رد الشيخ عيسى منون الفلسطيني على الشيخ عبد المتعال الصعيدي في مسألة عقوبة المرتد

محمد براء

New member
إنضم
12/03/2006
المشاركات
375
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
بسم الله الرحمن الرحيم
رد الشيخ عيسى منون الفلسطيني رحمه الله تعالى على الشيخ عبد المتعال الصعيدي في مسألة عقوبة المرتد​
هذه صفحة أخرى من صفحات المساجلات العلمية بين فقهاء المسلمين وعلمائهم في العصر الحديث ، وبين مشايخ المدرسة التنويرية ، وإن شئت فقل : بين المدرسة المحافظة والمدرسة التنويرية ، وقد سبق أن عرضت السجال الذي دار بين الشيخ محمود شلتوت وبين المشايخ في زمانه في مسألة رفع عيسى عليه السلام .
وقضية قتل المرتد لها شأن خطير ، إذ هي مصادمة لأحد المفاهيم الغربية التي يتبناها التنويريون ويبذلون جهداً جهيداً في سبيل تطويع الشريعة لها - وهي حرية الاعتقاد - ، تارة بالطعن في أصول الشريعة من السنة والإجماع ، وتارة بالبحث في دواوين الإسلام عما يمكنهم التستر به من الآثار والأخبار ، إما بالافتراء الصريح أو بالتمسك بأخبار محتملة ، وتارة بتغيير مفهوم الردة ليضموا إليه أوصافاً ما جاء بها عقل ولا نقل ولا سمع بها أحد من أئمة الإسلام وفقهائهم .
والمقال الذي بين أيدينا هو جزء من سجال دار بين الشيخ الفقيه عيسى منُّون الفلسطيني (المتوفى سنة 1376 هـ = 1957 م ) ، أحد فقهاء الشافعية في العصر الحديث ، وقد ترجم له تلميذه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى ترجمة حافلة في كتابه (تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي ) ، وبين الشيخ عبد المتعال الصعيدي رحمه الله تعالى أحد شيوخ المدرسة العقلية الحديثة المقتفين لأثر الشيخ محمد عبده .
ولهذه المساجلة قصة ذكرها الصعيدي في كتابه (الحرية الدينية في الإسلام ) فلتراجع هناك ، وهذا المقال هو حلقة من هذا السجال ، أحببت نشره منفرداً لأهميته من جهة منزلة كاتبه ومن جهة جودته العلمية ، وقد نشر في مجلة الأزهر شعبان 1375 هـ = 1956 م .
حكم المرتد في الشريعة الإسلامية
كنت كتبت مقالاً بعنوان : متى يجوز الاجتهاد ومتى لا يجوز ؟ بمناسبة ما نشره الشيخ عبد الحميد بخيت في إباحة الفطر وشروطه ، وقد نشر هذا المقال في مجلة الأزهر وجريدة الجمهورية ، ثم اطلعت على كتيب مطبوع بعنوان : اجتهاد جديد للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، الأستاذ في كلية العربية ، وقد ذكر فيه مقالي المشار إليه ، وعقب عليه بأمور خمسة مهد لها بتمهيد رماني فيه وأمثالي من غالب علماء الأزهر بالجمود ، وأننا سبب ضعف المسلمين ، وقال : إن خطأ الشيخ بخيت يهون في جانب خطئهم وجمودهم .
ولما كان مسلكه في هذا التعقيب لا يجوز غض النظر عنه ، رأيت من الواجب عليَّ تنبيه المسلمين إلى ما فيه من الخطورة على أحكام الشريعة ، فإنه لو اتحذ هذا المسلك في أي حكم شرعي متفق عليه بين المسلمين لأمكن إنكاره والقول بخلافه ، ذلك أنه لم يبال بإجماع الأئمة ، ولم يراع ما تقرر في العلو م الشرعية والعربية ، حتى البديهي منها الذي لا يجهله صبيان المكاتب ، وقد تشبث بشبه لا تخلو الأدلة من مثلها .
