رحلة القرآن العظيم - سلسلة حلقات على قناة المجد الوثائقية

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,331
مستوى التفاعل
136
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
[align=center]رحلة القرآن العظيم (1)[/align]

مكة المكرمة هذه المدينة المقدسة التي تحيط بها الكتل الجبلية السوداء الداكنة ذات التركيب الجرانيتي، تقع في غرب جزيرة العرب على السفوح الدنيا لجبال الثروات، وتنام في بطن وادٍ غير ذي زرع، تلفها الجبال من جميع جهاتها، ممثلة نقطة التقاء بين تهامة والثروات.

تنتصف طريق الشام واليمن بمنافذ قليلة من الجبال الجرداء، إذ يمتد شرقاً جبل أبي قبيس، يكتنفه جبل الخندمة، وغرباً جـبل هندي، يفصلهما وادي البطـحاء الذي يقع فيه البيت العتيق.

وترتفع عن سطح البحر مقدار ثلاثمائة متر، وكان لموقع مكة هذا أثر كبير على طريق التجارة القديم، فهي محط القوافل القادمة من الشام إلى اليمن، وما وليها من أرض الحبشة، ومحط الاستقرار في حضارات العالم القديم.

وتعتبر منطقة مكة المكرمة منطقة انتقالية بين تأثيرات البحر المتوسط والمناخ الموسمي، وتتأثر بقربها من ساحل البحر الأحمر وجبال الثروات الغربية، وتتأثر في الصيف بالجبهات المدارية، فيبلغ معدل الحرارة السنوي حوالي إحدى وثلاثين درجة، وتختلف درجة الحرارة بين فصل وآخر، فتصل في الصيف إلى ثمانٍ وأربعين درجة، بينما تنخفض في الشتاء إلى ثماني عشرة درجة.

وأمطار مكة نموذج للأمطار الصحراوية، بحيث تختلف اختلافاً كبيراً بين سنة وأخرى، وتتراوح بين ثمانين ملليمتراً ومائة وخمسة وعشرين ملليمتراً، تسقط في فصل الشتاء، وهو الفصل الممطر الرئيس في شهر كانون الثاني يناير الذي يعتبر أكثر الشهور مطراً.

مكة المكرمة هذه هي الذي اختارها الله تعالى بين الجبال السود الداكنة لتشهد الأحداث العظام، ففي جبل ثور استظل الغار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبا بكر -رضي الله عنه- وعلى بطاح وديانها وادي منى كان الصراع بين الخليل إبراهيم -عليه السلام- وإبليس اللعين.

وبين جبالها تمت بيعتا العقبة، ويهل إليها الحجيج من كل فج عميق، في الخيف والمزدلفة وعرفات حيث وقف محمد -صلى الله عليه وسلم- أسفل جبل الرحمة يبين للناس أمور دينهم ودنياهم في أبلغ موقف.

إنها مكة موطن دعوة التوحيد الأولى، التي دعا إليها سيدنا إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فيها يحط جبل النور وغار حراء مطلاً على البيت العتيق، يذكر بمهبط الوحي على النبي العربي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي شمل العالم بنوره.

في قمة جبل النور، جبل حراء الغار الذي نزلت به أولى آيات القرآن الكريم:

? اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ?[سورة العلق، الآية 1: 5].

وكان محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعرف الكتابة والقراءة، قال تعال في سورة العنكبوت:

? وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ? [سورة العنكبوت، الآية 48].

فلا بد والحالة هذه من أن يتقلى القرآن تقليناً، ويحفظه من ملك الوحي مشافهة:

? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ? [القيامة: 16، 17].

لقد نزل القرآن الكريم على مراحل ليكون أقرب للحفظ، وأسهل على الضبط، وأبعد عن النسيان، وكانت الآيات القرآنية تتنزل عليه تتابع تارة وتبطئ أخرى، قال تعالى:

? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ?. [سورة الفرقان، الآية 32].

لقد استمر نزول القرآن الكريم ثلاثا وعشرين سنة من بعثته حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- وقد حرص منذ اللحظة الأولى على حفظه واستظهاره وعلى تدوينه وكتابته فور نزوله، وبما أنه لا يكتب ولا يقرأ -صلى الله عليه وسلم- فقد تم التدوين هذا تحت إشرافه ورقابته.

وهكذا أصبح للقرآن صورتان: صورة صوتية وأخرى كتابية، وتظهر الصورة الصوتية من خلال المشافهة التي تلقاها من الوحي وأسمعها صاحبته، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- مع كمال فصاحته ومع كونه المصطفى للرسالة تعلم القرآن عن جبريل، وخاصة في السنة التي انتقل فيها إلى الرفيق الأعلى، كان جبريل يعارضه أي يدارسه بالقرآن في كل سنة مرة، ثم عارضه عام وفاته مرتين، والعرض على جبريل معناه تجويد اللفظ وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها ليكون سنة في الأمة.

لقد حفظ أصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن وتلقوه شفاهاً منه، فهذا ابن مسعود أحد كبار الصحابة وأعلام رواة القرآن وتجويده وتحقيقه وترتيله يقول:

" حفظت من فِيِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعة وسبعين سورة".

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث إلى من كان بعيد الدار من الصحابة من يعلمهم ويقرئهم ويلقنهم القرآن العظيم.

فبعث مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلمانهم ويقرآنهم القرآن، ولما فتح النبي مكة خلف على أهلها معاذ بن جبل، وكان عبادة بن الصامت يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فُتح الشام أرسله عمر بن الخطاب ومعاذا وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن هناك.

وواضع أن من أحكام القراءة ما لا يمكن إحكامه أبداً إلا بالتلقي الشفهي، فالتفخيم والترقيق والمد والقصر والإدغام و الإظهار والإخفاء والروم والإشمام والإبدال والنقل والإقلاب والحذف والإبات والإحاق والإالة والفتح، وما بيهما وتخفيف الهمزة وما إلى ذلك، وكذلك إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها،ورد كل منها إلى مخرجه وأصله والنطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تسعف ولا إفراط ولا تكلف لا يحققه إلا الملقن الضابط.

لقد كانت القبائل العربية متعددة اللجات، تتباين في النطق والتعبير كما هي الحال اليوم في أقطارنا العربية، فأقرأهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلهجاتهم، فكانت اللهجات التي ظهر فيها بعض الخلاف، مما جعل الرجل يسارع إليه حين يختلف مع أخيه في القراءة يستوضح منه الصواب فيجيب: كلاهما على صواب.

لقد كان بين القبائل العربية اختلاف في نبرات الأصوات وطريقة الأداء، فكان فيهم من يضغم ومن يظهر، ومن يخفي ومن يبين، ومن يميل ومن يفتح، ومن يفخم ومن يرقق، ومن يمد ومن يقصر إلى آخر كيفيات النطق المختلفة.

وأمام هذه الفروق التي يصعب على الناس التخلص منها والدين الذي نزل به القرآن يسر دائماً أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يُقْرِئ القرآن بأحرف مختلفة، حيث إن القرآن العظيم قد نزل على سبعة أحرف، تلك هي الصورة الصوتية للقرآن العظيم، حفظها أصحابه عن ظهر قلب، فكيف كانت الصورة المدونة المكتوبة لهذا الكتاب السماوي في الزمن الذي نتحدث عنه، زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

لم يكن تدوين الكتاب أمراً شائعاً في ذلك الزمن، وكانت الكتابة في حواضر الحجاز زمن البعثة قليلة الانتشار، وكانت وسائلها بدائية وغير ميسورة، إلا أن حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على حفظ كلمات الله -عز وجل- قد دفعه على العمل على تدوينها فور نزول، فاتخذ كتاباً يكتبونها أول بأول، يلازمونه في كل مكان يحل فيه ليؤدوا هذا العمل الذي تفرغوا له.

رسمت الحروف الأولى للقرآن الكريم بيد كتاب من قريش في مكة، وكتاب من الأنصار في المدينة، حتى بلغ عددهم ثلاثة وأربعين كاتباً، وقد تشرف بالكتابة الخلفاء الأربعة، وعامر بن فهيرة، وعبدالله بن الأرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن ربيع الأسيدي، وشرحبيل بن حسنة وغيرهم -رضي الله عنهم أجمعين- وكان ألزمهم بذلك وأخصهم به معاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت الأنصاري.

وأورد الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب، وابن عبد ربه في العقد، والمسعودي في التنبيه والإشراف أسماء الذين كتبوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوهم مراتب، وقدروهم منازل، فكتاب يكتبون بين يديه -صلى الله عليه وسلم- فيما يعرض من أموره وحوائجه، وآخرون يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال الصدقات، وكاتب يكتب خرص الحجاز، أي: ما على النخل من الرطب، وآخر يكتب مغانم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثالث يكتب إلى الملوك ويجيب على رسائلهم، ويترجم بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، وكتاب آخرون يكتبون الوحي.

ثم يعقب المسعودي بقوله: " وإنما ذكرنا من أسماء كتابه -صلى الله عليه وسلم- من ثبت على كتابته، واتصلت أيامه فيها وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة، إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبا ويضاف إلى جملة كتابه.

خُطت حروف القرآن الأولى ورسمت بالحبر على العظام والحجارة، وسعف النخل وجلود الحيوانات الرقوق، وعلى الورق والبردي، وعلى مواد مختلفة، فكيف كانت صورة الحرف والرسم هذه؟

لقد حمل العرب القرشيون أثناء رحلة الشتاء والصيف صورة الحرف من ديار الشام، وكان للأنباط دور كبير في تعليم القرشيين رسوم حرفهم ونهج إملائهم، وقد ظهر ذلك واضحاً جلياً في رسمهم للمصحف وإملائه.

والأنباط هم العرب الشماليون الذين امتدت دولتهم في القرن الرابع قبل الميلاد وما قبله من شمال الجزيرة العربية إلى جنوب الشام، وضمت فلسطين وشرق الأردن ودمشق، وسيطروا على البلاد الآرامية.

وكانت لهم حاضرتان هما سلع أو البتراء، أو الأصح ما كانت تسمى به البتراء قديماً وهي الرقيم، على ما تشهد به الوثائق الأثرية، وما إطلاق البتراء إلا اصطلاح أغريقي، والبتراء وسلع والرقيم تعني الصخرة.

والحاضرة الثانية هي الحجر أو مدائن صالح في الجنوب، وكانت هذه المنطقة حينئذ عامرة بالأشجار والمياه، لقد هيمن الأنباط منذ القرن الرابع قبل الميلاد على طرق التجارة بين جنوب الجزيرة العربية حتى البحر الأحمر، وبين الشام ومصر، وازدهرت مملكتهم بسبب توسطهم الطريق التجاري، إذ كانت البضائع تنتقل من الهند وإفريقيا الشمالية إلى اليمن، ومن اليمن إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق صنعاء، مكة، يثرب، العلا، الحجر، مدائن صالح، فالرقيم البتراء، ومنها كانت توزع إلى مصر و اليونان وإيطاليا والشام، وكانت البضائح خاضعة للرسوم المالية.

لقد ظلت الطريق التجارية بين مكة ويثرب والشام تسلكها القوافل حتى بعد ظهور الإسلام، وقوافل الحجيج أيضاً، وكان عرب الشمال يقيمون في مدائن صالح والبتراء الرقيم في غدوهم ورواحهم، فاقتبسوا منهم أساليب الحياة وطرق الكتابة.

وقد أدى ازدهار مملكة الأنباط وتدفق المال عليها إلى اتباعها في القرن الثاني قبل الميلاد سياسة الغزو، فسيطرت على جميع طرق القوافل التجارية واحتلت دمشق زمن ملكها حارثة الثالث.

لقد تأثر الأنباط بالحضارة الآرامية، وما لبثوا أن تمثلوا هذه الحضارة وابتدعوا حضارة جديدة، ومازالت المباني الضخمة في البتراء ومدائن صالح شاهدة على علو كعبهم في ميدان الفن والعمارة، كما أخبر عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى:

? وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ? [سورة الشعراء، الآية 149].

استخدم الأنباط بادئ ذي بدء الآرامية والقلم الآرامي في كتابتهم، وظلت الكتابة الأنباطية مستعملة بعد زوال مملكتهم لعدة قرون، فقد طوروا الخط الآرامي حتى ابتعد عن أصله عبر أدوار ثلاثة استغرقت بضعة قرون، إلا أن فنيت في الدور الأخير لتظهر في كتابة أخرى هي الكتابة العربية.

لقد الحل الأنباط محل الإيدوميين في القرن السادس قبل الميلاد، ومنهم أخذوا اللغة والكتابة الآرامية لاستخدامها في نصوصهم التذكارية وفي تجارتهم الدولية.

إن الكتابة النبطية هي أقدم الكتابات العربية الشمالية، وقد يرجع تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، والكتابة النبطية هي كتابة آرامية سُجلت بلغة عربية، كما يدل على ذلك نص اكتشف في النقب عام تسعة وسبعين وتسعمائة وألف، وقدر زمنه في أواخر القرن الميلادي الأول، ويعرف هذا النص بنقش عبادة.

كما كتب بالحرف النبطي وباللغة العربية أيضاً النقش الشهير من عام ثمانية وعشرين وثلاثمائة ميلادية والمعروف باسم نقش امرئ القيس ملك العرب، المكتشف في موقع النمارة شرق جبل العرب جنوب سوريا، وهو محفوظ في متحف اللوفر بباريس.

وكذلك نقوش أخرى نرى فيها تحوير الخط الآرامي ليصبح مع الزمن أكثر ربطاً للحروف بعد أن انغلقت فيه بعض الحروف.

وأما نقش أم الجمال الذي اكتشف على بعد خمسة وعشرين كيلو متراً جنوب بصرى الشام، ويعود تاريخ للعام خمسين ومائتين ميلادية، وهو لقبر فهر بن سلم مربي جذيمة ملك تنوخ المعاصر لزينب ملكة تدمر، وقد كتب بالخط النبطي، نلاحظ فيه اندماج الحرف واتصاله، بحيث أصبح قريباً للحرف العربي واتصاله، ولو دققنا النظر في كتابته لوجدناه قريباً كل القرب لخطنا الحالي، ولنعمد إلى دراسة هذا النقش دراسة بليوغرافية فماذا نجد؟

في السطر الأول نقرأ " دنه نفشو فهرو " أي هذه نفس أو هذا قبر، ونلاحظ أن حرف الدال في دنه هو الغريبن ولو قلبناه لاستقامت الكلمة وأصبح الحرف عربياً.

وفي الكلمة الثانية " نفشو " والتي تتألف من مقطعين لو جمعنا المقطع الأول مع المقطع الثاني بتصرف بعد أن ننزل حرف الواو لقرأنا الكلمة بسهولة.

وكذلك كلمة " فهرو " وكلمة " بر " لننزل حرف الراء فإذا هي مستقيمة قوية.

وفي كلمة " سُليم " نلاحظ الوضوح، وكذلك في كلمة " مربي " " بر " و " جذيمة " و" ملك تنوخ " ونستطيع أن نقرأ النص بسهولة ونفهمه " دنه نفشو فهرو برشلي رب جزيمة ملك تنوخ " أي: هذا قبر فهر بن سليم مربي سليمة ملكة نوخ.

لقد تولدت الكتابة ونمت في شمال الجزيرة العربية في بلاد الأنباط، ثم انتقلت واتجهت مع قوافل التجارة إلى الجزيرة العربية إلى مكة والحجاز بعد أن اكتملت خصائصها، واستقرت قواعدها وصادفت استخداماً واسعاً، وحين استخدمها الصحابة -رضوان الله عليهم- استخدموها بمعرفة تامة في تدوين متطلبات الدولة الجديدة وتدوين القرآن، خلافاً لما يقوله ابن خلدون في مقدمته وابن قتيبة من أن الصحابة كانوا أميين لا يكتب منهم الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب بالتهجي، ووصمهم بالجهل في الكتابة.

إن كثرة الكتاب والتخصص في الكتابة ينافي وصم ما حدثنا عنه بعض المؤرخين، كما أن كثرة الكتب والرسائل التي أرسلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبين أن الكتابة والقراءة كانت منتشرة في الجزيرة العربية وبين القبائل، وإلا فما جدوى كتابة كتب لأمة لا تقرأ.

وأما الخطأ في الهجاء الذي تحدث عنه ابن قتيبة وابن خلدون فإنه وهم ومردود بما سيتضح لنا من حذق الصحابة في تدوين الظواهر اللغوية التي سجلوها حين كتبوا القرآن العظيم، وهذا يظهر من خلال الرسم العثماني الذي كتب به المصحف الشريف.

إن التأمل في إملاء الأنباط يوضح عن مظاهر لا نعرفها اليوم في كتابتنا العربية، ففيها حروف يعبر رسم الحرف الواحد منها عن عدة أصوات، وفيها كلمات لا يتفق فيها المنطوق مع المكتوب.

ولقد حققت هذه الصورة وهذا الرسم تلك اللهجات والقراءات التي أقرهم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفقاً لما تستطيعه ألسنتهم، ولحكمة أردها الله -سبحانه وتعالى- مثل الكلمات: " الحياة، الصلاة، الزكاة، النجاة، مشكاة، أشياعكم، جنات، العالمين " شاء الله أن يظل الوحي متجاوباً مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من البعثة حتى الوفاة مدة ثلاث وعشرين سنة يتنزل عليه القرآن خلالها منجماً يعلمه كل يوم جديداً ويرشده ويهديه، ويثبته ويزيده اطمئناناً.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:

بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين.

ونزول القرآن منجماً يعني نجوماً، أي خمس آيات خمس آيات لتيسير حفظ على المؤمنين في كل جيل.

لقد اكتمل نزول القرآن الكريم، وتولى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه ترتيب الآيات وتحديد مكانها في كل صورة طبقاً لما أخبر به الوحي.

لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يملي القرآن على كتاب الوحي ويرشدهم إلى ترتيب الآيات والسور القرآنية، وقد ترك ترتيب السور في بادئ الأمر للصاحبة أنفسهم، ويقال: إن مصحف علي -رضي الله عنه- كان مرتباً حسب التنزيل، إذ ابتدأ بسورة اقرأ، فالمدثر، بالمزمل... وهكذا.

وكانت نسخة الصحابي ابن مسعود تبدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، ونسخة الصحابي أبي بن كعب تبدأ بالفاتحة، فالبقرة، فالنساء، فآل عمران... وهكذا، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اكتمل نزول القرآن رتب سوره على النحو الذي بين أيدينا اليوم، وانتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن انتظم القرآن في مائة وأربع عشرة سورة، سميت كل صورة بما ابتدأت بها، أو بكلمة وردت فيها، أو بموضوع بارز، أو بقصة تدور حولها.

وعرفت بعض السور بأكثر من اسم، كسورة الفاتحة التي عرفت باسم " أم الكتاب، والسبع المثاني " و "الحمد "، وسورة التوبة بـ " براءة " وسورة الأسراء بـ " بني اسرائيل " وسورة فاطر بـ " الملائكة " وسورة المؤمن بـ " غافر " وسورة محمد -صلى الله عليه وسلم- بـ " القتال " وسورة النبأ بـ " عم ".

إن ترتيب السور على ما نراه اليوم، كترتيب الآيات هو توقيفي من الله -عز وجل- بالرغم من أنه لم يجمع بين دفتي مصحف واحد زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالقراء ومستظهرو القرآن كانوا كثيرين، وكان -عليه السلام- يترقب توالي نزول الوحي عليه، فالقرآن كله كتب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مجموع في مصحف واحد، وقد أغنى عنه حفظ الصحابة له في صدورهم.

قال الزركشي: " وإنما لم يكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصحف لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته -صلى الله عليه وسلم- ".

وكان كل ما يكتب يوضع بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينسخ الكتاب لأنفسهم نسخة منه، فتعاونت نسخ هؤلاء الكتاب والصحف التي في بيت النبي مع حافظة الصحابة الأميين وغير الأميين على حفظ القرآن وصيانته، مصداقاً لقوله تعالى:

? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [سورة الحجر، الآية 9].

القرآن العظيم زمن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما:

ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر -رضي الله عنه- بعد غروب شمس النبوة، وواجته في خلافته مصاعب جمة، كانت أولاها في السنة الثانية عشرة للهجرة حين استشهد سبعون حافظاً أثناء موقعة اليمامة في حروب الردة، فهال الأمر سيدنا عمر بن الخطاب، وجاء يقترح على أبي بكر الخليفة جمع القرآن المكتوب متفرقاً في العظام والحجارة وسعف النخل والرقاع ومن أوراق وجدت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وشرح الله صدر أبي بكر فأخذ بمشورة عمر، وأسند المهمة لكاتب الوحي زيد بن ثابت، الذي شهر العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته -صلى الله عليه وسلم- وزيد معروف بشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه.

يقول: زيد أرسل إليَّ أبا بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: " إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن " قت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقال عمر: " والله إن هذا خير " فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، وقد رأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: وقال أبوبكر: إنك رجل شاب لا أتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: " فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن " قلت: " كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى عليه وسلم-؟ ".. فقال: " هو والله خير ".. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العشب واللخاف وصدور الرجال.

نسخ زيد القرآن العظيم في صحائف من الرق ذات طول واحد وعرض واحد، مرتبة بين دفتين، وربطها بخيط وأودعها بيت الخليفة أبي بكر، فلما توفاه الله انتقلت الصحائف إلى الخليفة عمر، ثم إلى ابنته السيدة حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنهم أجمعين- قال علي رضي الله عنه: " رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجراً في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين ".. وهكذا تغيرت الصورة التي كان عليها القرآن الكريم إلى صورة جديدة ذات مظهر حسن جميل.

لقد كتب زيد القرآن العظيم بنفس الخط والإملاء الذي كتب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجب أن نعلم أن العرب في هذه الفترة الزمنية كانوا يكتبون بنوعين من الخط، خط لين يميل إلى السهولة والاستدارة يسطرون به الرسائل والأمور اليومية، مثل رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين وعامل كسرى عليها، وفيها:

"بسم الله الرحمن الرحيم:
من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فأني أحمد الله إليك الذي لا إله غيره، وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
أذكرك الله -عز وجل- فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، ومن يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فأقبل منهم، وأنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".


وأما النوع الثاني من الخط والذي كان سائداً فهو يابس جاف، يميل إلى التربيع والزوايا، يطلق عليه اسم: الخط المزوي، وتسطر به الشئون الجليلة العظيمة، وهو ما كتبت به الصحائف، وأطلق على نوع الخط هذا اسم الخط المكي فالمدني فالكوفي.

وهو أقرب ما يكون إلى صورة المصاحف الكوفية التي تختزنها متاحف العالم اليوم، كهذه الوثيقة التي يحتفظ بها المتحف البريطاني، وهي صفحة من القرآن الكريم من سورة " يس " من الآية الرابعة وحتى الآية الحادية والعشرين.

وهكذا تستمر الكتابات والآيات بالخط المكي المائل إلى قوله تعالى:

? اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ? [سورة يس، الآية 21].

لأول مرة ظهرت كلمة: مصحف بعد أن جمع القرآن بين دفتين في عهد الخليفة أبي بكر --رضي الله عنه- وكان سالم بن معقل المتوفي سنة اثنتي عشرة للهجرة أول من أطلق على كتاب الله -عز وجل- هذه اللفظة والتسمية.


المصدر : قناة المجد الوثائقية / رحلة القرآن العظيم (1)
علماً أنه يمكنك من خلال موقع القناة مشاهدة هذه الحلقات ، وحفظها أيضاً بصيغة وورد .
 
هنا بقية الحلقات : رحلة القرآن العظيم .
وليت أحد الأعضاء الكرام يتكرم بنقلها هنا متسلسلة مع تنسيقها بشكل جميل ، فقد يتوقف ذلك الموقع فنفقد تلك الحلقات . شكر الله لمن يتفضل بعمل ذلك مقدماً .
 
رحلة القرآن العظيم (2)

امتدت الفتوحات في عصر سيدنا عمر وسيدنا عثمان -رضي الله عنهما- وكثر الداخلون في الإسلام دين الله الحنيف: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [سورة النصر].
وازدادت حاجة الداخلين إلى معرفة تعاليم الدين الجديد، فظهرت المصاحف في الأمصار من إملاء كبار الصحابة الذين كانوا يعلمون القرآن بلهجاتهم قراءاتهم السبع، التي أجاز لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها تيسيرًا عليهم.
فكان أن ظهر الخلاف بين المتعلمين الذين يتلقون القراءة، وصار كل واحد يتطاول على أخيه بقراءته، ويخال أن قراءته هي الأصح.
كما وقع الخلاف في جيش الفتح على أرض أرمينية، وتشاجر الجند فيما بينهم، بسبب اختلاف اللهجات في قراءة القرآن، مما دفع حذيفة بن اليمان أن يشكو أمرهم للخليفة عثمان بقوله: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب.
وتدارك عثمان الأمر فجمع أعلام الصحابة وتدارس معهم أمر هذه الفتنة وأسبابها وعلاجها، واجتمع الرأي على ضرورة عمل نسخ من القرآن الكريم ترسل للأمصار، وتكون أصلاً لقراءة كتاب الله وكتابته، يرجع إليها كلما دعت الحاجة.
وأرسل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها.
فشكل لجنة رباعية قوامها: زيد بن ثابت، و عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وقد حددت مهمة اللجنة في أن تعمل على إخراج نص مكتوب للقرآن العظيم من الأصل المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة، وأوصى الرهط القرشيين الثلاثة قائلاً: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم.
وكانت مهمة اللجنة صعبة في التوفيق بين لهجات العرب، ولكن لهجة قريش كانت ملاذهم الأخير.
شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار الخليفة عثمان سنة خمس وعشرين للهجرة، واستغرق العمل سنة بكاملها، نسخت فيه اللجنة أربع نسخ على الرق، أرسلها الخليفة إلى الكوفة والبصرة والشام، واحتفظ بنسخة له، وأمر بحرق كل صحيفة أو مصحف سواه.
وأرسل مع كل مصحف قارئًا ليضع بذلك حدًّا لأي خلاف واختلاف يقع في الرسم أم في القراءة.
فقد أرسل القارئ المغيرة بن هشام للشام، وأبا عبد الرحمن السلمي للكوفة، وعامر بن عبد القيس للبصرة.
قال سيدنا علي -رضي الله عنه-: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، ولو وليت ما ولي لعملت في المصاحف ما عمل.
أعاد سيدنا عثمان بن عفان الصحف التي اطلعت عليها اللجنة لأم المؤمنين حفصة ابنة عمر -رضي الله عنها- فاحتفظت بها ولم تفرط فيها، فلما توفيت أخذها مروان بن الحكم من أخيها عبد الله بن عمر، فغسلها ثم أتلفها وأحرقها.
كتبت المصاحف الأولى بخط مكي مدني واضح بين محكم رصين، ليس فيها تشكيل ولا تنقيط، خالية من أسماء السور والفواصل، وبينها وبين الآيات مساحة قليلة فارغة ليس فيها ما يشير إليها، وبمداد حبر أسود على رق، وبمقاس كبير شبه مربع.
وبإملاء ورسم عرفا فيما بعد بالرسم العثماني، نسبة للخليفة عثمان -رضي الله عنه- مع أن عثمان لا علاقة له بهذا الرسم وهذا الإملاء، فلم يضع قواعده ولم يمل هجاءه، وإنما أمر بكتابته بذات الصورة التي كتب بها أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي أوضحنا من قبل بأنها مستمدة من رسوم الأنباط الذين أثروا في إملاء العربية لحكمة أرادها الله.
لقد كتب الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- القرآن العظيم برسم إملائي يجد فيه الدارس اليوم بعض الغرابة؛ لأنه يطلق حكمه من منطلق تطور الرسم الذي نكتب به اليوم، بعد أن تطورت الكتابة وأخذ رسومها حذفًا ووصلاً لكلمات كثيرة.
وإن كثيرًا من الكلمات يتغير رسمها عن منطوقها أثناء درج الكلام وحين الوقوف، ولابد للمتأمل في الرسم أن يعلم أن قواعد الهجاء التي نكتب بها اليوم قد جاءت في مرحلة لاحقة بعد التطور الذي حل برسوم العربية من نقط وشكل وضبط.
ورسم المصحف بشكله القديم يفيد في توجيه القراءات التي نزل بها القرآن ولهجات العربية المختلفة.
فإضافة الألف مثلاً في ثمود في قوله: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودًا ﴾ [الفرقان: 38] تفيد قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع؛ لأنهم قرءوها بالتنوين ﴿ ثَمُودًا ﴾.
وزيادة الألف في "ملاقوا" "نصروا" "يعفوا" كزيادة الألف في "مائة" أو الواو في "أولئك"، كي لا تقرأ منه أو "إليك" لأن الكتابة كما نعلم لم تكن مشكولة ولا منقوطة من قبل.
وقد تحدثنا عن التأثيرات النبطية في الإملاء، كحذف الألف الطويلة كما في "العالمين".
وكتابة التاء المبسوطة في النبطية تكتب الأسماء المؤنثة بالتاء في معظم الحالات، كأن نكتب خالة "خلت"، ووائلة "ويلت"، وغزالة "غزلت"، وسنة "سنت".
إن سر الرسم القرآني العثماني يحتاج إلى دراسة مفصلة واعية بعيدة عن الهوى، وتتعلق بدراسة تطور الكتابة مما قبل عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لنحكم في النهاية على أن هذا الشكل من الرسم كان متطورًا في زمنه، ويوافق في كثير من الأحيان المنطوق المرسوم.
إن كتابة الزكاة، الحياة، النداة، مشكاة، النجاة، الربا، من تأثيرات الكتابة النبطية وتحمل أسرار الأصوات في طريقة النطق للهجة من اللهجات العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
يقول ابن الجوزي: إن كتابة الصحابة للمصحف مما يدل على عظيم فضلهم في علم الهجاء خاصة وثقوب فهمهم في تحقيق كل علم.
واستدل السيوطي على قدم علم النحو بما منه كتابة المصحف على الوجه الذي يعلله النحاة في ذوات الواو والياء والهمزة، والمد والقصر.
فكتبوا ذوات الياء بالياء، وذوات الواو بالألف، إن قواعد الإملاء العادي لم يتفق عليها واضعوها وهي عرضة للتغيير والتبديل، ومتطورة على مدى الزمن، فواجب الحذر والتحرز يقتضي من المسلمين أن ينزهوا القرآن في رسمه عن قواعد مختلف فيها ومطلوب تغيرها، وربما يؤدي الترخص في الرسم إلى التحريف.
وسبق أن حاولت إسرائيل وعمدت إلى تحريف كتاب الله، فطبعت مائة ألف نسخة سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف ووزعتها في البلاد الإفريقية والآسيوية وبدلت عبارات وحذفت أخرى، وأسقطت آيات.
ووجه شيخ الأزهر حينها برقية يقول فيها: إن إسرائيل التي قامت على البغي والطغيان والاعتداء على المقدرات والمقدسات ما زالت تعيش في هذا العبث، وتحيى في إطار هذا الطغيان، وإنها بتحريفها القرآن الكريم، تريد القضاء على معتقداتنا وديننا، وهي بذلك تمارس ما كان عليهم آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه.
وانعقد مؤتمر إسلامي استعرض جريمة التحريف، وكان الرد بتسجيلات المصحف المرتل وتوزيع اسطوانات في الدول التي وزعت فيها إسرائيل المصاحف المحرفة، وباءت إسرائيل بالفشل والخزي، والله حافظ لقرآنه ومتمم نوره ولو كره الصهاينة.
يوجد في العالم اليوم أربعة مصاحف تنسب لسيدنا عثمان ولزمنه.
واحد في طشقند، ويعرف بالمصحف السمرقندي، حيث كان في جامع خوجا عبيد الله الأحرار ثم اشتراه حاكم تركستان ونقله إلى بطرس بيرج فوضع في دار الكتب القيصرية، وكان الناس يزورونه، ثم نشرته جمعية الآثار القديمة على يد الخطاط المصور الروسي "باركس" وطبعت منه خمسين نسخة.
ولما كان الانقلاب البلشفي أواخر سنة سبع عشرة وتسعمائة وألف ميلادية حمل المصحف في حفل عظيم وتحت حراسة مشددة من الجند إلى النظارة الدينية وبقي فيها خمس سنوات.
وفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية نقل إلى تركستان، وبقي في سمرقند فترة طويلة وهو الآن في طشقند في مكتبة الإدارة الدينية.
والمصحف السمرقندي هذا مكتوب على الرق بمساحة قدرها ثمان وستون بثلاث وخمسين سنتيمترًا، وعدد ورقاته ثلاثمائة وثلاث وخمسون ورقة.
وهو خال من النقط والشكل والتزيين ومكتوب بخط كوفي محقق رصين، وكل صفحة من صفحاته تحتوي على اثني عشر سطرًا.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 87- 89].
ويتساءل بعض المؤرخين عن الطريق الذي وصل منه هذا المصحف الإمام إلى سمرقند ويفترضون حلولاً، فمنهم من قال إنه كان هدية من السلطان المملوكي الملك الظاهر ركن الدين بيبرس لبركة خان، خان القبيلة الذهبية لأن بيبرس تزوج ابنته.
ومنهم من قال بل هو المصحف الذي رآه ابن بطوطة ووصفه أثناء زيارته للبصرة، وانتقل منها على يد تيمور لنك إلى سمرقند.
وصورة الخط في هذا المصحف هي أقرب ما تكون إلى صورة الكتابة التي كتب بها المصحف الإمام.
ومن النقاد من يقول إن هذا المصحف لا يرقى إلى زمن الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وإن الصنعة ظاهرة عليه، ويشبه مصحف القيروان، ويعود للقرن الثاني أو الثالث الهجري، إذ الخطوط فيه مستقيمة وكأنها رسمت بمسطرة.
والمصحف الثاني المنسوب لسيدنا عثمان -رضي الله عنه- موجود بالقاهرة وهو مكتوب على الرق بدون شكل أو نقط.
يذكر المقريزي أن رجلاً من أهل العراق قدم إلى مصر في الخامس من المحرم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة هجرية في خلافة العزيز بالله الفاطمي وأحضر معه مصحفًا.
ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأنه كان بين يديه يوم الدار، وكان فيه أثر الدم.
وذكر أنه استخرج من خزائن المقتدر، ودفع المصحف إلى عبد الملك بن شعيب المعروف بابن بنت ولد القاضي، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في جامع عمرو وشهره، وجعل عليه خشبًا منقوشًا، وكان الإمام يقرأ فيه يومًا وفي مصحف أسماء يومًا، وذلك إبان العزيز بالله لخمس خلون من المحرم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
ويعلق المقريزي على ذلك بأن قومًا ينكرون أن يكون المصحف المشار إليه مصحف عثمان -رضي الله عنه- لأن نقله لم يصح ولم يثبت برواية رجل واحد.
ويورد السمهودي خبرًا آخر يقول: إن بالقاهرة مصحفًا عليه أثر لدم عند قوله تعالى: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ ﴾ [البقرة: 137]، كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة.
ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان -رضي الله عنه- وهو بين يديه لم يكن إلا واحدًا، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقا على تلك الآية تشبيهًا بالمصحف الإمام.
ولعل المصحف هذا من المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه.
ظل هذا محفوظًا بمدرسة القاضي الفاضل، وكان بها مكتبة لا نظير لها، ثم تفرقت هذه الكتب وتخربت المدرسة، فنقل السلطان الأشرف "قانسوه الغوري" هذا المصحف إلى القبة التي أنشأها تجاه مدرسته.
وبقي فيها حتى سنة خمس وسبعين ومائتين وألف هجرية، ثم نقل مع آثار نبوية أخرى إلى المسجد الزينبي، ثم إلى خزانة الأمتعة بالقلعة، وفي سنة أربع وثلاثمائة وألف هجرية نقل إلى ديوان الأوقاف، ومن هناك في العام التالي إلى قصر عابدين، ثم إلى المسجد الحسيني في نفس السنة، وما يزال محفوظًا به حتى يومنا هذا.
وأما المصحفان الثالث والرابع فهما موجدان في استانبول واحد بمتحف الآثار الإسلامية، والآخر في متحف الأمانات المقدسة بـ"طبقابي سراي" وكلاهما مكتوب على الرق بمداد حبر داكن وبمقاس مختلف وأسطر مختلفة.
ونقرأ في مصحف الخليفة عثمان -رضي الله عنه- ويقال إن دماءه عليه وهو الموجود في "طبقابي":
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4) وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ ﴾ [النساء: 1- 4].
إن مصحف الخليفة عثمان هذا المحفوظ بـ"طبقابي سراي" منقوط باللون الأحمر، وفي آخر الآية أحيانًا دائرة تشغلها خطوط هندسية.
وقيل إنه كتب بخط الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلا أن هذه العلامات تؤكد على بطلان القول إنه من المصاحف العثمانية، كما أن فيه رقش ونقط وهذا ما ليس من مزايا المصاحف العثمانية.

