رد الشنقيطي على ابن حزم في نفيه للقياس

إنضم
28/02/2009
المشاركات
767
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
أصل هذه الدراسة كنت قد تقدمت بها كرسالة تخرج من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في موريتانيا.
وسوف أنقل منها فقرات ليستفيد منها الجمع ويثروها ، وتركت من الدراسة فصول التراجم للشيخين ، وفصول مباحث القياس ، ودرسة أصل الرد ، وبعض الفقرات المتفق عليها بين منكري ومثبتي القياس.

وأبدأ هنا بالفقرة الثانية : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( واعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس ويذمون الرأي ويقولون إن من قاس فقد اتبع إبليس لأنه أول من رد النصوص بالقياس .
وعن ابن سيرين( ) رحمه الله : "ما عبدت الشمس إلا بالمقاييس"( ) ويذكرون في كلام السلف ذم الرأي والقياس ).
أقول : إن كلام السلف في ذم القياس كثير منثور في ثنايا كتبهم رحمهم الله تعالى
وأمثلته كثيرة منها :
ما ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم.
ما صح عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال اتهموا الرأي على الدين وإن الرأي منا هو الظن والتكلف.
وعن عثمان رضي الله عنه في فتيا أفتى بها إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذه ومن شاء تركه.
وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صوابا فمن الله وحده وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء.
وعن معاذ بن جبل في حديث من يبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة.
 
الفقرة الثالثة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس الظاهرية وبالأخص أبو محمد ابن حزم عفا الله عنا وعنه فإنه حمل على أئمة الهدى رحمهم الله وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً وسخر بهم سخرية لا تليق به ولا بهم ، وجزم بأن كل من اجتهد في شيء لم يكن منصوصاً عن الله أو سنة نبيه فإنه ضال وأنه مشرع )
هذا إنكار من ابن حزم للاجتهاد بمعناه العام الذي يدخل فيه القياس وغيره ، وهو وهم من الشيخ رحمه الله تعالى وسوف تأتي معنا نقول تدل على أن ابن حزم لا ينكر الاجتهاد بمعناه العام .

الفقرة الرابعة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( وحمل على الأئمة وسخر من قياساتهم وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسفهها وسخر من أهلها فتارة يسخر من أبي حنيفة رحمه الله وتارة من مالك وتارة من أحمد وتارة من الشافعي ولم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم ( ) ).
لاشك أن الإمام ابن حزم سخر من مقلدي الأئمة في كثير من أقوالهم سخرية لا تليق بالعلماء ولكنه مع ذلك كان يحترمهم ويحفظ لهم حقهم من التوقير في مواطن كثيرة من كتبه .
ومما يدل على أن ابن حزم مع كل ما ذكر يحترم الأئمة ويثني عليهم هو ما نقل عنهم من نفيهم للقياس وتحريمهم له - وهذ مدح عنده - ثم يقرر أن ما وجد لهم من قياس بعد نفيهم هذا للقياس فإنه يعتبر اختلافا في قولهم فالواجب عرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى بعد أن نقل بسنده أثرين عن الإمام أبي حنيفة وثلاثة آثار عن مالك في النهي عن القياس قال : ( فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يترك القياس في مواضع الحاجة إلى تصريف الفقه وهو مجلس القضاء فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا في إبطال القياس( ) فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول منهما قياس فهو اختلاف من قولهما وواجب عرض القولين على القرآن والسنة فلأيهما شهد النص أخذ به والنص شاهد لقول من أبطل القياس على ما قدمنا لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط القياس الذي ينصره أصحاب القياس من استخراج العلل ولكن قياسهما كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال : علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه أخذناه أو نحو هذا القول ) ( )
ومما يبين موقف ابن حزم من الأئمة أنه وإن سخر من قياساتهم وبعض آرائهم المخالفة للنصوص من وجهة نظره إلا أنه مع ذلك يثني عليهم ثناء كثيرا في مواطن من كتبه ، ويصفهم بالعلم والورع وهم أهل لذلك الوصف وأكثر :
قال رحمه الله تعالى : “ ... والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكاً - رحمهما الله - اجتهدا ، وكانا ممن أمر بالاجتهاد ، إذ كل مسلم ففرض عليه أن يجتهد في دينه ، جرياً على طريق السلف في ترك التقليد ، فأجرا فيما أصابا فيه أجرين وأجرا فيما أخطآ فيه أجراً واحداً وسلما من الوزر في ذلك على كل حال ”( ).
وقال أيضاً : “ وأما الودع فهو اجتناب الشبهات ، ولقد كان أبو حنيفة وأحمد وداود مِنْ هذه المنزلة في الغاية القصوى ، ... ، وأما مالك والشافعي ، فكانا يأخذان من الأمراء وورث عنهما ، واستعملاه وأثريا منه ، وهما في ذلك أصوب ممن ترك الأخذ منهم ، وما يقدح هذا عندنا في ورعهما أصلاً ، ولقد كانوا رحمهم الله في غاية الورع ”
وروى بسنده عن معمر قال قلت لعبيد الله بن عمر أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد بالقسامة قال لا قلت فأبو بكر قال لا قلت فعمر قال لا قلت فبم تجترئون على ذلك فسكت قال فقلت ذلك لمالك فقال : لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل ثم ذكر باقي الكلام..
وعلق أبو محمد على هذا فقال : وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وهذا مذهب الأئمة وكل من في قلبه إسلام ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الحيل )
 