وإني أبدأ التعقيب الثاني لأنه أهمها وأخطرها ، قال ما نصه :
" وهو ثانياً يرى أن حكم المرتد القتل ، لأنه المشهور عنده وعند أمثاله من علماء الأزهر ، وهو المقروء في الكتب الأزهرية ، وهو الذي قال به الأئمة الأربعة ، ولا قيمة لقول غيرهم في ذلك عندهم ، وإن كان هو المناسب لروح الشريعة الإسلامية ، فيجمدون على هذا ولا يرون شيئاً خلافه ، لأنهم لم يدرسوه في كتبهم ، مع أن المرتد فيه أقوال كثيرة ، منها : أنه يستتاب أبداً ولا يقتل ، وقد استدل من ذهب إليه بما روي عن أنس بن مالك أن أبا موسى الأشعري قتل جحينة الكذاب وأصحابه . قال أنس : فقدمت على عمر بن الخطاب فقال : ما فعل جحينة وأصحابه ؟ قال : فتغافلت عن ثلاث مرات ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، وهل كان سبيل إلا القتل ؟ فقال عمر : لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام ، فإن تابوا وإلا أودعتهم السجن .
وكذلك استدل بما رواه ابن مسعود في الرجل القائل : إن رسول الله لم يعدل ، ولا أراد وجه الله فيما عمل ، فإن هذا كفر وردة ، ومع هذا لم يمكّن مَن أراد قتله من أصحابه من قتله .
وقد رويت أخبار في مثل هذا من الكفر والردة ، ولم يرد في شيء منها أن من ارتد تاب من ردته ، ولا أنه قتل ، ولا أنه سجن ، ولا أنه استتيب ، ولنا أن نأخذ من هذا أنه لا يستتاب أيضاً .
وقد ذهب الحنفية إلى أن المرأة المرتدة لا تقتل ، واستدلوا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن قتل النساء ، لما رأى المرأة مقتولة وقال: ما كانت هذه لتقاتل . ويمكننا أن نأخذ من هذا أن من ورد في الأحاديث قتله من المرتدين كان مقاتلاً ، فيكون قتله لأنه مقاتل ، لا لأنه مرتد .
ويمكن أيضاً حمل ما ورد من قتل المرتد على من يرتد من العرب ، لأنهم خاصة لا يقبل منهم إلا الإسلام ، وكان هذا لسبب سياسي لا ديني ، لأنه اريد جعل جزيرة العرب وطناً خاصاً للمسلمين ، حتى يقضى على كل أسباب الفتن فيها ، وتكون ملجأ للمسلمين إذا أصيبوا في غيرها .
ولا شك أن عدم قتل المرتد هو المناسب لما جاء به الإسلام من الحرية الدينية ، لأن الدعوة فيه إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة ، لا بقتال أو غيره من وسائل الإكراه ، وقد نفى القرآن الإكراه في الدين نفياً صريحاً بقوله في الآية (256) من سورة البقرة : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، وقوله في الآية (29) من سورة الكهف : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
ولكن علماء الأزهر لا يزالون يصرون إلا النادر على أن هذا منسوخ بآيات القتال .. " .
إلخ ما قال مما لا فائدة فيه .
هذا ما قاله الأستاذ بالحرف ، وإني سأذكر ما قيل في شأن المرتد من مواطن الخلاف وموطن الوفاق ، مقتصراً في مواطن الخلاف على مجرَّد الحكاية ، من غير تعرض لمدارك الأئمة فيها ، وأما موطن الوفاق فسأذكر في شأنه كلام الأئمة في حكاية الإجماع ، وأبين الشبه التي يشتم منها رائحة الخلاف في هذا الحكم المجمع عليه ، والتي تشبث بها هذا المجتهد الجديد ثم أبطلها ، ثم أذكر الأدلة الشرعية التي استند إليها جميع الأئمة ، مع الإشارة إلى ما حاوله من تحويلها عن مجراها الطبيعي ، ثم أذكر الشبه التي تشبث بها ، والتي يشتم منها رائحة المعارضة لهذه الأدلة ، ثم أكرُّ كرَّاً عنيفاً على ما ادعاه من الحكم المخالف للإجماع .
ما قيل في شأن المرتد :
أجمع أئمة المسلمين من صحابة وغيرهم على أن الرجل المرتد عن دين الإسلام يقتل بردته ، واختلفوا في المرتدة : فذهب الجمهور إلأى أنها تقتل كالمرتد ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة وابن علية إلى أنها لا تقتل ، وروي ذلك عن ابن عباس .
واختلفوا أيضاً : فقيل : يقتل المرتد مطلقاً حالاً من غير استتابة ، وقيل : لا يقتل مطلقاً إلا بعد استتابة ، وقيل : إن كان زنديقاً يقتل من غير استتابة ، وإن كان غير زنديق لا يقتل إلا بعد استتابة .