* ما قيل عن المصاحف المنسوبة

تذكر بعض المصادر التاريخية أن مصحف الإمام الخاص به كان محفوظًا في جامع قرطبة وأنه ظل محفوظا به حتى سنة اثنتين وخمسين بعد الخمسمائة بعد أن نقله عبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين إلى مراكش وظل بالمغرب حتى عهد بني مرين.
يروي الإدريسي في نزهة المشتاق: إن جامع قرطبة كان يحتفظ في مخزنه الواقع إلى يسار المحراب بمصحف كان يرفعه رجلان لثقله، وهذا المصحف كان يضم أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان الذي خطه بيمينه، وفيه نقط من دمه.
لقد نظم الشعراء قصائد كثيرة منها ما أنشده الوزير يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل.
جزى الله عنا للأنام خليفة *** به شربوا ماء الحياة فخلدُو
بمصحف عثمان الشهيد وجمعه *** تبين أن الحق بالحق يعضدُ
رأى أثر المسفوح في صفحاته *** فقام لأخذ الثأر منه مؤيدُ
عندما نقل عبد المؤمن بن علي مصحف عثمان إلى المغرب احتفل الناس في الاعتناء بكسوته، وأبدلها فبعد أن كانت من الجلد القاتم كساه بصفائح الذهب المرصعة بالآلي النفسية والأحجار الكريمة من يواقيت وزمرد.
ولم يكن عبد المؤمن بن علي وحده الذي وجه اهتمامه بمصحف عثمان، فقد تابعهم في ذلك أبناؤه وأحفاده، فكانوا يتفنون في تزيينه بمزيد من الجواهر النادرة، وأضيفت الأحجار الكريمة لدفتيه حتى استوعبوهما وكانوا دائمًا يحضرونه في مجالسهم في ليالي رمضان، ويباشرون بالقراءة فيه، ويصفحون ورقه بصفيحة من الذهب تشبه المسطرة.
لقد أفاضت المصادر في وصف ما زينت به كسوة هذا المصحف بعد انتقاله إلى المغرب، يذكر عبد الواحد المراكشي أنه في عهد الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف أرسل ملك صقلية إتاوة مالية للموحدين وفي ذخائر لم يكن عند ملك مثلها، منها حجر ياقوت لا يقدر بمال، كان يسمى الحافر الأحمر، على شكل حافر الفرس.
كللوا به غلاف المصحف العثماني إلى جانب أحجار كريمة نفيسة أخرى.
وصنع للمصحف كسوتان واحدة من السندس الأخضر يخرج بها للناس عامة، وأخرى عظيمة قيمة يخرج بها لخاصة الناس.
كما صنع الموحدون محملاً خشبيًّا مرصعًا ومنقوشًا ومغلفًا بصفائح ذهبية، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله، رصع بدوره بأجمل اليواقيت وأحلى الدرر.
ثم جعلوا لكل هذا تابوتاً كبيرًا مكعب الشكل به مشكاة، وقد ركب الصناع في أحد جوانبه بابًا عليه دفتان، وتفنن الصناع في طريقة فتح بابه وغلقه بحركات هندسية فنية، فقد كان له مفتاح يترتب عليه أربع حركات، أولها انفتاح الباب بانعطاف الدفتين، ثم خروج الكرسي من تلقاء نفسه، ثم يتحرك المحمل في ذات الوقت من مؤخر الكرسي إلى مقدمه، فإذا تم خروج الكرسي والمحمل انغلق الباب من تلقاء نفسه.
قتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وهو يقرأ القرآن، وصبغت دماؤه صفحات ومداد القرآن العظيم، وانتشر الإسلام في أرجاء الأرض ووصلت المصاحف التي أمر بها إلى الأمصار.
وسارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها، حرفًا بحرف، وكلمة بكلمة، واشتهر أئمة بالقراءة والكتابة، ولاقى القرآن عناية ما عرفت البشرية كلها بكتاب مثيلاً.
وتمر الأيام، ويدخل في الدين الجديد آلاف وآلاف من غير العرب أبناء البلاد المفتوحة، أولئك الذين لا يحسنون التكلم بالعربية، وهم يتشوقون لقراءة القرآن الكريم وفهم معانيه واتباع تعاليمه.
فكان أن تسرب اللحن وفشا الغلط، وكان لابد من وضع ضوابط لشكل القرآن العظيم ولنقطه، حتى لا يخطئ فيه من كان أعجمي اللسان.

* حكاية النقط .. الإعراب .. التشكيل

وكانت حكاية بداية نشوء النقط الذي نعني اليوم التشكيل للحرف العربي، وهو إعراب اللفظ كي لا يتسرب اللحن أي الغلط إلى اللسان ويتغير المعنى ويفهم منه غير المقصود فيختلط الأمر.
لقد سمع ظالم بن عمرو بن سفيان الشهير بأبي الأسود الدؤلي حوالى سنة ثمان وثلاثين للهجرة قارئا يقرأ قوله تعالى: "أن الله بريء من الله ورسوله" بجر لام رسوله بدل الرفع، وهذا كفر من غير شك.
فقال أبو الأسود: معاذ الله أن يتبرأ من رسوله وأفزعه ذلك، وشعر بخطورة الأمر، فلجأ لسيدنا علي وشرح له ما يجول في فكره، فباركه وقال له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت.
وكان بدء علم النحو، وبدء الإعراب، وبدء النقط، وبدء التشكيل.
الصورة الأولى للتشكيل: النقط
لم تكن صورة التشكيل فوق الحروف كصورة التشكيل التي عليها حروف عليها العربية اليوم، وإنما كانت كما وضعها أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين للهجرة، حين اختار رجلاً من عبد القيس وقال له:
خذ المصحف وصابغا يخالف لونه مداد المصحف، فإذا فتحت شفتي فأنقط نقطة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فأنقط أمامه نقطة، وإذا كسرتهما فأنقط تحته نقطة، فإذا اتبعته غنة أو تنوينا فأنقط نقطتين. حتى أتى على آخر المصحف.
فالتشكيل الأول كما نرى هو عبارة عن رسم دائرة نقطة بمداد حبر أحمر حتى لا تختلط بجسم الحرف، فوق الحرف لتدل على الفتحة، وتحت الحرف للخفضة أي الكسرة، وفي وسط الحرف أو بين يديه للضمة، واستخدم النقطتين لتدل على التنوين.
?إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ? [الأعراف: 206].
وفي سورة البقرة نشاهد النقط الذي هو الشكل، وهو نقط أبو الأسود الدؤلي، قال تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1- 5].
وهكذا حلت مشكلة الإعراب، وصار القارئ في كتاب الله في المصحف الشريف في مأمن من الوقوع في لحن أو خطأ يشوه المعنى القرآني.
وظل هذا الأسلوب من الشكل متبعًا حتى أواخر القرن الهجري الأول، بل وحتى نهاية العصر الأموي سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة.
لم تبق الحركات من فتحة وخفضة وضمة وتنوين متفردة في القرآن الكريم بمداد أحمر لضبط كلماته، وإنما أضيفت إليها رموز جديدة لتعبر عن المهموز والتشديد والمدود.
واستخدم لها اللون الأخضر والأصفر والبرتقالي واللازورد، كي يدل كل لون على رمز صوتي.
فبينما مثلت النقطة الصفراء الهمزة عند أهل المدينة أصحاب الإمام مالك بن أنس المتوفى سنة تسع وسبعين بعد المائة من الهجرة وتبعهم في ذلك أهل المغرب والأندلس، كانت النقطة الخضراء والحمراء هي التي تمثل الهمزة عند أهل العراق والشام.
كما استخدموا النقطة الصفراء لتدل على الشدة، واستعمل أهل المدينة والمغرب والأندلس النقطة الخضراء لهمزة الوصل أو الحرف الذي لا يلفظ.
كما قامت طوائف من أهل الكوفة والبصرة فأدخلوا الحروف الشواذ في المصاحف، ونقطوها باللون الأخضر.
وربما جعلوا الخضرة للقراءة المشهورة، وجعل الحمرة للقراءة الشاذة المتروكة، وذلك تخليط وتغيير كما يقول الداني.
لقد بقي المصحف الشريف خلال هذه الفترة مكتوبًا بمداد حبر أسود أو داكن، ولم تمس حروفه ولم يتسرب إليها أي لون، وإنما كانت الإشارات النقاط فوق الحروف، هي التي استخدم المسلمون فيها الألوان.
يقول الداني: "وأكره من ذلك وأقبح منه ما استعمله أناس من القراء وجهلة من النقاط من جمع قراءات شتى وحروف مختلفة في مصحف واحد، وجعلهم لكل قراءة لونًا من الألوان المخالفة للسواد، كالحمرة والخضرة والصفرة واللازوارد، وتنبيههم على ذلك أول المصحف ودلالتهم عليه هناك، لكي تعرف القراءات وتميز الحروف، إن ذلك من أعظم التخليط وأشد التغيير للمرسوم".
لقد لعبت الألوان بصورة نقاط للشكل فوق الحروف دورًا كبيرًا في العناية برسم المصحف على مدى أربعة قرون.
كانت الغاية من ذلك ضبط القراءة حتى لا يخطئ قارئ القرآن في حرف صوتي.
ولقد كان التحفظ الصادق الأصيل في المحافظة على متن القرآن الكريم الذي كان عليه أيام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فلم يمس أحد جسم الحرف المكتوب بمداد أسود على الرق، وما ذلك إلا لقطع السبيل على تحريفه بأية إضافة من الإضافات.
ومع ذلك فإن الجهود تتواصل حثيثة لاتخاذ التدابير التي تمنع التصحيف أو التحريف أو اللحن فيه.
 
رحلة القرآن العظيم (3)

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ سورة الحجر الآية 9 ].
في المصحف الذي يحتفظ به مركز دراسات الحضارة والفنون الإسلامية بقصر رقادة بالقيروان بتونس نشاهد النقطة الخضراء، وقد استخدمت لتدل على الهمزة، وهي طريقة البغداديين، بينما استخدمت النقطة الصفراء لتدل على الشدة، بينما أخذت النقطة الزرقاء في كلمة مرضاة وتحت الضاد لتدل على الإمالة.
قال تعالى:
﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ سورة التحريم، الآية 1 ].
لقد وصلتنا من هذه الفترة الزمنية أي القرن الهجري الأول والقرن الهجري الثاني عدة وثائق توضح لنا رسوم الحروف وطرق الشكل، والمتأمل في هذه المصاحف بالرغم من خلوها من الزخارف وتجردها من علامات نهايات الآيات ورءوس السور -فإنه يلاحظ روعة الفن في أداء رسوم هيكل الحرف، الذي يعبتره النقاد اليوم من أجمل الحروف وأكثرها حيوية.
وفي الوثيقة التي يحتفظ بها المتحف الإسلامي في القاهرة نلاحظ ما قلناه، ونشاهد فيها تجردها من نهايات الآيات ورءوس السور، ونقرأ من آيات أواخر سورة المؤمنون:
﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [ المؤمنون، الآية 109: 118 ].
وتأتي بعد ذلك سورة النور دون أن يكون لها رأس سورة أو أية إشارة تنبه إليها، وتبتدئ بالبسملة ثم بكلمة:
﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ [ سورة النور، الآية 1 ].
ثم نقرأ في الوثيقة الثانية المحفوظة بالمتحف الإسلامي بالقاهرة:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ... ﴾ [ سورة المائدة، الآية 2، 3 ]
ونلاحظ جمال الحرف بهيئته الناصعة التي تدل على عظمة هذا القرآن العظيم الذي اعتنى به المسلمون أشد عناية، وكان التوفيق حليفهم لأنه كلام الخالق البارئ جل جلاله.
وتنتشر اليوم في متاحف العالم عدة مصحف تنسب لسيدنا علي -رضي الله عنه- واحد في مكتبة نور عثمانية في إسطنبول، وهو مصحف مكتوب بالذهب، وأحرفه مسورة بمداد أسود على رَق مستطيل الشكل، ونقرأ في هذا المصحف سورة الإخلاص، ونلاحظها وهي محفورة بالذهب مسورة:
﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [ سورة الإخلاص، الآية 1 : 4 ].
ومصحف آخر موجود في خزانة الإمام الرضا بمشهد بإيران مكتوب على الرق، وقد أوقفه الشاه عباس الصفوي سنة ثمانٍ بعد الألف هجرية غير منقوط ولا مشكول، وليس فيه نقاط ولا رءوس آيات ونقرأ فيه من سورة الحجر:
﴿ مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * ِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾ [ سورة الحجر، الآية 17 : 27 ].
وأما المصحف الثالث فتحتفظ به خزانة الإمام الرضا بمشهد أيضاً، وهو مكتوب على الرق، ويضم من سورة هود إلى آخر سورة الكهف. وهذا ما بقي منه عبر الأزمان، والصفحة هذه مكتوبة بخط كوفي متحول مع الإعراب والإعجام بألوان مركبة، وفيه الصحفة الثانية والثالثة مذهبتان، ونقرأ صفحة منه من سورة النحل:
﴿ وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [ سورة النحل، الآية 78 : 80 ].
ونلاحظ هنا داخل دائرة العدد ثمانين، والأعداد لم تستخدم زمن سيدنا علي -رضي الله عنه- وبديهي أن العدد قد أُقحم إقحاماً، وهذا ما سنراه في الحلقات القادمة، كما أن إقحام العدد لا يدل على عدم نسبة المصحف لسيدنا علي -رضي الله عنه- كما يحتج بعض دارسي المخطوطات ويعتبرونه محدثاً لا يمت بصلة لزمن علي -رضي الله- أو عهده، ولكنا نعلم أن الأجيال كانت تتوارث هذه الوثائق وتجمل فيها وتحسن وتضيف وتُذَهب، كما حدث في السيوف المنسوبة للأئمة ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس بضائر ذلك من وجهة الدراسة النقدية، ونتابع مشاهدة نص هذه الوثيقة ونقرأ:
﴿ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ .. ﴾ [ سورة النحل الآية، 81 ].
ونرى أيضاً من جملة ما يشك في نسبة هذا المصحف لسيدنا علي -رضي الله عنه- أن كلمتي أكناناً وسرابيل قد رُسم فيهما حرف الألف مع أن قاعدة الرسم في ذلك الزمن لم تكن تثبت حرف الألف.
ومصحف آخر محفوظ في مدينة النجف في العراق مكتوب على الرق، فيه شكل للحركات وعلامات للعشور، وفي الصفحة أربعة عشر سطراً، ونختار صحفة منه لنلاحظ أسلوب الخط والكتابة، ونقرأ من سورة الرعد من الآية الثالثة عشرة:
﴿ .. لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُّسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ﴾ [ سورة الرعد، الآية 3، 4 ].
و تستمر الآيات حتى نهاية الصفحة بقوله تعالى:
﴿ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ .. ﴾ [ سورة الرعد، الآية:13 ].
أما المصحف الذي يحتفظ به متحف طوبقابي بإسطنبول فإنه كتب الرق المبشور، أي رق أُستعمل من قبل ثم أُزيلت الكتابة منه وكتب عليه مرة ثانية، وعدد أوراقه مائة وسبع وأربعون ورقة، ونجد في آخره: وكتبه علي بن أبي طالب، وفي الصفحة سبعة أسطر بدون نقط، إلا أنه مشكول بالأحمر والأخضر، ونقرأ فيه من سورة الفاتحة:
﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين ﴾ [ سورة الفاتحة، الآية 5 : 7 ].
وفي صفحة أخرى منه:
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ سورة البقرة، الآية 219 ].
كتبه علي بن أبي طالب.
ومصحف آخر في متحف طوبقابي بإسطنبول يُنسب لعلي -رضي الله عنه- مكتوب على الرق، فيه حركات الإعراب، وآخر الأدوات دوائر، كما حُليت أسماء السور كلها بالذهب، لقد كان سيدنا علي -رضي الله عنه- من كتاب الوحي، وكان ذا خط حسن؛ بل خطاطاً لا يجاريه بجمال خطه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إذا كانت مشكلة الإعراب قد حُلت بنقط أبي الأسود الدؤلي وصار القارئ لا يخطئ في القراءة فإنه مازالت الصعوبات أمام الأعجمي قائمة ليميز بين الحروف المتشابهة في السورة، فكيف يميز بين الباء والتاء والثاء والجيم والحاء والخاء وهكذا لبقية الحروف؟ لقد كثر التصحيف حتى قيل بأن كتاب عثمان لعامل مصر كان مكتوباً فيه. " إذا جاءكم الرجل فاقبلوه " فقرئت فاقتلوه. فكانت الفتنة والانقلاب على عثمان، وتصدى لهذا العمل نصر بن عاصم المتوفى سنة تسع وثمانين للهجرة، فأعاد النقط للحروف المتشابهة في القرآن ولكن بخطوط مائلة صغيرة حتى لا تختلط مع نقط التشكيل، وكان ذلك زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ست وثمانين للهجرة، وبتكليف من الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة خمس وتسعين للهجرة، وفي الوثيقة المحفوظة في المكتبة البريطانية بلندن نشاهد نقط نصر بن عاصم على صفحة ترجع إلى القرن الهجري الثالث، وهمزة القطع بلون أخضر، قال تعالى :
﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ .. ﴾ [ سورة الشعراء، الآية 193: 205 ].
اختلف أهل المشرق والمغرب في نقط الفاء والقاف، فأخذ أهل المغرب القاعدة القديمة الأولى ونقطوا الفاء بنقطة من الأسفل، والقاف بنقطة من الأعلى، وتركوا حرفي القاف والنون بدون نقط في حالة الإفراد والتطرف؛ لأنهما لا يلتبسان بحروف أخرى، ونهج أهل المشرق على رسم نقطة على الفاء ونقطتين على القاف، ونقطوا المفرد والمتطرف، وفي الوثيقة المحفوظة في المكتبة البريطانية نشاهد نقط الفاء والقاف على الطريقة المغربية، فنقطة الفاء من الأسفل ونقطة القاف من الأعلى، كما نشاهد حرف النون المتطرف وهو خال من النقط. لقد استخدم الخطام النقطة الصفراء لتدل على همزة القطع، والنقطة الخضراء لتدل على همزة الوصل. قال تعالى:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [ سورة الفتح، الآية 1، 6 ].

* الرموز الفنية في المصحف الشريف

ظل المصحف الشريف خلال النصف الأول من القرن الهجري الأول مجرداً إلا من بعض رموز أبي الأسود، وإذا كانت الكوفة قد أخضعت خط المدينة لقواعد الصنعة فإن دمشق قد دفعت بالخط الكوفي مراحل نحو التقدم والتحسن، ونتج عن ذلك خط جميل هو الخط الشامي، وكان من الطبيعي أن يظهر خط شامي ودمشق أيام الأمويين عاصمة الملك.
لقد تم نقط الحروف المتشابهة في القرآن زمن عبدالملك، وجمع الحجاج بن يوسف الثقفي فقهاء المسلمين وأحضر القراء فمكثوا أربعة أشهر يصلون ليلهم بنهارهم حتى عدوا آيات وكلمات وحروف القرآن العظيم، وسووا أجزاءه وقسموه إلى ثلاثين جزءاً، وستين حزباً، ومائتين وأربعين ربعاً، وأربعمائة وثمانين عشراً، وعدد آيات القرآن العظيم على طريقة الكوفيين وهو الرأي الراجح ست وثلاثون ومئتان وست آلاف آية، وعدد كلماته تسع وثلاثون وأربعمائة وسبع وسبعون ألف كلمة، وعدد أحرفه خمسة عشر وثلاثة وعشرون وثلاثمائة ألف حرف.
إن هذا الترتيب للقرآن الكريم في زمن الحجاج لم يكن نابعاً من فراغ، وإنما كان قبل ذلك لتسهل على الحفاظ المراجعة الدائمة لآيات القرآن العظيم، فقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داوود وابن ماجة عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: " ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة، وحزب مفصل من سورة قاف حتى يُختم ".
وقد كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه- حريصاً على أن يتلوا القرآن العظيم جميعه كل أسبوع، فكان يبدأ ليلة الجمعة بقراءة سورة البقرة حتى نهاية المائدة، ويبدأ ليلة السبت في قراءة سورة الأنعام حتى نهاية سورة هود، ويبدأ ليلة الأحد بقراءة سورة يوسف حتى نهاية سورة مريم، ويبدأ ليلة الاثنين بقراءة سورة طه حتى نهاسة سورة طسم، ويبدأ ليلة الثلاثاء بقراءة سورة العنكبوت حتى نهاية سورة " ص " ويبدأ ليلة الأربعاء بقراءة سورة الزمر حتى نهاية سورة الرحمن، ويختم ليلة الخميس ما بقي من سور القرآن الكريم، وقد كان هذا التقسيم أساساً لما عُرف بأحزاب المصحف، وهي سبعة على عدد أيام الأسبوع، ولقد طرأ عليها التعديل بعد عثمان -رضي الله عنه- كما شاع في فيما بعد قسمة كل جزء إلى جزأين وكل حزب إلى أربعة أرباع.
لم يكن المصحف الشريف يحمل رموزاً تشير إلى هذه التقسيمات الفنية، وإنما كان مجرداً ليس فيه إلا الحرف، ثم استحب النساخ كتابة العناوين في رأس كل سورة حتى يميزوها عن جسم القرآن العظيم كي لا يعتقد الناس بأنها من القرآن، كتبوها بالذهب وبلون مغاير، وابتعدوا لها خطاً مورقاً، كما وضعوا رموز الفاصلة عند رءوس الآي فاستخدموا في البدء مجموعة من النقط على هيئة مثلث، ثم تطور هذا الشكل فاستعاضوا عنه بدائرة، وأدخلوا فيها حرفاً ليدل على العدد، ونحن نعلم أن العرب قد استعملوا حروف الهجاء للتعداد والتأريخ والسنوات، فكانت تسعة أحرف للآحاد ومثلها للعشرات ومثلها للمئات، واستخدم حرف واحد للألوف، وتسمى الحروف الهجائية في حساب الجُمل.
استعمل المسلمون الأوائل حرف الهاء للدلالة على العدد خمسة، ووضعوه داخل دائرة عند انتهاء خمس آيات، وسموا ذلك بالتخميس، واستعملوا عند نهاية كل عشر آيات حرف ياء داخل دائرة للدلالة على العدد عشرة، وسُمي ذلك بالتعشير، كما استخدم بعض نساخ القرآن العظيم رأس خاء للخمسة، و رأس عين للعشرة، ووضعوا حرف هاء بلون مذهب للدلالة السجدة.

* ظهور الأرقام
ذكر القرآن العظيم الأرقام بالكلمات كما في قوله : ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ [ سورة التوبة، الآية 40 ] ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ [ البقرة، 196 ] ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [ سورة الكهف، الآية 25 ] ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ ﴾ [ سورة العنكبوت، الآية 14 ] ﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ سورة المعارج، الآية 4 ] يسمى نظام كتابة الأرقام بالحروف حساب الجُمل، ويقضي بأن تساوي حرف الألف واحداً والباء اثنين والجيم ثلاثة والدال أربعة والهاء خمسة، وهكذا، فالحروف التسعة الأولى تحمل الآحاد، والتسعة الثانية هي الهاء والكاف واللام والميم والنون والسين والعين والفاء والصاد تحمل العشرات، والتسعة الثالثة وهي القاف والراء والشين والتاء والثاء والخاء والذال والضاد والظاء تحمل المئات، ويحمل حرف الغين رقم الألْف، إن هذا التقسيم عرفه العرب قبل اتصالهم بالهنود، ويسمى التقسيم والنظام هذا بالنظام العُشري، وقد أخذه العرب والهنود عن البابليين، إلا أن التطور الحضاري الذي مر به العرب في ظل الإسلام دفعهم إلى التفكير بطريقة تكون أيسر من حساب الجُمل هذا، لقد استعمل العرب والمسلمون نظام حساب الجمل في البدء في عد آيات القرآن الكريم زمن الحجاج وكان التخميس والتعشير، إلا أن اتصالهم بالحضارات القديمة دفعهم إلى اكتشاف نظام جديد حين وجدوا أن الهنود قد تخلصوا من الحروف ووضعوا لكل رقم شكلاً يدل عليه.
وقد كان الفلكي محمد الفزاري الكوفي المتوفى سنة ثمانين ومائة هجرية وقد وضع كتاب السند هند الكبير، شرح فيه فكرة الأعداد الهندية ورسم أشكالها، وكان هذا الكتاب فاتحة فتحت الطريق لعالم الرياضيات محمد الخوارزمي المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومائتين هجرية حيث أعاد كتابة هذا الكتاب، وأضاف إليه الشيء الكثير.
إن الأرقام التي استعملها العرب والتي نكتب بها اليوم لم تكن الهندية صورة كما يخطئ بعد المثقفين ويدعونها بالأرقام الهندية، إن شكل الرقم العربي مختلف عن الهندي صورة، وما أخذه العرب عن الهنود هو فكرة النظام العشري، يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان: " كان للهنود أشكال عديدة للأرقام هذب العرب بعضها، وكونوا من ذلك سلسلتين عرفت إحداهما بالأرقام الهندية، وهي التي تستعملها أكثر الأقطار العربية والإسلامية، وعرفت الثانية باسم الأرقام الغبارية، وانتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس، وعن طريق الأندلس وبواسطة المعاملات التجارية، دخلت هذه الأرقام البلاد الأوروبية، وعُرفت باسم الأرقام العربية، إن صور الأرقام الهندية تختلف اختلافاً كبيراً عن أشكال الأرقام العربية، كما أن منشأ الأرقام العربية والتي تدعى بالغبارية لا علاقة للهنود بها، وإنما هي صورة الأحرف العربية، وليس صحيحاً أنها قامت على تعداد الزوايا، وقد جمعها بعضهم في هذه الأبيات.
ألف وحاء ثم حج بعده ** عين وبعد العين عُوٌّ تُرسم
هاء وبعد الهاء شكل ظاهر ** يبدو كمخطاف إذا هو يُرقم
صفران ثامنها وقد ضما معاً ** والواو تاسعها بذلك تَختم
لقد ذكر الخوارزمي نوعين بشكل الأرقام، ظل الأول مستعملاً واختفى الثاني بعد أن تحول إلى أصل الأرقام المستعملة في العالم اليوم مع تغيير بسيط، وشكل الأرقام اليوم لا يمت بصلة إلى شكل الرقم الغباري، إن الأرقام المشرقية هي الأصل، وهي التي شاعت قديماً وحديثاً، واستُعملت في المخطوطات العامة وفي مخطوطات الحساب، وإلى عهد قريب كان الجزائريون يزينون مخطوطاتهم بها، وأقدم مخطوطة ظهر فيها شكل الرقم الغباري هو مخطوط ابن الياسمين الذي مات ذبيحاً بمراكش عام واحد وستمائة هجرية، ويوضح هيئة الأرقام كما تستعمل اليوم عدا شكل الأربعة والخمسة فهما تشذان عن ذلك، ومن المؤسف أن يظهر هذا الرقم المغترب في المصاحف ظناً بأنه الرقم العربي الأصيل.
ظلت أشكال الأرقام المشرقية سائدة في جميع بلاد المشرق العربي والإسلامي، وتطورت مع تطور الحرف العربي، وسارت ليونة الحرف حتى أصبحت جزءاً من التراث، لعب الفن والذوق الرفيع عند الفنان المسلم دوراً كبيراً، فأحدث أشكالاً جميلة مذهلة لصنع هذه الرموز استمدها من الطبيعة الورافة الغناء، وكانت الأزهار أحد مصادر إلهامه ليستقي منها آلاف الأشكال بشكل مجرد، وهكذا نشأ الفن الإسلامي التجذيبي لخدمة القرآن العظيم، وكانت آياته في التأمل في خلق الله الباعث الحثيث على صياغة جمالية هذا الفن المذهل.
لقد أسهم الخطاطون في تجويد المصاحف وتحسين كتابتها، وحملوا لواء تطور الحرف العربي، فقد ظهر الخطاط قطبة المحرر فابتدع أقلام الجليل والطومار والثلث والنصف في العصر الأموي، وكان من قبل مؤسسُ الدولة سيدنا معاوية -رضي الله عنه- خطاطاً وكاتباً للوحي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ظهر الخطاط خالد بن أبي الهياج أيام الوليد بن عبدالملك، وكان يخط المصاحف بالذهب، وهو الذي كتب محراب المسجد النبوي بالمدينة.
وأصبحت دمشق حتى منتصف القرن الهجري الثاني قبلة الخطاطين والمُذَهبين والمبدعين، لقد وصلنا من الفترة الأموية عدة مصاحف ففي متحف طوبقابي بإسطنبول مصحف كُتب عليه أنه كُتب سنة اثنتين وخمسين هجرية بخط عقبة بن عامر، إلا أن كتابة الاسم والتاريخ مضافة فيما بعد، والخط أندلسي مشكول على طريقة الخليل، ضمة وفتحة وشدة بالأزرق، والنقاط بالأحمر، وفي نهاية الآيات علامات مزخرفة، وفيه تقسيمات للأرباع والأخماس والأجزاء، ودوائر هندسية زخرفية، ولا نشك في أن المصحف متأخر جداً عن التاريخ الذي زُعم أنه كتب فيه.
ومصحف آخر في طوبقابي بإسطنبول كتبه حُدَيج بن معاوية بن مسلمة الأنصاري للأمير عقبة بن نافع الفهري سنة تسع وأربعين من الهجرة، والشكل فيه بالأحمر، فيه نقاط، وجعل حوله ورقاته إطاراً من الذهب، وخطه أقرب إلى النسخ المدور منه إلى الكوفي، وفي خطه خصائص لا توجد في أي من المصاحف التي نُسبت للقرن الهجري الأول، وفي المتاحف اليوم مصاف تنتسب لآل البيت -رضي الله عنهم- إذ تحتفظ مكتبة الإمام الرضا في مشهد بإيران بثلاثة مصاحف تنسب إلى الأئمة، الأول منسوب للحسن -رضي الله عنه- وهو ناقص يبدأ من قوله تعالى:
﴿ .. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [ سورة يس، الآية 27 ]
وآخره:
﴿ .. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [ سورة فصلت، الآية 45 ]
وكُتب فيه: كتبه حسن بن علي بن أبي طالب في سنة إحدى وأربعين، ويحمل أربعاً وعشرين ومائة ورقة.
ومصحف آخر منسوب للحسين -رضي الله عنه- وفيه حركات الإعراب، ويحمل واحدة وأربعين ورقة، وأوله:
﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [ سورة الكهف، الآية 82 ].
من سورة الكهف، وصفحته من سبعة أسطر، لكن ليس لدينا ما يؤكد أن هذين المصحفين يعودان بالفعل للحسن والحسين رضي الله عنهما.
 