الفقرة الخامسة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( ومن عرف الحق عرف أن الأئمة رحمهم الله أنهم أولى بالصواب من ابن حزم وأن ما شنع عليهم هم أولى بالصواب منه فيه وأنه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه وأعلم بالدين منه وأعمق فهماً لنصوص الكتاب والسنة منه وهذا باب كثير ).
مثل هذا الإطلاق غير سائغ في نظري لأن بعض المسائل التي شنع بها الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى على الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كان الصواب بحسب الراجح من الأدلة معه لا معهم وذلك بشهادة أهل العلم والمحققين من العلماء ، وقد أفردت تلك المسائل التي انفرد بها عن الأئمة وشنع عليهم فيها فتارة يكون الصواب معه وتارة معهم ، وهذا كباقي الأئمة فإن لكل واحد منهم مسائل انفرد بها عن باقي المذاهب وليست بالقليلة ، وبعضها يكون الصواب معه والبعض الآخر يجانبه الصواب ، وهذه حال غير المعصوم مطلقا . والله تعالى أعلم.
واسمع قول الإمام الشوكاني وإنصافه رادا على الإمام النووي في قوله بأن خلاف داود الظاهري لا يعتد به في الإجماع قال رحمه الله تعالى : ( وعدم الاعتداد بخلاف داود ، مع علمه ، وورعه ، وأخذ جماعة من الأئمة الأكابر بمذهبه ، من التعصبات التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية ، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب ، وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين ؛ فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة ؛ فهي بالنسبة إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي ، المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبالغة ؛ فإن التعويل على الرأي ، وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر ، وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر ، وجموده عليه هي في غاية الندرة ، ولكن لهوى النفوس سريرة لا تعلم ). ( )
 
الفقرة السادسة من الرد

الفقرة السادسة من الرد

الفقرة السادسة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( فابن حزم يقول لا يجوز اجتهاد أحد كائناً ما كان ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا بنص من كتاب أو سنة أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال ، ويزعم أن ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال )
هذا الإطلاق من الشيخ رحمه الله تعالى سهو منه فابن حزم رحمه الله تعالى لا ينكر الاجتهاد بل يقر به ويحث عليه ، ولكنه يفرق بين الاجتهاد والقياس كما هو الواقع في حقيقة الأمر ، ومما قال في شأن الاجتهاد : ( والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا وإنما الاجتهاد إجهاد النفس واستفراغ الوسع في طلب حكم النازلة في القول والسنة فمن طلب القرآن وقرأ آياته وطلب في السنن وقرأ الأحاديث في طلب ما نزل به فقد اجتهد فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران أجر الطلب وأجر الإصابة وإن طلبها في القرآن والسنة فلم يفهم موضعها منهما ولا وقف عليه وفاتت إدراكه فقد اجتهد فأخطأ فله أجر ..
ولا شك أنها هنالك إلا أنه قد يجدها من وفقه الله لها ولا يجدها من لم يوفقه الله تعالى لها كما فهم جابر وسعد وغيرهما آية الكلالة ولم يفهمها عمر وكما قال عثمان في الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر أنه لم يقف على موضع حقيقة حكمهما ووقف غيره على ذلك بلا شك ومحال أن يغيب حكم الله تعالى عن جميع المسلمين وبالله تعالى التوفيق ) ( )
الفقرة السابعة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( ويستدل بعشرات الآيات إن لم تكن مئات الآيات فلا تقل عن عشرات الآيات يقول الله قال :" اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء "( ) والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا ، ويقول " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وان اهتديت فيما يوحى إلي ربي"( ) فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس . ويقول "وأن احكم بينهم بما أنزل الله "( ) والمقاييس لم تكن مما أنزل الله ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" "فأولئك هم الظالمون" "فأولئك هم الفاسقون"( ) والقياس لم يكن مما أنزل الله ويأتي بنحو هذا من الآيات في شيء كثير جدا.
ويقول إن القياس لا يفيد إلا الظن والله يقول : "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً "( ) وفي الحديث : إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث"( ) ، ويقول : إن كل مالم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه .
ويقول إن الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها( ) ، وبحديث "ما سكت الله عنه فهو عفو"( ) . ويقول إن مالم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام وهو معفو لا مؤاخذة فيه )
شرع الشيخ رحمه الله تعالى يسرد أدلة ابن حزم التي يستدل بها على نفي القياس فذكر منها :
1 - :" اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء "
وقد استدل بها ابن حزم فقال : ( .... ومن قال إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ بل ما كلفوا إلا إصابة ما أمر الله به قال الله عز وجل "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء" فافترض عز وجل اتباع ما أنزل إلينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده ) ( )
2 - " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وان اهتديت فيما يوحى إلى ربي"
3 - "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله "( )
4 - " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" "فأولئك هم الظالمون" "فأولئك هم الفاسقون"( )
5 - "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً "
ونص استدلال ابن حزم بها هو : ( وأما الحقيقة فإن الظن باطل بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكذب الحديث وبنص قول الله تعالى "وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" فالظن بنص القرآن ليس حقا فإذ ليس حقا فهو باطل فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل وبالله تعالى التوفيق ) ( )
6 - حديث : "إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث"
وقد استدل به ابن حزم في الفقرة السابقة.
7 – حديث : " إن الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها"
وقد ذكره ابن حزم مستدلا به فقال بعد أن سرد مجموعة من الأحاديث منها الحديث المذكور : ( وفي الأحاديث التي ذكرنا في هذا الفصل وفيما قبل هذا من أمره صلى الله عليه وسلم بأن يتركوا ما تركهم وأن ينتهوا عما نهاهم وأن يفعلوا ما أمرهم به ما استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه ... ) ( )
وكان قد ذكر الحديث المذكور بسنده في بداية نفس الصفحة.
8 - حديث "ما سكت الله عنه فهو عفو"
وهو من الأدلة التي ساقها ابن حزم في استدلاله على إبطال القياس في كتابه الإحكام ( )
ثم إنه لخص الأحكام الواردة على الإنسان في حياته والنوازل التي تطرأ يوما بعد يوم في حديث واحد راد بذلك القياس وما أشبهه فقال : ( فإن قالوا فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لم ندع لكم الواحد فالواحد منه الإحاطة بجميع الفتن لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة فكيف ونحن نأتيكم بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله صلى الله عليه وسلم "دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فصح نصا أن ما لم يقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه فبقي ضرورة أنه مباح فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء سمعنا وأطعنا ، وإلا فقوله باطل ، ومن ادعى فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء به سمعنا وأطعنا وإن لم يأت به فقوله باطل وصح بهذا النص أن كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك ، وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه صلى الله عليه وسلم أنه مكروه أو ندب فقط ، فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة ) ( )
 