واختلف القائلون بالاستتابة : فقيل : يستتاب مرة ، وقيل : ثلاث مرات ؛ قيل : في مجلس واحد ، أو في يوم واحد ، أو في ثلاثة أيام ، وعن علي أنه يستتاب إلى شهر ، وقيل : أكثر ، وعن إبراهيم النخعي : يستتاب أبداً . وسنذكر ما فيه .
حكاية الإجماع على قتل الرجل المرتد :
أولاً : قال ابن عبد البر في التمهيد في الكلام على حديث : من بدل دينه فاقتلوه : " وفقه هذا الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك وإنما اختلفوا في استتابته " وبعد أن ذكر الخلاف في الاستتابة وفي المرتدة قال : " وروى عثمان بن عفان وسهل بن حنيف وعبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعائشة وجماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس .
فالقتل بالردة على ما ذكرنا لا خلاف بين المسلمين فيه ، ولا اختلفت الرواية والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وإنما وقع الاختلاف في الاستتابة ، وفيما ذكرنا من المرتدة " اهـ .
ثانياً : قال صاحب المغني من فقهاء الحنابلة : وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وابن عباس، وخالد، وغيرهم، ولم ينكر ذلك، فكان إجماعاً " اهـ .
ثالثاً : قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة : " فراق الرجل بالردة عن دينه سبب لإباحة دمه بالإجماع ، واختلف الفقهاء في المرتدة " اهـ .
هذا بعض ما قيل من حكاية إجماع المسلمين - لا الائمة الأربعة فقط – على وجوب قتل المرتد .
ما يشتم منه رائحة الخلاف في قتل المرتد :
أولاً : نقل عن النخعي أنه قال : يستتاب المرتد أبداً ، فيفهم من ظاهر كلامه أنه يرى أن الرجل المرتد لا يقتل .
وقد اغتر بهذا الظاهر صاحب المغنى فقال – بعد أن حكى الإجماع كما سبق - : " وقال النخعي: يستتاب أبداً ، وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبداً ، وهو مخالف للسنة والإجماع " اهـ
وكذلك اغتر به ابن حزم في المحلى : " وقالت طائفة : يستتاب أبداً ولا يقتل " ، ورد عليه بقوله : ولو صح هذا لبطل الجهاد جملة ، لأن الدعاء كان يلزم أبداً مكرراً بلا نهاية ، وهذا قول لا يقوله مسلمٌ أصلاً ، وليس دعاء المرتد - وهو أحد الكفار - بأوجب من دعاء غيره من أهل الكفر الحربيين ، فسقط هذا القول " اهـ .
ويظهر أن المجتهد الجديد اغتر بكلام ابن حزم ، فحكى ما حكاه من الخلاف ، والتحقيق أن هذا الظاهر من كلام النخعي غير مراد ، لأنه لا معنى للاستتابة الدائمة ، إذا لم يترتب على عدم الإجابة شيء ، فيتعين حمله على أنه يستتاب أبداً كلما رجع إلى الردة ، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : " وعن النخعي يستتاب أبداً ، كذا نقل عنه ، والتحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة " اهـ
يعني : أنه إذا ارتد يستتاب ، فإن لم يتب قتل ، فإن تاب ترك ، فإن رجع وارتد ثانياً يستتاب ، فإن لم يتب قتل ، وإن تاب ترك ، وهكذا ، وهذا هو المعنى المعقول من كلام النخعي .
وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بسنده هذا المعنى عن النخعي ، أي أنه قال : المرتد يستتاب كلما رجع .
والدليل الصحيح الواضح على مراد النخعي ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم : " وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم – أي النخعي - : تقتل المرتدة " اهـ .
فإن كان النخعي يقول بقتل المرتدة التي فيها خلاف ، فهو يقول بقتل المرتد من باب أولى ، على أن الحافظ ابن حجر حينما بين أئمة الحديث الذين وصلوا هذا التعليق ظهر منه أن بعض الروايات عن النخعي بهذا النص : " وإذا ارتد الرجل والمرأة استتيبا ، فإن تابا تركا ، وإن أبيا قتلا " اهـ ، فلا حاجة بنا إلى القياس الأولوي على المرتدة ، فيتعين ما ذكرناه أن النخعي كغيره يقول بوجوب قتل المرتد إن لم يتب ، وأن معنى ما نقل عنه من قوله : " يستتاب أبداً |" ؛ أنه يستتاب كلما رجع ، والله أعلم .