رحلة القرآن العظيم (4)

ظل أسلوب أبي الأسود الدؤلي في شكل الحروف وضبطها والذي عرف بالنقط في المصاحف متبعاًً حتى ظهر الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري.
فابتكر هذا النابغة العبقري أشكالاً جديدة ورموز وصوراً جعلها بدل نقاط الدؤلي الحمراء، ومن أضاف عليها رموز النقاط الخضراء والصفراء وغيرها، وأراح الناس والكتاب من مشقة الكتابة بالألوان، ورغم سهولة أشكال ورموز الخليل فقد رفضها في البداية فريق من المتشددين وظلوا متمسكين بنقط أبي الأسود حتى القرن الخامس الهجري.
حيث تم استبدال خط المصاحف الكوفي المحقق بخط نسخي شامي رشيق، وكان من الطبيعي زوال نقط أبي الأسود عند أهل المشرق وبقائه ببعض الرموز عند أهل المغرب بسبب الخصائص الفنية والفروق التي أملتها طبيعة الخط المشرقي والمغربي.
إن خط الكوفة الرصين يقبل نقط أبي الأسود لاتساع حروفه وتمطيط فراغاته، وبزواله من كتابة المصاحف الشريفة في القرن الخامس الهجري زالت الأشكال والرسوم الخاصة به وبظهور خط النسخ في المصاحف كان لابد من استخدام الأشكال والرموز التي ابتكرها الخليل والتي سار عليها أهل المشرق.
أما أهل المغرب فقد طوروا خط الكوفة اليابسة وحافظوا على بعض قواعده، فكان أن شكل حرفهم ببعض رموز أبي الأسود الدؤلي ورموز الخليل بن أحمد.
إن سطراً واحداً في المصحف المكتوب بخط الكوفة المحقق لا يتسع لأكثر من خمس كلمات، بينما نراه في خط النسخ يتسع لأكثر من عشر كلمات؛ وذلك سبب من أسباب هجران نقط أبي الأسود.
لقد ابتكر الخليل ثماني علامات للحروف الصوتية أبدلها بنقط أبي الأسود وهي الفتحة التي رسمها ألفا مبطوحة فوق الحرف، والخفضة "الكسرة" ألفاً مبطوحةً تحت الحرف، والضمة واواً صغيرة، ورمز للتنوين بعلامتين من جنس الفتحة والخفضة والضمة، إلا أن بعض نساخ المصاحف فيما بعد اتخذوا حرف نون صغير فوق الحرف علامة للتنوين.
ورمز الفراهيدي للسكون برأس حرف الخاء وقد أخذه من كلمة خفيف، واتخذ بعض النساخ حرف الميم علامة للسكون وأخذوها من كلمة جزم.
ومع مرور الزمن ذهب ذيلها وبقي رأسها، أما الشدة فقد اختارها الخليل من الحرف الأول لكلمة شديد ووضعها بدون نقط واعتبرها من علامة الإدغام ورسم الهمزة رأس عين، ووضع للوصل كلمة صل، وللمد كلمة مد، ثم تطور شكل المدة إلى ما نعرفه، وشكل الوصل إلى حرف صاد صغير، وسار سائر أهل المشرق على إتباع هذا النهج والرسم، وخالف أهل المدينة ومن تابعهم من أهل المغرب والأندلس فرسموا الشدة حرف دال فوق الحرف للدلالة على الشدة مع الفتحة وتحت الحرف للدلالة على الخفضة وبشكل مقلوب للدلالة على الشدة مع الضمة، ثم تطور الرسم فاتخذ شكل القوس، ثم تطور فيما بعد إلى الأشكال الحادة الزوايا ورمز المغاربة للضمة حرف راء مقوس وأخذوه من كلمة رفع، وعاشت هذه الأشكال لتدل على خصائص الخط والرسم المصحفي المغربي واستعاروا الرموز الأخرى من المشارقة أصحاب الخليل.
بالرغم من إعادة النقط على حروف المصحف الشريف على يد نصر بن عاصم فإن ابتكار رموز جديدة للحروف خشية التصحيف كانت تسير على أيدي الخطاطين لتكسب الخط العربي جمالاً وجلالاً فابتدعوا علامة الميزان ووضعوها فوق حرفي الراء والدال للتفريق بين الدال والزاي.
ثم أضافوها لحرف السين للتمييز بينه وبين حرف الشين، ووضعوا داخل حرف الكاف المفرد الأخير حرف كاف صغير للتفريق بينه وبين حرف اللام، وتطور الشكل مع الأيام وصغر حتى أصبح كالهمزة.
إن هذا الإصلاح في طريقة رسم الحروف ونطق الكلمات كان الدافع إليه الرغبة الصادقة في المعاونة على تلاوة صحيحة وفهم لكتاب الله عز وجل وهكذا تحددت معالم صورة المصحف الشريف كما نعرفه اليوم.
ارتبط الخط العربي بالإسلام ونشأ وتطور في رحاب القرآن ونظر المسلمون إلى الحرف نظرة حب واحترام وسخروا معارفهم لخدمة كتاب الله عز وجل وارتفعوا به إلى مراتب أعلى مراتب الجمال، وتزخر متاحف العالم اليوم بروائع من المصاحف التي تنبئ عن رحلة طويلة يحكي فيها الحرف عن أسراره وعن مكنونات تطوره عبر هذا الزمن الطويل.
لقد كتب المصحف الشريف منذ نزوله بخط رصين وهاجر مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومن ثم إلى الكوفة التي أرسى فيها قواعده زمن سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي.
واتخذ من الكوفة نسباً فعرف بالكوفي ورحل مع الفاتحين فشرق حتى دخل الصين، وغرب حتى وصل حدود فرنسا في آيات وسور من الإعجاز.
إن ما كتب من مصاحف في القرون الثلاثة الأولى من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بقلم واحد أطلق عليه القلم الكوفي، وحمل ذات الصفات بين المشرق والمغرب مع بعض التطور الجمالي في المشرق، ولم تسعفنا الأيام بمصحف كامل من هذا الزمن، وما وصلنا وما تبقى إن هو إلا صحائف متناثرة في خزائن المتاحف العالمية.
لقد أنشأ العرب الكوفة بمقربة من الحيرة عاصمة اللخميين، أنشأها سعيد بن أبي وقاص بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بين عامي سبعة عشر وتسعة عشر للهجرة، وبظهورها فقدت الحيرة والأنبار ما كان لهما من أهمية.
كانت الكوفة أول أمرها معسكراً من الخيام، ثم تحولت بمرور الزمن إلى منتجع دائم شيدت مبانيه باللبن، وما لبثت أن نمت واتسعت باتساع الفتوحات العربية من ناحية الشرق وظلت للمدينة مكانتها العمرانية والسياسية حتى سلبتها دمشق سلطانها السياسي مع زوال خلافة سيدنا علي رضي الله عنه.
ونافستها البصرة منافسة شديدة في ميدان العلوم واتخذها أول الأمر العباسيون عاصمة لهم ولم يقيموا فيها، وبتأسيس بغداد فقدت الكوفة كل ما كان باقياً لها من مكانة، وإن بقيت عمارتها حتى القرن الخامس الهجري وتدهورت بعد ثورات الزنج، وغارات بني مزيد والتتار وعندما زارها ابن بطوطة كانت قد أجهزت عليها قبائل بني خفاجة ولم يبق من عمرانها إلا الأطلال، وتسمية الخط بالكوفي راجع إلى مألوف العرب الأوائل في تسمية الخطوط التي انتهت إليهم بأسماء المدن التي وردتهم منها فعرف الخط قديماً بالنبطي والحيري والأنباري والحجازي والمكي والمدني ثم بالكوفي.
وقد عرف الخط العربي باسم الكوفي؛ لأنه انتشر من الكوفة إلى أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي مصاحباً لانتشار الإسلام، ولقد كان للكوفة نوعان أساسيان من الخط، نوع يابس ثقيل صعب الإنجاز تؤدى به الشؤون الجليلة، وآخر لين تجري به اليد في سهولة، وهذا ما ورد في كتاب الفهرست لابن النديم.
كما وصلتنا وثيقة تثبت ما نقوله وهي ورقة بردية من عامل عمر بن العاص على قرية أهناسيا في صعيد مصر، وهي مؤرخة سنة اثنتي وعشرين هجرية زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتبت بخط مدني لين أطلق عليه خط التحرير وباللغتين العربية واليونانية ونقرأ فيها.. بسم الله الرحمن الرحيم..
"هذا ما أخذ عبد الله بن جبير وأصحابه من الجزر من إهناس أخذنا من خليفة تزرق ابن أبو قير الأصغر ومن خليفة اصطف ابن أبو قير الأكبر خمسين شاة من الجزر، وخمس عشرة شاة أخرى، شهر جماد الأولى من سنة اثنتين وعشرين".
ونستطيع أن نميز أيضاً خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة بين عدة أنواع من الخط الكوفي، بين خط نشأ في الحجاز والشام والعراق، وخط تطور في هارات بإيران وانتقل بعضها إلى بلاد الهند والسند والأفغان والصين وخط ترعرع في القيروان وهاجر لبلاد الأندلس وإفريقيا، وكل واحد منهم يحمل صفات وخصائص جمالية يختلف فيها عن أخيه، كما حملت لنا الوثائق أنماط للخطوط الكوفية عرفت باسم التئن والمثلث والمدور وهي من خطوط المدينة، كما حملت إلينا المشق والتجاويد والمحكم والمحقق والمائل والجلي وهي من صنع بلاد الشام والعراق، ويوجد في دار الكتب المصرية، سبعة وعشرون مصحفاً بخط كوفي محقق رصين، وهي ناقصة من أوائلها وأواخرها وقد كتبت على رق الغزال، ونشاهد من نماذج تلك المصاحف هذه الوثيقة التي نقرأ فيها من نهاية سورة النور وبداية سورة الحجرات.
ونلاحظ الفاصل بين السورتين دون ذكر اسم السورة.. قال تعالى: ﴿ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [سورة الفتح الآية 29].. وتنتهي سورة النور لتبدأ الكلمات في سورة الحجرات بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [سورة الحجرات الآية 1، 2]..
وتحتفظ مكتبة جامعة إسطنبول بصفحة من مصحف كتب على الرق بالرسم العثماني وعلامات تشكيله على طريقة أبي الأسود الدؤلي وهي نقاط حمراء للفتحة والخفضة والضمة، ووضعت نقاط نصر بن عاصم على الطريقة المغربية بنقط الفاء من الأسفل ونقط القاف بواحدة ونقرأ فيه من آخر سورة البقرة من الآية الثالثة والثمانين بعد المائتين.
﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [سورة البقرة. الآية 283.284].
كما نرى في المصحف المحفوظ في دار الكتب بالقاهرة نص الوقف المكتوب عليه وكان هذا التعبير وهذا الأسلوب مما يكتب ويثبت في كل مصحف موقوف حتى تعم الفائدة في قراءته، وينال الواقف الثواب والمغفرة، ونص العبارة "هذا المصحف حبس في سبيل الله عز وجل لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا يملك"...
لم تكد الملكات الفنية تنضج لدى الخطاط المسلم حتى أقبل على قرآنه يمجده ويعظمه فخطه بالذهب الخالص ووشه بالفضة وقد وصلت عدة وثائق من القرن الهجري الثالث تدل على ما صنع المذهب والخطاط بكتاب الله المجيد وتبرهن على طول باعه في التقدم الحضاري.
" هذه آثارنا تدل علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار "..
ونشاهد في هذه الصفحة المتبقية من مصحف شريف الخط الكوفي البديع المذهب، وتظهر فيه علامات التشكيل بالألوان كما زينت فواصل الآيات بشكل أزهار دائرية زرقاء ويعتبر هذا النوع من الخطوط الكوفية النادرة جداً، وكانت مقصورة على المناطق الوسطى من الدولة العباسية، وقد استعمل الفنان الذهب لمصاحف الخلفاء وعلية القوم، وتضم هذه الصفحة آيات من سورة ق.
وهي من الآية السادسة وحتى منتصف الآية الرابعة عشرة.
قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ *وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد ِ ﴾ [سورة ق، الآية 6-14].
إن جل- بل كل- الصحف التي وصلت من الفترة الزمنية في القرون الهجرية الأولى مكتوبة على الرق وقد اختاره الفنان المسلم لسهولة الكتابة عليه ودوام بقائه مدة طويلة من الزمن، واستعمال الرقوق في الكتابة قديم إذ كانت من السلع الهامة التي يتاجر بها الفينيقيون من بلاد الشام إلى جميع أنحاء الأرض، والرق كلمة عربية تنطق بالفتح والكسر وهي جلد رقيق يكتب فيه والجمع رقوق، لقد وردت الكلمة في القرآن العظيم مرة واحدة في سورة الطور، في قوله تعالى: ﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ﴾ [سورة الطور الآية 1-3]..
إن أقدم نص كتب على الرق يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد كما أن هناك نص آخر يعود للقرن التاسع قبل الميلاد في بلاد الرافدين يوضح أهمية استعمال الرق في الكتابة ويطلق على الرق المدبوغ دباغة جيدة اسم "بارشمان" ويعنى الوثيقة، وأفضل الجلود المستعملة في هذه الوثائق ما كانت من جلود الحيوانات الصغيرة كالغنم والماعز، وأرقاها رق الغزال حيث يؤخذ الجلد فينقع في ماء الجير خمسة أيام ثم يحلق ويشد ويترك ليجف تماماً، وينتقل ويقطع إلى مربعات ومستطيلات وكان يكتب على وجهيه وفي حال الغلط أو الاستغناء عن النصوص يمحى ويكتب عليه مرة أخرى.
يذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أن الفرس اعتادوا على الكتابة على جلود الثيران وجلود الأغنام وتوجد منها نماذج عديدة في بعض المجموعات الخاصة في فيينا.
وللتفريق بين الرق العادي الذي يكتب عليه والرق الخاص للدولة ابتكر المسلمون طريقة جديدة وهي صبغ الرق بمادة الصفران، وعملت الدوائر الحكومة في العراق على إتباع هذا النهج والنمط وأخذوا يلونون الرق المستعمل لدوائر الدولة بألوان صفراء أو زهرية.
كما يصف ابن النديم الطريقة المستعملة للكتابة على الرق فيقول: إنها كانت تنعم بالمبرد مما يجعلها تجف وتيبس بسرعة، إن التجارب والأبحاث في عملية دباغة الجلود تطورت في عهود الدولة الإسلامية الأولى حتى أصبحت أكثر رقة ويرجع اصطلاح الرق إلى سماكة الجلد وكان الرق يغسل أحياناً وينظف مرتين أو ثلاثة ثم يبيض ويستعمل لكتابة القرآن الكريم.
لقد استعمل القرشيون الرق وجلبوه من بلاد الشام في رحلتا الشتاء والصيف، ولما كان الإسلام وكانت الحضارة تطورت أحجام وأشكال الرقوق وسارت الكوفة ودمشق مهد صناعة الرق الجميل.
وأدخل الخليفة الأموي معاوية رضي الله عنه استعمال الرقوق في دوائر الدولة وكذلك الخلفاء العباسيون من بعده، وكانت دمشق زمن الأميون وجهة الصناع والحرفيون فأنشأت مصانع الرقوق والدباغة، ونشط الخطاطون فكتبوا مئات المصاحف التي حملها الجنود معهم خلال الفتوحات مشرقين ومغربين لينشروا ويعلموا كتاب الله ويبلغوا رسالته إلى أقصى نقطة في المعمورة حطت عليها قدم.
امتدت الفتوحات بعد نهاوند في إيران وأذربيجان وما وراء النهر، وامتد سلطان الدولة الإسلامية حتى شمل خرسان وسائر بلاد فارس حتى حدود الفرس ولم يمضي القرن الهجري الأول حتى كانت مدن بلخ وهارات وبوشيخ وبخارى وإقليم ساجستان ومقاطعة سنكيانك وكشكر في الصين تدين بالإسلام وتقرأ القرآن.
وكان المصحف الشريف المخطوط بالقلم الكوفي المحقق الرصين وبالرسم العثماني يبهر الأنظار ويحير العقول ويحيي القلوب.
ولعب الفن دوره في كتابة المصحف وتطوير خط الكوفة المحقق فتولدت منه خطوط جديدة في أقصى المشرق وكانت هارات معقل الفن في ذلك الوقت.
لقد أحس الخطاط في بلاد ما وراء النهر أنه يكتب كلاماً مقدساً، فشعر بالرهبة والعظمة فجند أحاسيسه بمعالم إدراكه إلى سبر غور الحرف وامتدت يده إلى الحرف العربي مغرقاً في صفاء نفسي بكلام خالقه، وبدأت التغيرات والتطورات في مسيرة الحرف الكوفي المشرقي، ونبصر في المصحف المحفوظ في مكتبة جامعة اسطنبول تجسيم الفوارق التي بدأت تظهر على الخط الكوفي المحقق التقليدي.
كما نلاحظ قواعد أبو الأسود الدؤلي في التشكيل بالنقط الحمراء لدلالة الفتحة والخفضة والرفع وفيه الهمزة والشدة والمد بلون أخضر على طريقة الخليل وهناك دوائر سوداء لتدل على الروم والإشمام.
والروم هو الإتيان ببعض حركة الحرف بصوت خفي ويكون في الخفض والرفع ويأتي مع القصر والإشمام إطباق الشفتين بعد إسكان الحرف بغير صوت ويكون مع المد، وسنفرد حلقة رموز التجويد عبر التاريخ فيما بعد إن شاء الله لقد اختلطت إشارات الروم والإشمام هذه بعلامة الجزم فحذفت من المصاحف بعد ذلك، وفي المصحف دائرة تدل على انتهاء عشر آيات وهو التعشير كما أسلفنا ورسمت مع رأس السورة بالذهب وتبدأ الصفحة بقوله تعالى: من نهاية سورة الحج:
﴿ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [سورة المؤمنون الآية 78]..
لقد وضع الخطاط المسلم في إيران خلاصة معارفه وخبراته التي ورثها من إمبراطورية ممتدة الجذور في التاريخ ليطور الحرف في إمبراطورية بات الحرف فيها ينظر إليه باحترام كبير، وليمزج حسه بمعاني القرآن العظيم ويحلق في خيالاته ويبدع آلاف الأشكال مستمداً كل ذلك من معاني المصحف الشريف، وقد تجلى الإبداع في القرآن المفسر بالفارسية والمحفوظ في مكتبة متحف سراية طبقاتي بإسطنبول وهو من عمل عثمان بن الحسين الوراق الخزنوي وقد كتبت آياته بأحرف متزنة الأطوال وحركاته باللون الأحمر، وشدداته وهمزاته باللون الأخضر كما نلاحظ علامة الميزان والتي أوضحنا عنها من قبل فوق حروف الراء والدال والسين كما توضح لنا الأعداد المكتوبة بالحروف وبالخط الكوفي داخل دوائر محلاة في نهاية الآيات عدد الآية عشرياً مع إشارة للتخميس على الهامش، ويعد هذا التفسير نموذجاً فريدا في عصره ويوجد منه قسم آخر محفوظ في مكتبة مشهد بإيران إن هذه النماذج من الخط الكوفي المشرقي لتدل دلالة واضحة على صفاء نفس الخطاط وإخلاصه وحبه لخدمة كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ونلاحظ من خلال آلاف المصاحف التي نستعرضها عبر التاريخ بأنه لم يتجرأ مسلم على مس الحرف العربي بأي تغيير لوني، وإنما كان المسلمون في كل زمن يضعون الرموز الصوتية لضبط سلامة القراءة ويضيفونها بالألوان وكما نلاحظ في همزات الوصل والقطع والشدة والرموز الأخرى على امتداد رقعة العالم الإسلامي واختلاف المذاهب والمشارب.
وقد أشار إلى ذلك الداني في محكمه كما أوضحنا من قبل، ومن أجمل نماذج الكتابة المشرقية التي وصلت من إيران مصحف مصغري بجداول من ذهب وفواصل الآيات فيه على شكل دوائر داخلها حرف أو أكثر يشير بحساب الجمل للقيمة العددية التي تقابل الآية.
فالنون تساوي خمسين آية ونا تساوي أحدى وخمسين آية، وقد كتب في كل صحيفة أربعة سطور ثم صبغت الخليفة بكاملها باللون البني ورسمت عليها زخارف مورقة باللون الأزرق ونلاحظ أن جميع الإشارات كتبت باللون الأحمر، إلا علامات التشديد والجزم وعلامة الميزان كما نلاحظ طريقة كتابة حرفي اللام ألف في قوله رسولاً وهو تحول كبير يدل إلى بداية تحول اليبوسة في الخط إلى الليونة، ويعتبر هذا الخط الكوفي المشرقي بداية تأثير في قواعد الخط المغربي.
 
رحلة القرآن العظيم (5)

فتح المسلمون فلسطين وتسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس، هذه المدينة المقدسة التي نزل فيها قوله سبحانه وتعالى:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء الآية 1].
والتي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى).
وكتب الخليفة لأهل بيت المقدس وثيقة الأمان التي عرفت فيما بعد بالعهدة العمرية:
بسم الله الرحمن الرحيم.. " هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها، وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم ولا شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطي المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير نفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، فمن شاء منهم قعد وعليهم مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا ما عليهم من الجزية".
كتب سنة خمسة عشر للهجرة، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن العاص ومعاوية بن أبو سفيان.
بعد كتابة وثيقة الأمان زار عمر رضي الله عنه كنيسة القيامة، ولما كان في داخلها حان وقت الصلاة، فأشار عليه البطريك صافرونيوس أن يصلي في داخل الكنيسة قائلاً " مكانك صلي " إلا أن عمر أبى، وخرج من الكنيسة وصلى في مكان قريب خشية أن يتخذ المسلمون صلاته ذريعة فيضعوا أيديهم عليها، فقابل النصارى عمله هذا بالشكر، وذكره المؤرخون بالتقدير، فلما سأل عن مكان الصخرة فإذا هي مكان للقاذورات، فراح يحفن التراب بكفيه عنها، وحذا الصحابة حذوه، إلى أن برزت الصخرة فأمر أن يبنى عليها مسجد فبني المسجد، وكان ظلة من خشب حتى جاء فيما بعد عبد الملك بن مروان فأقام عليها جامع فخم وقبة لا تضاهى.
ذكر المؤرخون أن الخليفة عمر بن الخطاب زار قبيل رحيله عن بيت المقدس أبا عبيدة بن الجراح في بيته فلم يجد فيه سوى لبد فرسه، وكان هذا هو فراشه وسرجه ووسادته، وكسرٍ يابسة في كوة بيته ولما دخل عمر جاء بهذه الكسر فوضعها على الأرض بين يديه وأتاه بملح جريش وكوز من الخزف فيه ماء، فلما نظر عمر إلى ذلك بكى، وقبل أن يغادر بيت المقدس جمع الجند وشكر الله إذ صدق وعده ونصر جنده وأورثهم البلاد ومكن لهم في الأرض ثم نصحهم بالابتعاد عن المعاصي والتوبة وتقوى الله وإلا ذهب الله عزهم وسلط عليهم عدوهم. وأقام على بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان على أن يأتمر بأوامر أبو عبيدة ثم عاد إلى الحجاز.
وفي سنة ثماني عشرة للهجرة استأذن عمر بن العاص الخليفة عمر في فتح مصر، وسار من قيصارية إلى عسقلان فغزة فرفح، ماراً بالعريش حتى وصل حصن بابليون ثم أرض مصر.
واختط الفسطاط ونشر الدعوة ودانت مصر بالإسلام، وتولى عبد الله بن أبي السرح ولاية مصر فاتجه لفتح إفريقية ووصل تونس ودخلها سنة ثماني وعشرين للهجرة، وتولى مصر بعد ذلك معاوية بن حديج السكوني، وتولى عقبة بن نافع قيادة فتح المغرب سنة خمسين للهجرة فسار من زويلة وودان وفذان إلى جدامس ودخل إفريقية من الجنوب.
واختط شمال سبيطلة قاعدة سماها القيروان وبنى فيها مسجداً جامعاً واتخذ دار إمارة وأنفق في بناء القيروان خمس سنوات وأصبحت رابع الأمصار الإسلامية بعد الكوفة والبصرة والفسطاط.
حمل المسلمون المصحف الشريف المكتوب بخط الكوفة إلى إفريقية الشمالية، وسكانها من البربر يكتبون كتابة تسمى فيناغ لا تزال تستعمل حتى الآن لدى الطوارق في الصحراء الجزائرية، ولم يمض القرن الهجري الأول حتى كان الإسلام موطد الأركان في كل أنحاء المغرب، فهجر المغاربة حروفهم ونظروا إلى ذلك الحرف الوافد إليهم نظرة إكبار وتقديس ومحبة فحافظوا على رسومه ورصانته وتشددوا في قواعد الشكل الذي وفد إليهم مع الفاتحين من المدينة المنورة.
وكان مذهب الإمام مالك بن أنس واضحاً بيناً في جملة الرموز القرآنية حتى عهد قريب، تأسست القيراون وجامعتها في القرن الهجري الأول، وأمها أكابر علماء البصرة والكوفة ونشروا مذاهبهم في طريقة الكتابة القرآنية وتأثر أهل القيروان بالخطوط الكوفية المشرقية، ورأوا فيها أرواحهم وحياتهم وأنسهم، وأضفوا على خط المصحف مسحة جمال تفردوا بها عبر الأزمان حتى التصق اسمه بخطهم ودعا بالخط القيرواني، والمصحف المحفوظ في خزانة مركز الحضارة والفنون الإسلامية بقصر رقادة بقيروان بتونس يدلنا بوضوح على طريقة الكتابة القيروانية في المصحف الشريف الذي خطه الخطاط علي بن أحمد الوراق على خمسة أسطر لحاضنة المعز بن باديس الصنهادي والذي حبسته على الجامع الأعظم بمدينة القيران.
ونقرأ فيه.. ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [سورة البقرة: 212].
وإن كان تطور الرموز والنقط في المشرق يسير قدماً للتوصل إلى النطق السليم لألفاظ القرآن الكريم؛ فإن المغاربة لم يرفضوا كل ما جاء إليهم من قديم المشرق، وإنما قبلوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير واستعملوا نقط أبي الأسود الدؤلي ثم نقط نصر بن عاصم مع اختلاف نفط الفاء والقاف وكتبوا أسماء السور بالذهب.
ظل استعمال الخط اليابس الكوفي في المصاحف المغربية حتى القرن السادس الهجري، ونلحظ في تلك المصاحف تطوراً واضحاً في ليونة بعض الحروف وفي الشكل، وبعض الخواص التي تتسم وتنطبع بطابع المغاربة بخلاف المشرق كجرة الوصل، وتوجد في المكتبة الوطنية بتونس أوراق من مصاحف عثر عليها في مسجد القيروان ومنه هذا النموذج وهو مكتوب على الرق، وآياته من آخر سورة طه وتبتدئ: ﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ [سورة طه، الآية 135].
ونلاحظ الشكل المثلث للنقط وتدل على انتهاء الآيات وهي فواصل بينها، وكتب رأس السورة بالذهب، ولكن بخط المصاحب الأولى وجاء فيها فاتحة السورة التي يذكر فيها الأنبياء: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 1 – 2].
ونرى بوضوح في هذه الكتابة رسم عراقات النون والياء وأشباههما بأشكال دائرية ومع ذلك فإن الخطاط لم ينس أصلهم الجاف، فاستعملهما لضيق المكان في آخر السطر، كما استعمل الشكل الذي استحدثه أبو الأسود الدؤلي، فالنقطة الحمراء فوق الحرف للفتح، وتحته للخفض والمتراكبتان للضم والنقطة الخضراء للهمز، وليس في المصحف نقط نصر بن عاصم على الحروف المتشابهة ومما تبقى من أوراق المصحف الذي كتبه وجلده علي بن أحمد الوراق لفاطمة الحاضنة ما نصه:
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ ﴾ [سورة البقرة الآية 74].
وأثر الجودة واضح في تنوع منبسطات الألفات الموزونة الطول ودقة الفراغ بين الصواعد والنوازل وسائر الحروف وامتاز أيضاً برسم رؤوس الواو والميم والهاء بشكل مثلث واتبع طريقة الخليل في رسم الفتحة والضمة والكسرة والشدة، ورسم الهمزة رأس عين صغيرة وللصلة جرة، وهو ما امتازت به المصاحف المغربية دون سواها.
والعناية الشديدة واضحة في كتابة هذا المصحف الثمين والسبب في ذلك أنه مكتوب لحاضنة أمير كان ثالث أمراء زيري الذين خلفهم الفاطميون على تونس بعد انتقالهم إلى مصر، وقد أشرفت على متابعته الكاتبة درة وتم وقفه على الجامع الأعظم بالقيروان في شهر رمضان على يد قاضي القضاة عبدالرحمن بن هاشم.
ونلاحظ صفحة أخرى من هذا المصحف، الذي بلغ قمة الجمال فنقرأ: ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [سورة آل عمران، الآية 17، 18].
ومن الكنوز الأثرية بجامع القيروان صندوق خشبي كبير كان يحفظ به هذا المصحف وعليه كتابة كوفية جميلة تحمل اسم الحاضنة الجليلة وتاريخ الوقف المسجل على المصحف نفسه.

* الأندلس..