بارك الله فيكم
هناك مسألة هى أكثر المسائل التى شُنع بها على أهل الظاهر بسبب فهم البعض لها فهماً خاطئاً ونقل البعض لها بدون تحر أو مراجعة
يقول البعض : النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه } فقالت الظاهرية : إن النهي هنا عن البول في الماء، أما لو بال في قارورة، ثم صبها في الماء، فإنه يجوز ذلك، !!
هذا الكلام لا يوجد على الإطلاق فى كتب الظاهرية...
يقولون ان ابن حزم قال : لو بال في قارورة وصبها في الماء فإنه يجوز ذلك ، لأن النبي عليه السلام لم ينه عن هذا ،
ولم يقل لا يبولن أحدكم في إناء ثم يصبه فيه
وهذا غير موجود عن الإمام البتة ..
ومن نقل هذا عنه فعليه أن يخبرنا أين وجده ..
هل وجده في كتب الظاهرية .. ؟!
أو في كتب خصومهم .. ؟!فما أسهل الدعوى بلا برهان .وعلى كل حال ..
قال الشنقيطي رحمه الله ..
قول ابن حزم لا يقول به عاقل ..
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ، فقال ابن حزم : لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا
من المكروه ، لأن النبي عليه السلام لم ينه عن هذا ، ولم يقل لا يبولن أحدكم في إناء ثم يصبه فيه ، فهذا لا يعقل ، أيعقل أحد أن
الشرع الكريم يمنع من أن يبول إنسان بقطرات قليلة أقل من وزن ربع كيل ثم يجيز أن يملأ عشرات التنكات بولاً يعد بمئات
الكيلوات ثم يصبها في الماء وأن هذا جائز .. ؟!