ثانياً : ما رواه البيهقي في السنن الكبرى وابن عبد البر في التمهيد وابن حزم في المحلى عن أنس بن مالك أن نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ، ولحقوا بالمشركين فلما فتحت قتلوا في القتال ، فأتيت عمر بفتحها فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فعرضت في حديثه لأشغله عن ذكرهم ، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قلت : قتلوا ، قال: " لو كنت أخذتهم سلماً كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من بيضاء أوصفراء . فقلت : وهل كان سبيلهم إلا القتل ؟ ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين . فقال : أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وإلا استودعتهم السجن " .
وهذا لفظ رواية ابن عبد البر ، واللفظ الذي أورده المجتهد الجديد لفظ ابن حزم .
وظاهر هذه الرواية عن عمر أنه يرى عدم قتل المرتد في الحال ، ولكن لم يبين في هذه الرواية غاية سجنه : هل يسجن مدة معينة فإن لم يتب بعدها يقتل ؟ أو يخرج من السجن من غير قتل ؟ أو يسجن مؤبداً فلا يخرج من السجن إلا إن تاب ؟ كل محتمل .
وقد ورد عن عمر ما يعين مدة سجن المرتد بثلاثة أيام ، فإن تاب وإلا قتل ، فقد روى مالك في الموطأ قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري ، فسأله عن الناس ، فأخبره ، ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر؟
فقال: نعم ، رجل كفر بعد إسلامه .
قال: فما فعلتم به ؟
قال: قربناه ، فضربنا عنقه .
فقال عمر : أفلا حبستموه ثلاثاً ، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً ، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر ، ولم آمر ، ولم أرض ، إذ بلغني .
وفي رواية كما في التمهيد لابن عبد البر قال : " قدم وفد أهل البصرة على عمر فأخبروه بفتح تستر ، فحمد الله ثم قال : هل حدث فيكم حدث ؟ قالوا : لا والله يا أمير المؤمنين ، إلا رجل ارتد عن دينه فقتلناه . قال : ويلكم ! أعجزتم أن تطينوا عليه بيتاً ثلاثاً ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفاً ، فإن تاب قبلتم منه ، وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه ؟ اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني " اهـ
فهذا يدل على أن عمر يرى وجوب الاستتابة ، وإمهاله ثلاثة أيام مع سجنه فيها ، فإن تاب وإلا قتل ، فتحمل الرواية المطلقة على ذلك .
وقد استدل ابن القصار - كما في فتح الباري – بهذا الأثر عن عمر لِمَا قاله الجمهور من وجوب الاستتابة ثلاثة أيام وادعى أن عمر قاله بمحضر من الصحابة ، ولم ينكر عليه ، فكان إجماعاً اهـ .
هذا ما يمكن أن يتخيل فيه وجود خلاف بين المسلمين في وجوب قتل المرتد ، وقد تشبث به حضرة المجتهد الجديد ، ففهم منه الخلاف تبعاً لابن حزم الذي اغتر بما نقل عن النخعي ، وكان الواجب استيفاء البحث ليوفق بين وبين من نقل الإجماع .
الأدلة الشرعية التي تعتبر سنداً للإجماع :
أولاً : قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " ،أخرجه البخاري وأصحاب السنن ، وكلهم أخرجوه في ضمن قصة إحراق عليٍّ لبعض الزنادقة ، إلا ابن ماجه ، فاقتصر فيها على اللفظ .
ثانياً :قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة ، وقال ابن عبد البر في التمهيد كما تقدم : " ورواه عثمان بن عفان وسهل بن حنيف وعبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعائشة وجماعة من الصحابة " .
ثالثاً : ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فلما قدم عليه ألقى إليه وسادة ، قال: انزل . وإذا رجل موثق عنده ، قال : ما هذا ؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهود . قال : اجلس . قال : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فأمر به فقتل . وفي رواية زيادة بعد قوله : " قضاء الله ورسوله " هي قوله : " إن من رجع عن دينه - أو قال : بدل دينه – فاقتلوه " .
