابرين)
فلوأيقنا أن الله معنا وعملنا بالأيتين كُفينا .
 
فقه الابتلاء
الابتلاء من سنن الحياة ولوازمها ، وهو يشمل الخير والشر والسراء والضراء ؛ فليس الابتلاء - كما يفهم البعض - خاص بالضراء فقط ، بل هو عام في السراء والضراء ، في الخير والشر ؛ قال الله تعالى : ] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [ ( الأنبياء : 35 ) ؛ وقال تعالى : ] فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [ ( الفجر : 15 ، 16 ) ؛ فبينت الآية من سورة الأنبياء أن الابتلاء واقع في الخير والشر ؛ كما بينت آيات سورة الفجر مثالا من هذا الابتلاء وهو أن إكرام الله ونعمته على عبده بكثرة المال إنما هو ابتلاء ؛ وكذلك التضييق على العبد في رزقه وإقلال ماله إنما هو ابتلاء ؛ وهكذا كل أحوال العبد هي ابتلاء : فالصحة ابتلاء ، والمرض ابتلاء ، وأسباب الفرح والسرور ابتلاء ، وأسباب الحزن والكرب ابتلاء .
وكذلك جعل الله Y كل شيء في هذه الحياة ابتلاء للبشر ، قال الله تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [ ( هود : 7 ) ، وقال U : ] إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ ( الكهف : 7 ) ، وقال Y : ] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ ( الملك : 2 ) ، وقال سبحانه : ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [ ( الأنعام : 165 ) .

والمؤمن في حياته يبتلى بأمور كثيرة من سراء وضراء وخير وشر ؛ والعجب أن كثيرا من الناس لا يعدون الابتلاء إلا في الضراء ، مع أن الابتلاء في السراء أشد ، إذ النعم قد يغفل معها الإنسان ، بل قد يطغى ؛ قال الله تعالى : ] إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ ( العلق : 6 ، 7 ) . وفي سنن الترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ ( [1] ) .

والحكمة من الابتلاء في السراء لينظر الله تعالى ما يفعل عباده فيما أعطاهم من أسباب السراء كالمال والصحة والعافية والولد ونحو ذلك ... أيشكرون أم يكفرون ؟ ومن هنا قال سليمان u عندما وجد عرش بلقيس مستقرا عنده : ] هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [ ( النمل : 40 ) .
وأما الابتلاء في الضراء فلينظر الله U ما يصنع عباده : أيصبرون أم يجزعون ؛ روى أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنَ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ ، وَمَنْ جَزَعَ فَلَهُ الْجَزَعُ " ( [2] ) ؛ والمعنى فمن صبر فله أجر الصبر ، ومن جزع فله جزاء الجزع .
وروى الترمذي وابن ماجة عَنْ أَنَسٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ " ( [3] ) ؛ ويحتمل المعنى هنا أمرين ؛ الأول : من رضي بالقضاء فله الرضا من الله تعالى ؛ ومن سخط فعليه من ربه السخط ؛ الثاني : من رضي بالقضاء فله أجر الرضا ، ومن سخط فله جزاء السخط . وقال ابن مسعود t : إن الله تبارك وتعالى بقسطه وحلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ( [4] ) .
وقد أقسم الله تعالى أنه ليبلون خلقه ؛ ثم بشَّر الصابرين ، قال الله تعالى : ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [ ( البقرة : 155 ) .

[1] - رواه الترمذي ( 2464 ) وحسنه ، ورواه عبد الرزاق ( 20996 ) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وفيه قصة .

[ 2 ] - رواه أحمد : 5 / 427 ، 428 ، 429 ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 2 / 291: ورجاله ثقات .ا.هـ . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ( 3406 ) .

[ 3 ] - التِّرْمِذِي ( 2396 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 4031) وصححه الألباني في صحيح الترمذي ، وصحيح ابن ماجة .

[4] - الرضا عن الله بقضائه ( 93 ) .
 
من فوائد الابتلاء
في الابتلاء كثير من الفوائد لمن صبر ، نذكر منها :
1 - تكفير الخطايا ؛ فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة عن سَعْدِ بن أبي وقاص t قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : " الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ؛ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " ( [1] ) . وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ " ( [2] ) .
وروى الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ t عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ e قَالَ : " مَا مِنْ عَبْدٍ يُصْرَعُ صَرْعَةً مِنْ مَرِضٍ إِلا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْهَا طَاهِرًا " ( [3] ) .
وذلك من باب تعجيل العقوبة في الدنيا ليسلم من عذاب الآخرة ؛ ففي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ( [4] ) . وروى مالك والبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ " .
2 - عظم الأجر والثواب يوم القيامة ، قال الله تعالى : ] إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ( الزمر : 10 ) ؛ وفي سنن الترمذي عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ " ( [5] ) .
3 - بعض الابتلاءات ثوابها الجنة ؛ روى البخاري عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ e يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ قَالَ : إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ " يُرِيدُ عَيْنَيْهِ ( [6] ) .
4 – يكتب للمبتلى أجر عمله الذي كان يعمل قبل ابتلائه وأعجزه الابتلاء عنه ؛ ففي صحيح البخاري عن أَبِي مُوسَى t مِرَارًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا " ( [7] ) . وروى أحمد والحاكم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ U الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ فَقَالَ : اكْتُبُوا لِعَبْدِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ مَا كَانَ فِي وِثَاقِي " ( [8] ). وفي مسند أحمد عن أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ اللَّهُ : اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ ؛ فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ " ( [9] ) . وفيه - أيضا - عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّهُ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَهَجَّرَ بِالرَّوَاحِ ، فَلَقِيَ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ وَالصُّنَابِحِيُّ مَعَهُ ، فَقُلْتُ : أَيْنَ تُرِيدَانِ يَرْحَمُكُمَا اللَّهُ ؟ قَالَا : نُرِيدُ هَاهُنَا إِلَى أَخٍ لَنَا مَرِيضٍ نَعُودُهُ ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَالَا لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ قَالَ : أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ ، فَقَالَ لَهُ شَدَّادٌ : أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ وَحَطِّ الْخَطَايَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ U يَقُولُ : إِنِّي إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا ، فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا ، وَيَقُولُ الرَّبُّ U : أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ وَأَجْرُوا لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ " ( [10] ) .
5 - ومن الفوائد العظيمة للبلاء تنبيه العبد لشكر نعمة ربه ، فإن الابتلاء يذكر العبد بما كان فيه من نعمة غافلا عن شكرها ، فإذا أصيب فيها ذكر واسترجع وتنبه ، وقد قيل : الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى .
6 - كذلك قد يكون البلاء سببًا لمراجعة العبد نفسه مع الله تعالى ، فيرى تقصيره ، ويستشعر أثر ذنوبه ، فيرجع إلى الله تعالى ويتوب توبة نصوحًا ، ويكون له في هذا البلاء خيرٌ عظيمٌ ؛ إذ قاده إلى طريق النجاة ، وألزمه العود إلى الله جل في علاه ، ولذلك قيل : البلاء منحة في ثوب محنة ، وعن سعيد بن موهب قال : انطلقت مع سلمان t إلى صديق له يعوده من كندة ، فقال : إن المؤمن يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه ، فيكون كفارة لسيئاته ، ويستعتب فيما بقي ؛ وإن الفاجر يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه ، فيكون كالبعير عقله أهله لا يدري لما عقلوه ؛ ثم أرسلوه فلا يدري لما أرسلوه ( [11] ) . وروى ابن أبي الدنيا في ( الصبر والثواب عليه ) عن خلف بن إسماعيل قال : وسمعت أبا سليمان داود الجواربي يقول يوما ، وأقبل علي : يا أبا إسماعيل ، قل لأصحابك أهل البلاء : اغتنموا الصبر فكأنكم قد بلغتم مدته ؛ فذكرت ذلك لرجل منهم يكنى أبا ميمون ، وكان عاقلا ، فقال : يا أبا إسماعيل إن للصبر شروطا قلت : ما هي يا أبا ميمون ؟ قال : إن من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر ؟ ولمن تصبر ؟ وما تريد بصبرك ؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه ، لعلك أن يخلص لك صبرك ، وإلا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك ، ثم هدأ فهدأت ، فلا هي عقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت ، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها فحمدت الله على ذلك وشكرت ( [12] ) .


[ 1 ] - أحمد : 1 / 172 ، 173 ، 185 ، والترمذي ( 2398 ) وصححه ، وابن ماجة ( 4023 ) .

[2] - البخاري ( 5642 ) ، ومسلم ( 2573 ) .

[3] - قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 2 / 302 ) : رواه الطبراني في ( الكبير ) و رجاله ثقات .ا.هـ . وصححه الألباني في الصحيحة ( 2277 ) .

[4] - الترمذي ( 2396 ) وحسنه ، والحاكم ( ) .

[5] - الترمذي ( 2402 ) ، وقال غريب ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 2206 ) ، وصحيح الترمذي .

[6] - البخاري ( 5653 ) ، ورواه الترمذي ( 2400 ) بنحوه .

[7] - رواه أحمد : 4 / 410 ، 418 ، والبخاري : 2 / 246 ، وأبو داود ( 3091 ) .

[8] - رواه أحمد : 2 / 194 ، 203 ، 205 ، والحاكم : 1 / 348 وصححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي .

[9] - رواه أحمد : 3 / 148 ، 238 ، 258 ؛ ورواه ابن أبي شيبة : 3 / 121 .