لم يقل الإمام ابن حزم البتة أن من بال في قارورة ثم صبها في الماء الراكد أنه حلال له الوضوء والاغتسال به .. !!
بل كلام الإمام عن رجل بال ثم جرى هذا البول دون قصد منه إلى الماء الراكد ..
فجعل نية القصد إلى البول في الماء الراكد هي المانعة من صحة وجواز الوضوء ..
وكذلك جعل اللفظ والفعل مفرقاً في الحكم وهذا عند أهل العلم بإجماع ..
لذلك هو يفرق بين هذه الحال وبين من بال متعمداً قاصداً البول في الماء الدائم ثم يتوضأ منه ..
فقد قال الإمام ابن حزم الظاهري في هذه المسألة نصاً ..
فالبائل في الماء الدائم الذي ورد النهي له في الحديث الصحيح رجل بال في ماء راكد ..
والبائل الذي بال خارج الماء الدائم ليس هو الذي بال في الماء الدائم ..
فهذا فرق بين اللفظ والفعل الوارد عليه النهي ..
فقاتل العمد ليس هو قاتل الخطأ ..
والزاني المحصن ليس هو الزاني الغير محصن ..
والمسافر ليس هو المقيم ..
وهذا لا يحل لأحد أن يكابر فيه عند النظر في مفهوم الخطاب الشرعي واللغوي ..
فالنص ورد في صفة وفعل مخصوص ..وهو البائل في الماء الراكد ..فإن بال خارج الماء فهو ليس ببائل في الماء الدائم ..
ثم إن جرى هذا البول إلى الماء الدائم فلا يكون بائلاً في الماء الدائم ..
لأن جريان البول بعد بول البول خارج الماء ليس بولاً من البائل ..
وجريانه متعلق بميل الأرض لا بفعل الفاعل ..
ففعل البول وصفته من البائل في الماء الدائم ليس هو من البائل خارجه ..
ووالله إن هذه القضايا جلية واضحة إلا أن البعض يكابر ويرفض التسليم بها ..
فكل لفظ وفعل ورد بنص شرعي فإنه يلتزم به لنطبق عليه حكم النص ..
ولا يحل لأحد أن يدخل فيه ما ليس فيه ولا منه ..
وهذا ما فعله أبو محمد رحمه الله فإذا كابر أحدهم في ذلك نسأله كيف فرقت بين قاتل بحق وقاتل بباطل .. ؟!
ألم يكن بالفعل واللفظ والنية جميعاً ..
فالذي قتل من كان غير مسلم في مقاتلة بين كفار ومسلمين فهو قاتل بحق ..
ونسمي هذا جهاد كما ورد في الشرع ..
والذي قتل من كان مسلماً برئ الدم من قتل غيره فهو قاتل بباطل ..
ونسمي هذا قاتلاً بعمد أو خطأ بحسبه ..
فكل تصرف وفعل ولفظ ورد في الشريعة فله معنى يجب أن يلتزم به الناظر في النصوص ..
ويجعل الحكم للمعنى والاسم الذي ورد ولا يتجاوزه ..
وإلا كان مبطلاً للأسماء والمعاني الشرعية ..
فيعطي الاسم هذا حكم ذاك ..
وهذا باطل لا يحل لأحد أن يفعله ..
مسألة (136) ..المحلى
(( إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره وحكمه التيمم إن لم يجد غيره ، وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره إن لم يغير البول شيئا من أوصافه وحلال الوضوء به والغسل به لغيره ، فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء فلا يجزىء حينئذ استعماله أصلا لا له ولا لغيره )) ..
هل جريان البول بعد أن يبول داخل في نية البائل .. ؟!
هذه غريبة جداً ..
فالبائل بعد أن يبول ويفرغ من بوله فما علاقة جريان بوله في الماء ونيته .. ؟!
..
تقرير النية في كل شيء هذا لا إشكال فيه ..وهو مذهب الظاهرية في كل شيء من أحكام الديانة ..فمن لم يعرف مذهب الظاهرية فيه فوجب أن يتحرص قبل الاعتراض عليه ..فالإمام حرم الوضوء على البائل في الماء الراكد ..
ثم أباحه له إن كان جريان البول لم يكن مقصوده ..لأنه بال خارج الماء ولم يبل داخل الماء ..وهذا واضح جداً ..
..
ثم تفيد التعقيب مع التراخي أي لا يكون الشيء بعد الشيء مباشرة عندكم وعندنا ..
وقد قال الإمام ( ثم جرى البول فيه ) ..
أي بعد انقضاء فعل البول الذي كان خارج الماء جرى هذا البول إلى الماء الراكد ..
فهل يملك الإنسان تقييد حركة البول وتوجيهها بعد فراغه .. ؟!
وهل له نية في توجيه هذا البول إلى الماء الراكد إذا دخل فيه .. ؟!
ثم إذا كنت لم تقرأ كلام الإمام قد نقبل منك هذا الاعتراض على ظاهره ثم نطلب منك تفصيله وسببه ..
إما إذا رجعت إلى المحلى وقرأت المسألة كلها فكيف يخفى عليك هذا .. ؟!
من قال أن الإمام يقول بصب البول والنجاسات في الماء الراكد أنه لا يحرم عليه .. ؟!
من قال هذا محققاً فقد كذب على الإمام بلا شك ..
لذلك نقول أن الشنقيطي لم يقله محققاً بل بما ظهر له من إبطال دليل الخطاب أو بما نقل له من بعض تلاميذه أو غيرهم ..
لثقته وأمانته وتقدمه في العلم ..
فإن أتى أحد يزعم أن الإمام لا يقول بنجاسة هذا الماء وتحريم الوضوء به إذا تغيرت أحد أوصافه فقد كذب عليه ..
فالإمام يقول ..
كل ماء تغيرت أحد أوصافه الثلاثة من لون أو طعم أو ريح ..
فإما أن تتغير بنجس فهو حرام الوضوء به نجس لا يحل استعماله ..
وإما أن تتغير بطاهر فهو حلال استعماله في غير العبادة ..
وهذا لا يخفى على متتبع مذهب الإمام ..
قال الإمام ابن حزم الظاهري في مراتب الإجماع صفحة 17 ..