هذه بعض الأدلة الشرعية التي تعتبر سنداً للإجماع ، ومن المعلوم أن الصحابة عملوا بمقتضى هذه الأدلة ، فإن أبا بكر رضي الله عنه حارب أهل الردة باتفاق الصحابة ، وذلك معروف مشهور ، وأخرج ابن عبد البر في التمهيد : أن عليا أتى بالمستورد العجلي ، وقد ارتد عن الإسلام فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله . وأخرج أيضاً أن علياً أخذ رجلاً من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام ، فعرض عليه الإسلام شهراً فأبى ، فأمر بقتله .
ثم إن هذه الأحاديث الدالة على وجوب قتل المرتد وآثار الصحابة تفيد العمل بمقتضاها ليس فيها ما يشتم منه رائحة حملها على المرتد المقاتل ، ولا على المرتد من العرب الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام ، كما يقول حضرة المجتهد الجديد .
ومن الواضح أن المقاتلين سواء كانوا مرتدين أو كفاراً أصليين أو مسلمين بغاة يجب قتالهم على الوجه المقرر في الشريعة ، وهذا حكم آخر بأدلة أخرى غير هذه الأدلة التي وردت في من بدل دينه وكفر بعد إيمانه ، ولو كان فرداً واحداً لم يقاتل .
والمرتد الذي نفذ في القتل أبو موسى الأشعري لطلب معاذ كأن أصله يهودياً ، فأسلم ثم ارتد ، فلم يكن من العرب الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام .
ما يتخيل في المعارضة لهذه الأدلة :
أولاً : ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود أن قال : لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة حنين قال رجل من الأنصار : ما أراد بها وجه الله ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فتغير وجهه فقال : رحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا .
ثانياً : ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري أنه قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم ، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي ، فقال: اعدل يا رسول الله ! فقال: " ويحك ! ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ قال عمر بن الخطاب : ائذن لي فأضرب عنقه ، قال: " دعه ، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " .
وجه المعارضة : أن الذي صدر من هذين الرجلين في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر كفراً وردة ، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما ولا باستتابتهما ، ومنع عمر من قتل الثاني ، فدل ذلك على أن المرتد لا يقتل ، بل ولا يستتاب ، كما رآه حضرة المجتهد الجديد .
والجواب عن ذلك : أما عن الرجل الأول من المنافقين ، واسمه معتب بن قشير من بني عمرو بن عوف ، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بدء الإسلام بتغاضى عن المنافقين وعما يحصل منهم من إيذاء ، حتى لا يعرف عن أنه يقتل أصحابه ، فتنفر الناس عن الدخول في الإسلام ، وكان يرجو أن يهديهم الله إلى الإيمان كغيرهم ويعاملهم معاملة المؤمنين ، ويصلي على من مات منهم ، ولما استقر الإسلام وظهر أمره بجهادهم كمظهري الكفر ، فقال تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ، ونهاه عن الصلاة عليهم ، قال تعالى : " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " .
هذا ، واعلم أن ابن حزم في المحلى ذكر المنافقين وما كان يحصل منهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه شبهة لمن يقول بعدم قتل المرتد ، وأطال الكلام في ذلك ، وخلاصة ما أجاب به أن المنافقين أقسام : منهم من لم يكن يعرف الرسول عينه ، ومنهم من كان يعرفه ولكنه تاب ، وأما من كان يعرفه وظهر منه وكفر ولم يقتله فلأن ذلك كان قبل تشريع قتل المرتد .
وقد علمت أن مأخذ ابن حزم في حكاية هذا القول هو ما نقل عن النخعي ، وسبق تحقيق القول فيه .
وصاحبنا المجتهد الجديد تبع ابن حزم في حكاية هذا القول والشبه التي أوردها ، ولم يتبعه في رأيه فيها ، بل زاد عليه القول بعد استتابة المرتد أيضاً ، مع أن ابن حزم حكى الإجماع على ذلك ، وعبارته : " الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه ، فمن قائل : يكره ولا يقتل ، ومن قائل ، يكره ويقتل " اهـ .
وأما عن الرجل الثاني فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عنه بأنه رأس الخوراج ، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومآلهم وأمر بقتلهم وقتالهم ووقع كما أخبره ، وذلك من دلائل نبوته ، إلا أن صدور هذا الكلام من هذا الرجل رئيسهم كان قبل أن يستقر الإسلام ، فكان الحال داعياً للتآلف ، لئلا ينفر الناس عن الإسلام ، وقد ورد في بعض طرق الحديث أنه حينما أراد عمر قتله ومنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال عليه الصلاة والسلام : " ولا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي " ، وفي رواية : " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي " ، ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة : " باب ترك قتال الخوارج للتألف ، ولئلا ينفر الناس عنه " .