[10] - أخرجه أحمد ( 4 / 123 ) وإسناده حسن .

[11] - رواه ابن أبي شيبة : 3 / 119 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 492 ) ، والبهقي الشعب الإيمان ( ) .

[12] - الصبر والثواب عليه ( 66 ، 67 ) .
 
المرض من الابتلاء
ومن أنواع الابتلاء : المرض ؛ وهو عبارة عن السقم والعلة التي يخرج بها الإنسان عن حدِّ الصّحَّة في أيِّ شيءٍ كان ؛ فالمرض بأنواعه : قلبي ، وبدني ، ونفسي ، من أنواع الابتلاء .
والمرض القلبي - وهو أخطرها - ينقسم إلى مرض شبهات ومرض شهوات ؛ والعجب أن كثيرًا من الناس لا يلتفت لعلاج قلبه من هذه الأمراض المهلكة ، وإن اهتم اهتمامًا عظيمًا إذا أصيب بدنه بأبسط الأمراض ؛ وأمراض القلوب وأسقام النفوس – كما يقول الغزالي رحمه الله - يفوت معها حياة الأبد ، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد ؟ ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية ؛ فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى ؛ وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب ؛ إذ لا يخلو قلب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت ، فيحتاج القلب إلى تألق في معرفة علمها وأسبابها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها فمعالجتها ؛ وهو المراد بقوله تعالى : ] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [ ، وإهمالها هو المراد بقوله : ] وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ ( [1] ) .

وإذا سلم القلب من هذه الأمراض سلم صاحبه في الدنيا والآخرة ؛ ففي الصحيحين من حديث النُّعْمَانِ بْن بَشِيرٍ t مرفوعا : " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ " ([2]). والمراد بفساد الجسد : تأثر هذا الجسد المريض القلب بمرض قلبه، لأن صاحبه لا يعيش حياة صحيحة، فهو في غم دائم ، أو نكد غالب ، أو هم هالك ، لأن القلب أخطأ طريق حياته بعدم معرفة الله جل وعلا والاستقامة على طاعته، قال الله تعالى: ] وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [ ( طه : 124) . ويقرر أطباء الأبدان أن غالب معاناة مريض البدن إنما يكون من الوهم ؛ وهذا - بلا شك - له علاقة بمرض القلب الذي نتحدث عنه .
والقلب السليم هو القلب الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ، ومن كل شبهة تعارض خبره ؛ فسلم من عبودية ما سواه ، وسلم من تحكيم غير رسوله ، وسلِم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والذل له ، وإيثار مرضاته في كل حال ، والتباعد من سخطه بكل طريق ، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده ([3]) . إنه القلب المؤمن المخبت إلى ربه المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقاد ؛ وهذا يتأتى منه ما هيئ له وخلق لأجله [ يريد من إخلاص العبادة لله تعالى ] .
وخروجه عن الاستقامة وعدم التأتي لما يراد منه : إما ليبسه وقساوته ، كاليد الشلاء واللسان الأخرس والأنف الأخشم ( [4] ) والعين التي لا تبصر شيئا .
وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد ، فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة :
فالقلب الصحيح السليم : ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه ، فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له .
والقلب الميت القاسي : لا يقبله ولا ينقاد له . والقلب المريض : إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي ؛ وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم ( [5] ) .

فالقلب السليم هو الذي يواجه صاحبه الأزمات والابتلاءات بصبر ، ويعلم - يقينا - أن في الابتلاء تمحيصا للإيمان وتكفيرا للسيئات ورفعا للدرجات ، وأن للصبر أجرًا بغير حساب ؛ فتراه صابرا ذاكرًا لله تعالى ، مؤديا فرائضه ، داعيًا بإخبات وخضوع أن يرفع الله تعالى عنه ما ابتلي به ، وأن يكفر بهذا الابتلاء سيئاته ويرفع درجاته .
وأما القلب المريض فبحسب مرضه يكون قريبا أو بعيدا عن فقه الابتلاء ، وبالتالي الصبر على ذلك بما يوجبه الحال والفهم .
وأما القلب القاسي فهذا بعيد عن فقه الابتلاء .. بعيد عن الصبر .. فصاحبه بعيد عن الأجر الموعود على الصبر ... عافانا الله والمسلمين من ذلك .
وأما المرض البدني فهو : ما يعتري الجسم من فساد يخرجه عن حد الصحة ؛ وهو أنواع كثيرة ودرجات متفاوتة ، فمنه ما يُلزِم الإنسان فراشه مقعدا له عن الحركة ؛ ومنه دون ذلك .
وأما المرض النفسي فهو : ذلكم المرض الذي يؤدي إلى الاضطرابات النفسية الشديدة وما دونها ؛ وتصنيفها - كما يقول أهل التخصص - يصل إلى أكثر من مئة نوع وشكل ؛ فمن الاضطرابات الشديدة : الفصام ، والهوس ، والذهان الحاد ؛ ومن الاضطرابات الصغرى : القلق ، والاكتئاب ، والمخاوف المرضية ، والوسواس القهري ، والاضطرابات الجسمية النفسية المنشأ ؛ وهناك أيضا اضطرابات الشخصية في صفاتها وسلوكها ، واضطراب العلاقات الشخصية ، والاضطرابات الجنسية واضطرابات الطعام والنوم .. وغير ذلك .


[1] - انظر إحياء علوم الدين : 3 / 52 .

[2] - البخاري (52) ، ومسلم (1599) .

[3] - انظر ( بدائع الفوائد ) لابن القيم : 2 / 261 .

[4] - الأخشم : الأنف الذي سقطت خياشيمه وانسدت منافذ التنفس فيه ، فلا يكاد صاحبه يشم شيئا .

[5] - انظر إغاثة اللهفان : 1 / 10 : 14 باختصار وتصرف .
 
] وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [
في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ : " أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي ، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا " ( [1] ) . فيقين المؤمن أن الشفاء عند الله تعالى ، لا شافي إلا هو Y .
فعلى العبد - أولا - أن يلجأ إلى كاشف الضر - تبارك وتعالى - أن يكشف عنه ، وأن يرزقه العافية ، ويستحضر يقينه عند ذلك ، قال الله تعالى على لسان إبراهيم e : ] وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [ ( الشعراء : 80 ) ؛ وقال الله تعالى : ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [ ( الأنعام : 17 ) ؛ وقال U : ] أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [ ( النمل : 62 ) .
وليكن هذا البلاء داعيا للمبتلى أن يرجع إلى الله تعالى ، وأن يتوب من تقصيره وذنوبه ؛ فالحذر الحذر أن يرفع المبتلى يده بدعاء وهي متلطخة بأثر ذنب لم يتب منه ، فإن ذلك قد يمنع استجابة دعائه ، فالذنوب من موانع الاستجابة ، والتوبة يرجى معها الإجابة ؛ وقال بعض السلف : لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي . وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
نحن ندعو الإله في كل كرب ... وننساه عند كشف الكروب
كيف نرجـو إجابة لدعـاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب
إن اللجوء إلى الله تعالى يحتاج صاحبه أن يطهر طريقه من المعوقات ، وأن ينظفه من آثار الذنوب بتوبة نصوح ، وحسن أدب في استقبال القضاء ، وما أعجب ما قال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وَذَكَرْت مَرّةً وَأَنَا مَحْمُومٌ قَوْلَ بَعْضِ الشّعَرَاءِ يَسُبّهَا ( أي : يسب الحمى ) :
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت ... تَبًّا لَــهَا مِــنْ زَائِرٍ وَمُــوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا ... مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
فَقُلْت : تَبّا لَهُ إذْ سَبَّ مَا نَهَى رَسُولُ اللّهِ e عَنْ سَبّهِ ، وَلَوْ قَالَ :
زَارَتْ مُكَـفّرَةُ الذّنُـوبِ لِصَبِّهَا ... أَهْــلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُــوَدّع
قَـالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا ... مَـاذَا تُرِيدُ فَقُلْـت أَنْ لَا تُقْلِعِي
لَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَلَأَقْلَعَتْ عَنْهُ ؛ فَأَقْلَعَتْ عَنِّي سَرِيعًا ( [2] ) .
فانظر إلى حسن الأدب في استقبال القضاء ، كان له أثر عظيم في تعجيل الشفاء .

[1] - البخاري ( 5675 ، 5743 ، 5744 ، 5750 ) ، ومسلم ( 2191 ) عن عائشة ، والبخاري ( 5742 ) عن أنس .

[2] - زاد المعاد : 4 / 23 .
 