(( واتفقوا أن الماء الراكد اذا كان من الكثرة بحيث اذا حرك وسطه لم يتحرك طرفاه ولا شيء منهما فانه لا ينجسه شيء الا لونه أو طعمه أو رائحته ))
فيكون قول الإمام إن صب أحد في ماء راكد عشرات التنكات كما يقول الشنقيطي راجع إلى تغير أوصاف الماء ..
والعجب أن هذا قول المالكيين والشافعيين والحنبليين والحنفيين ..!
ولم يشذ أحد منهم في هذا ..
فما لنا نراهم ينكرون علينا بما اتفقنا عليه كلنا .. ؟!
أليس هذا تلبيس يراد منه التشنيع .. ؟! ..
وكيف أنكروا علينا شيئاً لم نقله ..
وكيف أنكروا شيئاً وهم قائلون به .. !
وكأنهم عملوا بالخبر هذا وهم أترك الناس له ..
..
ثم ألا تعلم أخي كيف يكون الفرق بين البائل في الماء الراكد وبين البائل خارجه .. ؟!
البائل في الماء الراكد نهي عن الوضوء به ..
ولا يكون بائلاً في ماء راكد إلا من بال فيه بفعل البول أي قصد البول فيه ..
أي لا يتلبس هذا الرجل بهذا الاسم ويستحق الحكم الشرعي إلا إذا أتى بالشيء الذي يسمى به بائلاً في ماء راكد ..
أما البائل خارج الماء ثم جرى البول إلى الماء الراكد فلا يسمى بائلاً في الماء الراكد ..
بل يسمى بائلاً خارجه ..
لأن الأول وقف مريداً البول في الماء الراكد ..
والثاني وقف مريداً البول خارج الماء الراكد ..
ولا يمكن أن يقف رجل على ماء راكد ويبول فيه وهو لا ينوي البول فيه ..
فالأول قصد البول داخل الماء ..
والثاني قصد البول خارجه ثم بلا قصد منه جرى في الماء الراكد ..
فإن كان قاصداً البول في الماء الراكد فهنا يكون قد دخل تحت النهي المذكور ..
أما من لم يقصد ذلك فلا يدخل ولا يسمى بائلاً في الماء الراكد ..
وأما من بال في الماء الراكد لجهل بالحكم الشريعي أو أخطأ فهذا لا يدخل تحت النهي أصلاً لا عندنا ولا عند الإمام ..
لأن القاعدة عندنا وعند كل من يعتد به من أهل العلم أنه لا حكم على المخطئ أو أو الجاهل إلا ما تعلق بحق لغيره من مال أو دم
..
فيكون حكم الماء هنا باتفاق بين من يعتد بخلافه أن ذلك راجع إلى تغير الماء وعدمه ..
فإن تغير وصف من أوصافه حرمه عليه وإلا فهو حلال له ولغيره ..
وهذا ما يقوله الإمام وبثه في كتبه كلها ..
ولا يأبى عليه أحد ذلك إلا من جهل الإمام ..
وأضرب مثلاً شريعياً آخر ..
فالشارب للخمر القاصد لهذا الشرب يجلد باتفاق ..
لأنه شارب للخمر بقصد بلا إشكال ..
وأن كان هناك رجلاً تاب من شرب الخمر وأراد سكبه ، فسكبه في سطح بيته ..
وكان هناك ميزاب جرى فيه الخمر هذا ..
فإذا برجل تحت الميزاب نائم فجرى الخمر في فمه وبلعه دون قصد شربه ..
فلا يجلد باتفاق ..
لأنه لم يشرب الخمر أي لم يقصد الشرب بل سقط في فمه وجرى دون إرادة منه ..
ومثال آخر إذا قيل لك : صل الفجر ..
وإذا قيل صم رمضان ..
فلا تكون مصلياً إلا إذا فعلت فعل الصلاة ..
فإن فعلت فعلاً مشابهاً لفعل الصلاة لا تعتبر مصلياً ..
وهذا باتفاق ..
لأن المصلي لا يكون مصلياً إلا بقصد الصلاة أي بنية الصلاة وأن يأتيها بشروطها ..
وهكذا نفهم من خطابنا لبعضنا وخطاب الشرع ..
وكذلك الصيام بلا فرق ..
فمن اعتاد أن لا يأكل كل يوم حتى المغرب لا يكون صائماً إلا إذا نوى الصيام ..
وهاك أيضاً هذا المثال العامي ..
إذا قال المعلم ..
كل تلميذ يرمي قلمه على جاره فسيضرب ..
فرمى تلميذ قلم على صديقه ..
وقام تلميذ وبيده قلم يريد أن يخرج قطعة نقدية من جيبه وكان المعلم يراه فأسقط القلم على جاره ..
فسيضرب المعلم الأول بلا شك ..
ولن يضرب الثاني لأنه لم يرم قلماً وإنما سقط القلم ..
فهل تقول هنا أن الثاني يضرب كذلك لأنه فعل الشيء المنهي عنه أو لا .. ؟!
فإن كان قولك لا ..
فلا حاجة للاعتراض على شيء لم تميزه ..
فالذي فرّق بينها قصد الفعل ..
فهذا الذي فرق فيه الإمام والذي تأبى قبوله ..!
فما الفرق بين البائل خارج الماء ثم جرى بوله في الماء الراكد وبين البائل في الماء الراكد ..
وبين الرامي لقلمه وبين والذي أسقطه ..
وبين الذي شرب الخمر وبين الذي جرى الخمر في فمه بعد أن صبوه في مكان دون قصد الشرب ..
هذا وأنتم أصحاب قياس كما تدعون ..!
وهذا أصل الخطاب والفهم بين الناس وبيننا وبين الشرع ..
وإن بلغ فينا الأمر بالتلاعب بأصل الخطاب والفهم فما الذي بقي لنا لنفسده .. ؟!
ونحن لم نفعل كما يفعل البعض في اعتبار نص الإمام نص يستنبطون منه المفهوم والمنطوق ودليل الخطاب والقياس ..
ولكن الإمام وضع كتابه شارحاً لأحوال اختلف فيها الناس ..
فعندما يزعم عليه زاعم نرجع إلى كتابه لنفهم ماذا يقول وأي صنف يريد ..
والإمام إمام في اللغة وكل كلمة استعملها أراد منها ما ينتج منها ..
فهو فقيه إمام كأئمة المذاهب بلا فرق ..
فكما فعلوا مع نصوص غيره كان الواجب أن يفعلوا مع نصوص الإمام لفهمها دون تقليدها ..
فالأمر في النية والقصد عندكم كما هو عندنا ..
بل نحن أشد في مسألة التفريق في القصد وعدمه في سائر أبواب الدين ..
والله الموفق ..
 