لقد كان للمسلمين في الأندلس دور كبير في تطوير الحرف العربي المغربي الذي كتبت به المصاحف وإن كانت القيروان أسبق في الظهور بعد إن اختط عقبة بن نافع القيروان سنة خمسين للهجرة والتي توافق سنة سبعين وستمائة للميلاد، وجعلها قاعدة متقدمة للمسلمين يرابطون فيها للغزو والحرب ويقيمون فيها في السلم، قاد جيش الإسلام من المسلمين حتى وصل الأطلسي.
وخاض خلال ذلك مجموعة من العمليات واصطدم مع قوات البربر والروم وتوفي في تهوذا ودخل العرب شبه جزيرة إيبيريا فاتحين سنة اثنتين وتسعين هجرية زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك تحت إمرة طارق بن زياد ثم موسى بن نصير.
ولما انتهوا بالفتح إلى برشلونة عاد موسى ومعه طارق إلى المغرب ومنها للمشرق بعد أن ولى عليها ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير.
وما زالت تختلف عليها الولاة من قبل بني أمية حتى انتهى حكهم في المشرق سنة اثنتي وثلاثين بعد المئة، ومن خيرة الولاة السمح بن مالك الذي مات أثناء حصاره لمدينة طولوز بفرنسا، وعبد الرحمن الغافقي الذي فتتح بوروده وليون وبيزانسون ثم طور وبواتيه التي توفي فيها أثناء المعركة بعد أن أصيب بسهم.
بعد سقوط الدولة الأموية في الشرق أمعن السفاح في تقتيل الأمويين فهرب منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك حتى دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين بعد المئة واقام فيها ملكاً وحضارة ومات فيها سنة ستة ومئتين وخلفه ابنه عبد الرحمن الأوسط بعهد منه.
وكان لطيف الجانب عظيم الخلق ميال للعلم والعلماء على اختلاف مذاهبهم، ثم خلفه عبد الرحمن الناصر الذي بنى الزهراء، وجعلها مركز الحكم، وكان عالماً فاضلاً بعيد النظر في القيادة والسياسة شجاعاً، وتوفي الناصر سنة خمسين وثلاث مئة هجرية بعد حكم دام خمسين سنة، وطد فيها دعائم الحكم لأبنه الحكم التي تفرغ لنشر العلم.
فكانت مكتبته تضم أربعة مئة ألف مجلد من الكتب النادرة وكان على أغلبها تعليقات بخطه، وكان أعلم بني أمية على الإطلاق، وقد نقلت العلوم والمعارف في عهده إلى أوروبا وترجمت الكتب إلى اللاتينية، ولولا ذلك لكانت أوروبا اليوم متأخرة مئات السنين عما وصلت إليها.
وتتالت الأحداث حتى انتهى الأمر بهشام بن محمد الملقب بالمعتمد فكان ضعيفاً فخلعه الجنود سنة اثنتين وعشرين بعد الأربعمائة وانقضى أمر الدولة الأموية، ثم تقسمت الدولة إلى ملوك الطوائف وآلت إلى حكم بن جهور والمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، ثم جاء المرابطون والموحدون ولم يبق للعرب غير غرناطة التي بقيت في يدي بني الأحمر إلى آخر القرن التاسع الهجري حين سلم أبو عبد الله مفاتيح غرناطة إلى فرديناند في الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وثمانمائة هجرية.
حمل المغاربة القيروانيون خطهم الجميل إلى الأندلس حيث كانت بلادهم مركزاً للعبور نحو المشرق، ومنه ومؤولاً للعلم والبحث والدرس، فلما كانت الحضارة قد بلغت أوجهاً وكانت الحضارة والعمران والعلوم بدأ الخط المصحفي الأندلسي يرنوا نحو الليونة بدل اليبوسة، ويرسم ملامح وبوادر خط جميل بهيج، وكأنه التفاف الريحان في لوحة يسودها الحب في كتاب الله وشوف للارتفاع بالمعاني إلى أقصى درجات الصفاء.
وكانت العلوم في القرن الهجري الخامس بلغت مبلغاً عظيماً من التقدم، فقد ترك أبو عمر الداني الذي توفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة هجرية كتب قيمة في نقط المصاحف وقراءتها.
يقول ابن خلدون:" وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأمصار عند تلاشي ملك العرب ومن خلفهم من البربر فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع وتعلقوا بأذيالهم فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما، وصارت خطوط إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس، وما إليها وتميز ملك الأندلس للأموييين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط وتميز خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد، ونرى في نماذج المصاحف الأندلسية التي وصلت بر السنين مدى التطور الجميل الذي أشتق من الحروف الأموية، وقد سارت كلها على النهج العثماني في رسم المصاحف، وضبطت في البداية على طريقة أبي الأسود ثم تآلفت مع بعض رموز الخليل بن أحمد ثم نصر بن عاصم، وجعلت الفاء بنقطة إلى الأسفل والقاف بنقطة من الأعلى كما هي الحال في رسوم المغاربة، فاللون الأصفر مخصص للهمزات وهي على هيئة نقطة مدورة والحمرة للحركات وقد وردت في بعض المواقع دال مقلوبة، وأخذ أهل المدينة كما يروي الداني وصورة التشديد على هذا المذهب وتبقى الدال علامة على الشدة في المفتوح والمكسور والمضموم وعلى هذا الوجه ذهب نقاط أهل المدينة ومن سلفهم ومن خلفهم، وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا قديماً وحديثاً، وهو الذي أختار، وبه أنقط، ثم يذكر الداني بأن النحويون اختاروا كلمة شديد علامة على الشدة، واختار أهل المدينة أخر حرف الكلمة وهي الدال.
ومما يلاحظ في كتابة الأندلسيين والمغاربة نقط حروف الفاء والقاف والنون والياء في التطرف خلال القرون الأولى، إلا أنها قد خلت وتعرت فيما بعد من النقط في حالة التطرف.
ويضع الأندلسيون والمغاربة النقطة الخضراء للوصل على الألف عند البدء بالفتح وفي وسط الألف عند البدء بالضم وتحت الألف عند البدء بالكسر، وذلك ما امتازت به المصاحف الأندلسية والمغربية.
اعتنى الأندلسيون والمغاربة باستعمال الزخارف المذهبة والملونة في مصاحفهم، ومعظمها تبدأ بمربعين متقابلين بزخارف هندسية، تتداخل فيها الزخارف النباتية التي لا فراغ فيها، فالخطاط المسلم يكره الفراغ، كما يوجد مثلهما أواخر المصحف ورسمت فواصل الآيات بحليات الذهب وكذلك الأخماس والأعشار من الآيات في أشكال متباينة يحار المرء لي روعتها ودقتها، ويبحر معها متأملاً في آيات القرآن مسبحاً الله على ما من عليه من سلامة الذوق وحسن الاختيار.
وفي الهوامش طرر مزخرفة متصلة بأسماء السور وأخرى للأحزاب والسجدات وتجزءات رمضان وهي تنبيء قارئ القرآن وحافظه وتنبه إلى المكان الذي وصل إليه في قراءته كما أفردت لسورة الفاتحة والبقرة وأوائل الأجزاء مستطيلات مزخرفة كتب بداخلا اسم السورة وعدد آياتها.
أما بقية أسماء السور فكتب بخط الكوفة المجرد من النقط وبلون الذهب وكان ذلك حتى القرن العاشر الهجري.
وجل المصاحف المغربية مكتوبة على الرق لمتانتها وصونها من التلف.
لم يكن في المصاحف الأندلسية والمغربية على طول الزمن سوى خط واحد في خط نص القرآن وهو الخط المبسوط الذي يتسم برزانة حروفه وقربها من خطوط المشارقة الأم.
والفروق بين خطوط المصاحف الأندلسية والمغربية فروق تجويد واختلافات ضئيلة وترجع الاختلافات في مدرسة واحدة إلى انعدام قواعد تضبط الخط المغربي بالرغم من وجود حفاظ للقرآن في تلك البلاد، لقد حافظ الأندلسيون والمغاربة على مرسوم المصحف العثماني كما لقنوه وكما رأوه في المصحف الإمام مصحف عثمان.
وحرصوا على ذلك أشد الحرص ولما ارتضوا إدخال الشكل والحروف الزوائد رسموها بألوان مغايرة لحبر الكتابة، فخصة الفتحة والضمة والكسرة والحروف الزوائد بالحمرة والسكون والشد والوقف بالأزرق والصلة بالخضرة والهمز بالصفرة وامتازت المصاحف الأندلسية والمغربية عن المشرقية بالجرة المرسومة على الف الوصل لتدل على الحركة السابقة، وبالنقطة الدالة على كيفية الابتداء بألف الوصل عند الوقف، واختصت مصاحفهم أيضاً باتباع التنوين المتراكب منذ إرساء قوعد الرسم.

* المصحف الشريف ومظهره الخارجي.

تنوعت أشكال وأحجام المصاحف والصفحات التي خط عليها رسم القرآن العظيم عبر التاريخ، وهي في مجملها لا تتعدى عن ثلاثة أشكال، شكل مربع، وآخر مستطيل بشكل أفقي، وثالث مستطيل بشكل عمودي.
ولقد وصلنا من النموذج الأول بعض صفحات نادرة الوجود وتحتفظ بها مكتبة جامعة إسطنبول وهي مما تركه أجدادنا من تراث الأندلس وقد خط بمدينة بلانسيا سنة ثماني وسبعين وخمسمائة هجرية بخط محمد بن عبد الله بن علي بن غطوس المتوفى سنة عشر وستمائة للهجرة وقد كتب بالخط الدقيق على الرق بمداد بني فاتح، كما وضع الخطاط إشارات الشد والجزم باللازغرد وعلامات التشكيل الأخرى بالأحمر وخرج فيه عن قاعدة الأندلسيين والمغاربة فنقط الهمزة بلون أحمر على طريقة المشارقة، وجعل أسماء السور وشارات التخميس والتعشير على الهامش وبالذهب الخالص.
وابن غطوس هذا كان وحيد عصره في الأندلس وبمدينة بلانسيا وقد كتب بالأندلس في حياته ألف مصحف وكان متخصص في كتابة المصاحف لا يكتب غيرها كما عاهد نفسه على ذلك.
أما الشكل الثاني اللذي يميل للامتداد عرضاً، عرف عند المؤرخين والمشتغلين بالفن باسم المصحف السفيني نسبة إلى السفينة؛ لأن شكله قريب منها على ما يزعمون، وجاء وصفه في كتب تاريخ الفن أنه ذو الفورمة الإيطالية، وقد تحدثنا في حلقة ماضية عن الرق وقلنا: إن الفينيقيين كانوا أصحاب تجارة الرقوق وهم الذين يقطعونها إلى مستطيلات ثم يتاجرون بها بسفنهم إلى إيطاليا.
وقد جاءت تسمية الطليان لها بالسفينة نسبة إلى سفن الفينيقيين التي حملت لهم هذه البضاعة.
وأما الشكل الثالث: وهو المعروف بالفورمة الفرنسية وقد أطلق عليه مؤرخو الفن اسم المصحف العمودي والذي ما زال سائداً ومتعباً حتى اليوم. إن هذه التسميات التي أطلقها مؤرخو الفن على الشكل الخارجي على المصحف العظيم لا تحمل أي دلالة فنية ولو عدنا إلى رحلة الشتاء والصيف ورأينا كيفي حمل القرشيون رقوقهم من بلاد الشام لعرفنا السبب في اختيار أجدادنا للشكل المستطيل اللذي يناسب حرفهم المحقق الرصين ويناسب ما يريدونه من تعظيم كتاب الله بخط جليل واضح، وبانقضاء القرن الهجري الثالث وظهور خط النسخ الشامي في المصاحف وهجران خط الكوفة الرصين وبدء الكتابة على الورق بدل الرق، ظهر المصحف بشكله العمودي الذي يناسب الخط ويؤدي غرض الحفاظ بعد تقسيمه إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وأعشار وأخماس.
 
رحلة القرآن العظيم (6)

منذ أن جمع القرآن العظيم في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكتبت صحائفه بمقاس واحد على الرق، رأينا كيف أن أبا بكر أراد أن يلتمس له اسماً، فقال بعض الصحابة: نسميه السفر، وقال آخرون: غير ذلك، إلا أن معقل بن سالم مولى حزيفة بن اليمان وهو من بلاد الأحباش أطلق على كتاب الله عز وجل اسم المصحف.
وقال للصحابة رضوان الله عليهم إننا نطلق في بلادنا على مجموعة الصحف والصحائف المجموعة بين دفتين اسم المصحف، وراقت الفكرة للخليفة أبي بكر وللصحابة فسموا كتاب الله -عز وجل- بالمصحف الشريف.
وقد وردت كلمة صحف وصحائف في القرآن العظيم ثمان مرات في سور: طه، والنجم، وعبس، والتكوير، والأعلى، والمدثر، والبينة التي يقول فيها الله عز وجل:
﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴾ [سورة البينة، الآية 2].
لقد ربط زيد بن ثابت مجموعة الصحف المكتوبة على الرق بخيط ثم أودعها بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان هذا بدء صناعة التجليد التي ستزدهر ازدهاراً كبيراً في رحاب المصحف الشريف.
ولما جمع المصحف الجمع الثاني بأمر من الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وكتبت النسخ الأربعة التي أرسلت للأمصار كما قال الداني، أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان لما كتب المصحف جعله على أربعة نسخ وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهم، فوجه إلى الكوفة إحداهن وإلى البصرة أخرى وإلى الشام الثالثة وأمسك عنده واحدة.
كان لا بد من وضعها في حافظ يحفظها من الضياع حتى لا تختلط السور والآيات ببعضها إذ لم يكن وضع الأعداد على الصفحات أو أسلوب التعقيب قد استخدم.
اهتدى المسلمون إلى ربط الرقوق ببعضها بخيوط متينة ووضعوا لها غلاف من الخشب أول المصحف وآخره فأصبح مجموعاً بين دفتين من خشب وغلفوا الخشب بالحرير، وكان المسلمون قد تعلموا هذه الطريقة من الأحباش والأقباط اللذين كانوا السباقين والأوائل في استعمال الجلد والكتان والحرير في تجليد الكتب، ثم انتشرت أساليب هذه الصناعة بين المسلمين وارتقت وتطورت في ظلال المصحف الشريف وانتقلت إلى سائر بلاد ما وراء النهر حتى حدود الصين وإفريقية وبلاد الاندلس.
لقد كان الجمع الأول للمصحف زمن أبي بكر والجمع الثاني زمن عثمان رضي الله عنهما، والفرق بين الجمعين أن الجمع الأول البكري كان جمع آيات الله في مصحف واحد مخافة تفرقها وذهابها بذهاب حفظتها، أما الجمع الثاني العثماني فهو جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد والاختلاف في القراءة والذهاب بها مذاهب شتَّى يوشك أن يصل إلى صميم الآيات نفسها، وكان ذلك من أكبر مناقب الخلفاء؛ ارتضاه الصحابة وتقبله عامة المسلمين.
وانتصف القرن الهجري الثاني، ولم يكن للعرب والمسلمين كتاب يمكن أن يجلد غير المصحف الشريف، لقد كان أغلفة المصاحف أول الأمر تصنع من خشب وتغلف بالقماش والحرير خالية من أية مسحة فنية أو زخرف.
كما استعملت أوراق البردي القديمة التي استنفذت أغراضها في الكتابة بلصق بعضها إلى بعض بحيث تصبح سميكة أشبه بالورق المقوى وتقطع إلى ألواح وتستخدم في التجليد بعد تغليفها بالقماش.
إلا أن الخطاط المسلم الذي حمل أمانة نسخ المصحف الشريف جعله يبحث أن أثمن ما يملك لظهر المصحف بالمظهر النفيس احتراماً وإجلالاً فامتدت يده إلى مساحة لوح الخشب أو البردي يطعمه بالعاج والعظم ثم بالأحجار الكريمة في خيال هندسي مبهر.
ولم يلبث أن كفته بالذهب والفضة، لقد ولدت صناعة التجليد العربية في أحضان المصحف الشريف ويذكر ابن النديم أسماء لسبعة من المجلدين المشهورين وعلى رأسهم ابن أبي الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون، وكان المقدسي صاحب كتاب أحسن التقاسيم مجلداً ماهراً فقد أرسل له الخليفة الأمين مصحفاً شريفاً ليجلده ودفع إليه بدينارين.
ويحدثنا أنه حين رحل إلى اليمن في القرن الرابع وجد الناس هناك يلزقون المصاحف ويبطنونها بالنشا، أما هو فكان قد تعلم الصنعة على يد أهل الشام الذين كانوا يستعملون الأشراس بدلاً النشا.
والذين كانت صنعتهم أدق وأرقى، كما تفنن أهل الشام في تجليد المصحف واخترعوا صنع اللسان وهو امتداد في الجلدة اليسرى، وهكذا وجدت صناعة التجليد في أفياء المصحف الشريف نمواً وازدهاراً، فازدهرت بلاد الشام ومصر واليمن بالجلود، وامتازت دمشق وزبيد وصعدة بالأدم وعدن بجلود النمور، وإذا كان الزمن لم يبقي لنا من تجليدات القرون الأولى شيئاً ذا بال، فإنه قد من علينا ببعض النماذج التي تدل على مدى تطور فن التجليد في المصاحف، وهكذا لم يبلغ القرن الرابع الهجري مداه حتى كان تجليد المصاحف قد بلغ مبلغاً كبيراً من الجمال فازدان بألوان من الزخرفة لا تقل عن الزخارف الداخلية روعة وجمالاً.
لقد اتبع مجلدو المصاحف في عملهم أسساً تدل على عمق وفهم.
فقسموا سطح الغلاف إلى متن وحاشية، والمتن هو الصرة الكبيرة المتمركزة فيه وتملأ عادة بالزخارف الهندسية النجمية الشكل وبالزخارف النباتية وقوامها الفروع المتشابكة.
والحاشية شريط زخرفي يسير بموازاة الخط الرئيسي للغلاف، وهذا التقسيم في الغلاف ما هو إلا استمرار للتقسيم القديم الذي كان شائعاً في زخرفة غلافات المصاحف، وتحتل زوايا المتن من الداخل زخرفة مستمدة من زخرفة الصرة الوسطى.
ظهرت شرائح الجلد محل صفائح الذهب والفضة ولتستعمل في كسوة الألواح المصنوعة من البردي في القرن الثالث الهجري ومن أجمل النماذج القديمة لهذه الغلافات غلاف معروض في متحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك، تتمثل فيه طريقة التغليف القديمة بالخشب وتحليته بالأحجار الكريمة كما يحتفظ معرض الفنون الإسلامية في مدينة بيرلين بألمانيا بغلاف مصحف من خشب الأرز مطعم بالصدف على هيئة نجوم متراكبة متداخلة.
ويحتفظ متحف الفنون الإسلامية بالقاهرة بعدد من المصاحف المجلدة بغلافات من الخشب المزين برسومات بسيطة.
تطور فن التجليد وازدهر في المناطق الشرقية من بلاد فارس وكانت تيمور لانك الذي اجتاح المنطقة ووصل إلى دمشق سنة ثلاث وثمانمائة هجرية قد أخذ معه مجموعة من خيرة الصناع والمجلدين الدمشقيين فعلموا الإيرانيين هذه الحرفة.
وظهرت مجلدات فاخرة منها مصحف شريف لفرخشاه سنة تسع وثلاثين وثمانمائة هجرية، وكان صانعه قد قضى فيه عامين كاملين حتى انتهى من زخرفته وخلال حكم المغول تم تكفيت الغلاف وصنعت له القوالب المعدنية حتى غدت الزخرفة نافرة على الجلد.
وكانت مدرسة مدينة هارات أيام باي سنقر قد اشتهرت بنقاوة الألوان وتناسق التركيبات الهندسية وفي متحف دوسندورف بألمانيا مجموعة من الأغلفة الجميلة تعود إلى هذه الحقبة والفترة.

* فن اللاكيه

أدخل المسلمون في مرة في بلاد ما وراء النهر لأول مرة استعمال مادة الك، واللك مادة مشتقة من الصمغ تطلى بها الزخارف والرسومات الملونة المرسومة بعناية ودقة حتى تعطي لمعاناً وبريقاً بعد أن تجف وهذه المادة تستحضر من الصين وكلمة اللك صينية.
ومن أجمل النماذج وأترفها غلاف مورد مزهر يعود لسنة إحدى وستين وتسعمائة يحتفظ به المتحف الوطني بدمشق، كما أن أغلفة المصاحف التي تحتفظ بها مكتبة رئاسة الجمهورية في طهران تعد من أجمل وأقدم الأغلفة بحيث تعود إلى القرن الرابع الهجري وتمثل قمة الإبداع والفن في غلاف المصحف الشريف، وتحتظ خزائن المخطوطات في جامعة طهران أغلفة مصاحف نادرة موشاة بالألوان النباتية ومطلية بمادة اللك، وتعود إلى قرون مخلتفة من القرن الرابع الهجري وحتى القرن الحادي عشر، إن تأثير مدرسة هارات واضح المعالم في عمل الأتراك العثمانيين اللذين تتلمذوا على أيدي الفرس واقتبسوا منهم جل رسوماتهم وطرق التجليد التي برعوا بها فيما بعد.
وكانت ظروف الحياة قد اضطرت بعض الفنان المجلدين المهرة إلى الرحيل من بلادهم فاستوطنوا في تركيا وجهدوا في إخراج المصحف بهذه الحلة البهية، أما أغلفة المصاحف التي صنعت للخلفاء والطبقة العليا من وجهاء القوم فقد دخلت فيها رقائق الذهب والفضة وصيغت صياغة تقنية عالية وطعمت بالأحجار الكريمة كما نشاهد في هذا النموذج الذي يحتفظ به متحف الأمانات المقدسة والذي يعود للسلطان سليمان القانوني.
لم يكن المصحف الشريف خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى إلا جسماً لحرف مكتوب على الرق دون أن تكون فيه أية مسحة زخرفية وكان الصحابة والتابعون يتحرجون من أن يجددوا شيئاً في المصحف، أو أن يضيفوا إليه ما ليس منه؛ فلم تكن هناك فواصل بين الآيات أو علامات تخميس أوتعشير ولم تكن الفواصل بين الصفح إلا مساحات بيضاء لا إشارة فيها ولا تعريف.
وشيئاً فشيئاً تسللت الزخارف إلى المصاحف وحلت في الصفحات الأولى والأخيرة ووجدت في فواصل السور وفي نهايات الآيات ومواضع التخميس والتعشير والأجزاء والأحزاب، ثم لم تلبث أن تجاوزت في القرن الخامس الهجري واتخذت شكل إطارات أو جداول زخرفية تحيط بالمساحة المكتوبة من الصفحة.
ولم يكن المصحف يسمح للفنانين بالحرية المطلقة في ممارسة ألوان فنونهم، فاقتصرت جهودهم على الزخرفة الجمالية والتذهيب، ولقد كان نطاق الزخرفة في المصاحف أضيق من نطاق التذهيب؛ لأن التذهيب يوجد حيث توجد الزخارف، ويوجد في مصاحف العالم مصاحف ترجع إلى القرن الثالث وأخرى للقرن الثاني نجد فيها ألوان شتى من الحلي الفنية بزخارفها المذهبة، وطراز الزخرفة وأسلوب التذهيب ينبيء عن أنها مملوكية الزمن والعهد، فهل نشك في قيمتها التاريخية؟
إن نظرة بسيطة في عمق التاريخ تطلعنا إلى أن الزخارف لا تعود إلى قدم الكتابة نفسها، وإنما أضيفت إليها إضافة بعد قرن أو قرنين وما نشاهده من حليات ومشكاوات مرسومة على مصاحف القرن الهجري الأول والثاني تدل دلالة لا شك فيها على أن يداً قد تناولتها بعد حين من الدهر وأدخلت عليها التحسينات إدخالاً، ولم تكن النية الإساءة للعمل الأثري وإنما تجليلاً وتعظيماً لمكانتها وشأنها وقدسيتها وهذا ما حدث في مصاحف سيدنا علي وسيدنا الحسن وسيدنا الحسين رضي الله عنهم، وجعفر الصادق رحمه الله.
إن الحليات والزخارف التي تفصل بين السور لا تخرج عن كونها مستطيلات مذهبة وملونة استخدم فيها الفنان المسلم اللون الذهبي والأزرق اللازوردي والأخضر والأسمر، وكانت الرسوم تحدد أولاً باللون الأسود وباستخدام اللون الأخضر الداكن والقرمزي والزنجفري بشرائط ذهبية تجنح نحو التعقيد والدقة وتعطينا الدليل على ما لهذا الفن من جذور وأصول ومعرفة بالالوان وتركيبها وصناعتها، وقد يمتد المستطيل المتد في راس السورة إلى الهامش ويأخذ شكلاً جمالياً يوظفه لكتابة السورة مكية كانت أو مدنية.
وتنتشر الزخارف الدقيقة بأشكالها الهندسية الملونة والمذهبة داخل الأشكال المرسومة وقد تمتزج بالكتابة أحياناً ولم تكن الشرائط الزخرفية التي تفصل السور عن بعضها في المصاحف الأولى تحمل بداخلها أسماء سور كما هو الحال في المصاف المتأخرة وأنما كانت مجردة خالية من أية نوع من الكتابة اللهم إلا من الزخرفة البسيطة التي تطمئن القارئ والدارس على نهاية سورة والبدء بسورة جديدة.
لقد امتدت المستطيلات الزخرفية التي تفصل بين السور إلى الهامش الخارجي في شكل حلية جانبية مستديرة أو على شكل أوراق شجر تنتشر بداخلها زخارف نباتية وهندسية ملونة ومذهبة، وحتى المصاحف التي لم تكن السور فيها تفصل عن بعضها بشريط زخفي نجدها وقد وشحت جوانب الصفحات واحتلت الهوامش الخارجية، ولو تركنا فواصل السور وتأملنا فواصل الآيات لرأينا بوضوح أنها لا تخرج عن كونها حليات صغيرة مستديرة وهي في باديء الأمر اتخذت شكل المثلث الهرمي ضمن دوائر.
ثم استلهم الفنان أشكالاً وأشكالاً وضع داخلها العدد الأبجدي، لقد وجد التذهيب أول ما وجد في المصاحف وفي مواضع الزخرفة على وجه الخصوص ثم ذهبوا به إلى تذهيب الخط والكتابة، وارتباط التذهيب بالمصاحف ظل قائما طوال القرون الأولى للإسلام، ويروي لنا المقريزي أن خزانة كتب العزيز بالله أخرج منها ايام الشدة المستنصرية ألفان وأربعمائة ختمة في ربعات بخطوط منسوبة زائدة الحسن محلاة بذهب وفضة وغيرهما.
استعمل الخطاط الذهب لكتابة المصحف كما استعمل الفضة، وحظي المصحف باهتمام وإبداع لا نظير له في أي فن من فنون الكتاب ونلاحظ في الصحفات الأولى والأخيرة من المصحف الشريف أسلوب التعقيد والإعجاز في الفكرة التي توحي التوازن الانسجام ويحتفظ المصحف الوطني في دمشق بمجموعة من المصاحف المذهبة تتوزع فيما بين العصر المملوكي والعثماني، وهي ذات قيمة كبيرة تنبيء عن مدى تطور فن التذهيب وقدرة الفنان على رسوخ فكره في الإبداع والتميز والصفاء.
ما إن بزغت شمس القرن الرابع الهجري حتى بدأ الخط الكوفي اليابس الرصين في أفول وأضاء قمر جديد صفحات وأوراق المصحف الشريف، وكنا قد لاحظنا من خلال النماذج التي وصلتنا وعرضناها من قبل رصانة خط الكوفة المتزن البديع وجلاله في رسوم حروف القرآن العظيم إلا أن امتداد الدولة الإسلامية الواسعة واستخدام الخطوط الواسعة في كتابة الدواوين وبخاصة في العصر الأموي ومن ثم العصر العباسي جعلته أكثر استحساناً وأبهى منظراً من أخيه بعد أن نضج واستقام عوده.
وأقدمت على استخدامه الشعوب التي أقدمت على الإسلام في أقاصي الأرض وأكسبته هوية ومنحته الجنسية الإسلامية.
إن ما حدث من تطورات واصطلاحات طرأت على الرسم المصحفي أيام الدولة الأموية كان السبب في ارتفاع الذوق والحس إلى ذروة الجمال، وكان ظهور قطبة المحرر المتوفى سنة أربعة وخمسين بعد المئة تحولاً كبيراً في تاريخ كتابة المصحف بعد أن طور واستولد من الخطوط اللينة خطوط جديدة كان لها الشأن الكبير والعظيم فيما بعد.
واستمرت سنة التطور فجاء في أواخر الدولة الأموية الضحاك بن عجلان الكاتب، وإسحاق بن حماد ليضيفا إلى الخط اللين بعض الهندسة في الحروف وليتبوأ الخط اللين في دمشق عرش الحضارة وينشر ظلاله على أقطار العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه.
يقول بن النديم: "لم يزل الناس يكتبون على مثال الخطوط القديمة إلى أول الدولة العباسية، فحين ظهر الهاشميون أختصت المصاحف بهذه الخطوط".
كما يذكر صاحب الفهرست من خطوط المصاحف الأولى المكي والمدني بأنواعه التئن والمثلث والمدور والكوفي والبصري والمشق والتجاويد والسلواطي والمصنوع والمائل والراصف والأصفهاني والجلي والقيرموز كما أسلفنا الذكر في الحلقات الأولى من هذا البرنامج.
لقد ظل الناس يكتبون المصاحف بالخط القديم حتى أول الدولة العباسية وعندئذ اخترعت الأقلام، وعرفت من خطوط المصاحف هذه الأنواع التي يذكرها ابن النديم، ولقد خط مصحف عثمان رضي الله عنه بالخط المكي، وكان مصحف ابن مسعود وأبي موسى بن قيس بالخط الكوفي، وأولهما كان بالكوفة قاضياً وأميناً لبيت المال وثانيهما كان حاكماً للبصرة ثم للكوفة بعد عام سبعة عشر هجرية.
وتمر الأيام وينتقل ثقل الدولة إلى بغداد ويتحول الخط على يد الوزير أبا علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة إلى قوة في الأداء ورصانة في الحروف؛ فيضع له النسب والقواعد متخذاً النقطة مبدأ له كنقط المصاحف، ويخطو نحو كتابة المصحف الشريف خطوة جريئة مخلفاً وراءه خط الكوفة، مشرعاً ذلك الخط اللين المنسوب الذي سيتخذ سبيله إلى كلمات القرآن الكريم يحنو على شكل ورسوم الخليل يزين بها حروفه، مبتدعاً أشكالاً ورموزاً جديدة تحكي قصة ذلك العناء الطويل.
لقد كتب الوزير محمد بن مقلة المصحف العظيم مرتين لكن التاريخ لم يكشف لنا بعد عنهما ولا نعرف شيئاً عن مصيرهما، وقد وزر بن مقلة لثلاثة خلفاء عباسيين أولهم المقتدر اللذي تولى الخلافة ببغداد سنة خمسة وتسعين ومائتين هجرية ثم وزر للخيفة الثاهرة الذي نصب سنة عشرين وثلاثمائة هجرية ورغم أن عهده قد شهد نبوغ كثير من العلماء الأشداء إلا أن الفتن قد ظهرت في ذلك العهد وقد تجرأ الولاة على خلفائهم وكان بن مقلة ممن سعوا لخلع هذا الخليفة.
ثم وزر بن مقلة آخر الأمر للراضي الذي تولى الخلافة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ولكنه صرف عن الوزارة لما أثار عليه الجند.
لم يمض قرن من الزمان على قيام الدولة العباسية حتى تردت الأحوال وغدت لا تسر نتيجة التفكك والانحلال ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها والحكم فيها لابن رائق، وخوزستان في يدي البريدي وفارس في يدي عماد الدولة بن بويه الموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طغش الأخشيد، والمغرب وإفريقية عبد الرحمن الملقب بالناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد الثماني وطبرستان و جرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي، ورغم هذه التقسيمات فقد كانت المنافسة في الفن والعلم شديدة بين هذه البلاد وكان كل حاكم يود أن يصنع في العلم شيئاً يبقي ذكره بعده.
والخط المصحفي في تطور وتقدم ينحو في كل بلد نحو التهذيب والتشذيب، وبصناعة الورق واختفاء الرقوق تحول خط المصحف العظيم رويداً رويداً إلى الليونة مخلفاً وراءه خط الكوفة اللذي بقي أربعمائة سنة في عيون القراء، لقد أصبح صلاح الدين الأيوبي بعد وفاة العاضد أخر الخلفاء الفاطميين صاحب النفوذ المطلق في مصر منذ سنة أربع وستين وخمسمائة هجرية، وقد شاع في عصره الخط اللين وحل محل الخط الكوفي اليابس وغدت دمشق في عصره منارة للخط اللين بالرغم من وجود بعض المصاحف التي تعود لزمنه وقد كتبت بخط يابس ثقيل جميل.
وكانت المدارس قد انتشرت في عهده في الشريط المتد على جبل قاسيون بعد أن أنشئت الصالحية وغدت فيها المدرسة العمرية جامعة للقرآن العظيم يأمها طلبة العلم والحفاظ من كل أنحاء العالم.
وكان السلاجقة الترك يشجعون الفن وكتابة القرآن العظيم وأصحبت الكتابات القرآنية تتحلى بالرشاقة والجمال في عهدهم وتخط على أرضية زخرفية مع رؤوس السور والفواصل، وفي القرن السادس الهجري بدأ ظهور المغول بظهور الفاتح جنكيز خان من الجهات الشمالية من بلاد الصين.
وغزوا بخارى وسمرقند التي كان يحكمها خوارزم شاه علاء الدين وعاثوا فيها فساداً وأحرقوا بها المصاحف وهدموا المساجد والمدارس، وفي سنة ست وخمسين وستمائة هجرية استولى هولاكو حفيد جنكيز خان على بغداد، وقتل المغول آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله وهدموا المساجد وأتلفوا المصاحف الرائعة الجميلة وقضوا على أجمل ما في الحضارة العربية.
أقام هولاكو في إيران مالكة خاصة به أصبح هو خانها دامت قرناً من الزمان، وقد احتفظت بغداد رغم ذلك بتفوقها في فن كتابة القرآن العظيم حتى أواخر القرن الثامن الهجري وسوف تتحفنا هذه الفترة بمصحفين خطهما ياخوت المستعصمي.
ثم انتقلت بعد ذلك زعامة كتابة المصاحف إلى تبريز وهارات وسمرقند وزادت الزخارف ثراء وجمالاً، وكان السمرقند عاصمة تيمور لانك بعد أن استقدم إليها الفنانين من جميع ولاياته وبث فيها روحاً جديداً وكان أن ازدهرت ظهر فيها عباقرة أمثال البهزاد من هارات.
ونهض في هذا الزمن فن التجليد نهضة رائعة وانتقل فن الرسم التصغيري من الصين لإيران مع الحفاظ على المواضيع الإسلامية وأسس باي سنقر أحد الأمراء التيموريين أكاديمية خاصة بفن الكتاب وشاع الخط التعليقي الذي ابتكره مير علي ويحتفظ المتحف الإسلامي باسنطبول بمصحف من هذه الفترة وقد خطته حفيدة تيمور لانك وكتبت أسماء السور فيه بالذهب المسور بالحبر وخطه ثلث جميل وقد كتب في آخره "تشربت بكتابة هذا المصحف المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل حكيم حميد الأمة المذنبة المعترفة بفنون التقصير السائلة من الله الكريم المنان شاذ ملك بنت محمد سلطان جهانكير ابن أمير تيمور كوركان" أصلح الله شأنها وصانها عما شانها ورحم أسلافها.
وكان ذلك في شهور سنة إحدى وسبعين وثمانمائة الهجرية، ونقرأ في هذا المصحف من سورة النور..
﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [سورة النور، الآية 1].
إلى نهاية الصفحة، لقد امتاز هذا المصحف بخطه الرشيق الجميل الذي يفصح عن تمكن في قواعد حرف الثلث المحقق الذي نقطه يد سيدة تفوقت بعملها وشغفها حبها لكلمات الله عز وجل، ولإن دل ذلك على شيء إنما يدل على تمكن المرأة في تعلمها وكتابتها في ذاك الزمن الذي قل فيه من يعطي المرأة مكانتها وقد احتلت بعملها هذا مكانة رفيعة بين الخطاطين اللذين خطوا كتاب الله وآياته بحرف بديع.
وزخرفوا صفحاته ببدائع الزهور ورقموا أخماسه وأعشاره وأجزائه وأحزابه بترر ومشكاوات بديعة الشكل بهية المنظر.
 