الرقية والشفاء
الرقية جائزة من جميع الأوجاع ، وهي أنفع لك بإذن الله من جميع الأسباب الأخرى ، فهي من أقوى معالجة الأوجاع لمن صحبه اليقين الصحيح والتوفيق الصريح .
وإليك بعض هذه الرقى :
تقدم حديث أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها .
· وفي صحيح مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ e وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ e : " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ : بِاسْمِ اللهِ ( ثَلَاثًا ) وَقُلْ : سَبْعَ مَرَّاتٍ : أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ " وللترمذي : " امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ : أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ " قَالَ فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ ( 1 ) .
· قال ابن القيم - رحمه الله : ففي هذا العلاج من ذكر الله والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به ، وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء لإخراج المادة ، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها . ا.هـ ( 2 ) .
· الرقية بالمعوذتين : في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ e كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ " وفي لفظ لمسلم : كَانَ رَسُولُ اللهِ e إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ ( 3 ) .
· الرقية بالفاتحة : ففي حديث أبي سعيد في رقية الملدوغ بالفاتحة : فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ : ] الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ . رواه البخاري . وعند أبي داود : فَقَرَأَ عَلَيْهِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَيَتْفِلُ حَتَّى بَرِئَ كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ ( 4 ) .
· ونشط ( أنشط ) من عقال : أي تحرر من قيود ، والمراد أنه شفي من مرضه فعاد كأن لم يكن به مرض .
والنفث أقل من التفل ، والتفل يكون معه شيء من الريق ، وأما النفث فشبيه بالنفخ ، ومعه ريق خفيف .
______
1 - رواه مسلم ( 2202 ) ، وأبو داود ( 3891 ) ، والترمذي ( 2080 ) وغيرهم .
2 - زاد المعاد : 3 / 125 ( المكتبة العلمية ) ، 4 / 188 ( مؤسسة الرسالة ) .
3 - البخاري ( 4439 ، 5016 ، 5735 ، 5751 ) ، ومسلم ( 2192 ) .
4 - أحمد : 3 / 44 ، البخاري ( 5749 ) ، ومسلم ( 2201 ) ، وأبو داود ( 3418 ، 3900 ) .
 
خلق الله الداء والدواء
لا ريب أن الذي خلق الداء قد خلق له الدواء ، فلا مانع أن يلتمس المريض أسباب الشفاء التي خلقها الله تعالى ، مع اعتقاده أنه لا شافي إلا الله تعالى ؛ فقد قال النبي t : " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً "رواه البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة t ( [1] ) . وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ t قَالَ : قَالَتْ الْأَعْرَابُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ : " نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ قَالَ دَوَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : " الْهَرَمُ " ، زاد أحمد في بعض رواياته : " إِلَّا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ " ( [2] ) . وعند أحمد عن أنس t مرفوعا : " إِنَّ اللَّهَ U حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ ، فَتَدَاوَوْا " وله شاهد عند أبي داود من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً ، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " ( [3] ) . ولأحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود t قال : قال رسول الله e : " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ U دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً " ، وعند أحمد : " إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " ( [4] ) . وروى أحمد ومسلم عَنْ جَابِرٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ U " ( [5] ) .
فهذه أدلة صحيحة صريحة على إباحة التداوي بشرط ألا يكون بمحرم ، مع اعتقاد من يتداوى أن الشافي هو الله تعالى ، ولو شاء سبحانه أن يكشف ضره دون أسباب فعل ، فهو على كل شيء قدير ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا راد لفضله .

[1] - البخاري ( 5678 ) ، وابن ماجة ( 3439 ) .

[2] - أحمد : 4/ 278 ، وأبو داود ( 3855 ) ، والترمـذي ( 2038 ) ، وقال حسن صحيح ، وابن ماجة ( 3436 ) .

[3] - أحمد : 3 / 156 ، من حديث أنس ؛ وأبو داود ( 3874 ) من حديث أبي الدرداء .

[4] - أحمد : 1/ 377 ، 413 ، 443 ، 446 ، 453، وابن ماجة ( 3438 ) ، وهو حديث حسن .

[5] - أحمد : 3 / 335 ، ومسلم ( 2204 ) .
 
الفصل الثاني
لست وحدك
أيها المبتلى - عافاك الله - لست وحدك في البلاء والابتلاء ، فيشاركك الكثير من عباد الله ، وسبقك الكثير ، وسيلحق بك الكثير ؛ فدنيا الابتلاء يشترك فيها جميع البشر .
قد كان من قبلك من هم أفضل البشر ابتلوا بأشد مما ابتليت ، فلك فيهم قدوة ؛ إنهم أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ويشاركك الابتلاء - وقد يكون أشد من ابتلائك - كثير من الناس ممن هو فوقك ومثلك ودونك ، وانظر حولك نظرة تأملٍ وتدبرٍ ستقف على هذه الحقيقة التي يريد الشيطان أن يبعد أهل الابتلاء عنها لييئسهم من رحمة ربهم U ، ويجعلهم يتجرؤون على القضاء الذي حل بهم ، ليخرجهم بذلك عن الصبر إلى الجزع والتسخط ، ويظهر ذلك في أقوالهم وأفعالهم .
وسنة الابتلاء ماضية يلحق بها الآتون السابقين ، ونسأل الله العافية لنا وللمسلمين .
ومع نماذج من سير المبتلين بالمرض نعيش هذه السطور ، اقتداءً بالصابرين ؛ وتسلية للنفس مما قد يعتريها من وسواس يؤثر على صبرها .

مع الأنبياء والرسل
إنهم قدوة البشر ، وأسوة المقتدين ، وقد كان يُشدد عليهم البلاء لحكم يريدها الله تعالى ، منها : أنهم يعظم لهم الأجر ؛ ومنها : ليقتدي بهم الناس ، فينظر المبتلى إلى البلاء نظرة إيمانية فيعلم أن المؤمن كلما كان أقوى إيمانا كلما ازداد ابتلاء واختبارًا ؛ وفي ذلك رد على ضعفاء العقول ، الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء في جسده كمرض ونحوه ، أو أصيب في ماله أو في من يحب ؛ أن ذلك دليل على أن المؤمن غير مرضي عند الله تعالى ! وهو ظن باطل ؛ فهؤلاء أنبياء الله ورسله ، وفي مقدمتهم رسول الله محمد e - وهم أفضل البشر - كانوا أشد الناس بلاء ؛ فالبلاء - غالبا - دليل خير ، و ليس نذير شر .
 
رسول الله محمد e
هو خير الصابرين وقدوتهم ، وأسوة الراضين بالقضاء ؛ قد كان يُضَعَّفُ له ألم المرض ؛ فيوعك مثلما يوعك الرجلين ؛ ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ " فَقُلْتُ : ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَجَلْ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " ( [1] ) ، والْوَعْك بِفَتْحِ الْوَاو وَسُكُون الْعَيْن وَقَدْ تُفْتَح : الْحُمَّى ، وَقِيلَ : أَلَم الْحُمَّى ، وَقِيلَ : تَعَبهَا ، وَقِيلَ : إِرْعَادهَا الْمَوْعُوك وَتَحْرِيكهَا إِيَّاهُ .
وفي الصحيحين - أيضًا - عن أم المؤمنين عَائِشَةُ - رضي الله عنها - قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e . قال النووي : قَالَ الْعُلَمَاء : الْوَجَع هُنَا الْمَرَض ، وَالْعَرَب تُسَمِّي كُلّ مَرَض وَجَعًا .ا.هـ .
وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو يعلى والحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ ! فَقَالَ النَّبِيُّ e : " إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ فَيَجُوبَهَا [ أي : يخرقها ويقطعها ] ، وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ " لفظ أحمد ، وفي رواية عند غيره : " وقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها ، ويبتلى بالقمل حتى تقتله ، ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء " ( [2] ) . وروى أحمد والنسائي وابن أبي الدنيا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ e نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " ( [3] ) .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْحِكْمَة فِي كَوْن الْأَنْبِيَاء أَشَدَّ بَلَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل ؛ أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِكَمَالِ الصَّبْر ، وَصِحَّة الِاحْتِسَاب ، وَمَعْرِفَة أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى لِيَتِمَّ لَهُمْ الْخَيْر ، وَيُضَاعَف لَهُمْ الْأَجْر ، وَيَظْهَر صَبْرهمْ وَرِضَاهُم .
وروى أحمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها قَالَتْ : .. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْخَاصِرَةُ فَيَشْتَدُّ بِهِ جِدًّا ، فَكُنَّا نَقُولُ أَخَذَ رَسُولَ اللَّهِ e عِرْقُ الْكُلْيَةِ لَا نَهْتَدِي أَنْ نَقُولَ الْخَاصِرَةَ ، ثُمَّ أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ e يَوْمًا فَاشْتَدَّتْ بِهِ جِدًّا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، وَخِفْنَا عَلَيْهِ وَفَزِعَ النَّاسُ إِلَيْهِ .. " الحديث ( [4] ) .
فانظر - أيها المبتلى - كيف كان رسول الله e - وهو أكرم نفس على الله تعالى - يُشدد عليه المرض ابتلاء ، وكيف كان يصبر صبرا جميلا ، فاقتدِ به ، وتمسك بهديه ، تكن على طريقه ، لتلحق به في الجنة مع الذين آمنوا به وصدقوه ولم يغيروا بعده .

نبي الله يعقوب u
ابتلي يعقوب u بما كان من أبنائه وكيدهم بأخيهم يوسف ؛ وظل يبكي حتى ابيضت عيناه من الحزن ، وما كان يشكو إلا إلى الله تعالى ، فلما قال له أبناؤه : ] تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [ ( يوسف : 85 ) ، كان رده : ] إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ ( يوسف : 86 ) . والحرض - بالجملة - الذي فسد ودنا موته .
وروى أحمد عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنْ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ e فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ .. فَكَانَ فِيمَا سَأَلُوهُ : أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ؟ قَالَ : " فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ u مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا ، فَطَالَ سَقَمُهُ ؛ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ، فَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الْإِبِلِ ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا ؟ فَقَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ " ( [5] ) ؛ والشاهد أنه u ابتلي بمرض شديد ، وطال سقمه .