أخي الكريم :
بارك الله فيكم وفي علمكم .
أولا :
لا شك أن الإمام ابن حزم - كغيره من العلماء الربانيين - قد تعرض للظلم كثيرا ، ولذلك أسباب سياسية ومذهبية معروفة.
كما أنني لا أشك أن العلماء - على الأقل الطيبين منهم - غير مؤاخذين - نوعا ما - في ردودهم على الإمام ابن حزم ، ذلك أن تراثه قد شوه حتى انطلى ذلك على كثير ممن حسنت نيته ، وقصد الحق من العلماء فضلا عن العوام وصغار طلبة العلم.
ثانيا : هذا البحث الذي أنشره هنا ليس بحثا أكاديميا كبيرا مستقصيا لا والله وإنما هو بحث صغير تخرجت به من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في موريتانيا ، ولم يكن عندي وقت لبحثه بشكل دقيق وعلمي ، بل كنت مستعجلا بسبب الوقت المحدد للطلاب ، وقد أنجزته في حدود 45 يوما .
وكان هدفي منه هو إلقاء الضوء على أن التشنيع على الإمام ابن حزم وغيره من أهل العلم الذين أنكروا القياس ليس في محله .
وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك بعض الشيء ، وأن يكون هذا البحث أساسا لينطلق منه الأعضاء - وفقهم الله تعالى - لإثراء الموضوع وزيادة بحثه ، وأن يكون ذلك كله خالصا لوجهه تعالى .
 