رحلة القرآن العظيم (7)

عرف العرب الورق قديماً، فاستوردوه واستعملوه في الكتابة، إلا أنه لم ينتشر بينهم إلا بعد أن صنعوا بأيديهم وعلى أرضهم وكان ذلك زمن الخليفة " هارون الرشيد "، وبعد أن فتحت " سمرقند "، وانتصر " زياد بن صالح الحارثي " حاكمها على " اخشيد فرغنا " الذي كان يناصره ملك الصين سنة ثلاثة وثلاثين ومئة للهجرة.
وعاد المسلمون إلى " سمرقند " ومعهم العمال الصينيون اللذين يتقنون صناعة الورق، وقامت صناعة الورق على أيديهم في " سمرقند " ثم ما لبثت أن انتقلت إلى العالم العربي فأقام " الفضل بن يحيى البرمكي " وزير الرشيد مصنعاً في بغداد، واستعمل الورق بدل الرقوق في الدواوين، وكان الصناع الصينيون يصنعون الورق من شرانق الحرير، فطور المسلمون هذه الصناعة وصنعوه من الكتان والقطن، وكانت بغداد والشام وفلسطين في القرن الرابع الهجري تحتل مكانة هامة في صناعة الورق وتصديره للخارج.
وأصبحت صناعة الورق الشامي تنافس سمرقند ومن الشام انتقلت صناعته للمغرب العرب، ثم إلى صقلية والأندلس وأوروبا، يقول " فيليب حنا": إن من أجل الخدمات التي أسداها الإسلام إلى أوروبا صناعة الورق؛ ولولاها لما اخترعت المطبعة، ولولا الورق والمطبعة لما تيسر للعلم انتشاره في أوروبا بهذه الصورة العامة التي انتشر بها، لقد أحدث ظهور الورق ثورة ثقافية في العصر العباسي، نال المصحف الشريف الحظ الأوفر منها؛ لأنه الكتاب الذي لا يعلو عليه كتاب، فانتشر في أصقاع المعمورة انتشاراً مذهلاً ونشط الخطاطون والفنانون في كتابته بعد هجران الخط اليابس، وكانت أمنية كل خطاط أن يتقرب إلى الله بكتابة المصحف؛ لأن ذلك من جلائل الأعمال وأشرفها، ومنهم من تخصص في نسخها وبلغ أعداداً تكاد لا تصدق، رغم الأعداد الكبيرة التي كتبت في هذه الفترة فإنه لم يصل إلينا سوى عدد نادر جداً، ومنها " مصحف ابن البواب تلميذ بن مقلة " وتحتفظ به مكتبة " تشيستر بيتي " في " دبلين " بأيرلندا بقرم واحد وثلاثين وأربعمائة وألف وهو المصحف الوحيد الذي بقى سالماً بكامله من ذلك العصر.
ويوجد في أول المصحف ست صفحات مستطيلات متقابلات ومزخرفة، وعلى هامش كل منها ترة بأوراق نخيلة على هامشها متصلة بالإطار، وفي الصفحتين اللتين بأول المصحف، مستطيلات كتب عليها بخط مذهب مسور بالأسود ما نصه.
بسم الله الرحمن الرحيم (عدد سور القرآن مئة وأربع عشرة سورة، وعدد ما فيه من آيات ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، هو سبع وسبعون ألف كلمة وأربع مئة وستون كلمة، وعدد ما فيه من حروف المعجم ثلاثمائة حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفاً، وعدد ما فيه من نقط المعجم مئة ألف نقطة وست وخمسون ألف نقطة وأحد وخمسون نقطة).
وتتركب الصفحتان التاليتان من أشكال مسدسة في مستطيلين في كل صفحة ست منها، وفي كل مسدس كلمة تشير إلى رواية الأعداد بخط الثلث المسور بالأبيض، والصفحتان التاليتان تشتمل على أشكال دائرية كبيرة يتخللها زخارف نباتية.
وفي آخر المصحف صفحتان مثل سابقتهما، ثم تليهما صفحتان تحتوي كل واحدة منهما على أربعة عشر سطراً مفصولة بخطوط مستقيمة وعلى هامشها كرة دائرية، كتب عليها بقية نص الصفحة، وكتب بأول كل سطر بخط كوفي أسماء الحروف ثم أعدادها، وقبل الصفحتين نرى نص الخطاط الذي يوضح زمن الكتابة وفيه...
(كتب هذا الجامع علي بن هلال بمدينة السلام سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة حامداً لله تعالى على نعمه، ومصلياً على نبيه محمد وآله، ومستغفراً من ذنبه).
لقد أفرد ابن البواب ظهر الورقة التاسعة للفاتحة وسورة البقرة مع إطارين مزخرفين يحملان اسم السورة وعدد آياتها ومكيها ومدنيها على الهامش.
وسائر أوائل السور بغير إطار وخط أوائل السور بالثلث وبلون الذهب المسور بالحبر كي يميزها عن القرآن.
وعلى الهوامش طرر موازية ودوائر مزخرفة للأخماس والأعشار من الآيات، كتب بوسطها بالخط الكوفي خمس أو عشر وفي وسط النص دائرة صغيرة عليها حرف كوفي يتناسب مع العدد العشري، الياء للعشرة وكاف لعشرين، ويفصل آيات القرآن الكريم بثلاث نقاط متركبة باللون الأزرق، ويشير في بداية السور لمكان التنزيل، فهي إما مكية أو مدنية، كما نلاحظ حرف الهاء الذي يدل على العدد خمسة بعد نهاية كل خمس آيات.
وما نراه في هذا المصحف الذي يعود إلى القرن الرابع الهجري أنه لم يلتزم إملاء " عثمان بن عفان " رضي الله عنه، ونلاحظ كلمة العالمين والكتاب قد كتبتا بألف طويلة، كما نلاحظ بعض رموز التجويد كأن يضع شدة فوق الراء التي تلي النون الساكنة ليدل على الإدغام، والزخارف المتقنة الجميلة في هذا المصحف هي من صنع وعمل " ابن البواب "، وقد كان في بداية حياته يعمل مزوقاً للكتب والقصور وغير ذلك، لقد امتاز ابن البواب في خطه بالإرسال المتقن فكان هذا المصحف بخط ريحان نقياً سلساً تتبعه العين بكل ارتياح.
وفي نهجه هذا تكمن المدرسة العراقية التي سبقت كل المدارس في تحسين خط المصحف اللين، كما توضح تقدم الخط اللين في جملة الكتب والرسائل وساعد على ذلك تمركز الخلافة العباسية في بغداد واحتياج الدواوين إلى الأمور الكتابية.
قال أبو حيان التوحيدي: وأما الشيخ ابن البواب فوجد أن الناس قبله قد اجتهدوا قبله في إصلاح الخط الكوفي، وأقبلوا على ترطيب الكتابة للسر الخفي، وهو حب النفس للرطوبة؛ لأنها مادة الحياة، وهي لجنونه الخط وريه، وألا يرى من خارج زواياه، وكانت أسباب إتقان هذه الصناعة قد كملها الله له بأسرها، وأراده لهذه الرتبة، فشد لها أسره وأطلعه على سرها، فرأى ابني مقلة قد أتقنا قلمي التوقيعات والنسخ لكن لم يرسخا رحمهما الله في إتقانهما ذلك النسخ، فكمل معانيهما وتممه، ووجد شيخه " ابن أسد " يكتب الشعر بنسخ قريب من المحقق فأحكمه وحرر قلم الذهب وأتقنه، ووشى برد الحواشي وزينه، ثم برع في الثلث وخفيفه وأبدع في الرقاع والريحان وتلطيفه وميز قلم المتن والمصاحف، وكتب بالكوفي فأنسى القرن السالف.
لقد كان التسابق إلى اقتناء المصاحف والتزافر على نيل الجيد منها مشجعاً الخطاطين على الإجادة والإبداع، وكان للتأثير الديني النصيب الأوفر والأكبر فمن قدسية المصحف وجلال كلام الله استلهم الخطاطون إجادة التحرير واكساء الحروف وأعطوها مسحة وحية كان لها أروع الأثر في براعتها ورهبتها.
لقد توفي " ابن البواب " ببغداد يوم الخميس، ثاني جماد الأولى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة هجرية ودفن بجوار الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ووصلت إلينا آثار عدة ممهورة باسمه، إلا أن المحققين لم يتفقوا على نسبة جميعها، إذ كثر المقلدون لخطه جرياً وراء الكسب بانتحال توقيعه، فقد كان في اقتناء خطوطه قيمة لا تقدر وتنفق أثمان باهظة في سبيل الحصول عليها.
أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة عمراً ما كان يدري فيه ما الكتاب وما الإيمان، ثم اختاره الله -سبحانه وتعالى- لتبليغ الرسالة، فأوحى إليه روحاً من أمره وجعل مبعثه كالرسل من قبله في سن الأربعين ليكون أنضج فكراً وأصدق عزماً.
لقد نزلت آيات القرآن العظيم وتلقاها من ملك الوحي خلال سني حياته في مكة والمدينة وما بينهما، وفي كل مكان رحل إليه، واصطلح العلماء أن كل ما نزل من القرآن الكريم قبل الهجرة يسمى المكي، وكل ما نزل بعد الهجرة يسمى المدني، ويوجد في القرآن العظيم سور كاملة مكية وأخرى مدنية، وفي كل منهما آيات مكية ومدنية، إن ما نزل من القرآن في مكة من السور بلغ خمس وثمانين سورة، وجميع ما نزل بالمدينة بلغ تسع وعشرين سورة، وتعنى السور المكية بترسيخ العقيدة وأصول الدين وتوحيد الخالق عز وجل، والإيمان بالملائكة واليوم الآخر والأعمال الصالحة، وتعنى السور المدنية بالتشريع للمجتمع الإسلامي ودولته الجديدة، وتنظيم العلاقات بين الإنسان وربه وربينه وبين نفسه، وبينه وبين بنيه من البشر وبينه وبين سائر المخلوقات، وفيها الحدود والأحكام والأمر بالجهاد ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، والاهتمام بأمر المنافقين إلى غير ذلك، مصداقاً لقوله تعالى:
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.[سورة النحل، الآية 125].
وهناك علامات بها يهتدي القارئ على معرفة السور المدنية من المكية.

* علامات السور المكية:
- كل سورة بدأت بحرف من الحروف الهجائية سوى البقرة وآل عمران والرعد فيها خلاف.
- كل سورة فيها كلمة كلا، وعددها ثلاث وثلاثون سورة، وتوجد في النصف الثاني من القرآن العظيم، ويغلب على آياته القصر.
- كل سورة فيه يا أيها الناس عدا سورة البقرة فمدنية.
- كل سورة فيها آية سجدة.
- كل سورة فيها قصص قرآني أو خبر عن السابقين.

* علامات السور المدنية:
- كل سورة فيها ذكر المنافقين، ما عدا سورة العنكبوت فمكية.
- كل سورة فيها مناقشة لأهل الكتاب ومجادلتهم.
- كل سورة فيها ما يخص التشريع والقوانين والأحكام والإذن بالجهاد.

إن معرفتنا بالسور المكية والسور المدنية تدلنا على إعجاز القرآن الكريم، وصدق بعثة ونبوة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، إذ أن هناك آيات نزلت بالمدينة ثم ألحقت بالسور المكية التي مضى على نزولها عشر سنوات أو أكثر، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [سورة المزمل، الآية 20]. إلى آخر الآية عشرين من سورة المزمل.
وكذلك الآية المكية التي نزلت بالجحفة في أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهي: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [سورة القصص، الآية 85].
وهذه الآية تبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى مكة فاتحاً منتصراً بعد خروجه مهاجراً، وهي من باب المغيبات التي تدل على الإعجاز والصدق، ونجد جزءاً من آية في سورة مدنية نزل في مكة في عرفات في حجة الوداع، وهي من الآية الثلاثة في سورة المائدة: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [سورة المائدة، الآية 3].
وكذلك من الآيات ما نزلت بمكة وألحقت بسورة مكية نزلت فيما بعد كقوله تعالى من سورة الأنفال: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [سورة الأنفال، الآية 30]. إلى قوله تعالى نهاية الآية السادسة والثلاثين ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [سورة الأنفال، الآية 36]..
إن التداخل ما بين الآيات المدنية والمكية يرشدنا إلى عظمة القرآن الكريم، وليس السبب في معرفتنا هو علم الزمان والمكان، وإنما هو الوحدة المترابطة الموضوعية لكل سورة من القرآن العظيم كما هي في اللوح المحفوظ، لذا كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن ثم يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضع الآية أو الآيات في سورة كذا بعد آية كذا كما هو معلوم في اللوح المحفوظ.
والإجماع يدل دلالة قاطعة لا مرية فيها على أن ترتيب القرآن العظيم توقيفي بأمر من عند الله -سبحانه وتعالى- ولا دخل في ذلك لأحد من البشر، ومما ورد في ذلك ما أخرجه " أحمد " في مسنده بإسناد حسن عن عثمان عن ابن أبي العاص، قال: " كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل ثم أمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [سورة النحل، الآية 90].
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري من أشرف علوم القرآن، علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداءً ووسطاً وانتهاءً، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وهذا على أحد قولي العلماء في التفريق بين المدني والمكي، لقد اعتنى المسلمون بقرآنهم عناية فائقة، وجعلوا العلم فيه فريضة على كل من يعنى بتفسير كتال الله المجيد، ولا بد من العلم بما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل نهاراً وما نزل ليلاً، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وبالعكس وما حمل إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملاً وما نزل مفسراً وغير ذلك من العلوم.
لقد بلغت العناية بهذا الكتاب الكريم أقصى ما يبلغه الباحثون من التحري والتدقيق، فلم يفتهم ذكر أبسط التفصيلات وأصغر الجزيئات، إن أكثر القرآن نزل نهاراً ونزلت منه بعض السور ليلاً، وفي البخاري من حديث عمر قال صلى الله عليه وسلم: (لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، فقرأ: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴾ [سورة الفتح ، الآية 1].. ونزلت في الليل أوائل آيات من سورة الحج: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الفتح، الآية 1].. وفي الفجر نزل عليه: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ﴾ [سورة آل عمران، الآية 128].
والآيات تنزلت في الشتاء والصيف وفي السفر و في القتال، وفي كل مكان حل فيه أو رحل إليه، وقد يبدوا هذا الاستقصاء لدى بعض الناس غير ذي بال، لكنه صدق الرواية، وإمكان الثقة بها جعلت العلماء يتتبعون كل آية ومكان نزولها وتاريخها مما ينفي الريبة والشبهة عن هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل، هذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية سواء كانت قطعية أو أغلبية تصور الخطى الحكيمة المتدرجة التي كان يخطوها الإسلام في تشريعه، فخطاب أهل المدينة لا يماثل خطاب أهل مكة، لأن البيئة الجديدة في المدينة أصبحت تستدعي التفصيل في التشريع وفي بناء المجتمع الجديد ولا بد من أن يراعي المخاطبين في كل آياته وسوره.
كتب الصحابة رضي الله عنهم المصاحف بما كان معروفاً في زمنهم من قواعد الهجاء وأصول الرسم الإملائي، وقدوتهم المصحف العثماني الذي خط زمن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان جل الصحابة ومن وافقهم من التابعين وتابعيهم ينهجون على الرسم العثماني في كل ما كتبوه ولوم لم يكن قرآنا أو حديثاً، واستمر الأمر على ذلك عهداً طويلاً، إلى أن ظهر علماء المصرين الكوفة والبصرة، وأسسوا لهذا الفن ضوابط وروابط بنوها على أقسيتهم النحوية وأصولهم الصرفية نظراً لحاجة الناس باستزياد استعمال الكتابة لنظام موحد للقواعد، وبانتشار استعمال القواعد التي وضعها العلماء للكتابة ظهر ما يسمى بقواعد الهجاء أو الإملاء أو علم الخط القياسي أو الاصطلاحي وهجر الناس استعمال هجاء الكلمات القديم في كتاباتهم، لكن خطاطي المصاحف لم يستعملوا السور الجديدة للكمات في خط المصاحف، وظلوا يحافظون على سور الكلمات كما ورد في مصاحف العثمانية الأئمة، وميز العلماء بعد ذلك بين ثلاثة أساليب للكتابة، يقول " ابن دراستويه " في مقدمة كتابه الكتاب " ووجدنا كتاب الله جل ذكره لا يقاس هجاءه ولا يخالف خطه، ولكنه يتلقى بالقبول على ما أودع المصحف.
قال " قال أبو حيان " سار الاصطلاح في الكتابة على ثلاثة أنحاء اصطلاح العروض، واصطلاح كتابة المصحف، واصطلاح الكتاب في غير هذين، ولقد جرت محاولات منذ وقت مبكر لتغيير الرسم المصحفي العثماني وكتابته على ما وافق عليه الرسم الحالي، فيروي الداني: " إن إمام المدينة ملكاً المتوفى سنة مئة وتسعين وسبعين هجرية رحمه الله، سؤل فقيل له أرأيت من استكتب مصحفاً اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك ولكن أن يكتب على الكتبة الأولى، ويروى أيضاً أنه سؤل عن الحروف التي تكون في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تغير من المصحف إذا وجدت فيه كذلك؟ فقال: لا..، ويعقب الداني على ذلك بقوله يعني الواو والألف الزائدتين في الرسم لمعنى المعدومتين في اللفظ وقد أجمع العلماء على مثل ما ذهب الإمام مالك ولا مخالف من علماء الأمة، حتى أن الأمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائتين هجرية قال: تحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك.
وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين المتوفى سنة ثماني وخمسين وأربعمائة من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف ولا يخالفهم فيه، ولا يغيروا مما كتبوا شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علماً وأصدق قلباً ولساناً وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم ".
وكل ما امتد الزمن بالناس ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم القرآني، وقد اتخذ هذا التيسير أشكالاً مختلفة، وكان الخليل أو من صنف النقط وذكره في كتاب وذكر علله وأول من وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام، ولا يكاد " أبو حاتم الجانستاني " يؤلف كتابه عن القرآن وشكله حتى يكون رسم المصاحف قد قارب الكمال حتى إذا كانت نهاية القرن الهجري الثالث بلغ الرسم ذروته من الجودة والحسن، وأصبح الناس يتنافسون في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميزة، حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، والألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة.
وما أكثر العقبات التي كانت تعترض اتجاه الناس نحو تحسين الرسم القرآني، وما برح العلماء حتى أواخر القرن الثالث الهجري يختلفون في نقط المصاحف.
إن تحول كتابة القرآن العظيم من الخط اليابس إلى الخط اللين وهجران الخط الكوفي، جعلت خطاطي الخط الرابع الهجري يبحثون عن رموز لتحسين الكتابة وضبطها وهو ما يوافق شكلها خط النسخ، فابتدع الخطاطون مع القراء والعلماء أشكال ورموز تضبط قراءة القارئ وترشده إلى مكان الوقف حتى يتم المعنى ويؤدى بشكل سليم، ومن علامات الوقف الموجودة الآن في المصاحف العثمانية وغيرها ما هي إلا علامات اصطلاحية من اجتهاد علماء الرسم تسهيلاً للقارئ، باستثناء رؤوس الآيات المتفق عليها، وهي توقيفية لا اجتهاد فيها لأحد، ولكي يتنبه القارئ إلى أماكن الوقف الجائز والممنوع، كانت هذه الرموز.
حرف " م " وهو حرف يدل على الوقف اللازم، وهو الحرف الأخير من كلمة لازم، حرب " لا " وهي أداة نهي لعدم الوقف ويعني هذا الرمز علامة الوقف المممنوع.
حرف " جـ " رمز يدل على جواز الوقف وعلامة الوقف هذه أخذت من كلمة جائز، الحرفان.
" صلى " علامة الوقف والوصل مع كون الوصل أولى.
الحرفان " قلي " علامة الوقف والوصل مع كون الوقف أولى، النقاط المتراكبة الثلاث تعني علامة الوقف المتعانق بحيث لو وقف على أحدهما لا يصح له الوقف على الأخرى، ولا يقف عليهما معاً ولا بأس بوصل الآية كاملة، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [سورة البقرة، الآية 2].
علامة خاصة ورمز للسجدة، وكانت في المصاحف الأولى عبارة عن حرف هاء كبير ثم تطور إلى شكل ورمز زخرفي، مع رسم خط أفقي،. حرف " س " الصغير وهو علامة للدلالة على السكتة اللطيفة الخفيفة، يقف عندها القارئ بدون تنفس، ويوجد ذلك في خمسة مواضع في القرآن العظيم، وهي في قوله تعالى: ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [سورة الكهف، الآية 1، 2].. ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا ﴾ [سورة يس، الآية 52].. ﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ [سورة القيامة، الآية 27].. ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ﴾ [سورة المطففين، الآية 14].. ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [سورة الحاقة، الآية 28، 29]..
قال أبو محمد مكي ابن أبو طالب رحمه الله كل شيء له نصفان، إلا القرآن فإن له ثمانية أنصاف، نصفان على عدد الحروف آخر النصف الأول على عدد الحروف، النون والكاف من قوله تعالى: ﴿ شَيْئًا نُّكْرًا ﴾ [سورة الكهف، الآية 74].
وأول النصف الثاني الراء والألف منها أي نكرا إلى آخر القرآن الكريم، وله نصفان آخران على عدد الآي، فأخر النصف الأول على عدد الآي، رأس خمس وأربعين آية من الشعراء في قوله تعالى: ﴿ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [سورة الشعراء، الآية 45].. وأول النصف الثاني عن عدد الآي ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ﴾ [سورة الشعراء، الآية 46].. في الشعراء إلى أخر القرآن العظيم، ونصفان آخران على عدد كلمه، فأخر نصفه الأول عدد كلمه رأس عشرين أية من سورة الحج، في قوله تعالى: ﴿ وَالْجُلُودُ ﴾ [سورة الحج، الآية 20].. وأول نصفه الثاني على عدد كلمه في سورة الحج في قوله تعالى: ﴿ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [سورة الحج، الآية 41].. وله نصفان آخران على عدد سوره، فأخر نصفه الأول على عدد سوره،
﴿ قَدْ سَمِعَ اللهُ ﴾ [سورة المجادلة، الآية 1].. من سورة المجادلة، كذلك ثمانية أنصاف قدر روي هذا عن ابن مجاهد والله أعلم، ولا يخفى علينا أن عدد سور القرآن الكريم مئة وأربع عشرة سورة.
وأما وضع نقطة خالية الوسط معينة الشكل تحت الراء فإنها تدل على إمالة الفتحة نحو الكسرة، وكانت توضع في القرون الأولى نقطة لازواردية وكذلك وضع هذه العلامة فوق أخر الميم قبل النون المشددة لتدل على الإشمام وهو ضم الشفتين إشارة إلى أن الحركة المحذوفة ضمة، كقوله تعالى: ﴿ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [سورة يوسف، الآية 11].. وأما وضع نقطة مدورة فوق الهمزة الثانية فيدل على تسهيلها بين بين كقوله تعالى: ﴿ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ [سورة فصلت، الآية 44].. وهي الآية الرابعة والأربعون من سورة فصلت ولا يوجد غيرها في القرآن الكريم، ولقد وجدت بعض الرموز في المصاحف التي خطت أيام الدولة العثمانية لتدل على ضبط القراءة أيضاً، حرف " ط " ومعناه الوقف الطيب، وحرف " ص " ومعناه يرخص للوقوف، و" قف" معناه استحباب الوقف، و" ح " ومعناه وقف حسن، و" ز " جواز الوقف والوصل أولى، و " ع " ومعناه انتهاء العشر عن الكوفيين.
 
رحلة القرآن العظيم (8)