نبي الله أيوب u
ابتلى الله U نبيه أيوب u ، فكان كما وصفه ربه Y : ] إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ ( ص : 44 ) ؛ ونبي الله أيوب u يضرب به المثل في الصبر ، قال ابن كثير - رحمه الله : يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب e ، وما كان ابتلاه - تعالى - به من الضر في جسده وماله وولده ، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه ، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله ، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة ، وقد كان من قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا ، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن رفضه القريب والبعيد ، سوى زوجته رضي الله عنها ، فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ، ثم تعود إليه قريبا ، فلما طال المطال واشتد الحال ، وانتهى القدر وتم الأجل المقدر ، تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : ] أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ ( الأنبياء : 83 ) ، وقال : ] وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ [ في بدني ] وَعَذَابٍ [ في مالي وولدي ، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه ، وأن يركض الأرض برجله ففعل ، فأنبع الله تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها ، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى ، وأمره أن يشرب منها فأذهب جميع ما كان في باطنه من السوء ، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ، ولهذا قال تبارك وتعالى : ] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ ( ص : 42 ) وروى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم عن أنس t أن رسول الله e قال : " إِنَّ نَبِيَ اللهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤهُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةٍ ، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَينِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيهِ وَيَرُوحَانِ ، فَقَالَ أَحْدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : تَعْلَمْ وَاللهِ لِقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَالَمِين ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةٍ لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيهِ لَمْ يَصْبِرْ الرَّجُلُ حَتَى ذَكَرَ ذَلَكَ لَهُ ، فَقَالَ أَيُّوبُ u : لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ ، غَيرَ أَنْ اللهَ U يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَينِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللهَ ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرَ عَنْهُمَا كَرَاهِيةَ أَنْ يُذْكَرَ اللهُ إِلَّا فِي حَقٍّ " قال : وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَى يَبْلُغَ ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيهِ ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى أَيِّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنْ ] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَالْتَفَتَتَ تَنْظُرْ ، فَأَقَبَلَ عَلَيهَا قَدْ أَذْهَبَ اللهَ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ : أَي بَارَكَ اللهُ فِيكَ ! هَلْ رَأَيتَ نَبِيَّ اللهِ هَذَا الْمُبْتَلَى فَوَاللهِ الْقَدِيرِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا ! قَالَ : فَإِنِي أَنَا هُوَ " قال : " وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ : أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ ، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى سَحَابَتَيْنِ ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَى فَاضَ ، وَأَفْرَغَتْ الأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَى فَاضَ " لفظ ابن جرير ( [6] ) .


[1] - البخاري ومسلم .

[2] - أحمد : 3 / 94 ، والبخاري في الأدب ( 510 ) ، وابن ماجه ( 4024 ) ، وأبو يعلى ( ) ، و الحاكم : 4 / 307 ، وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ؛ وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ( 395 ) ، وفي صحيح الترغيب والترهيب .

[3] - رواه أحمد : 6 / 369 ، والنسائي الكبرى (7613) ، و ابن أبي الدنيا في ( المرض والكفارات ) رقم ( 6 ) .

[4] - رواه أحمد : 6 / ، وأبو يعلى ( ) ، والحاكم : ، وصححه ، ووافقه الذهبي . ورواه عبد الرزاق ( ) ، وابن أبي الدنيا ( ) عن أسماء بنت عميس ؛ والخاصرة : ما بين رأس الوَرِك وأسفل الأضلاع . والمراد أنه يأتيه وجع شديد في هذه المنطقة .

[5] - رواه ابن سعد في الطبقات : 1 / 174 ، 175 ، وأحمد : 1 / 257 ، 278 ، من طريق شهر بن حوشب ، وشهر فيه كلام ، وقواه البخاري ، ويحسن حديثه الترمذي ، وله متابعة عند أحمد : 1 / 274 ، والترمذي ( 3117 ) ، والنسائي في الكبرى ( 9072 ) ، وقال الترمذي حسن غريب ، وفيها بكير ابن شهاب ، وحديثه حسن في المتابعات .

http://vb.tafsir.net/tafsir34778/#_ftnref6[ 6 ] - ابن جرير : 23 / 107 ، 108 ، ورواه أبو يعلى ( 3617 ) ، والبزار ( 2357 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 3 / 374 ، 375 ، وابن حبان ( 2898 ) والحاكم : 2 / 581 وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي . وقال الحافظ في الفتح : 6 / 485 : وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وصححه ابن حبان والحاكم من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس : " إن أيوب u ابتلى فلبث في بلائه ... فذكره .
 
مع بعض الصحابةy

وهذه أمثلة رائدة في الصبر على البلاء ، لسلف الأمة من الصحابة ، نبراسا يضيء طريق الابتلاء ، ويخفف من ألم المعاناة ، ويقوي النفس على الصبر .
1 - في الصحيحين عن عَطَاءَ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ t : أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتْ النَّبِيَّ e فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي ، قَالَ : " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ " فَقَالَتْ : أَصْبِرُ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ ؛ فَدَعَا لَهَا . ورواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ e قَالَ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ e بِهَا لَمَمٌ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي ، قَالَ : " إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكِ وَإِنْ شِئْتِ فَاصْبِرِي وَلَا حِسَابَ عَلَيْكِ " قَالَتْ : بَلْ أَصْبِرُ وَلَا حِسَابَ عَلَيَّ ( [1] ) . قال ابن حجر في ( فتح الباري ) فِي الْحَدِيث فَضْل مَنْ يُصْرَع ، وَأَنَّ الصَّبْر عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِث الْجَنَّة ، وَأَنَّ الْأَخْذ بِالشِّدَّةِ أَفْضَل مِنْ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسه الطَّاقَة وَلَمْ يَضْعُف عَنْ اِلْتِزَام الشِّدَّة ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَرْك التَّدَاوِي ، وَفِيهِ أَنَّ عِلَاج الْأَمْرَاض كُلّهَا بِالدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه أَنْجَع وَأَنْفَع مِنْ الْعِلَاج بِالْعَقَاقِيرِ ، وَأَنَّ تَأْثِير ذَلِكَ وَانْفِعَال الْبَدَن عَنْهُ أَعْظَم مِنْ تَأْثِير الْأَدْوِيَة الْبَدَنِيَّة ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْجَع بِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا مِنْ جِهَة الْعَلِيل وَهُوَ صِدْق الْقَصْد ، وَالْآخَر مِنْ جِهَة الْمُدَاوِي وَهُوَ قُوَّة تَوَجُّهه وَقُوَّة قَلْبه بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّل ، وَاَللَّه أَعْلَم .ا.هـ .
2 - وعن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : مرضت مرضا شديدا ، فحمَاني أهلي كل شيء حتى الماء ، فعطشت ليلة عطشًا شديدًا فجئت إلى الإداوة وهي معلقة ، فشربت منها شربة فلم أزل أجد الصحة منها ، فلا تحموا مرضاكم شيئا ( [2] ) .
3 - وفي الصحيحين عَنْ سَعْدٍ ابن أبي وقَّاص t قَالَ : مَرِضْتُ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا شَدِيدًا أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ e يَعُودُنِي ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي ، .. الحديث .
4 - وفي الصحيحين عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ t نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ .. الحديث .
5 - روى ابن أبي الدنيا في كتاب ( الرضا عن الله بقضائه ) عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخير قال : أتيت عمران بن حصين t يوما فقلت له : والله إني لأدع إتيانك لما أراك فيه ولما أراك تلقى ! قال : فلا تفعل فوالله إن أحبه إلي أحبه إلى الله ؛ قال جرير : وكان سقى بطنه فمكث ثلاثين سنة على سرير مثقوب . ورواه - أيضا - عن الحسن ، قال : اشتكى عمران بن حصين t فدخل عليه جار له فاستبطأه في العيادة فقال له : يا أبا نجيد إن بعض ما يمنعني عن عيادتك ما أرى بك من الجهد ! قال : فلا تفعل فإن أحبه إلي أحبه إلى الله ، ولا تبتئس لي بما ترى ؛ أرأيت إذا كان ما ترى مجازاة بذنوب قد مضت ، وأنا أرجو عفو الله على ما بقي ، فإنه قال : ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ ( الشورى :30 ) ( [3] ) .
6 - قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : مَا مِنْ وَجَع يُصِيبنِي أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الْحُمَّى ، إِنَّهَا تَدْخُل فِي كُلّ مَفْصِل مِنْ اِبْن آدَم ، وَاَللَّه يُعْطِي كُلّ مَفْصِل قِسْطه مِنْ الْأَجْر ( [4] ).
7 - حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا شعبة ، عن يزيد بن خمير ، سمعت أبا زبيد ، قال : دخلت على أبي أيوب أنا ونوف البكالي ، ورجل ، من بني عامر ، ورجل آخر لنعوده فقلنا : اللهم عافه واشفه فقال : قولوا اللهم إن كان أجله عاجلا فاغفر له وارحمه ، وإن كان آجلا فعافه واشفه ( [5] ) .
8 - وعن إبراهيم النخعي أن أم الأسود - رضي الله عنها - قعدت من رجليها ، فجزعت ابنة لها فقالت : لا تجزعي ! اللهم إن كان خيرا فزد ( [6] ) .
فهذه نماذج مختلفة لابتلاءات بأمراض متعددة ، اخترناها من العديد من الحالات ، ليتأملها المبتلى ، ويقف عند العبرة منها ، ويعلم أن سنة الابتلاء ماضية في البشر وإلى ن تقوم الساعة .