الفقرة الثامنة والتاسعة من الرد.

الفقرة الثامنة والتاسعة من الرد.

الفقرة الثامنة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( وهو باطل من جهات كثيرة ، منها أن ما يسكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال فنحن مثلاً وجب علينا صوم شهر واحد وهو رمضان وسكت الوحي عن وجوب شهر آخر فلم يجب علينا إلا هذا ، وأن ما سكت عنه فهو عفو ووجبت عليننا صلوات وغيرها لم يجب علينا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ضمام بن ثعلبة قال : لا لما قال له الأعرابي ضمام هل علي غيرها ، قال لا إلا أن تطوع"( ) أما أنه توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد )
هذا تقسيم من الشيخ للمسائل التي تجد فقال إن منها ما يكون عفوا ومنها ما لا يمكن أن يكون عفوا بل لا بد له من حل رادا على ابن حزم في تعميمه القائل فيه أن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو.
وقد قدمت تقسيم ابن حزم للنوازل وبيان أنها كلها منصوصة .
الفقرة التاسعة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( ومن نظر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى وأن الهدى مع الأئمة رحمهم الله ، والذي يجب اعتقاده في الأئمة رحمهم الله كالإمام مالك وأبي حنيفة رحمهم الله والإمام أحمد والشافعي رحمة الله على الجميع أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه فلهم أجر اجتهادهم وأجر إصابتهم وأنه لا يخلو أحد من خطأ فلابد أن يكون بعضهم أخطأ في بعض ما اجتهد فيه فما أخطؤوا فيه فهم مأجورون باجتهادهم معذورون في خطئهم رحمهم الله والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة رحمهم الله وسنلم بأطراف من هذا لأن هذا باب واسع لو تتبعناه لمكثنا فيه زمناً طويلاً ولكن نلم بإلمامات بقدر الكفاية ).
ذكر الشيخ في هذه الفقرة دفاعه عن الأئمة وما يجب على المسلم اتجاههم ، وهو مصيب في ذلك من حيث احترامهم وتوقيرهم والترحم عليهم لكن دون متابعتهم على ما أخطئوا فيه ثم إن مسألة الإحصاء يصعب الحكم عليها أعني قوله إن أكثر ما اجتهدوا فيه قد أصابوا في أكثره ، بل الذي يظهر أن كل عالم من علماء الأمة له أشياء قد جانبه الصواب فيها لكنه مأجور في جميع الأحوال وقد بذل جهده في معرفة الصواب واستنباط الأحكام ، ويدخل في ذلك العموم جميع العلماء والأئمة الأربعة والثوري وابن سيرين والشعبي والأوزاعي والليث بن سعد وابن حزم وغيرهم من أولهم دخولا فيه.
 
جزى الله الشيخ/ إبراهيم الحسني خيرا على الحق الحلو عند المنصفين، والمر عند المغرضين والمرجفين في الدنيا. كثير أولئك الذين يوردون كلام ابن حزم خطأ أو ينسبون إليه أمورا وهو منها بريء، وأكثر هذا الكثير - وليس كله - مفتر، كذاب، مغرض، متسلق عليه.
لا أظن أن عاقلا يدافع عن خطإ مخلوق غير معصوم، لكن الرجل، عليه سحائب الرحمة والرضوان، كان صادق القول، واسع الاطلاع، ذكي العقل والفؤاد، فتي القلم، واضح الكلام، ولم يكن في حساباته شيء غير خدمة الإسلام.
ويسرني لو تفضل أحد ونقل لي على الملتقى هنا ثلاثة نقول من كتب ابن حزم المطبوعة فيها شيء ولو يسير من سوء الأدب على الأئمة، لأني أرى أن سوء أدبه مع الأئمة كالمجمع عليه. إضافة إلى قولهم: (اثنان يستعاذ بالله منهما: سيف الحجاج ولسان ابن حزم) أو (ليس من الحزم اتباع ابن حزم)
وقد أسلفنا في "حوار هادئ مع علماء الأصوات" قول ساركوزي : "إذا كان الحق يجرح فذلك ذنب الحق وليس ذنب قائله" والحكمة- ولو لم تكن يمانية - ضالة المؤمن.
 