بعد استخدام الخطوط اللينة وتطورها المذهل في كتابة الرسائل والكتب والمدونات منذ عصر بني أمية، ومع بداية ظهور ملامح خط النسخ الشامي الجميل، وهجران خط الكوفة الرصين والتحول عنه في تسطير جملة الشئون الجليلة والعظيمة إلى الليونة بدأ الإبداع والابتكار والتطور يلد في أحضان القرآن العظيم على يد جملة من العباقرة اللذين تركوا آثارهم وخلفوا تراثاً ينبئ عن العناية الفائقة تجاه المصحف الشريف.
ففي القرن الثالث والرابع كان ظهور ابن مقلة وابن البواب حدثاً هاماً في تحول كتابة المصاحف نحو الليونة، واكتمال الرسم والشكل الذي وضعه الخليل بن أحمد واستخدمه الخطاطون في ضبطهم وتشكيلهم للقرآن العظيم.
كان الأثر الذي جاءنا من تلك الفترة هو مصحف ابن البواب الذي سبق وتحدثنا عنه في فترة ماضية، ويتحفنا القرن السادس الهجري لمصحف لياقوت المستعصمي فنرى فيه التطور المذهل لخط الثلث المحقق الذي أصبح النموذج الأعلى من الخطوط اللينة، والتي خطت به آيات القرآن العظيم وأصبح النموذج الذي يحتذى به في كتابة القرآن وشكله، إن جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي صاحب الدور الكبير في تحويل الخط إلى فن رفيع، وهو مولى الخليفة العباسي المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس، والذي قتله هولاكو خان عند استيلاءه على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة هجرية.
ونجا حينها ياقوت من القتل، واتصل بآل الجويني اللذين حكموا العراق فيما بعد وتقرب منهم، وعاش عيشة سعيدة وعين خازناً في دار الكتب المستنصرية ببغداد، واستطاع أن يستعيد منزلته القديمة، بعد الغزو المغولي، وكانت الأقلام الستة الثلث، والنسخ، والمحقق، والريحان، والتواقيع، والرقاع قد بلغت حداً من التطور قبله فتورا وحسنها، ووصل بها إلى ذروة الجمال، واتخذ الخط المائل للقلم بدلاً الخط المستوي فأضفى بذلك على خطه جمالاً وجلالاً، وبلغ بهذه الأنواع حداً كبيراً من الجودة، وألف بعض الكتب، وقرض الشعر وخلف أعمال خطية كثيرة في خزائن الكتب، على رأسها مجموعة من المصاحب، وأصبح رائد المدرسة البغدادية بعد ابن البواب في خطوط المصاحف وغيرها.
وقد وصلنا من خط ياقوت الجميل مصحف كتب بالخط الريحاني ويظهر فيه أسلوب ياقوت في الكتابة، وهو محفوظ في متحف " توب قابي سراي " في أسطنبول ويحتوي على سبع وأربعين ومائتي ورقة وبطول ثماني وعشرين ونصف وبعرض واحد وعشرين ونصف سنتيمتر.
ونشاهد فيه سورة الفاتحة وبداية البقرة، وفي الصفحة أربعة عشر سطراً وصفحاته مجدولة، وفي هوامشه طرر للأعشار والأخماس على شكل إجاصة أو دائرة تحمل في داخلها خطاً كوفياً، وأما أسماء السور فقد كتبت في مستطيلات مبسطة الزخارف بخطي ثلثي مرسوم، وخص للبسملة سطراً كاملاً مد فيها بين السين والميم، كما رسم فواصل الآيات دوائر على شكل زهرة وضعت فوق السطر لضيق الحيز المخصص لها، وورد في آخر المصحف بعد سورة الناس مستطيل مزخرف كتب عليه بخط الثلث:
(صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ثم وكتب ياقوت المستعصمي في سنة خمس وثمنين وستمائة بمدينة السلام بغداد حامداً لله تعالى على نعمه، ومصلياً على محمد صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين الطاهرين، ومسلماً، ومن ذنوبه مستغفراً).
لقد امتاز ياقوت بالاعتدال الفاصل بين السطور، وفي اتزان الكلمات والحروف، فهي غير منفرجة حتى التفكك ولا مزدحمة متضاربة العراقات، وجاءت الصواعد فيه مائلة إلى اليسار وهو ما تقضي به القواعد الخطية، أما أفقياته فلم يبالغ بانحدارها كما فعل ابن البواب. إن ما يسترعي الانتباه ويستدعي التنويه عن هو قطة القلم المحرفة، التي ابتكرها ياقوت واشتهر بها، ونتج عن ذلك خط دقيق الطوالع كامل السمك في أفقياته وتمت بذلك أهم صفات الخط العربي.
وإن الخط المحرف قد عرف من قبل إلا أنه لم يستخدم كما استخدمه ياقوت، وبذلك أحدث تغييره هذا إلى ثورة في عالم الكتابة، وضجة في أوساط الخطاطين والوراقين، لقد استوت الألفات وأخذت حقها في الطول، وبدت أطول مما عرف ولا يزال حرف الجيم مروساً كما هو عند ابن البواب، لقد قدم ياقوت في مصحفه هذا خطاً جميلاً بسطر رزين، ينساب بهدوء حروفه المنسجمة مع الرقة في عرقاته المجموعة وألفاته المتوازية، وبخطوطه تمت محاسن المدرسة البغدادية واكتملت بدءاً من ابن مقلة إلى ياقوت المستعصمي.
وقد أجمع القدامى على جودة خطه وبراعته، قال الذهبي في تاريخ الإسلام: (ياقوت المستعصمي المجود صاحب الخط المنسوب رومي الجنس، نشأ بدار الخلافة وأحب الكتابة والأدب وحصل خطوط منسوبة بابن البواب وغيره، كان يعرفها بخزانة الخلفاء، فجود عليها وعني بذلك عناية لا مزيد عليها، وقويت يده وكونت أسلوباً غريباً في غاية القوة، وسار إماماً يقتدى به، كتب بخطه الكسر)..
وذكره في كتاب العبر فقال عنه: (أحد من انتهت رئاسة الخط المنسوب).. وقال عنه ابن كثير: (كان فاضلاً مليح الخط، مشهوراً بذلك، كتب ختماً حساناً وكتب الناس عليه ببغداد)، وأطلق عليه صاحب كتاب تحفة الخطاطين لقب (قبلة الكتاب)، وذكر حبيب صاحب كتاب خط، وخطاطان أن ياقوت ترك ألف مصحف شريف بخطه ومن جملة المصاحف ما هو موجود في الأستانة، ويعود تاريخه إلى سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ومصحف كبير بأياصوفيا وتاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة ومصحف آخر جميل رائع ليس كمثله يعود إلى سنة اثنتي وستين وستمائة هجرية.
وكانت المصاحف المكتوبة بخط ياقوت ترسل هدية للملوك، ذكر السخاوي أن " بريسباي الشرفي توجه سنة سبع وسبعين وثمانمائة هجرة رسولاً إلى سلطان الروم من مصر ومعه هدايا سنية منها مصحف بخط ياقوت وخيول.
وفي توب قابي سراي مصحف كتبه ياقوت سنة تسع وستين وستمائة وكان في ملك أمير مكة والحجاز حسن بن أبي نمير محمد بن بركات المتوفى سنة ألف وعشر هجرية، فأهداه إلى الخليفة العثماني السلطان مراد، وأرسله من مكة إليه.
وأجزاءه وأعشاره دوائر مختلفة داخلها بالخط الكوفي، وأسماء السور بالأبيض على أرضية ذهبية، وزخارف نباتية بالأخصر في الفاتحة والبقرة، وباقي أسماء السور بالذهب على الورق نفسه، وأضيف في أخر المصحف ما نصه.
(هذا المصحف الفريد اللطيف والكلام المجيد الشريف أرسل من بلد الله الحرام لحضرة سلطان سلاطين الإسلام مولانا السلطان مراد خان، خلد الله ملكه إلى انتهاء الدوران، بخط الأستاذ على الإطلاق ياقوت مشهور الأفاق من المملوك الداعي بدوام دولته حسن بن أبي نمي ابن بركات سامحهم الله بجوده وكرمه ونعمه).
دخل العرب في بلاد الشام في الإسلام بعد الفتوحات، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن العظيم ليأخذوا منه تشريعهم في أمورهم التعبدية والدنيوية، وكان أن استشهدت طائفة من القراء والحفاظ في فتوحات بلاد الشام، وكان يزيد بن أبي سفيان أول الأمراء اللذين تبينوا حاجة أهل الشام إلى من يقرئهم القرآن في صدر الإسلام، فأرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب، يسأله أن يبعث إليه بعض الصحابة من حفظة القرآن من أهل المدينة.
فوجه عمر ثلاثة من الصحابة إلى بلاد الشام قاموا بتعليم الناس القرآن في حمص ودمشق وفلسطين، قال محمد بن كعب القربي جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار، معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان، أن أهل الشام قد كثروا وربوا، وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة، فقال لهم: " إن أخوانكم من أهل الشام قد استعانوا بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني بثلاثة منكم، فاستهموا إي اقترعوا، فقالوا ما كنا لستهم، هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم، لأبي بن كعب، فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء، فقال عمر ابدءوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن أي يفهم ما يسمع، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين ".
فقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدراء إلى دمشق، ومعاذ بن جبل إلى فلسطين، وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة فسار إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.
اهتم الخلفاء والأمراء الأمويون بتعليم القرآن اهتماماً بالغاً، وحضوا على قراءته وحفظه، قال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: " علمهم القرآن حتى يحفظوه ".
وقال عتبة بن عمر بن عتبة ابن أبي سفيان لمؤدب ولده: " علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منهم فيهجروه ".
وأوصوا أهل الشام بقراءته القرآن وحفظه، وكان عبد الملك بن مروان أول من أمرهم بذلك، وتبعه الوليد وفي خلافة عمر بن عبد العزيز، ازداد اهتمام أهل الشام بقراءة القرآن الكريم، وكانوا يراجعون فيه أقاربهم اللذين يفدون عليهم من المدينة ومكة، فمن قرأ القرآن وحفظه قدروه وأجازوه، و من لم يقرأه ولم يحفظه تجنبوه وهجروه وحبسوه عندهم حتى يقرأه، ووكلوا به من يعلمه.
قال محمد بن مسلم الزهري في خبر وفوده على عبد الملك بن مروان: " دخلت عليه فسألني هل تحفظ القرآن؟ قلت نعم والفرائض والسنن.. فسألني عن ذلك كله فأجبته فقضى ديني وأمر لي بجائزة ".
قال إبراهيم ابن أبي عبلة العقيلي: " رحم الله الوليد وأين مثل الوليد، كان يعطيني قطاع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس ".
كان القراء من الشاميين يقرئون القرآن قراءة متواترة مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يدرسون القرآن في مساجد أجناد الشام، مثل مسجد الرملة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد طبرية، ومسجد دمشق، ومسجد حمص، ومنذ منتصف القرن الهجري الأول أخذت تظهر في بلاد الشام طبقة من المعلمين المتخصصين، اشتغلت بتأديب الصبيان، قال ياقوت الحموي: " كان الضحاك بن مزاحم الهلالي نزيل دمشق المتوفى سنة خمس ومئة كان يؤدب الأطفال فيقال، كان في مكتبه ثلاث آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حماره وكان يعلم ولا يأخذ شيئاً ".
وافتتح الوليد بن عبد الملك أول مدرسة للأيتام، وجعل عليها من يؤدبهم ويعلمهم القرآن، كان المعلمون يقسمون تلاميذهم عشرات في مسجد دمشق، ويجعلون على كل عشرة عريفاً، وكان العريف يقرأ القرآن لتلاميذه سورة سورة وهم يعيدون ما سمعوا منه ويحفظون عنه، وإذا أخطأ أحدهم سأل عريفه، وإذا أخطأ عريفهم سأل شيخه ".
وكان العريف يمتحن تلاميذه بعد أن يختموا القرآن، فإذا أيقن أن أحدهم أتقن القرآن قدمه إلى الشيخ فأجازه، وأصبح عريفاً في حلقته، قال مسلم بن مشكم الدمشقي، قال لي أبو الدرداء: " أعدد من يقرأ عندي القرآن، فعدتهم ألفاً وستمائة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وأبو الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء ".
انتشرت دراسة القرآن العظيم بمسجد دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، وهي قراءة الجماعة سبعاً من القرآن بالتكرار وراء قارئ في مجلس واحد بعد صلاة الصبح، ثم أطلق السبع على الموضع الذي يقرأ فيه السبع من القرآن، وكان موضع السبع في مسجد دمشق الجهة الشرقية، من مقصورة الصحابة، ولم تكن قراءة ذلك السبع تتعدى ذلك الموضع متصلة مع جدار القبلة إلى الجدار الشرقي، وتجاوزت في أيام يزيد بن عبد الملك قراءة الجماعة سبعاً من القرآن في مجلس واحد وتخطت ضبط النص القرآني ومعرفة أسباب النزول والإحاطة بالمعنى واستخلاص الأحكام.
ولم تعد تقتصر على الدراسة النظرية المجردة، فقد أصبحت مجالس الدراسة منتديات تبحث فيها مسألة الخلافة والإمامة، وصفات الخليفة والإمام العادل وشروط الحكم الإسلامي الصالح، وغدت حلقات تناقش فيها الأوضاع والمشاكل القائمة وتقوم فيها سيرة بني أمية وتنتقد الممارسات ويعرض بسياساتهم تعريضاً شديداً.
وتشتمل المصادر المختلفة على أسماء القراء من الصحابة والتابعين والشاميين في صدر الإسلام وعصر بني أمية، ومن أشهر القراء من الصحابة الشاميين معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وفضالة بن عبيد، وواثلة بن الأسقع الكناني وكان أبو الدرداء أكثرهم نشاطاً في تعليم القرآن وأقواهم أثراً في بلاد الشام.
كان أكثر القراء التابعين الشاميين من أهل دمشق، وأقلهم من أهل حمص، وسائرهم من أهل فلسطين، وكان لقراء مسجد دمشق، وقراء مسجد حمص، نصيب وافر في تعليم القرآن ورواية حروفه، ففي المسجدين تجمع معظم قراء أهل الشام منذ صدر الإسلام، وفيهما تخرج أغلب التلاميذ، وكان بين شيوخ المسجدين وتلاميذهما تنازع في القراءة وتنافس فيها.
إذ كان كل فريق منهم يرى أن قراءته وحروفه أصح وأرجح من قراءة الفريق الثاني وحروفه، ولكن قراء مسجد دمشق كانوا أرفع مكانة، وكانت قراءاتهم وحروفهم أعلى رواية، ونشطت قراءة القرآن ورواية حروفه بمسجد بيت المقدس في الثلث الأخير من لاقرن الأول، وازدهرت ازدهاراً شديداً في القرن الثاني، وكان قراء مسجد بيت المقدس من أهل دمشق في أول الأمر، فقد كان بعض القراء من الصحابة والتابعين الدمشقيين ينزلون بيت المقدس ويعلمون القرآن بمسجدها، ومن أذكرهم واثلة بن الأسقع الكناني، وأم الدرداء الصغرى، وضمرة بن ربيعة، ثم أصبح في أهل فلسطين قراء علماء يدرسون القرآن بمسجد بيت المقدس ومن أشهره، إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي الرملي، وجعل كثير من التلاميذ وطلاب العلم يرتحلون إلى مسجد بيت المقدس في القرن الثاني ليقرؤوا على شيوخه، وكان منهم من يأتي من أجناد الشام الأخرى، كدمشق وحمص ومنهم من يأتي من بقية الأمصار كمصر واليمن والحجاز والعراق وخراسان.
ساد خط المحقق في القرنين الثامن والتاسع الهجريين في كتابة المصاحف، وكان أغلبها قد كتب في دمشق والقاهرة، وفي القرن العاشر الهجري برزت مصاحف العهد العثماني وخطت بقلم النسخ الذي رست كتابته في المصاحف من ذلك الوقت إلى عصرنا هذا، وقد رأينا في الحلقات الماضية كيف بدأ الخط اللين في الظهور منذ القرن الرابع الهجري، وكانت المدرسة البغدادية هي التي حملت زعامة هذا الخط وهذا التحول في الكتابة، وابتدأت بابن مقلة ثم بن البواب وانتهت على يد ياقوت الستعصمي.
وفي أثناء ذلك تنوعت الخطوط في المصاحف المشرقية، وكانت هارات في بلاد فارس هي إشعاع فن حضاري كتابي جميل وقد أضافت مدرسة هارات لمسات من الجمال على مشق الحروف، وغدا المصحف الشريف في حلة بديعة أنيقة، وجاءت من بعد المصاحف المملوكية لتكمل مسيرة فن الخط في أحضان القرآن إذ اتسمت مصاحف هذه الفترة بضخامة حجمها وجلاء خطوطها وذلك لوقفها على المساجد والمدارس التي ازدهر بنائها في عهد المماليك، وامتازت بتطورها نحو الجودة، مع الاهتمام بتحليتها بالزخارف الفنية.
ويظهر في هذا القرن أول مصحف كتب بخط المحقق، وكان من وقف محمد بن قلاون سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية، ويوجد في دار الكتب والوثائق المصرية، وكان قد حبسه لجامع القلعة، وأسماء سوره خالية من الزخارف، وهوامشه بلا طرر وفواصل الآيات تحمل علامة ميزان صغيرة مع سكون دائري إن جاز الوقوف بالسكون، وكتب في آخره: " أوقف هذا المصحف الشريف، مولانا السلطان المالك الملك الناصر محمد بن مولانا السلطان سيف الدين قلاون سقى الله عهدهما "
وجعل مقره بالجامع الكبير بالقلعة المنصورة، وشرط ألا يخرج من المسجد المذكور بوجه ما وقفاً صحيحاً شرعياً، ﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ [سورة البقرة، الآية 181].
بتاريخ سنة ثلاثين وسبعمائة.
وتمتاز سطور المصحف هذا بوضوحها وجلاء كتابتها لضخامة المصحف، وبحسن الربط بين الحروف وجمال التركيب في الكلمات، وفي الأوراق الثمانين التي يحتفظ بها متحف " توب قابي سراي " وهي جزء من القرآن الكريم بخط المحقق الجميل الرصين نلاحظ الوضوح في الحرف.
وقد أهمل الخطاط علامة الميزان التي استخدمت في الماضي فوق حروف " ر، س، د " ولم يستعملها إلا في كتابة البسملة، والمصحف الجميل هذا كتب بلونين يدلان على دقة الصنعة فيه إذ تناوبت سطوره فيما بين الكتابة بالذهب المصور ولون الازواردي الأزرق مع شكل باللون الأسود، وفيه من العناية الشديدة مما يدل على أن هذا المصحف قد كتب لسلطان أو أمير.
ويحتفظ متحف " مشهد " بمجموعة من المصاحف الجديدة كتبت بخط محقق منها أوراق من سورة " ص " إلى آخر المصحف، مع ترجمة الآيات باللغة التركية، كتبت بخط نسخ قديم مشكول.
والأوراق من خط محمد بن يوسف الآباري المعروف بالسيد الخطاط، وخطها في العاشر من شعبان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة هجرية، وهي ست خمسون وثلاثمائة ورقة بعضها بسبعة أسطر وبعضها الآخر بأربعة عشر سطراً، بمقاس خمس وثلاثين ونصف لخمس وعشرين سنتيمتراً وفي هذا المصحف ترجمات إلى عدد من اللهجات التركية وهو نادر قيم متميز من هذه الوجهة، وجاء في أخر كل سورة فضلها وخصائصها ونظرة مجملة على تفسيرها، ولفظ الجلالة في هذا المصحف مكتوب بالذهب المسور بالأسود وأوائل السور نقوش مذهبة بتصميمات هندسية متنوعة تتداخل فيما بينها الرسوم النباتية المزهرة، وقد خطت أسماء السور بخط الرقاع باللون الأبيض، وعلامات الأحزاب والأجزاء والأعشار بأشكال لوزية مذهبة مع شمسات وقناديل مرصعة، والفواصل بين الآيات مذهبة مرضعة.
وعناوين السور وفضلها بنول الزنجفر، والفواصل بين العبارات التفسيرية مسورة بعلامات حلزونية مذهبة، وغلاف المصحف هذا من جلد الماعز القديم، كما يحتفظ متحف " مشهد " بإيران بنسخة من قرآن كريم بخط المحقق مع ترجمة فارسية بخط النسخ، وهو بخط " عبد الله مرواريد " ويعود لعام ثمانية وخمسين وسبعمائة هجرية، ويشتمل على واحد وأربعين وخمسمائة ورقة ذات تسعة أسطر بمقاس ثلاث وثلاثين بأربع وعشرين سنتيمتراً، والصفحتان اللتان تتضمنان الفاتحة وأوائل البقرة مذهبتان مرصعتان على طريقة مدرسة هارات وهما باليتان، والعلامات مدورة مذهبة وأسماء السور بخط الرقاع بالذهب، والفواصل على شكل نجوم، وغلاف المصحف من الجلد، وواقفه " الميرزا نظام الملك " سنة اثنتين وستين وألف هجرية.
وفي متحف " مشهد " أيضاً ستة عشر ورقة أيضاً من القرآن الكريم بخط محقق وثلث، للخطاط " إبراهيم سلطان ابن شاهيرخ بن تيمور كوركان " ويعود لسنة سبع وعشرين وثمانمائة، وفي كل صفحة ستة أسطر والصفحتان الأولتان مذهبتان ومرصعتان، الصدر والذيل مزينان بالكوفي التزيني وأوائل السور نقوش مذهبة مرصعة، وأسماء الصور بخط ثلثي وبالذهب، وهي ذات تحرير على قاعدة تعشيرية، والفواصل بين الآيات نجوم مرصعة ذات شرفة، والسطر الأول والأخير في كل صفحة مكتوبان بخط ثلثي جلي مع تحرير بالذهب، وسائر السطور بخط محقق بالذهب مع تحرير باللون الأسود، وعلامات الأخماس والأعشار والأحزاب والأجزاء على شكل مشكاوات مذهبة وحلقات شمسية وترنجات مذهبة، وعناوين السور بالخط الكوفي المورق، والغلاف من الجلد الفاخر، وبلون زيتي صرف عليه جهد كبير، وهو من عمل المذهبين في المكتبة الرضوية، وواقف المصحف هذا هو الكاتب نفسه وأهمية هذا المخطوط ترجع إلى كتابته بأقلام مختلفة، وقد يفيدنا ذلك أن هذا الأسلوب يشكل طوراً من أطوار الخط في مراحل انتقاله، فإن هذا الخلط سيفضي إلى الأشكال المستقرة، كما يضيف المخطوط رسوماً ستصبح فيما بعد قاعدة تتبع وأسلوباً يتحدى في قوانين الرسم الكتابي.
 
رحلة القرآن العظيم (9)

كثرة الأشكال والرموز في القرآن العظيم لضبط القراءة لفظاً وتجويداً وإعراباً، وكان لا بد من نمط خط يحمل كل هذه الرموز والأشكال والرسوم، فتحول الخطاطون من الأشكال اليابسة في كتابة الخط الكوفي إلى الليونة من خط النسخ، وكانت أغلب مصاحف بلاد فارس قد اتخذت سبيلها إلى ذلك واتخاذ خط النسخ مبدءاً بعد أن أضافوا إليه بعض خصائص التعليق، وسبق ذلك بعض محاولات لكتابة مصاحف على الأسلوب المملوكي، ومنه نسخة تحتفظ بها المكتبة الرضوية في مشهد، وقد كتبت بخط ثلثي محقق خفي، وكاتبها " محمد الخليلي التبريزي " كاتب المصاحف المشهور في القرن العاشر الهجري، وهذه النسخة التي تعتبر النسخة الحادية والأربعين من نسخ القرآن، كتبت سنة أحدى وثمانين وتسعمائة هجرية، وتزينات هذه النسخة وغلافها تمثل المدرسة الفنية في تبريز.
ومكتوبة على ورق يدوي من الحرير، وأوائل السور مذهبة وأسماء السور بخط الرقاع وبالخط الأبيض، وفي كل صفحة عشرة اسطر، سطر بالذهب وسطر بالمداد الأسود، وعدد صفحات المصحف أربع وستون وثلاثمائة ورقة.
ونسخة أخرى بخط الحاج " مقصود شريف التبيريزي " وقد كتبها في غرة رجب من سنة أربع وسبعين وتسعمائة هجرية، وتشتمل على خمس وستين وأربعمائة ورقة ذات عشرة أسطر، ونشاهد الصفحة الأولى وتضم سورة الفاتحة، وهي مذهبة كما نرى وأوائل السور بخط الرقاع مكتوبة بالذهب على ورق خمري سميك مجدول بالفضة والذهب واللازوارد، وغلاف المصحف من جلد الماعز، ويضم متحف مشهد نسخة نفيسة كاملة من القرآن العظيم مع ترجمة حرفية باللغة الفارسية.
وقد كتبت سورة الفاتحة بالخط الريحاني وسائر السور بالنسخ، والترجمة بخط النستعليق وتعود النسخة إلى القرن العاشر الهجري وكاتبها مجهول، وفي الصفة أربع وعشرون سطراً وصفحاته خمسون وثلاثمائة وفيه أربعة عشر صفحة في مواقع مختلفة من بدايات الأجزاء ذات تعشير مذهب وأوائل السور مرصعة بنقوش مذهبة.
ويظهر خط النسخ الجلي والخفي على نسخة تعود للقرن العاشر، وعلى الهامش ترجمة بالفارسية، وصفحات القرآن مذهبة بأسلوب التشعير، وقد وقفها " شاه ميرزا " سنة ثلاث وتسعين ومائتين بعد الألف ويذهب خط النسخ الخفي على طريقة الغبار على نسخة في متحف مشهد، وقد كتب المصحف جميعه على ثلاث وثلاثين ورقة، وتحتوي كل صفحة على ثماني وأربعين سطراً والصفحتان المتصدرتان في النسخة مذهبتان تماماً مع تشعير مذهب ومرصع، وأسماء السور على قاعدة من النجوم المذهبة في هوامش ونقوش بالذهب، والصفحات الافتتاحيتان مذهبتان تذهيباً دقيقاً تاماً وفيهما عدد من المشكاوات والشمساوات المزدوجة المطالع، والصفحات مذهبة فيما بين السطور، وأسماء السور كتبت بخط الرقاع باللون الأحمر على قاعدة مذهبة مجدولة ذات تحرير والغلاف من الجلد بلون زيتي.
لقد مر خط النسخ المصحفي عبر قرون خمسة بتطورات أدت إلى هذا الشكل الجمالي في نمط الكتابة، وكانت عناية خلفاء بني عثمان بخط المصحف مشجع للخطاطين العثمانيين أن يبدعوا فيه بعد أن مر بمراحل التجويد، وكانت اليد الطولى في تطور خط النسخ تعود للشيخ " حمد الله الأماسي " الذي ولد سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة هجرية، وتعلم الأقلام الستة على " خير الدين المرعشي "، وكتب على طريقة " ياقوت المستعصمي " ومحص في كتابات " عبد الله الصيرفي " وكان السلطان " بايزيد " ابن " السلطان محمد الفتاح " قد صاحب الشيخ أيام كان والياً على أماسيا، وقربه يوم أصبح سلطاناً وجاء به إلى إسطنبول، وكان السلطان با يزيد يجله إجلالاً كبيراً، فيمسك له الدواة وهو يكتب، ويجلسه على صدر مجلس العلماء.
كان الشيخ حمد الله أستاذاً في الأقلام الستة، قضى عمره في كتابة العديد من المصاحف التي بلغ عددها سبعة وأربعين مصحفاً، وتعد عائلته أكثر العائلات التي خرجت في تاريخ فن الخط أساتذة يجيدونه ويبرعون فيه وقد توفي الشيخ في نهاية عام ستة وعشرين وتسعمائة هجرية، ودفن في مقربة حي اسكودار في اسطنبول.
ويحتفظ متحف " توب قاب سراي " بنسخة له كما تحتفظ " دار الكتب والوثائق المصرية " بمصحفين آخرين، ونرى سورة الفاتحة وقد اكتمل فيها بهاء خط النسخ، وكتبت أسماء الصور بخط الإجازة، كما تغير أسلوب الزهير والزخارف وجنحت المدرسة العثمانية إلى البساطة، مع تقدير أنماط التذهيب والزخارف وجنحت المدرسة العثمانية إلى البساطة مع تقدير أنماط الدفترات والجداول على جوانب المستطيلات ذات الزخارف المتنوعة، كما أن فواصل الآيات دوائر وأزهار، وفي النص حروف للوقف، وعلى الهوامش مشكاوات وطرر للأجزاء والأحزاب والأخماس والأعشار.
وكتبت بنسخ جميل، كما تنوعت الأزهار مع أشكال غريبة في الزخرفة، إن خط النسخ الجميل أصبح المفضل على غيره في كتابة المصاحف، لسهولة كتابته أكثر من المحقق، ولجماله ورونقه وبساطته، ويسر قراءته.
وفي خط الشيخ حمد الله سر من أسرار الجمال، أضفاه الكاتب على خطه، فغدت حروفه نقية، وكلماته واضحة لا يشوبها العوج ولا يمس استقامتها الاهتزام، والحق أن الإنسان ليحار في تفسير هذه الظاهرة، وهو شيء غريب لأنه جزء من شخصية الكاتب يضفيه على رسومه ويمتنع على غيره.
وهذا جوهر شهرة الشيخ " حمد الله " وسر تفوقه على كتاب عصره، لقد قدم الشيخ حمد الله في هذا المصحف خطاً ذا قيمة جمالية عالية، تنم عن ذوقه الرفيع الذي تجلى في سور حروفه ونظام أسطره، وتمكن يده من رسم العراقات والإمدادات والاستمدادات بقوة ورشاقة، وامتازت حروفه بحسن الربط وكلماته بالانسجام، فكان عمله الفني هذا بداية عصر ذهبي للخط العربي.
لقد رخص الخطاطون محافظة على حروفهم ورسوم أشكالها على تقنين قواعد يلتزمونها لضبط أحجام الحروف ويوحدون بها أساليب الكتابة للمسلمين في كل الأقطار، وقد بلغ خط النسخ عند الشيخ حمد الله نضوجه الفني، وقواعده التي قررها ظلت متوارثة التزمتها الأجيال.
لقد زينت المصاحف منذ عهد ابن البواب بزخرفة صفحات أول المصحف وآخره وفواصل الآيات وترر الهوامش، وتقدمت عبر العصور نحو الجودة والتعقيد وبلغت سراءً باهراً في عهد المماليك، ولدى بلاد فارس عند القرن الثامن.
ويندهش الرائي لجمالها وهندستها وانسجام ألوانها، ولقد اشتهر مذهبون منقطعون لهذه الصنعة يقومون بها عند فراغ الخطاط من الكتابة، ثم يعهد للمجلد لصنع السفر الفاخر المزخرف، ويحرص الخطاط المسلم على تذييل المصحف بتوقيع يحمل اسمه وتاريخ الفراغ منه وأحياناً اسم المذهب.
لقد بلغ خط النسخ في المصاحف غايته المرجوة في القرن العاشر، ورست قواعده وكملت نسبه، وإن الإضافات التي كسته لا تتعدى أسلوب الكاتب، وانتهت زعامة الخط المصحفي إلى الحافظ عثمان المتوفى سنة عشر ومئة وألف، لما امتاز به من سلاسلة واتزان الحروف وباسطر مستقيمة معتدلة وبكتل متسقة، فاستحوذ على أسرار الخط وأخذ بناصية هذا الفن الجميل، وقد كتب خمسة وعشرين مصحفاً، طبعت ثلاثة مصاحف منها.
من خصائص السور المكية حروف التهجي، يفتتح الله سبحانه وتعالى بها مواضع من كتابه العظيم، وإن في القرآن العظيم صيغا مختلفة من هذه الفواتح، فمنها البسيط المؤلف من حرف واحد، وذلك في سور ثلاث، " ص " وهي السورة الثامنة والثلاثون في القرآن العظيم، و سورة " ق " وهي التي تحمل رقم خمسين، و " القلم " التي تبدأ بحرف نون وتأتي برقم ثمانية وستين، ومن هذه الفواتح عشر مؤلفة من حرفين، سبع منها متماثلة تسمى الحواميم، لأنها أوائل السور المفتتحة بها هي " حم " وذلك ابتداء من السورة أربعين حتى سورة السادسة والأربعين.
وهي سور " غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف " والسورة الثانية والأربعون منها خاصة مضموم إلى " حم " فيها " عسق " وتتمة العشر " طه " في السورة العشرين، و " طسم " في السابعة والعشرين، وهي سورة النمل و " يس " في الثامنة والثلاثين، أما الفواتح المؤلفة من ثلاثة أحرف فهي في ثلاثة عشرة سورة، ست منها على هذا التركيب، " ألم " وهي في السور اثنين البقرة، وثلاث أل عمران، وفي التاسعة والعشرين العنكبوت، وفي الثلاثين الروم، وفي الواحدة والثلاثين لقمان، وفي الثانية والثلاثين السجدة، وخمس منها بلفظ " الر " في مستهل كل من سورة يونس العاشرة، وهود الحادية عشرة، ويوسف الثانية عشرة، وإبراهيم الرابعة عشرة، والحجر الخامسة عشرة، واثنتان منها تأليفهما " طسم " وهما في السورتين السادسة والعشرين الشعراء، والثامنة والعشرين القصص، وبقيت أن ثمة سورتين مفتتحتين بأربعة أحرف أحداهما سورة الأعراف التي أولها " المص " والأخرى سورة الرعد والتي في مستهلها " المر "، وتكون سورة مريم أخيراً المفتتحة بخمسة حروف مقطعة وهي " كهيعص " ويتضح من هذا العرض أن مجموعة الفواتح القرآنية تسع وعشرون، وأنها على ثلاثة عشر شكلاً.
وأن أكثر الحروف وروداً فيها (ألف، اللام، ثم الميم، ثم الحاء، ثم الراء، ثم السين، ثم الطاء ثم الصاد، ثم الهاء والياء ثم العين والقاف وأخيراً الكاف والنون)، وجميع هذه الحروف الواردة في الفواتح من غير تكرار يساوي أربعة عشر وهي نصف الحروف الهجائية وبذلك يستأنس المفسرون القائلون أن فواتح السور إنما ذكرت في القرآن العظيم لتدل على أن هذا القرآن الكتاب الكريم، مؤلف من حروف التهجي المعروفة، فجاء بعضها مقطع منفرداً، وجاء تمامها مؤلفاً مجتمعاً ليتبين للعرب أن القرآن نزل بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعاً لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، وقد أسهب في بيان هذا الرأي من المفسرين " الزمخشري " وتبعه " البيضاوي أبو سعيد " صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة خمس وثمانين وستمائة هجرية، وانتصر لذلك الإمام المجدد " تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي " المتوفى سنة ثماني وعشرين وسبعمائة وتلميذه " الحافظ المزي " المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
ولاحظ أصحاب هذا الرأي أن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله يزداد وضوحاً ويكتسب قوة بظاهرة غريبة حقاً، إذ لم يكتفي القرآن باشتماله على فواتح مختلفة يبلغ تعدادها تمام حروف الهجاء ولا بتأليفه تلك الفواتح من نصف الحروف الهجائية، بل حوى فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فمن حروف الحلق ستة " الهمزة، والهاء والعين والحاء والغين والخاء " حوى النصف ثلاثة وهي " الحاء والعين والهاء " ومن المهموسة " السين والحاء والكاف، والصاد والهاء "، " الهمزة، والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون ".
ومن الحرفين الشفهيين " الميم " ومن القلقلة " القاف والطاء " إلخ...
إن هذه الحروف ذكرت تارة مفردة وتارة حرفين حرفين، وطوراً ثلاثة وأحياناً أربعة وخمسة؛ لأن تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة، إن رأي السلف يوضح أن الفواتح نظمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل، لتحتوي على كل ما من شأنه إتيان البشر بمثل هذا الكتاب العزيز ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، إن الاعتقاد بأزلية هذه الأحرف قد أحاطها بجو من التورع من تفسيرها، والتخوف من إبداء رأي صريح فيها والقطع بمعناها الذي لا يعلم تأويله إلا الله وهي كما قال الشعبي سر هذا القرآن.
إن جميع من خاض في معنى فواتح السور لم يدلوا فيها برأي قاطع بل شرحوا وجهة نظرهم، فيها مفوضين تأويلها الحقيقي إلى الله، وأزلية هذه الأحرف ما انفكت على سائر الأقوال تحطيها بالسرية، وسريتها تحيطها بالتفسيرات الباطنية، وتفسيراتها الباطنية تخلع عليها ثوباً من الغموض لا داعي له ولا معول عليه، وهناك من رأيي أن بعض السور القرآنية تفتتح بهذه الحروف كما تفتتح القصائد بلا وبل.
فلم يزيدوا في بادئ الأمر في أن يسموا هذه الحروف فواتح وضعها الله سبحانه وتعالى لقرآنه وهناك من قال أنها أدوات تنبيه لم تستعمل فيها الكلمات المشهورة، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فنسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ في قرع السمع للمشركين في مكة ولأهل الكتاب في المدينة، إن الكفار لما قالوا..
﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾.. [سورة فصلت، الآية 26].
وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله عليهم هذه الحروف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: (اسمعوا إلى ما جاء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سبب لاستماعهم، وطريقاً لانتفاعهم)..
وخلاصة القول: إن هذه الأحرف علمها الحقيقي عند الله تعالى ولا يستطيع أحد أن يجزم بمعناها ولا يقطع به، هذا هو القرآن ليس فيه شيء من افتراء ولا فيه شيء من أخيلة الشاعر، أو سبوحات الأديب ولا يشبه كلام الفصحاء إنه وحي يوحى وتنزيل وهي رباني يلقى على النبي ذكراً ويأمره أمراً نزل نجوماً خلال حياته مع الأحداث والوقائع الفردية والاجتماعية، ولم يحط كتاب سواه بمثل العناية التي أحيط بها، ولم يصل كتاب كما وصل بتواتر سوره وآياته وألفاظه وحروفه وقراءاته ووجوهه، ونقطه ورسمه، وتخميسه وتعشيره وتحزيبه ومصاحفه وصحفه، وتجويد خطه وتزيين طباعته.
لقد أقبل العلماء على هذا الكتاب العظيم مشغوفين بكل ما يتعلق به، حتى أحصوا عدد آياته وحروفه، وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة أطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما أجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون تلك وزناً معتقدين أن لهم في ذلك كله ثواباً عند الله وأجراً.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال من سورة البقرة حتى سورة التوبة، مكان التوراة، والمئيين من سورة بني إسرائيل حتى سورة المؤمنون مكان الإنجيل، والمثاني: السور التي تلي المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفصل السور التي تبدأ بـ " حم ")..
يعرف الخط بأنه تصوير اللفظ بحروف هجائه لذا كان الأصل في كل مكتوب أن يكون موافقاً تماماً للمنطوق، إلا أن هذا الأصل خولف في المصحف العثماني، وظل مصطلح الرسم القرآني مستقلاً بنفسه جارياً على غير قياس، لم يتأثر بالقواعد المستحدثة، ونتحدث باختصار عن بعض قواعد خلاف الرسم الإملائي، إذ تكتب الكلمة من القرآن في بعض المواضع برسم، وفي مواضع أخرى برسم أخر مع أنها هي هي، لقد تتبع علماء الرسم العثماني الكلمات التي يختلف رسمها عن نطقها، وعللوا بما يعرف منه أن مرجع الخلاف هو ما في الكلمات من قراءات يحتملها الرسم، أو ما فيها من قراءة واحدة يستدعى أن نكتب بسورتها التي لا تحتمل ما سواها.
وهذا نظام الدين النيسابوري ينقل عن جماعة من الأئمة قولهم: " إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت، وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب وحيه "..
فما كتب شيء من ذلك إلى لعلة لطيفة وحكمة بليغة، فلو كتب على صلاتهم فإن صلاتك بالألف فما دل ذلك إلى على وجه واحد وقراءة واحدة بالإفراد لا بالجمع، وكذلك:
﴿ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [سورة الرعد، الآية 42].
تكتب بغير ألف ليدل على القراءتين، وفي الرسم العثماني فوائد منها الدلالة على الأصل والشكل والحروف لكتابة الحركة حروفاً بإتباع أصلها، كما في ﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ [سورة النحل الآية، 90]، ﴿ سأوريكم ﴾، ﴿ الصلاة ﴾ بالواو بدل الألف، ﴿ والزكاة ﴾ بالواو بدل الألف لأن أصل الواو هو الألف، ومنها النص على بعض اللغات الفصيحة، كتابة هاء التأنيث تاء مجرورة على لغة طئ، وكحذف ياء المضارع لغير جازم في ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾ [سورة هود، الآية 105].
على لغة هذيل، ومنها إفادة المعاني المختلفة بالقطع والوصل في بعض الكلمات نحو ﴿ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ [سورة النساء، الآية 109]، ﴿ أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا ﴾ [سورة الملك، الآية 22].
فإن قطع أم عن من يفيد معنى بل دون وصلها بها ومنها أخذ القراءات المختلفة من اللفظ المرسوم برسم واحد نحو وإيتاء ذي القربى، فالقراء يختلفون فيها في حالة وصلها بما بعدها في مقادير المد فمنهم من مدها ثلاث حركات، ومنهم من مدها أربع حركات، ومنهم من مدها خمساً ومنهم من مدها ستة، وحمزة وهشام يقفون على وإيتاء ونحوه مما رسم بياء بعد الألف، بإبدال الهزة الثانية ألفاً على التفصيل الذي أوضحه علماء القراءات.
كما اختلف القراء بكلمة العلماء في حالة وصلها في ما بعده في مقادير المد وحمزة وهشام يغيران الهمزة واو على وجوه ذكرها العلماء، وقد أجمع كتاب المصاحف أن يكتبوا: ﴿ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ [سورة الكهف، الآية 64] بغير ياء بعد الغين واختلف القراء في إثبات الياء وحذفها فأثبتها وصلاً نافع وأبو عمر وأبو عمر وأبو جعفر والكسائي وأثبتها وصلاً ووقفاً ابن كثري ويعقوب وحذفها وصلاً ووقفاً ابن عامر وعاصم، وحمزة وخلف وهذه الياء حذفت رسماً للتخفيف، فمن قرأ بحذفها وافق الرسم تحقيقاً ومن قرأ بإثباتها وافق الرسم تقديراً والأصل إثباتها؛ لأنها لام الكلمة واختلفت القراءات في ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [سورة البقرة، الآية 9]. فقرأها يخدعون بفتح الياء وإسكان الخاء وفتح الدال ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وخلف وأبو جعفر ويعقوب، وقرأها نافع وابن كثر وأبو عمر، ﴿ يُخَادِعُونَ ﴾ بضم الياء وفتح الخاء، وألف بعدها وكسر الدال واتفق كتاب المصاحف على كتابة وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً بالتاء المبسوطة، وقرأها بالإفراد عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب، وقرأها بالجمع كلمات نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر، وأبو جعفر.
قال أبو حيان في البحر المحيط: في ﴿ هَذَانِ ﴾ رأيت في مصحف الإمام مصحف عثمان، هذان ليس فيها ألف، وقد رسمت بغير ألف ليحتمل رسم المصحف قراءتي الألف والياء معاً، إن هذين، وإن هذان، وإن رسمت بالياء لفات ذلك ولم يحتمل رسم المصحف قراءة الألف.
إنه لا لزوم في الكتابة العربية أن توافق سورة الرسم، سورة النطق باللفظ، فإن " داود " يكتب بواو واحدة والنطق بواوين و" عمرو " يكتب بعد رائه واو ولا ينطق بها، ومن ثم لا يصح أن الصحابة أخطئوا حين زادوا مثلاً ياء في كلمة " بأيدي " في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ [سورة الذاريات، الآية 47]
لقد ذكرت في تبرير الاختلافات بين رسم المصحف والرسم الإملائي أسباب تستحق الاعتبار، وقد تحدثنا في حلقات ماضية عن تطوير الرسم الإملائي وأخذه عن الأنباط الذي يغايرون في رسومهم رسوم المنطوق للدلالات.
قال أبو داود: " والحذف من المصحف إنما وقع في الألف والياء والواو، لبقاء ما يدل عليهن، وكأنهن لم يحذفن لذلك إذ الفتحة قبل الألف تدل عليها، والضمة قبل الواو كذلك، والكسرة قبل الياء مثلهما، كذلك فإن الأحرف الثلاثة المذكورة لما كثر ورودها وجب اختصارها اصطلاحاً من الكاتبين ".
على ذلك لما رأوا حروف المد واللين الثلاثة المذكورة وازت الحروف الخمسة والعشرين، إن الاهتداء على تلاوة القرآن على حقه لا يكون إلا بموقف شأن كل علم نفيس يتحفظ عليه، وقد قيل إن الحكمة في الرسم إلا يعتمد القارئ على المصحف بل يأخذ القرآن من أفواه الرجال الآخذين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسند العالي.
وقيل إن تغيير كتابة المصحف يجهل الناس بأوليتهم وكيفية ابتداء كتابتهم وهذا في ميدان العلم خسران، ونحن مع تقدير الحجج هذه نقول: إن كتابة المصحف على هذا الرسم هو رسم إملائي نبطي، جاء بهذا الشكل كحكمة أرادها الله سبحانه في مجموع القراءات التي تبيح للقارئ أن يقرأ على أكثر من وجه، ومما يزيد أيضاً صعوبة التلقي من المصحف المكتوب وحده، أن ثمة كلمات رسمت في المصحف بشكل الجمع، مع أن القراء اختلفوا في إفرادها وجمعها.
أمثال الكلمات كلمات ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ﴾ [سورة الأنعام، الآية 125] إذ قرأها بالإفراد عاصم، وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف.
وفي سورة يونس الآية الثالثة والثلاثون، قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [سورة يونس، الآية 33] قرأها بالإفراد سوى نافع وابن عامر وأبي جعفر، وفي سورة غافر الآية السادسة ﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [سورة غافر، الآية 6] قرأها بالإفراد، عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وفي سورة يوسف الآية السابعة قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ﴾ [سورة يوسف، الآية 7] قرأها بالإفراد ابن كثير، وفي سورة يوسف أيضاً ﴿ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ﴾ [سورة يوسف، الآية 10].. ﴿ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ﴾ [سورة يوسف الآية 15] ، قرأها بالإفراد ما عدا نافعاً وأبا جعفر.
 