[1] - رواه : أحمد 2 / 441 ، وابن حِبَّان ( 2909 ) .

[2] - المرض والكفارات (128) .

[3] - الرضا عن الله بقضائه ( 60 ، 61 ) ، وجرير ، هو جرير بن حازم أحد رواة الأثر ، ورواه ابن أبي شيبة : 8 / 185.

[4] - رواه البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا في ( المرض والكفارات ) رقم ( 239 ) ، والبيهقي في الشعب .

[5] - المرض والكفارات ( 155 ) .

[6] - الرضا عن الله بقضائه ( 63 ) ، الصبر والثواب عليه ( 187 ) .
 
مع بعض التابعين رحمهم الله

وهذه نماذج أخرى تدل على جميل صبر هؤلاء المبتلين ، مع ما كان من شدة الابتلاء .
1 - هذا عروة بن الزبير - رحمه الله - يضرب مثلا رائعا في الصبر على الابتلاء والرضا بالقضاء ؛ فعن الزهري قال : وقعت في رجل عروة بن الزبير الآكلة ( السرطان ) ، فصعدت في ساقه ، فبعث إليه الوليد بن عبد الملك فحمل إليه الأطباء ، فقالوا : ليس له دواء إلا أن تقطع رجله ، قال : فقطعت رجله وهو جالس عند الوليد ، فما تضور وجهه .
وكان قد قيل له : لو سقيناك شيئا حتى لا تشعر بالوجع ؟ قال : إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره بدفع . وقال – رحمه الله - لما قطعت رجله : اللهم إن كنت ابتليت لقد عافيت ، وإن كنت أخذت لقد أبقيت أخذت واحدا وتركت ثلاثا . ثم أخذ رجله بيده ، وقال : اللهم إنك تعلم أني لم أنقلها إلى معصية لك قط ( [1] ) . وقوله : ( أخذت واحدا وتركت ثلاثا ) أي : من الأطرف اليدين والرجلين .
2 – وهذا محمد بن واسع يرى ابن أبي رواد في يده قرحة ،فكأنه رأى ماشق عليه منها ، فقال له : أتدري ماذا لله عليَّ في هذه القرحة من النعمة ؟ فسكتُّ ، فقال : حين لم يجعلها على حدقتي ( أي سواد عيني ) ، ولا على طرف لساني ، ولا على طرف ذَكَرِي ؛ قال : فهانت عليَّ قرحته ( [2] ) .
3 – وروى ابن أبي الدنيا عن هشام بن محمد أن زيد بن صوحان أصيبت يده في بعض فتوح العراق ، فتبسم والدماء تشخب ( تسيل ) ، فقال له رجل من قومه : ما هذا موضع تبسم ! فقال زيد : أَلَمٌ حَلَّ هوَّنه ثواب الله عليه ، أفأردفه بألم الجزع الذي لا جدوى فيه ، ولا دريكة لفائتٍ معه ؟ وفي تبسمي عزية لبعض المؤتسين من المؤمنين ؛ فقال الرجل : أنت أعلم بالله مني ( [3] ) .
4 – وعن سيار ابن سلامة قال : دخل رجل على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه فقال : إن أحبه إلي أحبه إلى الله U ( [4] ) .
5 - وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال : دخلت على سويد بن شعبة ، وكان من أصحاب الخطط الذين خط لهم عمر بالكوفة ، فإذا هو منكب على وجهه مسجى ( مغطى ) بثوب ، فلولا أن امرأته قالت : أهلي فداؤك ، ما نطعمك ؟ ما نسقيك ؟ ما ظننت أن تحت الثوب شيئا ، فلما رآني قال : يا ابن أخي ، دبرت الحراقف والصلب ، فما من ضجعة غير ما ترى ، والله ما أحب أني نقصت منه قلامة ظفر ( [5] ) .
فيا له من صبر جميل ، إنه لا يتمنى أن ينقص ما به من البلاء ، حتى لا يُنقص أجره.

[1] - انظر ( الصبر والثواب عليه ) لابن أبي الدنيا ( 157 ) ، و ( المرض والكفارات ) له ( 133 ، 166 ، 168 : 170 ) .

[2] - ( الصبر والثواب عليه ) لابن أبي الدنيا ( 188 ) .

[3] - الصبر والثواب عليه ( 101 ) .

[4] - الرضا عن الله بقضائه ( 39 ) .

[5] - الرضا عن الله بقضائه ( 78 ) ، والصبر والثواب عليه ( 181 ، 189 ) .
 
صور متفرقة
1 - روى ابن أبي الدنيا عن خلف بن إسماعيل ، قال : سمعت رجلا مبتلى من هؤلاء الزمنى يقول : وعزتك لو أمرت الهوام فقسمتني مضغًا ما ازددت لك - بتوفيقك - إلا صبرًا ، وعنك - بمنك وحمدك - إلا رضًا ؛ قال خلف : وكان الجذام قد قطع يديه ورجليه وعامة بدنه ( [1] ) .
وعنه قال : وسمعت رجلا منهم يقول : إن كنت إنما ابتليتني لتعرف صبري فأفرغ علي صبرًا يبلغني رضاك عني ؛ وإن كنت إنما ابتليتني لتثيبني وتأجرني وتجعل بلاءك لي سببًا إلى رحمتك بي ، فمَنْ من عبادك أعظم نعمة ومنة مننت بها عليَّ ، إذ رأيتني لاختبارك لها أهلا ، فلك الحمد على كل حال ، فأنت أهل كل خير وولي كل نعمة ؛ قال : فلما كان بالعشي مات ( [2] ) .
2 – وروى عن أبي عبد الرحمن المغازلي قال : دخلت على رجل مبتلى بالحجاز ، فقلت : كيف تجدك ؟ قال : أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به ، وأجد نعمه علي أكثر من أحصيها ؛ فقلت : أتجد لما أنت فيه ألما شديدًا ؟ فبكى ، ثم قال : سلا بنفسي عن ألم ما بي ما وعد عليه سيدي أهل الصبر من كمال الأجور في شدة يوم عسير ؛ قال : ثم غشي عليه ، فمكث مليًّا ، ثم أفاق فقال : إني لأحسب أن لأهل الصبر عند الله غدًا في القيامة مقامًا شريفًا لا يتقدمه من ثواب الأعمال شيء ، إلا ما كان من الرضا عن الله U ( [3] ) .
3 - وروى علي بن الحسن بن أبي مريم قال : كان رجل بالمصيصة ذاهب النصف الأسفل ، لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده ، ضرير ، على سرير ملقى ، مثقوب له للبول ؛ فدخل عليه داخل فقال : كيف أصبحت يا أبا محمد ؟ قال : مُلك الدنيا منقطع إلى الله تبارك وتعالى ، ما لي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام ( [4] ) .
4 - وعن يحيى بن عمر الحنفي ، وذكر عن رجل من بني حنيفة قال : أرادوا شيخًا لهم كان به داعي العلاج ، فأبى وقال : وجدت الله قد نَحَلَ أهل الصبر نِحلا ما نحله غيرهم من عباده ؛ قيل : ما هو رحمك الله ؟ قال : سمعته يقول تبارك اسمه : ] إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ( الزمر : 10 ) ، فما كنت لأعدل بذلك شيئًا أبدًا ؛ قال : فلم يتعالج ، وكان إذا اشتد به الوجع قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فيسكن عنه الألم ، ويجد لذلك خفة وهدوءًا ( [5] ) .

[1] - الرضا عن الله بقضائه ( 60 ) ، والصبر والثواب عليه ( 63 ) .

[2] - الصبر والثواب عليه ( 64 ) .

[3] - الصبر والثواب عليه (109) .

[4] - الصبر والثواب عليه ( 133 ) .

[5] - المصدر السابق ( 137 ) .
 