وقد صح عن أبي سعيد الخدري راوي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر الإسلام بعث إلى هذا الرجل على بن أبي طالب ليقتله ، فلم يجده . والله أعلم .
تنفيد الأدلة التي تخيلها من بنات فكره على ما ادعاه من مخالفة الإجماع :
أما قوله : " ولا شك أن عدم قتل المرتد هو المناسب لما جاء به الإسلام من الحرية الدينية " فغير صحيح على إطلاقه ، لا بالنسبة للمسلمين ولا بالنسبة للكفار ، أما المسلمون فقد تقرر في الشريعة عقوبات رادعة في الدنيا من حدود وتعازير لكل من تعدى منهم حدود الله ، فتارك الصلاة يعاقب بالقتل أو الحبس ، ومانع الزكاة تؤخذ منه قهراً ، فإن كان له منعة وقاتل يقاتل ، وهكذا ، فأين الحرية الدينية ؟
وأما الكفار فإن كانوا من أهل الكتاب وأمثالهم فالمطلوب منهم إما الإسلام وإما دفع الجزية ، احتراماً لأصل دينهم ، وأما من غيرهم فالمطلوب منهم الإسلام فقط ، فأين الحرية الدينية المطلقة لهم ؟
وأما قوله : " لأن الدعوة إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة " ، فهذا صحيح على الجملة ، لكن إن لم تفد الحكمة والموعظة الحسنة وعاند الكافر ولم يسلم ولم يدفع الجزية – إن كان من أهل الكتاب – أو وقف في سبيل الدعوة على الرأي الحديث ، فماذا يكون الحال ؟ أيترك حراً ولا يقاتل أم يقاتل ؟
وأما قوله : إن القرآن نفى الإكراه في الدين نفياً صريحاً واستدلاله بالآيتين ، فهذا من عجائب الأفكار ، وغرائب الأفهام ، أم الآية الأولى فكلام الأئمة فيها مشهور : فمنهم من قال : إن معناها لا إكراه من الله تعالى في الدين ولا إلجاء ولا قسر بعد أن تبين الرشد من الغي ، وإنما جعل الأمر موكولاً إلى اختيارهم أحد النجدين : طريق الهدى والرشاد ، وطريق الغي والضلال ، ليتحقق الابتلاء والامتحان في دار الدنيا ، ثم هو سبحانه وتعالى يجازي كاً حسبما فعل باختياره ، وربما يتوهم أن هذا المعنى إنما يتمشى على مذهب المعتزلة الذين يقولون بخلق العبد أفعاله الاختيارية ، وليس بصحيح ، بل يجري على مذهب أهل السنة أيضاً ، لأنهم يقولون : إن للعبد كسباً واختياراً هو مناط التكليف .
ومنهم من قال : إنه خبر بمعنى النهي ، والمعنى : لا تكرهوا أحداً على الإيمان ، وهي خاصة بأهل الكتاب ، فإنهم مخيرون بين الإسلام ودفع الجزية ، وسبب نزولها يؤيد هذا الرأي .
وهناك أقوال أخرى ، وكلها لا تمت إلى لمرتد بنسب ولا سبب .
وأما الآية الثانية : فالجواب عنها هو مجرد تلاوتها بتمامها ، قال الله تعالى : " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً " .
ولا شك أن العامي الذي يسمع تلاوتها كل حين من قارىء سورة الكهف يفهم منها أن الغرض التهديد من الله تعالى للكافرين ، ولا يخطر في باله أن المعنى على الإباحة والتخيير ، إذ لا معنى للوعيد الشديد حينئذ .
وقد رأيت كتاباً صغيراً يدرس لتلاميذ المدارس الأولية أو الإعدادية ، فيه التمثيل للأمر الوارد للتهديد بهذه الآية ، فكيف يغيب عن أستاذ اللغة العربية ما لم يجهله صبيان المكاتب ؟ فإذا كان هذا مبلغ إدراكه في اللغة العربية فكيف يصح أن يؤتمن على تدريسها ؟
هدانا الله وإياه إلى سواء السبيل .
 
عودة
أعلى