الفقرة العاشرة.

الفقرة العاشرة.

جزى الله الإخوة المشاركين على مشاركاتهم القيمة .
وكنت قد نسيت إتمام الموضوع في خضم المشاغل اليومية ، وسوف أحاول إن شاء الله تعالى إتمامه :
الفقرة العاشرة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
( أولاً : ليعلم السامعون أن (ما) ( ) كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً بل الوحي يسكت عن أشياء ولابد ألبتة من حلها ومن أمثلة ذلك مسألة العول. ( )
فكما قال الفرضيون إن أول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فقال الزوج : يا أمير المؤمنين هذه تركة زوجتي ولم تترك ولداً والله يقول في محكم كتابه :" ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد" فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق( ) ، فقالت الأختان : يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان والله يقول : " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق ، فقال عمر رضي الله عنه : ويلك يا عمر والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان ، وإن أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف ونقول يا ابن حزم كيف تسكت عن هذا ويكون هذا عفواً والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصيبين ماذا نفعل فيهما فهذا لا يمكن أن يكون عفواً ولابد من حل فلا نقول لهم تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر فلابد من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وحل معقول بالاجتهاد فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العول لمثل هذا ..
فقال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير ديناً وتركت ستة دنانير فقط ماذا كنت فاعلاً ؟
قال : أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من السبعة قال كذلك فافعل ، أصل فريضتها من ستة لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة مخرج النصف ومخرج الثلث متبايناً فنضرب إثنين في ثلاثة بستة ثم نجعل نقطة زائدة وهي المسمى بالعول فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء ، وقال للزوج حقك نصف الستة وهي الثلاثة فخذ الثلاثة من سبعة ، وبقي من السبعة أربعة فقال للأختين لكما الثلثان من الستة وهما أربعة فخذاها من سبعة ، فصار النقص على كل واحد من الوارثين ولم يضيع نصاً من نصوص القرآن الكريم.
وكأن ابن حزم في هذه المسألة يخطئ جميع الصحابة .
ويقول إن العباس وعامة الصحابة على غلط وأن هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز وأن الحق مع ابن عباس وحده الذي خالف عامة الصحابة في العول .
وقال الذي نعلم أن الله لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين ، فرأي ابن عباس أن ننظر في الورثة إذا كان أحدهما أقوى سبباً نقدمه ونكمل له نصيبه ونجعل النقص على الأضعف ، فابن عباس في مثل هذا يقول إن الزوج يعطى نصفاً كاملاً لأن الزوج لا يحجبه الأبوان ولا يحجبه الأولاد بخلاف الأختين لأنهما أضعف سبباً منه لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب ونعطي للأختين نصفاً وهذا تلاعب بكتاب الله ، الله يقول :" فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك" وهو يقول فلهما النصف فهذا عمل بما يناقض القرآن مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس يقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية وإنما سميت المنبرية لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفتى فيها وهو على المنبر أثناء خطبته لأنه افتتح خطبته على المنبر وقال : الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى واليه المآب والرجعي ، فسمع قائلاً يقول : ما تقولون فيمن هلك عن زوجة وأبوين وابنتين ؟ فقال علي رضي الله عنه : صار ثمنها تسعاً ، ومضى في خطبته .
وقوله : صار ثمنها تسعاً لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة ، الابنتان لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لأن السدسين بثلث وتبقى الزوجة تعول لها بالثمن والفريضة من أربعة وعشرين وثمنها ثلاثة يعال فيها بثمن الزوجة وثمن الأربعة والعشرين ثلاثة وإذا ضم الثمن الذي عالت به الفريضة إلى أصل الفريضة أي إذا ضم الثمن الذي هو ثلاثة فريضة الزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة صارت سبعة وعشرين . والثلاثة من السبعة والعشرين تسعها ومن الأربعة والعشرين ثمنها ، فهذه لو قلنا لابن حزم أيهما يحجب هل الابنتان يحجبان لا والله ، هل الأبوان يحجبان لا والله هل الزوجة تحجب لا والله ليس فيهم من يحجبه أحد وكلهم أهل فروض منصوصة في كتاب الله ولا يحجب أحد منهم أبداً فبهذا يبطل قوله إن من هو أضعف سبباً فانه يحجب ويقدم عليه غيره ).
وفي هذه الفقرة يرد الشيخ على دعوى ابن حزم أن كل ما سكت عنه الشرع فهو عفو يجب تركه وعدم الخوض فيه ، وهو رد وجيه واضح ؛ لأن بعض الحوادث غير المنصوصة تحتاج إلى حل ، ولا يمكن إغفالها ، وضرب له أمثلة واضحة من العول ولا شك أنها توفرت على عناصر الاحتجاج المهمة ، فهي :
1 – غير منصوصة في الوحيين أعني النص بمفهوم ابن حزم .
2 – وهي فورية لا يمكن التغاضي عنها .
فلا بد لابن حزم من إجابة لا لبس فيها على هذه الإشكالات ، وإلا يكون قد حج ، وعليه – والحالة هذه – أن يقر بأمرين :
أ - جواز الاجتهاد – بل وجوبه - في المستجدات الشرعية بشروطه وضوابطه .
ب – سقوط دليل من أقوى أدلته على نفي القياس وهو أن كل ما سكت عنه الشرع فهو عفو .
لكن ابن حزم أجاب على استدلالهم بالعول فقال : ( ولا يشك ذو مسكة عقل في أن الله تعالى لم يرد قط إعطاء فرائض لا يسعها المال ووجدنا ثلاث حجج قاطعة موجبة صحة قول ابن عباس إحداها التي ذكر من تقديم من لم يحطه الله تعالى قط عن فرض مسمى على من حطه عن الفرض المسمى إلى أن لا يكون له إلا ما بقي والثانية أنه بضرورة العقل عرفنا أن تقديم من أوجب الله تعالى ميراثه على كل حال ومن لا يمنعه من الميراث مانع أصلا إذا كان هو والميت حرين على دين واحد على من قد يرث وقد لا يرث لأن من لم يمنعه الله تعالى قط من الميراث لا يحل منعه مما جعل الله تعالى له وكل من قد يرث وقد لا يرث فبالضرورة ندري أنه لا يرث إلا بعد من يرث ولابد ووجدنا الزوجين والأبوين يرثون أبدا على كل حال ووجدنا الأخوات قد يرثن وقد لا يرثن ووجدنا البنات لا يرثن إلا بعد ميراث من يرث معهن والثالثة أن ننظر فيمن ذكرنا فإن وجدنا المال يتسع لفرائضهن أيقنا أن الله عز وجل أرادهم في تلك الفريضة نفسها بما سمى لهم فيها في القرآن وإن وجدنا المال لا يتسع لفرائضهم نظرنا فيهم واحدا واحدا فمن وجدنا ممن ذكرنا قد اتفق جميع أهل الإسلام اتفاقا مقطوعا به معلوما بالضرورة على أنه ليس له في تلك الفريضة ما ذكر الله عز وجل في القرآن أيقنا قطعا أن الله تعالى لم يرده قط فيما نص عليه في القرآن فلم نعطه إلا ما اتفق له عليه فإن لم يتفق له على شيء لم نعطه شيئا لأنه قد صح أن لا ميراث له في النصوص في القرآن ومن وجدنا ممن ذكرنا قد اختلف المسلمون فيه فقالت طائفة له ما سمى الله تعالى له في القرآن وقالت طائفة ليس له إلا بعض المسمى في القرآن وجب ولا بد يقينا أن يقضى له بالمنصوص في القرآن وأن لا يلتفت إلى قول من قال بخلاف النص إذ لم يأت في تصحيح دعواه بنص آخر وهذا غاية البيان ولا سبيل إلى شذوذ شيء عن هذه القضية ؛ لأن الأبوين والزوجين في مسائل العول كلها يقول المبطلون للعول إن الواجب لهم ما سماه الله تعالى لهم في القرآن وقال القائلون بالعول ليس لهم إلا بعضهم فوجب الأخذ بنص القرآن لا بقول من خالفه وأما الأخوات والبنات فقد أجمع القائلون بالعول والمبطلون للعول وليس في أهل الإسلام لهاتين الطائفتين ثالث لهما ولا يمكن أن يوجد لهما ثالث إذ ليس في الممكن إلا إثبات أو نفي على أنه لا يجب في جميع مسائل العول لهن ما جاء في نص القرآن لكن إما بعض ذلك وإما لا شيء فكان إجماعهم حقا بلا شك وكان ما اختلفوا فيه لا تقوم به حجة إذ لم يأت به نص فوجب إذ لا حق لهن بالنص أن لا يعطوا إلا ما صح الإجماع لهن به فإن لم يجمع لهن على شيء وقد خرجن بالإجماع وبالضرورة عن النص فلا يجوز أن يعطين شيئا بغير نص ولا إجماع وهذا بيان لا إشكال فيه وبالله تعالى التوفيق ) ( )
فكلام ابن حزم إذن واضح في الجواب على مسائل العول وقاعدته فيه كما يلي :
1 – أن يكون في الفريضة من أصحاب الفروض من تستغرق فروضهم جميع المال وزيادة عليه ، فيقدم الذي لا يسقط بوجه ، ويحرم الذي لا يرث في بعض حالات.
2 – أن يكون أصحاب الفروض مستغرقين لجميع المال وزيادة وليس فيهم من يحجب حجب حرمان كالمنبرية التي قدمنا ، فمذهب ابن حزم رحمه الله تعالى أن يقدم المجمع على توريثه بدون قيد وبالنص أيضا ويؤخر المختلف في مقدار نصيبه وذلك بدليلين :
أ – أن المختلف فيه ( المعال له ) لم يعط نصيبه المنصوص عليه بالإجماع.
ب – أنه والحالة هذه ليس له بالضرورة إلا ما بقي إن بقي شيء إذ لا سبيل لتوريثه إلا بنص أو إجماع .
ومن المعلوم أن ابن حزم اعتمد في كثير من مسائل الفرائض على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو حبر الأمة وترجمان القرآن.
لكن توجيه المنبرية ونحوها على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن حزم رحمه الله تعالى ومن وافقهما يصعب ولا أستسيغه بل أوضح منه وأقرب – إن شاء الله تعالى – للحق مذهب المثبتين للعول على الأقل في هذه المسألة وما أشبهها .
والله تعالى أعلم .
 
عودة
أعلى