هذه قصة اقرأها بتأمل وتدبر
روى ابن أبي الدنيا عن الأوزاعي قال : حدثني بعض الحكماء قال : خرجت وأنا أريد الرباط ، حتى إذا كنت بعريش مصر ، أو دون عريش مصر ، إذا أنا بمظلة وإذا فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره ، وإذا هو يقول : اللهم إني أحمدك حمدًا يوافي محامد خلقك ، كفضلك على سائر خلقك ، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا ، فقلت : والله لأسألنه أعلمه أم ألهمه إلهامًا ؟ قال : فدنوت منه ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، فقلت : إني سائلك عن شيء أتخبرني به ؟ قال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، فقلت : على أي نعمة من نعمه تحمده عليها ؟ أم على أي فضيلة من فضائله تشكره عليها ؟ قال : أليس ترى ما قد صنع بي ؟ قال : قلت : بلى قال : فوالله لو أن الله سبحانه صب علي السماء نارًا فأحرقتني ، وأمر الجبال فدمرتني ، وأمر البحار فغرقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ، ما ازددت له إلا حبًّا ، ولا ازددت له إلا شكرًا . وإن لي إليك حاجة ، بني لي كان يتعاهدني لوقت صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، انظر هل تحسه لي ؟ فقلت : إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله . قال : فخرجت في طلبه ، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله قال : قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف آتي هذا العبد الصالح من وجه رفيق فأخبره الخبر ؛ لا يموت ؟ قال : فأتيته ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، فقلت : إني سائلك عن شيء أتخبرني به ؟ قال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به قال : قلت : أنت أكرم على الله منزلة أم أيوب u ؟ قال : بل أيوب e كان أكرم على الله مني ، وأعظم منزلة عند الله مني . قال : قلت : أليس ابتلاه الله فصبر ، حتى استوحش منه من كان يأنس به وصار غرضًا لمرَّار الطريق ؟ قال : بلى . قلت : فإن ابنك الذي أخبرتني من قصته ما أخبرتني ، خرجت في طلبه ، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله . فقال : الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ؛ ثم شهق شهقة فمات رحمه الله .
قال : قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون من يعينني على غسله وكفنه ودفنه ؟ قال : فبينما أنا كذلك إذا أنا بركب قد بعثوا رواحلهم يرويدون الرباط ؛ قال : فأشرت إليهم ، فأقبلوا إلي . فقالوا : ما أنت وهذا ؟ فأخبرتهم بالذي كان من أمره قال : فثنوا أرجلهم ، فغسلناه بماء البحر ، وكفناه ، بأثواب كانت معهم ، ووليت الصلاة عليه من بينهم ، ودفناه في مظلته تلك ومضى القوم إلى رباطهم ، وبت في مظلته تلك الليلة أنسًا به ، فلما مضى من الليل مثل ما بقي منه ، إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء ، عليه ثياب خضر ، قائمًا يتلو الوحي ، فقلت : ألست أنت صاحبي ؟ قال : بلى . قلت : فما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ قال : وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء .
قال الأوزاعي : ما زلت أحب أهل البلاء منذ حدثني الحكيم بهذا الحديث ( [1] ) .

هذه نماذج من ديوان الصابرين ، أردنا بذكرها تأنيس إخواننا المرضى ، وتسليتهم لما هم فيه ، وتنبيههم إلى أنهم ليسوا وحدهم في دنيا الابتلاء ، وإلى تذكيرهم بأن اللجوء إلى الله تعالى ، والصبر على ابتلائه ، والرضا بقضائه ؛ سيجد معه المبتلى تخفيفًا لما به ، وسيكون له مع ذلك الأجر العظيم مع كفارة الذنوب ، ورفع الدرجات بإذن الله الكريم .
وما أحسن ما قال أبو العتاهية:
اصبرْ لكلِ مصيبةٍ وتجلَّدِ ... واعلمْ بأن المرءَ غيرُ مخلدِ
أو ما ترى أن المصائبَ جمةٌ ... وترى المنيةَ للعبادِ بمرصدِ
من لم يُصَبْ مِمَّنْ ترى بمصيبةٍ؟ ... هذا طريقٌ لستَ فيهِ بأوحدِ
وإذا أتتكَ مصيبةٌ تَشجى لها ... فاذكرْ مصابَكَ بالنبي محمدِ
واذكر - أيها المبتلى - ما روى ابن حبان والحاكم وصححه عن عائشة ، أنها قالت : أتى جبريل u النبي e فقال : " إن الله U يأمرك أن تدعو بهؤلاء الكلمات ، فإن الله معطيك إحداهن : اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك ، أو صبرًا على بليتك ، أو خروجًا من الدنيا إلى رحمتك " ( [2] ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - الصبر والثواب عليه ( 99 ) .

[2] - ابن حبان ( 2437 ) ، و الحاكم : 1 / 522 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .
 
عدم تمني البلاء
جاءت السنة ببيان الأدب مع الابتلاء إذا لم يقع بعدم تمنيه أو الدعاء به ، بل الدعاء بالعافية ؛ وسؤال الله تعالى ذلك في الدنيا والآخرة .
روى أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ؛ كُنْتُ أَقُولُ : اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " سُبْحَانَ اللَّهِ ! لَا تُطِيقُهُ ، أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ ؛ أَفَلَا قُلْتَ : اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " قَالَ : فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ ( [1] ) .
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابْنِ عُمَرَ قَالً : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ e يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي ، وَآمِنْ رَوْعَاتِي ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي " قَالَ وَكِيعٌ : يَعْنِي الْخَسْفَ ( [2] ) .

[1] - أحمد : 3 / 288 ، ومسلم ( 2688 ) ، والترمذي ( 3487 ) .

[2] - أحمد : 2 / 25 ، وأبو داود ( 5074 ) ، وابن ماجة ( 3871 ) والحاكم : 1 / 517 ، 518 وصححه ووافقه الذهبي .
 
المريض وعبادته
للمريض حال تستدعي التخفيف في بعض أمور العبادات ، ومن رحمة الله تعالى أن يسر على عباده في هذا الشأن : ] مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ ( المائدة : 6 ) ؛ فدين الله يسر ؛ وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " ( [1] ) ، وفي مسند أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله e قال : " إني أرسلت بِحَنيفيَّة سَمْحَة " ( [2] ) .
فهذه الشريعة السمحاء قد خفف الله فيها عن عباده ويسر فيها على من حاله يستحق التيسير في بعض أمور العبادة ، حتى يُقبِل العبد على ربه في جميع أحواله من غير كلفة فوق طاقته .
ولكن ليعلم العبد أنه في هذه الأحوال - أيضًا - يلزمه عبادات أخرى مثل : الصبر على الابتلاء ، والرضا بالقضاء ، والتسليم لرب الأرض والسماء ، والدعاء الذي يكون فيه من الخير ما الله به عليم ؛ إذ به يرفع القضاء ، ويخفف البلاء ، ويعجل الشفاء ، فهو من باب دفع القدر بالقدر .
فليجتهد المريض في أداء الفرائض ، وليكثر من الذكر والدعاء ؛ وليحذر المبتلى أن يقابل الابتلاء بالجزع فيحرم الأجر ، أو يقصر في عبادة ربه فيستحق العقوبة ؛ بل عليه أن يلاقي الابتلاء بالصبر ، وأن يجتهد في أداء العبادات ، كما يجتهد في الدعاء والذكر .
وفي ( شعب الإيمان ) للبيهقي عن مجاهد - رحمه الله - قال : يؤتى بثلاثة يوم القيامة : بالغني والمريض والعبد المملوك ، فيقال للغني : ما منعك من عبادتي ؟ فيقول : يا رب ، أكثرت لي من المال فطغيت ؛ فيؤتى بسليمان u في ملكه فيقول : أنت كنت أشد شغلا من هذا ؟ فيقول : لا ، بل هذا ؛ قال : فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني .
ثم يؤتى بالمريض فيقول : ما منعك من عبادتي ؟ فيقول : شُغِلْتُ على جسدي ، فيؤتى بأيوب في ضره فيقول : أنت كنت أشد ضرًا من هذا ؟ قال : لا ، بل هذا ؛ قال : فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني .
ثم يؤتى بالمملوك فيقول : ما منعك من عبادتي ؟ فيقول : يا رب ، جعلت علي أربابًا يملكونني . فيؤتى بيوسف في عبوديته فيقول : أنت كنت أشد عبودية أم هذا ؟ قال : لا بل هذا ؛ قال : فإن هذا لم يمنعه أن عبدني ( [3] ) .
فالعبد المؤمن لا يؤثر الابتلاء فيه على طاعته ، بل يجتهد أن يحافظ على ما كان يؤديه من عبادة ، فإن عجز عن ذلك فإن الله تعالى يؤجره عما كان يفعله صحيحًا ؛ وروى ابن أبي الدنيا عن مخلد بن حسين قال : كان بالبصرة رجل يقال : له شدَّاد ، أصابه الجذام فتقطع ، فدخل عليه عواده من أصحاب الحسن فقالوا له : كيف تجدك ؟ قال : بخير ؛ قال : أما إنه ما فاتني جزئي بالليل منذ سقطت ، وما بي إلا أنى لا أقدر على أن أحضر صلاة الجماعة ( [4] ) .
ولما كانت حال المريض تستدعي تخفيفًا – كما تقدم – أردنا أن نبين هنا ما يتعلق بفريضتي الصلاة والصيام من أحكام للمريض .
ولما كانت الطهارة شرطًا للصلاة ، والشرط يقدم ، فسنبدأ بالحديث عن أحكام الطهارة التي تتعلق بالمريض .

[1] - البخاري ( 39 ) .

[2] - أحمد : 6 / 116، 233 ، عن عائشة ، وإسناده صحيح ، وله شواهد عن أبي أمامة وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس .

[ 3 ] - شعب الإيمان للبيهقي ( 9528 ) .

[4] - الرضا عن الله بقضائه ( 41 ) .
 
أحكام طهارة المريض
نعني بأحكام الطهارة رفع الحدث سواء أكان أصغر أو أكبر ؛ وكذلك إزالة النجس .
والحدث الأصغر : هو ما أوجب الوضوء ، وأسبابه تشمل أمورًا منها : البول , الغائط , الريح , المذي والودي , الإفرازات المهبلية التي تخرج من فرج المرأة .
والحدث الأكبر : هو ما أوجب الغسل ، وأسبابه تشمل أمورًا منها : الاحتلام , الجماع , الحيض والنفاس .
وأما إزالة النجس ؛ فتشمل أمورا منها : إزالة البول والغائط والدم من الثوب والبدن والمكان .
ما يتعلق بالمريض من إزالة النجاسة
من المعلوم أن إزالة النجاسة من الثوب والبدن والمكان شرط في صحة الصلاة ، ولما كان من المرضى مَنْ حاله لا تساعده أحيانا على ذلك ، فقد قال أهل العلم :
· الملابس أو البدن إن أصابهما شيء من النجاسة من بول أو غائط أو دم يجب عليه إزالتها أو استبدال الملابس بغيرها طاهرة إن وجد , فإن عجز صلى على حاله ولا شيء عليه .
· العاجز عن الاستنجاء (أي غسل السبيلين بعد قضاء الحاجة ) بالماء ، فيمكن أن يستخدم الورق أو القماش أو نحوه ، ويعفى عن الأثر المتبقي ؛ فإن عجز عن ذلك سقط عنه الاستنجاء .
· ومن أراد الصلاة وهو عاجز عن الوضوء ، فإن كان يقدر على التيمم فعله ، وإلا صلى على حاله لقوله تعالى : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ ( التغابن : 16 ) .
 
أحكام الوضوء والغسل للمريض
الناس في هذا أربعة أقسام .
1- قسم يقدر على ذلك بنفسه , فهذا يلزمه الوضوء والغسل إذا دخل وقت الصلاة .
2- قسم يقدر على الطهارة لكنه يعاني من ناقضٍ مرضي كسلس البول والريح ، والرعاف الدائم ، والجرح الذي لا يرقأ ، والاستحاضة للمرأة ؛ وأصحاب هذه الأعذار لا يتوضؤون إلا إذا دخل وقت الصلاة بعد إزالة النجس الذي علق بالثوب من البول والدم ، وأما الريح فلا يحتاج إلى غسل ثوبه منه إذ لا دليل على ذلك ؛ ويصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل ، فإذا خرج الوقت بطل وضوءهم ، وعليهم استئناف الوضوء للفريضة الأخرى في وقتها .
3- قسم لا يقدر على الطهارة بنفسه بل بمساعد ؛ وهذا يلزمه التطهر إذا وجد من يعينه عليه .
4- قسم لا يقوى على التطهر بنفسه أو بمساعدة غيره له ؛ فهذا يتيمم إن قدر على ذلك بنفسه أو بمساعدة غيره ، فإن عجز صلى على حاله ، ولا شيء عليه ؛ ولا تسقط عنه الصلاة إلا إذا فقد العقل عن إدراك ما يفعل ؛ قال الله تعالى : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ ( التغابن : 16 ) .
وهذه أحوال خاصة لابد من ذكرها :
· من أجري له عملية وكان الإخراج من غير مكانه ؛ فينتقض وضوءه إذا خرج منه شيء من بول أو غائط , ويلزمه الوضوء . ولا يعتبر الريح الذي يخرج من غير مكانه ناقضا ؛ لأنه ليس هذا مخرجه .
· من وضع له جهاز لإخراج الفضلات من بول أو غائط ويضره نزعه أو يصعب عليه إزالته حال الصلاة ؛ فإنه يتوضأ وعليه الأجهزة , وإن عجز عن الوضوء يتيمم ويصلي ولا شيء عليه .
· ومن كان على بدنه أجهزة يضره نزعها حال الوضوء أو الغسل ؛ فإن كان يقدر على الوضوء أو الغسل لزمه ذلك ولو أخر الصلاة لأخر وقتها , وإلا تيمم وصلى .
· المغمى عليه أو المخدَّر ، يعتبر وضوءه منتقضًا ، وعليه تجديد وضوءه بعد إفاقته .

كيفية الوضوء مع المسح على الجبيرة أو العصابة
· إذا كان بالإنسان جرح أو كسر ، وأراد أن يتوضأ أو يغتسل من جنابة ، فيجب عليه غسل أعضائه إذا لم يكن يتضرر من إيصال الماء إلى العضو .
· فإن خاف الضرر بأن ترتب علي الغسل حصول مرض أو تأخر شفاء ، انتقل فرضه إلى مسح العضو المريض بالماء .
· فإن خاف الضرر من المسح المباشر ، وضع على الجزء المراد غسله عصابة أو لفافة ومسح عليه .
· فإن كان على جرحه عصابة أو على كسره جبيرة ، غسل ما دونه من العضو ومسح على العصابة أو الجبيرة . وإذا لم يستطع غسل الصحيح تيمم ؛ على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .
ولا يشترط – على الراجح – تقدم طهارة لشد الجبيرة أو ربط العصابة ، كما لا يشترط زمن للمسح ، بل يمسح عليها في الوضوء والغسل مادام العذر قائمًا .
ولكن متى ما أزيلت يجب على صاحبها أن يجدد الوضوء والغسل , إن كان قد اغتسل وهي عليه .

وأما إذا كان لا يتضرر من نزع الجبيرة أو العصابة عند وضوئه أو غسله ثم إعادتها بعد الوضوء أو الغسل ؛ فيلزم صاحبهما نزعها حال الغسل أو الوضوء إذا كانت على أحد أعضائه .

كيفية الطهارة في حالات الحروق
الحروق - على اختلاف درجاتها - لها حالتان :
الأولى : أن لا يضرها المسح عليها حال الوضوء أو الغسل ؛ فيجب يمسح عليها سواء أكانت مغطاة أو مكشوفة .
الثانية : أن يضرها المسح عليها حال الوضوء أو الغسل ، فلا يمسح عليها بل يغسل أعضاءه التي ليست بها الحروق ، ويتيمم للجزء المتضرر .
وأما إن كان الجسم قد تضرر بأكمله فإنه يتيمم بدل الوضوء أو الغسل .
 
التيمم
التيمم من خصائص هذه الأمة ، فضلا من الله ومنة ، ويشرع التيمم لمن فقد الماء أو فقد القدرة عل استعماله ؛ فالمريض الذي يشق عليه استعمال الماء في طهارته - وضوءا كانت أو غسلا - يتيمم لكل صلاة حتى يزول عذره ، وله بهذا التيمم أن يصلي فريضة الوقت وما يلتحق بها من نوافل .

وصفة التيمم
1 - أن ينوي بقلبه استباحة ما يتيمم له ( كصلاة وتلاوة ) .
2 - ثم يقول : بسم الله ؛ ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع التراب ضربة واحدة .
3 - ثم ينفخ فيهما ، أو يضرب إحداهما بالأخرى ضربا خفيفا ( حافة السبابة اليمنى بحافة السبابة اليسرى ) .
4 - ثم يمسح بباطن أصابعه وجهه .
5 – ثم يمسح براحتيه كفيه .
ويجوز – عند بعض العلماء - أن يضرب بيديه ضربة يمسح بها وجهه ، وأخرى يسمح بها يديه ، على الصفة المتقدمة .
والأصل في ذلك ما رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ : إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ ؟ فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ e فَقَالَ النَّبِيُّ e : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " فَضَرَبَ النَّبِيُّ e بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ . وفي رواية : فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا .

تنبيهات
الأول : إذا لم يستطع المريض أن ينزل إلى الأرض التي يتيمم عليها ، فيمكنه أن يملأ إناء بتراب يكون تحت سريره يتيمم به ، أو يكون عنده حجر مما يصلح التيمم عليه ، أي : يكون عليه بعض تراب .
الثاني : يبطل التيمم ما أبطل الوضوء ، كما يبطله زوال المبيح ، فلو عوفي المريض قبل أن يصلي لزمه أن يتوضأ ، وأما بعد صلاته فلا يلزمه الإعادة حتى وإن كان الوقت باقيا ؛ وأما إن استطاع استعمال الماء وهو يصلي فيقطع صلاته ويتوضأ ويعيد الصلاة . وأما خروج الوقت ، فذهب الجمهور إلى أن التيمم يبطل بخروج الوقت ، ويلزم المتيمم التوضأ بعد دخول وقت كل صلاة إذا وجد المبيح لذلك ؛ ومذهب الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد - رحمهما الله - أن خروج الوقت لا يبطل التيمم ، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وصححه العثيمين ( [1] ) .
الثالث : من عدم التراب صلى على حاله .


[1] - انظر مجموع الفتاوى : 21 / 352 وما بعدها ، ( والشرح الممتع ) للعثيمين : 2 / 213 ، 214 ( مكتبة الأنصار ) .
 
صلاة المريض
الصلاة عماد الدين ، ولا تسقط الصلاة عن أحد من المسلمين إلا عن الصغير حتى يبلغ الحلم ، أو المرأة الحائض ، أو الذي فقد عقله بجنون أو نحوه ؛ وما عدا ذلك فلا تسقط وإن اشتد به المرض ، ولكن الله تعالى خفف عن عباده ؛ فمن استطاع أن يؤدي الصلاة كاملة بأركانها وواجباتها ، وجب عليه ذلك ؛ ومن يقدر على بعض الأركان أو الواجبات دون البعض ؛ فيجب عليه أن يأتي ما يستطيعه من الأركان والواجبات حتى ولو كان ركنا أو واجبا واحدا ؛ روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ t قَالَ : كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ e عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ : " صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ " ( [1] ) . ثم قال البخاري - رحمه الله : بَاب ( إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِيَ وَقَالَ الْحَسَنُ : إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا وَرَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا ) .
وعلى هذا الحديث بنى الفقهاء ما ذكروا من صلاة المريض والمعذور ، وإليك كيفية صلاة المريض :
1 - يلزم المريض القادر على القيام أن يصلي الفريضة قائما ولو مستندًا إلى شيء .
2 – فإن عجز عن القيام أو شق عليه لما قد يلحقه من ضرر صلى قاعدا متربعًا ، ويومئ بالركوع ، ويأتي بالسجود على الأرض إن استطاع ، وإلا أومأ به .
3 – فإن عجز أو شق عليه ذلك ، صلى على جنبه ، ويكون مضطجعا على جنبه الأيمن إن قدر وإلا على جنبه الأيسر , ويكون مستقبلا القبلة ويومئ بالركوع والسجود ويجعل سجوده أخفض .
4 - وإن عجز عن الصلاة على جنبه فمستلقيًا ورجلاه مما يلي القبلة ؛ وإن كان على فراشه وهو على خلاف القبلة ويعجز عن التوجه إليها ؛ فيلزمه المحاولة في التوجه للقبلة ، وإن عجز صلى على حاله .

5 – كما يلزمه الركوع إن استطاعه من قيام ، فإن لم يستطع وكان يصلي قائما جلس ( ولو على كرسي ) وأومأ .
6 – وكذا السجود إن استطاعه وكان قائما يهوي إليه ، وإن لم يستطعه جلس وأومأ وجعل إيماءه لسجوده أخفض من ركوعه .
7 – إن عجز عن جميع ما تقدم أومأ بطرف عينه واستحضر الفعل بقلبه عند إيمائه له ؛ وكذا يستحضر القول بقلبه ( قراءة أو تكبيرا أو تسبيحا أو تشهدا ، كل في محله ) عند العجز عن القول .
8 - وإن عجز عن الإيماء بطرفه يستحضر الصلاة بقلبه مادام يعقل ؛ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن عجز عن الإيماء برأسه لا يلزمه الإيماء بطرفه ، وإنما يستحضر الصلاة بقلبه ، فينوي بقلبه الركوع ويقول أذكاره ، وينوي بقلبه الرفع من الركوع ويقول أذكاره ، وهكذا باقي أفعال الصلاة ؛ لقوله تعالى : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ ( التغابن : 16 ) ، ولأنه لم يرد عن النبي e الإيماء بالطرف ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيهات :
الأول : لا تسقط الصلاة عن المريض ما لم يفقد عقله ، لقدرته مع العقل أن ينوي بقلبه مع الإيماء بطرف العين ، أو أن يجري أعمال الصلاة على قلبه .
الثاني : إذا قدر المريض على القيام وكان يصلي قاعدا ، أو على القعود وكان يصلي مضطجعا أو مستلقيا ، وجب أن يفعل ما استطاعه وإن كان في أثناء الصلاة ؛ وكذا الركوع والسجود إن كان يومئ . فمن وجد في نفسه قوة أثناء الصلاة من غير ضرر به وكان قد ترك بعض الأركان فيلزمه أن يكمل بقية صلاته بجميع الأركان والواجبات .
الثالث : يباح الجمع للمريض ، إن شق عليه أن يصلي في الوقت لعذر من الأعذار ، أو كان لا يفيق إلا في أحد الوقتين ، جمع تقديم أو جمع تأخير .
الرابع : المغمى عليه أو المخدَّر بالبنج ؛ يقضي ما فاته من الصلاة ما لم يكن كثيرا وغير شاق عليه ، وإن لم يفعل فلا شيء عليه .

الخامس : لا يؤثر ذلك في أجر صلاة المريض ، بل يكتب له أجره كما لو كان صحيحا ؛ كما يكتب له ما عجز عليه من النوافل التي كان يداوم عليها في حال صحته ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا " .
تقبل الله منا ومنكم ورزقنا وإياكم تمام العافية في الدنيا والآخرة .


[ 1 ] - البخاري ( 1117 ) .
 
المريض والصيام

من رحمة الله تعالى بعباده أن خفف عن المريض إن عجز عن الصوم بسبب مرضه ، أو كان صيامه يؤخر شفاءه فنصحه طبيب مسلم ثقة بالفطر ؛ أو كان صائما صحيحًا ثم ابتلي بمرض مفاجئ صعب عليه معه مواصلة الصوم ؛ فإن هؤلاء جميعا يباح لهم الفطر على أن يقضوا بعد ذهاب المرض أياما بعدد ما أفطروه مما فاتهم من شهر رمضان .
قال الله تعالى : ] فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ ( البقرة : 184 ) ؛ هذه الآية هي الأصل في هذا الباب ، فالذين يرخص لهم في الفطر في رمضان المريض والمسافر ومن يشق عليه الصيام مشقة غير محتملة من كبار السن والحوامل والمرضعات ومن في حكمهم ؛ وما يختص برسالتنا هذه هو ما يتعلق بالمريض ، وإليك بيانه :
المريض مع الصيام له حالتان : إحداهما : أن يرجى زوال مرضه ، فهذا إذا خاف مع الصيام زيادة مرضه أو تأخر شفائه فله الفطر إجماعًا ؛ بل جعله بعض أهل العلم مستحبًا لقوله تعالى : ) وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( ( البقرة : 185 ) ، ولما رواه الإمام أحمد وغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ " ( [1] ) .
فإن تيقن أن الصوم يضره ، فإنه يجب عليه أن يفطر ويحرم عليه الصيام لقوله تعالى : ) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ( النساء : 29 ) ؛ وإذا أفطر لمرضه الذي يرجى زواله قضى بعدد الأيام التي أفطرها ولا كفارة عليه .
الحالة الثانية : أن يكون المرض لا يرجى زواله ، كالسرطان والسكري ونحو ذلك ، فإذا كان الصوم يشق عليه مشقة لا تحتمل ، فإنه لا يجب عليه لأنه لا يستطيعه ، وقد قال الله تعالى : ) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا ( ( البقرة : 286 ) ، بل يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليه ؛ لأنه ليس له حال يصير بها متمكنا من القضاء ؛ وفي هذا وأمثاله يقول تعالى : ) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( ( البقرة : 184 ) ، وروى البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ t قَالَ : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا . ورواه النسائي ، وفيه : لَا يُرَخَّصُ فِي هَذَا إِلَّا لِلَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ أَوْ مَرِيضٍ لَا يُشْفَى ( [2] ) .
قال ابن القيم - رحمه الله : وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء ؛ فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه ، لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب ، فلم تعد إلى الشغل بما برئت منه ( [3] ) .
هذا والعلم عند الله تعالى .
[1] - أحمد : 2 / 108 ، وصححه ابن ابن خزيمة ( 950 ) ، وابن حبان ( 2742 ) .

[2] - البخاري ( 4505 ) ، والنسائي ( 2317 ) .

[3] - انظر بدائع الفوائد : 4 / 906 .
 
وختامًا
أخي المريض " لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ " ؛ وأسأل الله تعالى أن يعجل لك الشفاء ؛ وبعد أن طوفنا بك في هذه الرسالة مع فقه الابتلاء ، ونماذج من المبتلين ، وأحكام تخص حالة المرض ؛ أذكِّر نفسي وإياك ؛ بأنا نحتاج إلى الصبر في كل أحوالنا ؛ وما أجمل ما قال سفيان الثوري - رحمه الله : كان يقال : يحتاج المؤمن إلى الصبر كما يحتاج إلى الطعام والشراب ( [1] ) ؛ واقرأ هذه الموعظة متأملا متدبرًا معتبرًا : روى ابن أبي الدنيا عن محمد بن صبيح العجلي قال : أعطي الصابرون الصلاة من الله عليهم ، والرحمة منه لهم ؛ فمن ذا الذي يدرك فضلهم إلا من كان منهم ؟ هنيئًا للصابرين ، ما أرفع درجتهم وأعلى هناك منازلهم ، والله إن نال القوم ذلك إلا بمنه وتوفيقه ، فله الحمد على ما أعطى من فضله ، وأسدى من نعمه ، وله الحمد كثيرا علينا وعلى جميع خلقه ، فهو الغني فلا يمنعه نائل ، وهو الكريم فلا يحفيه سائل ، وهو الحميد فلا يبلغ مدحه قائل ؛ ونحن عباده ، فمن بين مخذول حرم طاعته فلم يصبر عن معصيته ، ومن بين مطيع وفقه لمرضاته وصبَّره عن الدنيا وما فيها من معصيته ، ثم غمرنا بعد ذلك بتفضله فقال : ] وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ ( الأعراف : 156 ) ، فنحن نرجو أن ننالها بتفضله وإن لم نكن من أهلها بسوء أعمالنا القبيحة ، واسوأتاه ، من كريم يكرمك وأنت متعرض لما يكره صباحا ومساء ( [2] ) .
وما أحسن ما قال أبو العتاهية :
صبرتُ ولم أُبدِ اكْتِئابًا ولا تَرَى ... أخا جَزَعٍ إلاَّ يصيرُ إلى الصَّبرِ
وإنِّي وإنْ أبديتُ صبراً لمُنطوٍ ... على حَرِّ أحزانٍ أحرَّ من الجمرِ
وأملِكُ من عَيني الدُّموعَ وربَّما ... تبادرَ عاصٍ من سوابقها يجرِي
وفقنا الله تعالى وإخواننا المسلمين إلى الصبر الجميل ، وعافانا من الفتن والبلايا ما ظهر منها وما بطن ، وعجل لمرضانا الشفاء مع الأجر العظيم إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .


[1] - ( الصبر والثواب عليه ) لابن أبي الدنيا ( 86 ) .

[2] - الصبر والثواب عليه ( 145 ) .
 
جزاكم الله خيرا نسأل الله أن يكتبنا من الصابرين الشاكرين ويحسن خاتمتنا جميعا
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، والحمدلله رب العالمين على نعمه الظاهرة والباطنة.
 
عودة
أعلى