رحلة القرآن العظيم (10)

رأينا في حلقات ماضية دور الخطاطين في بلاد ما وراء النهر في تزيين المصحف الشريف، وكيف كانت هارات معقل الفن والتذهيب والتجليد؟ وكيف نشأ فيها ما يمكن أن نسميه فنون المصحف من خط وتذهيب وتجليد؟ وكانت العلوم الجديدة في هذا المجال قد برهنت على الوحدة الفنية والخطية التي ربطت أقطار الأمة الإسلامية وإتباع نفس القواعد والمدارس وإن شطت الديار وبعدت المسافات.
ولقد رأينا الخطوط اليابسة الكوفية وكيف تطورت في بلاد ما وراء النهر، وأصبحت بديعة الشكل رائعة المنظر بهية المعالم، وأطلق عليها اسم الخطوط المشرقية دون الدخول إلى جورها، وقد أشار " ابن النديم " في الفهرست إلى أن الإيرانيين حين أرادوا كتابة القرآن كان لهم خط يدعى " بالأصفهاني " وأخر يدعى " بقيرموز " أو فيرموز ويرى الباحثون المعاصرون أن قيرموز أو فيرموز معربة عن ديرموز وتعني السهل بالفارسية، وأنهم استولدوا منه عدد من الخطوط التي تصدرت صفحات القرآن العظيم بجملة أشكالها الفنية حتى أطلق عليها العلماء اسم الكوفي المشرقي.
إن المُسَلم به أن الخط الكوفي كان متداولاً في بلاد النهر منذ صدور الإسلام وحتى القرون الخمسة التي تلت بعد، وكانوا يكتبون بـ " القيرموز " القرآن ويزينون به الأبنية.
ويؤكد " هومايون فرخ " أن خط فيرموز من الخطوط التي راجت في عهد الساسانيين وظل معروفاً في الإسلام حيناً من الزمن، وقد دون الإيرانيون به نسخ القرآن العظيم، وهو نوع من الكوفي المتطور، ولقد وصلتنا مصاحف جميلة من هذه الفترة ومن الفترة الأولى من بلاد ما وراء النهر، وكلها تشهد على رفعة ذوق الفنانين في تسطيرهم وتذهبيهم لكتاب الله عز وجل، وانخرط الخطاطون المسلمون في المشرق بتحويل الخط اليابس إلى لين، وهجران اليابس من المصاحف.
وتبعهم في ذلك خطاطو ما وراء النهر، وابتكروا لنفسهم خطاً نسخي يختلف تماماً عن النسخ الذي تطور في البلاد العربية، فطمسوا حرف الواو وابتعدوا عن التطورات الجمالية التي حدثت على يد الشيخ " حمد الله والحافظ عثمان ".
وكونوا لأنفسهم مدرسة خاصة في فن نسخ المصاحف، ومما يثير العجب أن أهل المشرق لم يكتبوا المصحف الشريف بخطهم الاعتيادي الذي يطلقون عليه اسم " النستعليق " ونطلق عليه في بلادنا " الخط الفارسي " إلا بشكل نادر.
وقد وصلنا مصحف بهذا النوع من الخط وهو لخطاط شهير يلقب " بالذهبي قلم " والمصحف محفوظ في خزانة خرقة السعادة في مكتبة سراي " توب قابو " وهي خزانة الآثار النبوية، كتب هذا المصحف الشاه " محمود النيسابوري " وقد أخذ الخط عن خاله " عبد النيسابوري " ثم عن السلطان " علي المشهدي "، وكان كاتب " الشاه إسماعيل " ولازم أيام شبابه الشاه " طهما سيد " ثم انتقل لمشهد ليعمل هناك.
إن كتابة مصحف بخط " النستعليق " مخالف للخطوط التي كتبت منذ الخط الرابع، سواء العربية أم الفارسية.
إن المصحف كبير الحجم ولم يخرج عن قواعد التصميم العادي للمصاحف المعروفة في زخرفة سورة الفاتحة وسورة البقرة وأوائل سور وطرر الهوامش.
وقد زيل المصحف في آخره بعبارة " على يد العبد الضعيف المحتاج إلى رحمة الله الملك الغني شاه محمود النيسابوري زرين قلم في يوم الأربعاء، الرابع عشر من شهر محرم الحرام سنة خمس وأربعين وتسعمائة هجرية "..
ويمتاز المصحف باتساع كلماته وحروفه والمسافة بين الأسطر، وخط التعليق هو القلم الوحيد الذي تميل صواعده نحو اليمين، كما أنه هو الذي يرسم بالقلم لكثرة الأجزاء الدقيقة في ثناياه، فتكتب حروفه بطرف القلم، كما أن التباين في حروفه ووصلاته تضفي عليه جمالاً يتجلى في الليونة والتنغيم في حروفه التي تتراوح بين الصغيرة المتناهية في الصغر والكبيرة الطويلة كالاستمدادات، ويكسبه هذا الاختلاف روحاً خاصة تنم عن الذوق وسمو الإبداع، ويخلو هذا القلم من الشكل لكنه ورد في هذا المصحف مشكولاً، بقلم دقيق حفظاً له من اللحن ولعل أهل فارس رأوا فيه فناً لا يناسب المصحف فسايروا عامة المسلمين في كتابة مصاحفهم بالخطوط المتداولة.
لقد انقطع كثير من الخطاطين لكتابة المصاحف واختصوا بها لكثرة الطلب وعدم وجود مطابع ولثواب الله عز وجل، وكانت المصاحف المذهبة للسلاطين وكبار القوم مرتفعة الأجر إلى حد الخيال.
وكان السلاطين يطلبون من خطاطي عصرهم كتابة مصاحف ليوقفوها على المساجد الشهيرة أو يهدونها في المناسبات العزيزة.
ويصرفون عليها المبالغ الطائلة، حتى وصل ما صرفه الملك الناصر على كتابة المصحف الذي كتبه له وذهبه وجلده " محمد بن محمد الهمزاني " أكثر من ستة ألاف دينار ذهبي، وكان السلاطين يقربون كاتبها ويعظمونه ويغدقون عليه النعم، وكان ذلك مشجعاً ودافعاً للانقطاع إلى كتابة المصاحف.
وقد حكي عن " أبي حمدون الطبيب " قال: (شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي المتوفى سنة اثنين ومائتين قريباً من ألف مجلد عن أبي عمر بن العلاء خاصة، فيكون ذلك عشرة ألاف ورقة؛ لأن المجلد عشر ورقات).
وحدَّث أبو النصر قال: (حدثني أبو القاسم قال: سمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض من كان في صحبتي خمسة ألاف ورقة بخط علي بن مقلة، فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمة الخاصة عن ذلك فقال لي: كان أبو عبد الله منقطعاً إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن قيام، ويخط لهم الكتب والمصاحف).
ومن المصاحف التي تعد من التحف والنوادر العجيبة ما كتبه محمد روح اللاهوري حين كتب مصحفين، كلمة أولها حرف الألف، وكتب علي بن محمد مصحفاً في درج من الرق بقلم النسخ طوله سبعة أمتار، وعرضه ثمانية سنتيمترات تتخلله كتابات بيضاء بعضها بقلم الثلث والفارسي، وبعضها بالتعليق، وهو محلاً ومجدولاً بالذهب، وأوائل السور مكتوبة بالمداد الأحمر، كتب سنة أربعين وألف للهجرة ومحفوظ في دار الكتب المصرية بالقاهرة.
ويوجد في مكتبة الروضة المطهرة بالمدينة المنورة مصحف في ثلاثين ورقة في كل ورقة جزء من القرآن الكريم.
تناول علماؤنا الحديث عبر القرون عن القرآن العظيم وألفوا كتباً كثيرة في تاريخه منذ بدء الوحي وتنزل الآيات الأولى على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وحتى مماته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ولم تكن كتب التاريخ هذه ومن ثم كتب علوم القرآن إلا منهج بحث ورصد، سرد فيه العلماء الصورة المثلى والمعنوية للقرآن العظيم، وقليل منهم تعرض بعض عدة قرون للجانب الجمالي من حيث جمال المبنى لهذا الكتاب العظيم الذي تفرد به المسلمون عن باقي أصحاب الديانات بدقة ضبطه والحفاظ على مشافهته، ومن ثم كتابته في أساليب وطرق شتى.
ففي قمة جبل النور غار حراء نزلت أولى الآيات ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [سورة العلق، الآية 1 – 5].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف القراءة والكتابة، قال تعالى في سورة العنكبوت ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [سورة العنكبوت، الآية 48].
وتلقى النبي عليه الصلاة والسلام القرآن مشافهة من ملك الوحي جبريل..
﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [سورة القيامة،الآية 16، 17] .
نزل القرآن العظيم على مراحل واستغرق نزوله ثلاثة وعشرين سنة من بعثته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وحرص على حفظه وتدوينه واتخذ كتاباً تحت إشرافه ورقابته.
يقول الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه: " كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي علي، فإذا فرغت قال: اقرأه فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه ".
وكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في كل سنة مرة، وفي عام وفاته مرتين، وحفظ بعض أصحابه رضي الله عنهم شفاهاً منه..
يقول ابن مسعود: " حفظت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وسبعين سورة ".
لم يكن التدوين بشكل عام أمراً شائعاً زمن البعثة، فرسمت الحروف الأولى للقرآن العظيم بيد كتاب في مكة وكتاب من الأنصار في المدينة، حتى بلغ عددهم ثلاثة وأربعين كاتباً، وكان ألزمهم به وأخصهم، " معاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم جميعا ً ".
خطت الحروف الأولى ورسمت بالحبر على العظام والحجارة وسعف النخل وجلود الحيوانات والرقوق، وعلى ورق البردي وعى أشياء ومواد مختلفة وكتب بحرف يابس جاءوا به من بلاد الشام أثناء رحلة الشتاء والصيف، وكان للأنباط دور كبير في تطور بنيته وشكله، تولى النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب القرآن الكتاب بعد اكتماله طبقاً لما أخبر به الوحي، يقول عثمان بن أبي العاص: " كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال، أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية من هذا الموضع من هذه السورة: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [سورة النحل، الآية 90].. إلى آخرها.. "
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يملي القرآن على كتاب الوحي ويرشدهم إلى ترتيب الآيات والسور.
إن ترتيب السور على ما نراه اليوم وترتيب الآيات توقيف من الله عز وجل، بالرغم من أنه لم يجمع بين دفتي مصحف واحد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الزركشي: " إنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف ألا يفضي إلى تغييره في كل وقت؛ فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم، كان كل ما يكتب يوضع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسخ الكتاب لأنفسهم نسخة منه فتعاون الحفظة والكتاب على حفظه وعدم ضياعه أو تحريفه، مصداقاً لقوله تعالى، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [سورة الحجر، الآية 9]..
بعد غروب شمس النبوة لاقت خلافة " أبي بكر الصديق " مصاعب جمة، واستشهد سبعين حافظاً أثناء موقعة اليمامة في حروب الردة اقترح سيدنا عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر جمع القرآن، وشرح الله صدر أبي بكر وأسند المهمة كاتب الوحي زيد بن ثابت، الذي شهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخ زيد المصاحف في صحائف من الرق وربطها في خيط وأودعها بيت الخليفة عمر، ثم آلت إلى بيت أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
في زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع القرآن العظيم الجمع الثاني، بعد أن ألقى المهمة إلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وزيد بن ثابت، وقامت هذه اللجنة الرباعية بإخراج النص المخطوط لأول مرة معتمدة على المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة.
بعد سنة من العمل الجاد وأرسلت النسخ إلى الكوفة والبصرة والشام، واحتفظ الخليفة بنسخة، وتمر الأيام، ويدخل في الدين الجديد آلاف وآلاف من غير العرب اللذين لا يحسنون التكلم بالعربية، فتسرب اللحن وفشا الغلط في قراءة القرآن ؛ مما دفع " أبا الأسود الدؤلي " لشكل القرآن وإعرابه بطريقة النقط باللون الأحمر، فجعل النقطة الحمراء فوق الحرف للفتحة، وتحته للكسرة، وبين يدي الحرب للضمة، وأضيفت بعد ذلك النقط الصفراء والخضراء والبرتقالية، واللازاوردية لتدل على الهمز والتشديد والمدود، ولعبت الألوان بصورة نقاط للشكل والضبط فوق الحروف دوراً كبيراً في العناية برسط المصحف على مدى أربعة قرون، وكانت الغاية من ذلك ضبط القراءة حتى لا يخطئ قارئ القرآن في حرف صوتي، إلا أن الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء والجيم والحاء والخاء بقيت مشكلة قائمة عند الأعجمي، إذ كثر التصحيف والتحريف، فتصدى لحل لهذه المشكلة نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، بأمر من " الحجاج بن يوسف الثقفي "، ونقطت الحروف المتشابهة، وأمنت القراءة من التصحيف، كما جمع الحجاج فقهاء المسلمين وقرائهم وحفاظهم ومكثوا أربعة أشهر يصلون ليلهم بنهارهم حتى عدوا آيات القرآن العظيم وكلماته وحروفه، وقسموه إلى أجزاء وأحزاب وأرباع.
لم يكن المصحف الشريف يحمل رموزاً تشير إلى هذه التقسيمات الجديدة، وإنما كان مجرداً ليس فيه إلا الحرف، ثم استحب النساخ كتابة العناوين في رأس كل سورة، وحتى يميزوها عن جسم القرآن كي لا يعتقد الناس بأنها من القرآن، وكتبوها بالذهب وبلون مغاير وجعلوا لها خطاً مورقاً، كما وضعوا رموز الفاصلة عند رؤوس الآيات، فاستخدموا في البدء نقطة، ثم تطور لدائرة ثم لمجموعة من الدوائر على شكل مثلث، ثم تطور الشكل إلى دائرة زخرفية أدخلوا فيها حرفاً ليدل على رقم بطريقة حساب الجُمَّل.
استخدم المسلمون الأوائل حرف الهاء ضمن دائرة بعد كل خمس آيات للدلالة على الرقم خمسة، وسموا ذلك بالتخميس، ووضعوا عند رأس كل عشر آيات حرف ياء للدلالة على العشرة وسموا ذلك بالتعشير، ووضعوا حرف هاء مذهب عند كل آية فيها سجدة، ظل نقط أبي الأسود في شكل الحروف وضبطها متبعاً حتى ظهر الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري فابتكر أشكالاً جديدة ورموزاً وصوراً جعلها بدل نقط أبي الأسود الحمراء، وبدل النقاط الصفراء والخضراء وغيرها وأراح الناس من مشق الكتابة بالألوان، ورغم سهولة أشكال الخليل فقد بقي بعض الكتاب يستعملونها حتى نهاية القرن الخامس الهجري، لقد وضع الخليل ثماني علامات للرموز الصوتية أبدلها نبقط أبي الأسود وهي " الفتحة " التي رسمها ألفاً مبطوحة فوق الحرف، و" الخفضة " الكسرة ألفاً مبطوحة تحت الحرف، و" الضمة " واو صغيرة.
ووضع الخليل للتنوين العلامة ذاتها مكررة للضمة والفتحة والكسرة، كما رمز الفراهيدي برأس الحاء ليدل على السكون، وقد أخذه فعل خفيف، وقد يكون رأس جيم للدلالة على الجزم.
والميم أيضاً للسكون من فعل جزم، ورأس الشين للشدة من كلمة شديد، ورأس عين لهمزة القطع وحرف صاد لهمزة الوصل، وحرف ميم للمد، وابتكر النساخ علامة الميزان للحروف المهملة، ووضعوا حرف كاف صغير لحرف الكاف المفرد للتمييز بينه وبين اللام وتطورت هذه الأشكال حتى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، إن هذا الإصلاح في طريقة رسم الحروف ونطق الكلمات كان الدافع إليه الرغبة الصادقة في الإعانة على تلاوة صحيحة، وفهم لكتاب الله عز وجل، وهكذا تحددت معالم السورة للمصحف الشريف كما نعرفه اليوم، إن معظم المصاحف التي وصلتنا من الفترة الزمنية في القرون الهجرية الأولى مكتوبة على الرق، وقد استخدمه الخطاطون المسلمون لسهولة الكتابة عليه، ودوام بقاءه مدة طويلة من الزمن.
وكان الرق من السلع الهامة التي يتاجر بها الفنيقيون من بلاد الشام إلى جميع أنحاء الأرض، منذ أن وضع القرآن العظيم الجمع الأول وربطه زيد بخيط، وأطلق عليه الخليفة أبو بكر اسم المصحف، بدأ التطور في فن صناعة الكتاب يرقى رويداً رويداً، فقد كانت غلافات المصاحف أول الأمر تصنع من الخشب، وتغلف بالقماش والحرير، خالية من أية مسحة فنية أو زخرف، إلا أن الكاتب لم يلبث أن أظهر إبداعاته على السطح الخارجي للقرآن، فامتدت يده إلى مساحة لوح الخشب أو البردي ليطعمه بالعاج والعظم ثم بالأحجار الكريمة في خيال هندسي باهر، ولم يلبث أن كفته بالذهب والفضة.
لقد ولدت صناعة التجليد في أحضان المصحف الشريف، ويذكر ابن النديم في الفهرست أسماء لسبعة من المجلدين المشهورين، وعلى رأسهم " بن ابي الحريش " الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون، ويذكر المقدسي صاحب كتاب " أحسن التقاسيم " الذي كان مجلداً ماهراً أنه رحل لليمن وعلم أهلها الصنعة التي كان قد تعلمها من أهل الشام اللذين تفننوا وابتكروا صنع اللسان، لم يبلغ القرن الرابع الهجري مداه حتى كان تجليد المصاحف قد بلغ مبلغاً عظيماً من الإتقان والإحكام فازدان بزخارف لا تقل عن الزخارف الداخلية روعة وجمالاً.
وأدخل المسلمون لأول مرة في فن التجليد مادة " اللك " للحفاظ على الرسوم الملونة على سطح الغلاف أطول مدة ممكنة، ولتعطي الغلاف بريقاً ولمعاناً جميلاً، لم يكن المصحف الشريف خلال القرون الأولى، إلى جسماً لحرف مكتوب على الرق دون أن تكون عليه أية مسحة فنية وكان الصحابة رضي الله عنهم بداية يتحرجون من إدخال أي شيء على المصحف، وشيئاً فشيئاً تسللت الزخارف إلى المصاحف وحلت في الصفحات الأولى والأخيرة ووجدت في فواصل السور، وفي ونهايات الآيات ومواضع التخميس والتعشير والأجزاء والأحزاب.
ثم لم تلبث أن تجاوزت في القرن الخامس الهجري واتخذت شكل جداول وإطارات زخرفية تحيط بالمساحة المكتوبة من الصفحة، ويوجد في متاحف العالم مصاحف ترجع إلى القرون الأولى وفيها شتى ألوان الحلي الغنية بالزخارف المذهبة.
انتشر المصحف الشريف في أرجاء الأرض وكان الخطاطون والمذهبون قد برعوا في إتقان خطوطه وتذهيبه وإضفاء الحلة القشيبة على مظهره الداخلي والخارجي، وظلت الزخارف بالذهب واللون الأزرق توشح الصفحات وتكسوها مظهراً رائعاً، ولم يكتف المسلمون بذلك، بل ابتكروا فنوناً وحروفاً جديدة خدمة للقارئ والحافظ لكتاب الله، فصنعوا الرحلة كرسي المصحف، وابتكروا له شكلاً جميلاً وهو عبارة عن لوحين من الخشب يتادخلان من الوسط بطريقة التعشيق، وكأنهما كفان قد شبكت أصابعهما وزين الكرسي بزخارف هندسية عجيبة نجمية وهندسية ونباتية، ونجحوا نجاحاً منعدم النظير في حفر الزخارف بعدة طبقات بعضها فوق بعض، وطعموها بالعاج والصدف والقصدير والفضة والأبانوس.
ظلت المصاحف تكتب على الرق حتى ظهور الورق، وقد عرف الورق قديماً فاستعملوه في الكتابة إلا أنه لم ينتشر إلا بعد أن صنعوه بأيديهم، وقد أحدثت صناعته ثورة ثقافية نال منها المصحف الشريف الحظ الأكبر والأوفر، ورغم الأعداد الكبيرة التي كتبت في القرن الثاني والثالث الهجريين فإنه لم يصل سوى عدد قليل منها، ومنها مصحف " ابن البواب " من القرن الرابع الهجري، وتحتفظ به مكتبة " تشيستر بيتي " بدبلن بايرلندا.
إن ظهور الورق ساعد على تطور الكتابة والخط وكان لتطور الكتابة اللينة المذهل في الرسائل والدواوين كان له الفضل في ظهور خط نسخي شامي جميل، كتبت به المصاحف بعد أن غاب خط الكوفة الرصين، وكان " ياقوت المستعصمي " أحد الكتاب الذين طوروا في الخطوط اللينة وكتبوا المصاحف، وتبعه آخرون فسار المصحف يقف على قدر كبير من الإتقان والجمال.
وتضم متاحف العالم اليوم مجموعة كبيرة من المصاحف التي كتبت في القرون الخالية وفيها ما يدل على احترام وتقديس كلام الله عز وجل وإخراجه في أبهى زينة وأكمل منظر.
 
رحلة القرآن العظيم (11)

ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة، فهي أكبر شبه جزيرة في العالم، ويطلق عليها علماء العرب اسم جزيرة العرب، تحيط بها المياه من أطرافها الثلاثة، وقد قسم الإسلاميون جزيرة العرب على خمسة أقسام:
- الحجاز: والحجاز يمتد من أيلة العقبة إلى اليمن وسمي حجازًا لأنه سلسلة جبال تفصل تهامة وهي الأرض المنخفضة على طول البحر الأحمر عن نجد.
- وتهامة
- واليمن
- ونجد: وهو الجزء المرتفع الذي يمتد من جبال الحجاز ويسير شرقًا إلى صحراء البحرين وهو مرتفع فسيح فيه صحراوات وجبال.
- وأخيرًا العروض: وتتصل بالبحرين شرقًا وبالحجاز غربًا وسميت بالعروض لاعتراضها بين اليمن ونجد، وتسمى باليمامة أيضاً.
لقد تغلبت الصحراوية على شبه الجزيرة وظهر الجفاف لعوامل طبيعية وحوادث جيولوجية وبسبب الموقع الجغرافي، فكان ذلك كله سببًا في قلة نفوس جزيرة العرب في الماضي والحاضر، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضارية وحكومات مركزية، وفي سبب تفشي البداوة وغلبة الطبيعة الأعرابية على أهلها، وبروز روح الفردية وتقاتل القبائل بعضها مع بعض، لذلك انحصرت القبائل في الأماكن الممطورة والأماكن التي تفجرت فيها الينابيع، وصارت الحياة قاسية تمثلت في القبيلة التي هي الحكومة والقومية في نظر البدوي.
ومن ناحية أخرى كان العربي مخلصًا مطيعًا لقبيلته كريمًا في الضيافة يعشق الحرية ويتغنى بها، في تلك المواضع التي توافرت فيها المياه من مطر وعيون وآبار ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات، ونشأت مجتمعات لها طبيعة خاصة وشخصية مستقلة، متأثرة بطبيعة الجو وطبيعة الحرف والصناعات وطرق العيش التي يمارسها المجتمع.
ففي مكة مجتمع خاص له طابع مميز وكذلك لأهل الحيرة ولأهل يثرب وكان المجتمع اليمني من أغنى المجتمعات حضارة ورقيًا، واتفق الرواة وأهل الأخبار على تقسيم العرب لعرب بائدة وعاربة ومستعربة.
ومن حيث النسب لقحطانية في اليمن وعدنانية في الحجاز، ويقسمون العدنانيين لفرعين كبيرين هما ربيعة ومضر.
وقد امتازت الجزيرة العربية على سعتها وترامي أطرافها وتشتت قبائلها بوحدة اللغة، وهذا ما كان سببًا في تيسير مهمة الدعوة الإسلامية وسرعة انتشار الإسلام فيها وفهم لغة القرآن العظيم.
تبين من الآثار القديمة أن بلاد العرب كانت مأهولة منذ العصور البليوثية أي الحجرة المتقدمة، ومن أقدم الآثار التي عثر عليها آثار من أدوار العصر الحجري، وفي كتب أجوسوس فلافيوس الذي عاش بين سنة 37 و 100 للميلاد معلومات ثمينة وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، كما وردت في الكتب اليونانية واللاتينية أخبار كبيرة الخطورة، وفيها أسماء قبائل عربية كثيرة ومن أقدم من كتب عن العرب أخيلوس من خمسمائة وخمس وعشرين إلى أربعمائة وست وخمسين قبل الميلاد، وهيرودوت من أربعمائة وثمانين إلى أربعمائة وعشرين قبل الميلاد، وغيرهم كثير.
والصلات بين العرب والهند قديمة ووفيرة وتقوم على أساس التبادل التجاري والثقافي، لقد قصد سيدنا إبراهيم –عليه السلام- مكة وهي في وادي محصور بين جبال جرداء فرارًا من الوثنية ورغبة في تأسيس نقطة انطلاق لدعوة التوحيد، واشترك مع ابنه إسماعيل في بناء بيت الله، ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [البقرة: 127 : 128].
كما دعا إبراهيم ربه بعد بناء البيت فقال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ (35) ﴾ [الرعد: 35] كما قال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ﴾ [الرعد: 37].
وتحقق ما دعا به إبراهيم، وبارك الله في ذرية إسماعيل الذي صاهر قبيلة جرهم، حتى كان منه عدنان ومنه معدّ، ونبغ في أولاده مضر ونبغ من أولاد فهر بن مالك، وسمي أولاد فهر بن مالك بن النضر قريشًا وغلب الاسم فسميت القبيلة بقريش، وكانوا أصحاب سيادة وفصاحة اللغة ونصاعة البيان وكان من أولاد فهر قصي بن كلاب، ظل أمر مكة لجرهم حتى غلبهم خزاعة وكانت سدانة البيت فيهم، إلى أن عظم شأن قصي وانضمت له قريش وأجلوا خزاعة عن مكة وتم له أمر مكة وكان سيدًا مطاعًا إليه حجابة البيت وعنده مفاتيحه وتنبل في أولاد عبد مناف.
وكان هاشم أكبر أبناء عبد مناف وعنده السقاية والرفادة وهو والد عبد المطلب جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان بنو هاشم واسطة العقد في قريش يتصفون بعلو الهمة والبعد عن الظلم وينصرون الضعيف ويدعون إلى مكارم الأخلاق بالرغم من مسايرة قومهم في عقائد الجاهلية وعبادتها.
بقيت قريش متمسكة بدين إبراهيم وإسماعيل، متمسكة بالتوحيد، وهذا ما سمي بالحنيفية، حتى كان عمرو بن لُحِيّ الخزاعي الذي جلب بعض الأصنام من بلاد الشام بعد أن فُتِنَ بها، ونصبها حول الكعبة وأمر الناس بعبادتها.
إلى جانب عبادة الأصنام ظهرت في بلاد العرب عبادة النجوم والكواكب وخاصة في حران والبحرين والبادية، وانتشرت هذه العبادة في قبائل لخم وخزاعة وعُبدتْ الشمس في بلاد اليمن، قال تعالى: ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ ﴾ [النمل: 23: 24].
كما تسربت بعض فرق المجوسية الفارسية إلى بلاد العرب، يقول ابن قتيبة: وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة وحاجب كما أخذ بعض القرشيين الزندقة من الحيرة، وكان الأقرع بن حابس ممن دان بالمجوسية قبل إسلامه وتسربت إلى هجر من البحرين، ودخلت اليهودية بلاد العرب وخيبر ووادي قربى وفدك وتيماء بصفة خاصة عندما نزح اليهود إليها.
ووصلت اليمن ودان بها ذو نواس الملك الحميري وحاول حمل النصارى على اعتناقها وانتشرت كذلك في بني الحارس بن كعب وكندا وكنانة، ودخلت بعض القبائل العربية في المسيحية لقربها من مراكز الحضارة كالغساسنة والمناذرة.
ومن أشهر الأديرة في الحيرة دير هند ودير لجو ودير حارة مريم، وفي جنوب الجزيرة كنيسة ظفار وأخرى بعدن، ولنصارى نجران قصة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن القبائل التي دانت بالمسيحية بنو أسد بن عبد العزى واعتنقها امرؤ القيس من تميم وبنو تغلب من ربيعة وبعض قبائل قضاعة، وعدي بن حاتم الطائي، ومن أبرز الذين دانوا بالحنيفية دين إبراهيم زيد بن عمرو بن نفيل ويروى أن ورقة بن نوفل خرج معه يبحثان عن دين صحيح فتنصر ورقة وسار زيد على دين إبراهيم.
ومنهم قس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصلت ولبيد بن ربيعة وغيرهم كثير.
يظن كثير من الناس أن مكة كانت قرية صغيرة والحياة فيها بدائية وهي أشبه بمسكن للقبائل فيه مضارب شَعر وتسود فيها الخيام ومعاطن الإبل ومرابط الخيل والغنم ويتبلغ أهلها ببلغة العيش ويلبسون الخشن من اللباس لا يعرفون الأناقة ولين العيش.
وهذه الصورة لا تتفق مع الواقع التاريخي والمتناثر في بطون كتب التاريخ ودواوين الشعر من وصف مكة وأهلها خلال منتصف القرن السادس الميلادي.
والحق أنها انتقلت من منتصف القرن الخامس الميلادي من طور البداوة إلى طور الحضارة وكان ذلك على يد قُصيٍّ جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخامس، وكان عمرانها محصورًا في نطاق ضيق بين أخشبين هما جبل أبي قُبيس المشرق على الصفا وآخر يشرف على جهة قُعيقعان.
وكان لوجود البيت العتيق في هذا الوادي وما يتمتع به سكانه من شرف ومكانة وأمانة وطمأنينة سببًا في ازدياد العمران فحلت البيوت الحجرية والطينية، ونشأت مكة يحكمها القرشيون بما يملكون من حجابة وسقاية ورفادة.
وكانت لقريش رحلتان تجاريتان إحداهما للشام صيفًا وأخرى لليمن شتاء.
وأشهر الحج يعقدون فيها أسواقهم التجارية فكان منها سوق العطارين وسوق الفاكهة وسوق الرطب وأماكن لبيع الحنطة والسمن والعسل والحبوب، وأزقة للحذائين والحلاقين والحجامين.
وكانت اليمامة ريف مكة، ولأهلها منتجعات في الطائف، وكان سكان قريش يشتهرون بالأناقة في الملبس ويتجملون بالكسوة الفارهة، وكان تجار مكة ينشطون في إفريقية وآسيا ويحملون منها ما يستطرف ويستظرف فينقلون الصمغ والعاج والذهب وخشب الأبنوس ومن اليمن الجلود والبخور والثياب.
ومن العراق التوابل ومن حاصلات الهند الذهب والقصدير والأحجار الكريمة والعاج وخشب الصندل والتوابل والزعفران، من مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير.
وكانت من النساء تاجرات لهن نشاط في إرسال القوافل قال تعالى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ [النساء: 32]، لقد أثرى كثير من أبناء مكة فكانت قوافلهم تنوف على الألف جمل، وكانوا يتعاملون بالعملة الرومانية البيزنطية والإيرانية الساسانية.
كما استعملوا الموازين والمكاييل وعندهم علم بالحساب أقرهم عليه القرآن العظيم في ذكر السهام والفرائض، لقد اشتهرت بيوت وأسر مكة بالثراء وسعة المال ورقة العيش، يمتاز فيها بنو أمية وبنو مخزوم يشربون بآنية من ذهب وينفقون أموالهم في الترف ومجال اللهو وأندية الشراب، وعامة مجالس أشرافهم ينشد فيها الشعر ويقبل عليها كبار شعراء الجاهلية كـ لبيد بن ربيعة وغيره، وكانوا يحتقرون صناعات يستخدمون لها الموالي والأعاجم ويستعينون بعمال الروم والفرس لبناء دورهم وبهذا المركز الديني والمكانة الاقتصادية وقيادة النشاط التجاري والتقدم في المدنية والآداب أصبحت مكة كبرى مدن الجزيرة العربية وبدأت تنافس صنعاء اليمن في زعامة الجزيرة، بل إنها تفوقت عليها بعدما استولت الحبشة على اليمن وتملك الفرس في منتصف القرن السادس الميلادي وفقدت مملكة الحيرة ومملكة غسان الشيء الكثير من العظمة والأبهة وهكذا غدت مكة عاصمة جزيرة العرب الروحية والاجتماعية من غير منافس.
حل القرن السادس الميلادي والحرب قائمة بين نصارى الشام والدولة الرومانية ونصارى مصر لاختلافهم حول طبيعة السيد المسيح -عليه السلام- في الدولة الرومانية الشرقية ساءت أحوال وقامت فتن وثورات وهلك عام خمسمائة واثنين وثلاثين للميلاد في القسطنطينية وحدها ثلاثون ألف شخص.
وفي مصر البيزنطية ساد الاضطهاد الديني والاستبداد السياسي والبؤس والفقر ولم ينقذهم من ذلك إلا المسلمون كما جاء في كتابة غوستاف لوبون، وفي سورية البيزنطية سادت المظالم إلى حد كبير اضطر كثير من السوريين لبيع أبنائهم لوفاء ديونهم، وفي أوربا والغرب كانت الحروب الدامية من أجل فلسفات لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي بلاد فارس إيران المجوسية فقد كانت الزرادشتية حربًا على العقائد القديمة وظهرت فرق مجوسية عبدة النار.
ولما غزا الإسكندر المقدوني إيران في القرن الرابع قبل الميلاد اختفت الزرادشتية ولم تظهر إلا بعد خمسة قرون، وفي القرن الثالث قبل الميلاد ظهر ماني بمذهبه المزيج، وقتله الملك بهران، وفي الصين كانت ديانة لاتسو وكونفوشيوس والبوذية وعبادة أرواح الآباء وتسربت لمنهج الحياة الأوهام وعبادة السحر، ثم ما لبثت أن قفلت بعد أن سادت ألف سنة.
اللغة العربية من أغنى اللغات وأعرقها وأخلدها وأعذبها منطقًا وأسلسها أسلوبًا وأغزرها مادة.
اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية إلا أنها تمتاز عنهن جميعاً بأنها أقرب إلى السامية الأم، ويعود ذلك إلى أنها أحدث اللغات انفصالاً وإلى أنها كانت بعيدة عن مؤثرات الامتزاج والاختلاط بسبب هذا السياج الشائك المحرق الذي ضربته الصحارى والبحار من حول الجزيرة العربية، فامتنعت على المغيرين والغازين ومنعت العرب من الامتزاج العميق.
لقد امتازت اللغة العربية بأنها أرقى اللغات السامية وأفضلها، فقد اقتبست من أخواتها الساميات أفضل ما فيها من الألفاظ والمصطلحات وأخذت خير الخصائص والصفات فأصبحت لغة خصبة راقية، وكان لها من عوامل النمو ودواعي البقاء والرقي ما قلما يتهيأ لغير، وذلك لما فيها من اختلاف طرق الدلالة وغلبة التصريف والاشتقاق والنحت والقلب والإبدال والتعريب، وورود القرآن العظيم بلسانها، وما رواه لنا منها أئمة اللغة وجاء به القرآن العظيم والحديث النبوي هو نتيجة امتزاج لغات الشعوب التي سكنت الجزيرة العربية.
ولا يعلم بالضبط متى كان الوقت والزمن التي نضجت به واكتملت وأصبحت لغة السحر والبيان، ولكننا نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- قد أحاطت عنايته بها فجعلها لسان رسالته، ولغة قرآنه وكان لذلك من الأثر الجليل الخطير فوق ما نتخيل ونتصور.
فلم يكتف القرآن أن كان في صدر الإسلام سبيلاً لوحدتها، وطريقًا لصفائها وعاملاً أقوى في لم شعثها وإنما كان فوق ذلك الولي الأمين وكان من أثر القرآن العظيم في اللغة العربية أن ساعد على مد نفوذها وانتشار رقعتها فحملها معه إلى كل قطر ودخل بها كل بلد وأتاح لها الأجواء الواسعة والعوالم الجديدة ومكن لها أن تتفاعل مع اللغات الأخرى فازدادت ثروة وغنى.
العربية هي لسان القبائل التي تمتد على رقعة شبه جزيرة العرب، ولكل قبيلة لهجة خاصة بها إلا أن أرقى هذه اللهجات وأعذبها هي لهجة قريش مع أن لكل قبيلة هِنَةً أو أكثر.
والقبائل هي قضاعة وقبائل اليمن وحمير وهذيل وتميم وأسد وربيعة وكلب وشيحر وعمان وطئ وسعد والأجد وقيس والأنصار وغيرهم.
لقد استعمل العرب لغتهم في جزيرتهم لأغراض الحياة البدوية ووصف مرافقها من حل وترحال ونتاج حيوان وانتجاع كلأ واستدرار غيث وفي إثارة المنازعات والمشاحنات من إدراك الثأر والتفاخر بالانتصار والتباهي بكرم الأصل والنجار وفي شرح أحوال المشاهدات والإخبار عن الوقائع والقصص وغير ذلك مما يلائم بيئتهم ويناسب طباعهم، ولغة التخاطب عند العرب بعد أن توحدت لهجاتها هي اللغة المستعملة في الخطابة والشعر والكتابة.
لقد كان الشاعر لسان القبيلة، عنها يدافع ومن أجلها يقول الشعر ويخوض الخصومات، وهو أحد أعضاء الوفود، ومنزلة الشاعر من أرفع المنازل في القبيلة والأخبار تدل على ذلك، ولم يكن الشعر مظهرًا فنيًا فحسب وإنما كان المجتمع يحس أن وراء الشعر وشعره قوة جذب خاصة لا يتمتع بها الأفراد العاديون في القبيلة.
وللشعر قوة لا يمكن الوقوف عليها بشكل واضح وإنما يمكن تمثلها حين نذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُميَ بأنه كاهن وساحر وشاعر، وبذلك رُميَ القرآن العظيم أيضاً فكأنما كان وراء هذه الكلمات إشارة إلى بعض هذه القوى الخفية والتي لم يستطع العربي إدراكها ولذلك جاء القرآن العظيم بلغة وكلام ظن فيها العرب السحر لما فيه من إعجاز وسحر بيان، وكذلك كانت الدعوة الإسلامية المتمثلة في القرآن العظيم المنعطف الأكبر في حياة العرب لقد كان العرب في جاهليتهم أممًا بدوية يعقدون الأسواق التجارية وفيها اللغة والجماعة والإذعان للأشراف والفصحاء والنبلاء من قريش وتميم وغيرهم.
وهذا ما هيأهم ليجتمعوا تحت لواء واحد ويتفاهموا بلسان واحد إن شيوع اللهجة القرشية واندماج سائر اللهجات العربية فيها بتأثير الأسواق والحج جعل القرآن بلغتهم والنبي فيهم وانتشار الدين على أيديهم.
لقد نزل القرآن العظيم: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ﴾ [هود: 1] فيه آيات بينات ودلائل واضحات وأخبار صادقة ومواعظ وآداب وشرائع وأساليب، ﴿ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ﴾ [فصلت: 42].
وكان له الأثر البين في توحيد اللغة ونشرها وترقيتها من حيث أغراضها ومعانيها وألفاظها وأساليبها، وقد أثر القرآن العظيم في اللغة تأثيرًا لم يكن لكتاب ذلك على مر التاريخ، لقد أصبحت اللغة بفضل القرآن العظيم حية خالدة من بين اللغات القديمة التي انطمست آثارها وصارت في عداد اللغات التاريخية الأثرية.
كما أن القرآن العظيم قد أحدث فيها علومًا جمة لم تكن لولاه ولم تكن لتخطر على قلبه وهي علوم اللغة والنحو والصرف والاشتقاق والمعاني والبديع والبيان والأدب والرسم والقراءات والتفسير والأصول والتوحيد والفقه.
وطبيعة لغة القرآن هي من النثر الذي لم يجرِ على مألوف العرب في النثر والسجع، بل هو آيات وفواصل فيه الذوق السليم بانتهاء الكلام الذي يضم جوامع الكلم.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلو لنفسه في غار حراء وفي يوم الإثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: ( فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني، -أي ضمني وعصرني - حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ﴾ حتى بلغ ﴿ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة مالي وأخبرها الخبر قال: قد خشيت على نفسي فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها وكان امرأً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً فقالت له خديجة: اسمع من ابن أخيك فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما رأى فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني كنت فيها جذعًا أكون حيًا حين يخرجك قومك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أومخرجي هم ؟ قال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي).
إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، إذ تلقى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- القرآن من جبريل -عليه السلام- وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، إن التحليلات التي قدمها المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين لظاهرة الوحي متناقضة لا يمكن الوقوف عندها إذ إنهم لم يقدموا التفسيرات الصحيحة وإنما قدموا الاتهامات القديمة التي سبق أن قالها عرب الجاهلة في مكة عند نزول الإسلام مما رده القرآن.
قال تعالى يحكي تلك الاتهامات: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [النحل: 103] وقال: ﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ [الفرقان: 4] وفي القرن العشرين يقول المستشرقون: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تعلم من ورقة بن نوفل ومرة يقولون: من بحيرى الراهب وأحياناً يرددون أنه تعلم من يهود مكة ونحن نعلم أن مكة لم يكن فيها يهود، وأن لقاءه ببحيرى لو ثبت لا يعود الساعة أو الساعتين وهو غلام في الثانية عشرة من عمره وأن التوراة والإنجيل لم يترجما إلى العربية إلى بعد عدة قرون.
إن التشابه بين القصص في القرآن والتوراة والإنجيل يرجع إلى وحدة المصدر الإلهي، بالرغم من أهواء بعض الدارسين الذين يقولون بأن القرآن قد اقتبس قصصه من التوراة والإنجيل، أما قصة بحيرى فهي أن أبا طالب عم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد اصطحبه في سفرة تجارية إلى الشام وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صغيراً لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره على اختلاف الروايات وقد دعا راهب يدعى بحيرى في مدينة بصرى رجال القافلة القرشية إلى طعام، حيث تعرف على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من خلال صفاته وأحواله فعرف أنه يتيم وأنه يحمل خاتم النبوة بين كتفيه ورأى الغمامة تظله من الشمس وفيء الشجر يميل عليه عندما ينام إليها.
وتختم الرواية القصة بتحذير الراهب لأبي طالب عم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من اليهود والروم.
لقد حاول بعض المستشرقين أن يبني على هذه القصة اتهامات فيها مجازفة علمية حين زعموا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تلقى علم التوراة عن بحيرى، فكيف يكون ذلك وهو لم يلتق به إلا في ساعة طعام ولم تكن التوراة قد نقلت إلى العربية وما بين بعثته -صلى الله عليه وسلم- ولقاءه ببحيرى أكثر من ثمانية وعشرين عاماً؟!!!
بالإضافة إلى أن المصادر لا تكاد تتفق على شيء بشأنه، وهي متضاربة في اسمه، فمرة هو جرجس وأخرى جورجوس ومرة أنه مشتق من الآرامية وأخرى من السريانية ومرة لعبد القيس ومرة هو نصراني وأخرى يهودي والأخبار متضاربة في هذه الرواية التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن هناك تلفيقًا وتطويرًا حولها لا يمكن أن يطمئن له الإنسان إن أخضعه للبحث والدراسة.
إن القرآن العظيم هو أساس الإسلام وكتاب العربية الأول والأكبر وعليه يتوقف دين المسلمين ودنياهم وقد عظم الله -سبحانه وتعالى- حال القرآن: ﴿ تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4) ﴾ [طه: 4]، وهو يعرض على الناس أحوال الأمم والفرق التي غبرت، وهو من الناحية الموضوعية يحرر الإنسان من ذل العبودية والخضوع للفرد إلى عبودية الله الواحد الجبار.
ولا ينافر العلم ولا يخاصمه ويعلي سلطان العقل ويحفز الناس للنظر والتفكير ليحفظهم من مزالق الخرافات والأوهام ويعتقهم من الجمود والرق، ويبث فيهم الشعور بالكرامة، وهو أطول الكتب السماوية التي تقدمت قال تعالى : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) ﴾ [الزخرف: 4].
 
رحلة القرآن العظيم (12)

بزغت شمس الإسلام، وكان بزوغها إيذانًا بنهضة كتابية عظيمة تمثلت في حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعلم الصحابة الكتابة وتدوين القرآن العظيم منذ فجر البعثة النبوية، ولم تكن الكتابة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- منتشرة بين القبائل العربية وناضجة متطورة، وإنما كانت موجودة في الحواضر والمدن، وفيمن يسوس القوافل التجارية من القبائل كقبيلة قريش وبهذا يقول ابن فارس: " فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرًا ووبرًا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها وما العرب في قديم الزمان إلا كـ نحن اليوم فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة".
وتشير الرواية العربية أيضاً إلى ممارسات كتابية متعددة سواء في مدن الحجاز أو في الحواضر العربية في أطراف الشمال، ففي مكة حررت بعض العهود والمحالفات وفي أطراف الجزيرة العربية كانت الكتابة في إمارة المناذرة في الحيرة منتشرة وما قصة الشاعرين الملتمس وطرفة وكتاب ملك الحيرة للبحرين إلا دليل على ذيوع الكتابة في الحيرة والأنبار والبحرين.
وفي أطراف الشام كانت الكتب في أولاد جفنة الغساسنة وعمال قيصر معروفة.
وكذلك كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل أيلة وتيماء وجرباء وأذرح، وإلى ملوك حمير وإلى غيرهم وهذا كله يعطينا صورة واضحة على أن الكتابة في بلاد العرب ذائعة منتشرة بالرغم من قلتها لا من بداوتها.
إن أصل الكتابة العربية التي دُوِّنَ بها القرآن العظيم قد اختلف فيه الناس إلى عدة مذاهب، فمنهم من أوقفه إلى الله سبحانه وتعالى، ومنهم من نسبه لآدم وإلى شيث واعتبر "أبجد هوز حطي كلمن" أسماء قوم وضعوا العربية، ومنهم من سماه الجزم لأنه اقتطع من المسند الحميري، ومنهم من يرى انتقاله من اليمن للحيرة ثم إلى الطائف فقريش.
إن هذه الآراء لم تصمد أمام الدراسات البليوجرافية الحديثة التي نسختها، ومن ثم بينت بالبحث أن الكتابة العربية مشتقة من الكتابة الأنباطية وهي بدورها مشتقة من الآرامية.
إن الأبجدية العربية تشارك كثيرًا من الأبجديات السامية في ترتيب الحروف، وهناك دلائل تشير إلى أن العرب كانوا يسيرون على نهج أبجد هوز في الترتيب واستخدموها في أشعارهم وكذلك استخدموها قيمًا عددية في الحساب، وأما ترتيب الحروف العادي المألوف المتبع في زماننا الحاضر فهو ترتيب متأخر حدث في الإسلام ولذلك نجد أن الحروف الستة التي انفردت بها العربية عن أخواتها الساميات وسميت بالروادف وضعت في نهاية سلسلة أبجد، وهذا دليل على الرباط الذي يربط الكتابة العربية بالخطوط السامية الأخرى.
إن كثرة الكتب التي سطرها كتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى الملوك والأمراء والوفود تثير الانتباه وتوضح بما لا شك فيه ذيوع وانتشار الكتابة العربية.
فقد ذكر ابن سعد أكثر من مائة وعشرة كتب، وذكر الدكتور محمد حميد الله في كتابه مجموعة الوثائق السياسية مائتين وستة وأربعين كتابًا ورسالة ترجع للعهد النبوي.
وكل هذا جزء يسير مما روي في أمر الكتابة، ويقال إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يحتفظ بصندوق مليء بالعهود والمواثيق وقد احترقت سنة اثنتين وثمانين للهجرة.
ويبدو أن عامل التلف الذي أصاب تلك الوثائق يوضح لنا ندرتها وعدم وصولها إلينا، ويكفي أن نأخذ فكرة عن الكتابة مما وصل من نقود العصور الإسلامية لنتبين وضوح تطور الحرف الذي سار على هدي كتابة القرآن والتي تمت في مكة المكرمة وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم –.
يقسم العلماء الأصوات اللغوية إلى قسمين: أصوات صامتة وأخرى متحركة وكان نظام الكتابة عند الفينيقيين يتكون من اثنين وعشرين رمزًا تكتب منفصلة وتشير إلى الصوامت دون الإشارة إلى صوت حركي قصير أو طويل واستخدمت الفينيقية اللغة الآرامية ومع مرور الزمن ظهرت الحاجة لتمثيل الحركات، وتمكن نساخ الآرامية في القرن التاسع والثامن قبل الميلاد استخدام رمزي الياء والواو الصامتين، وتطورت الآرامية خلال عدة قرون دون أن تخطو في تمثيل الحركات، وعندما استخدم الأنباط الآرامية ورثوا النظام الصامتي مع الضمة والكسرة بالواو والياء وهذا ما يشير إليه نقش النمارة التي وردت فيه الكلمات: أبوجي أبوها مقيم مقيم وألول أيلول. وفي نقش أم الجمال جزيمة وتنوخ وبنيه وروم وكل هذه الكلمات تشير إلى استخدام رمزي الواو والياء الصامتين للدلالة على الكسرة والضمة.
ونجد هذا أيضاً في جميع النقوش المكتشفة في بلاد الشام وفي ذلك دليل للرسم الإملائي القرآني الذي ورثته الكتابة الأنباطية عن الآرامية، وأما رمز الفتحة الطويلة فإن الكتابة الآرامية لم توفق كما هي في الضمة والكسرة لكن الكتابة الأنباطية استطاعت أن تستخدم رمز الألف للدلالة على الفتحة الطويلة في آخر الكلمات دون وسطها كحارثة ومالك وسلام ونزار ونجران وغير ذلك كما في النقوش.
وبذلك أخذت الكتابة العربية عن الأنباطية رموز تمثيل الحركات باستخدام رموز الصوامت الألف والواو والياء، نلاحظ ظاهرة أخرى في النقوش النبطية وهي ظاهرة كتابة التاء المبسوطة في حارثة وجزيمة وهي تاء تأنيث مما يؤكد ارتباط الكتابة العربية الوثيق بالأنباطية.
نتيجة لهذا الارتباط بين الكتابة العربية والكتابات السامية فقد حملت الكتابة العربية كثيرًا من ميزات وخصائص الكتابات السامية عامة والنبطية خاصة.
فهي تستعمل رمزًا واحدًا لعدة أصوات مختلفة، وقد ظل هذا الحال في الرسم ساريًا حتى منتصف القرن الهجري الأول حين استخدمت النقط للتمييز بين الرمز المتفقة في الرسم القرآني.
كان القرآن العظيم أهم شيء حمله المسلمون إلى البلاد التي وصلت إليها حركة الفتوح، وكانت تعلم القرآن وتلاوته أهم ما يشغل بال الداخلين في الدين الجديد فظهرت لذلك في الأمصار الإسلامية مدارس لتعليم القرآن وقراءته وازدادت حركة نسخ المصاحف ومرت سنوات والمصحف آخذ في تحسين الصورة الخارجية للكتابة العربية والرسم الإملائي، وكما اشتهر آمة بالإقراء في الأمصار كذلك كان من وجه عنايته للكتابة والرسم وضبط المصحف على ما جاء في المصحف الإمام.
وهكذا وصلتنا المصاحف المنسوخة من الأمهات كما هي في طريقة رسم الكلمات، وكان إمام الرسم الإملائي والكتابة في المدينة المنورة هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم المتوفى سنة تسع وستين ومائة هجرية وقد نقل عنه تلامذته ما رواه في رسم المصحف وكتبوه كما أشار.
وفي البصرة كان عاصم بن أبي الصباح الجحدري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومائة هجرية، وفي الكوفة حمزة بن حبيب الزيات، وفي دمشق الشام كان أبو الدرداء الصحابي الجليل، وهؤلاء الأئمة هم عماد الرسم في كلمات المصحف العظيم.
لقد غَفِلَ بعض المستشرقين الذين تعرضوا لدراسة تاريخ القرآن العظيم عن حقيقة هامة حين درسوا مظاهر الكتابة هي أن القرآن العظيم لم ينزل كتابًا مخطوطا وإنما أنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- مشافهة، فكان يتلوه على الناس من حفظه لا من كتاب وهم يسمعونه ويحفظونه ولم تكن الكتابة هي الوسيلة في نشر القرآن وتعليمه رغم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرص منذ البداية على كتابته وتدوينه، وهو حين أراد أن يعلم أهل المدينة القرآن قبل الهجرة لم يعطهم مصحفًا مخطوطًا يقرؤونه وإنما أرسل معهم مقرئًا يقرأ القرآن فيسمعونه، وحين طلب يزيد بن أبي سفيان من الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من يعينه على تعليم أهل الشام القرآن لم يرسل إليه عمر المصاحف مخطوطة يقرؤون فيها وإنما أرسل ثلاثة من كبار الصحابة.
والقراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، لقد غَفِلَ هؤلاء المستشرقون عن ذلك فظن بعضهم أن كثيرًا من القراءات جاءت نتيجة الرسم الإملائي العثماني وذلك لتجرده عن علامات الحركات وتمييز الحروف المتشابهة.
نشأت الدراسات العربية بفروعها المختلفة في أحضان القرآن العظيم، فكان المحور الذي دارت حوله الدراسات سواء التفسير منها أو ما يتعلق باللفظ وقامت دراسات لفهم مصدر التشريع والرسم الإملائي وكانت مظاهر أثر الإسلام على الكتابة العربية جليلة عظيمة نقلتها من كتابة محصورة في المعاملات التجارية لبضع جماعات من العرب إلى كتابة عالمية تخدم حاجات الدولة المترامية الأطراف وأصبحت خط أقوام انصهروا فيها لأنها كتابة القرآن واستبدلوها بكتاباتهم وخطوطهم وأصبح الخط العربي السيد المتربع على عرش الخطوط واللغات.
إن الرسم العثماني في الكتابة العربية يضع أمامنا النموذج الصادق لحال الكتابة والخط العربي في النصف الأول من القرن الهجري الأول، حين كان الناس لا يحسون بالفرق بين كتابتهم وما يجدونه في المصحف الشريف وكان أكثر الصحابة -رضوان الله عليهم - ومن وافقهم من التابعين وأتباعهم يوافقون الرسم العثماني المصحفي في جميع ما يكتبون ولو لم يكن قرآنًا ولا حديثًا.
واستمر ذلك حتى ظهر علماء البصرة والكوفة وأسسوا لفن الكتابة والخط ضوابط وروابط بنوها على أقيستهم النحوية وأصولهم الصرفية، وسموها علم الخط القياسي أو الاصطلاحي، وسموا رسم المصحف بالخط المتبع، وإن أكثر الظواهر الكتابية التي تظهر في الرسم العثماني مرسومة على قاعدتين قد مالت إلى التوحد.
وكان علماء العربية يرعون هذا الاتجاه ويضعون له القواعد والضوابط التي توضحه وتيسره.
إن ذلك الاتجاه أثر في ناحيتين واحدة في ظهور الكتب والرسائل التي توضح القواعد المتطورة لرسم الكلمات، والأخرى تصف كيفية رسم الكلمات في المصاحف كي يحافظ الناس في كتابتهم للمصاحف على صورة كتابة المدينة المنورة.
وقد ظهرت حركة التأليف في هذا الشأن منذ مطلع القرن الهجري الثاني ولعل التأليف في الرسم المصحفي سابق للتأليف في موضوع الإملاء يقول المستشرق بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا يؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت العربية منذ زمن طويل مكانة رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطق بها شعوب إسلامية".
القرآن ولغته يصنعان وحدة وثيقة ممتدة هي وحدة الفكر والعقل والمشاعر بين مئات الملايين من المسلمين، لا في نطاق محلي أو قومي فحسب، ولكن في مختلف أرجاء الأرض، والحق أن القرآن ولغته يمكنان كل منهما للآخر، فهو يهذب العربية ألفاظاً وأغراضاً وعبارات وأفكاراً ويقوي سلطانها منطوقة ومكتوبة.
لقد وصل الخط العربي بفضل القرآن إلى أمم كثيرة فاستخدمته ونبذت حرفها، كما جرى في بلاد الفرس وأفغانستان وفي إفريقية في لغاتها البربرية والنوبية والسواحلية والحوسية والملجاشية والحبشية، وفي لغات الأتراك من عثمانية وتترية وقرمية وداغستانية، وفي الأردية الهندية والباكستانية والكشميرية، هذا هو القرآن قال تعالى: ﴿ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) ﴾ [النحل: 103].
اختار الله - سبحانه وتعالى- لكتابه أسماءً لم تكن على مألوف العرب ولم تكن لتجري على ألسنتهم جملة وتفصيلاً وحملت تلك الأسماء جملة من أسرار التسمية وموارد الاشتقاق.
ولقد اشتهر من الأسماء التي اختارها - جل شأنه- الكتاب والقرآن وفي تسميته بالكتاب تنويه إلى جمعه في السطور، فالكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ، وفي تسميته بالقرآن إيماءة إلى حفظه في الصدور فالقرآن مصدر القراءة وفي القراءة استذكار.
وهذا الوحي العربي قد كُتب له من العناية والحرص ما جعله في مأمن وحزر ونجوى من عبث العابثين وتلاعب المحرفين، ولم ينقل كغيره من الكتب بالكتابة وحدها، ولا بالحفظ وحده بل وافقت كتابته تواتر إسناده، لقد وردت كلمة الكتاب في كلام الله - سبحانه وتعالى- في قرآنه العظيم مائتين وثلاثين مرة، قال تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [آل عمران: 3] وقال: ﴿ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113] ووردت كلمة القرآن في كلامه - سبحانه وتعالى- سبعين مرة قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) ﴾ [النمل: 6] وقال أيضاً ﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) ﴾ [الإسراء: 78]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) ﴾ [الجن: 1].
إن كلمتي الكتاب والقرآن تعودان إلى أصل آرامي فالكتابة في الآرامية بمعنى رسم الحروف والقراءة بمعنى التلاوة وهذا يدل على امتياز الوحي بازدواجية الكتابة والقراءة في حفظ كلام الله - سبحانه وتعالى- المنقوش في السطور المحفوظ المجموع في الصدور.
لقد غلب لفظ القرآن على الكتاب وغيره من فرقان وذكر وتنزيل، وما ورد عن الزركشي في تعداد أسماء القرآن إذ بلغت خمسة وخمسين اسمًا لأن كلمة القرآن ٍأصبحت علمًا شخصيًا للكتاب العظيم.
ولابد أن نقف عندها لنعرف مصدر اشتقاقها ونردها إلى اللغة السامية الأم ونطلع على الألفاظ المشابهة لذات المعنى.
لقد ذهب العلماء في لفظ القرآن مذاهب شتى، فبعضهم يراه مهموزًا وبعضهم غير مهموز، كالشافعي والفراء والأشعري، فالقرآن عند الشافعي لم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم خاص للقرآن مثل التوراة والإنجيل.
وعند الفراء مشتق من القرائن جمع قرينة، لآن آياته يشبه بعضها بعضاً، وعند الأشعري مشتق من قرن الشيء بالشيء إذا ضمه، لأن السور والآيات يضم بعضها بعضًا.
وممن رأى أن لفظ القرآن مهموز الزجاج واللحياني وجماعة غيرهم.
يقول الزجاج: لفظ القرآن مهموز على وزن فُعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع.
ويقول اللحياني: إنه مصدر مهموز بوزن الغفران مشتق من قرأ بمعنى تلا، ورأي اللحياني هو الصائب فالقرآن هو مصدر القراءة قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ﴾ [القيامة: 17: 18].
ولقد عرف العرب لفظ " قرأ " ولكنهم استخدموه بغير معنى التلاوة، فقولهم الناقة لم تقرأ أي لم تحمل ولم تلد ولداً، وأما " قرأ " بمعنى تلا فقد أخذها عرب الجزيرة عن الآرامية وتداولوها، والآرامية تركت في العربية آثارًا وألفاظًا لا تنكر، لقد كانت الآرامية في الألف الأول قبل ميلاد السيد المسيح لغة التجارة والدبلوماسية وكان للآراميين دور فريد في الثقافة في بلاد الشرق القديم ولغتهم أوسع اللغات انتشارًا، وقد أصبح لها مع الزمن مجموعة من اللهجات منها الإمبراطورية الدولية التي نشأت في الإمبراطورية الآشورية ثم البابلية الجديدة الكلدانية والفارسية، وآرامية العهد القديم في التوراة والآرامية الفلسطينية المسيحية والآرامية السامرية والآرامية البابلية التي كتب بها التلمود البابلي.
والآرامية النبطية والآرامية التدمرية وآرامية كتابات الحضر، وعبر الآراميين أيضاً انتشرت كتابات الأبجدية الفينيقية الكنعانية وفي الإمبراطورية الشرقية كانت الآرامية بجانب اليونانية وفي بلاد فارس كانت الآرامية اللغة الرسمية في العهد الإخميني، وفي العصر الساساني استعار الفرس الكتابة الآرامية لكتابة لسانهم البهلوي، وكانوا يكتبون الكلمات بالآرامية ويلفظونها بالفارسية ولم تزل الآرامية حية حتى اليوم وهي السريانية العامية وهي غير مكتوبة ويتكلمها سكان قرى معلولة وجبعدين ونجع قرب مدينة دمشق.
لقد قدم الآرميين إلى سورية من الجزيرة العربية حوالي الألف الثاني قبل الميلاد واستقروا فيما بين دمشق وجبال توروس، وأسسوا عددًا من الممالك منها مملكة دمشق وهي أقوى الممالك، ومملكة سوبا في البقاع ومملكة حماة وغيرها.
إن ظهور الآراميين على مسرح التاريخ قبل الإسلام كان له الأثر الأكبر في توحيد المنطقة العربية حضاريًا لغة وفنًّا وفكرًا ولم يدرس تاريخهم حتى يومنا هذا من خلال الوثائق، والوثائق توضح الجوانب المظلمة من تاريخنا الحضري الذي سبق الإسلام.
وإن معظم من كتب وأرخ للآراميين اعتمد في كتابته على مصدرين رئيسيين هما التوراة والمصادر الأشورية وكتاب التوراة والأشوريون هم ألد أعداء الأراميين إن اعتماد التوراة مصدرًا تاريخيًا سليمًا هو من أخطر المخاطر فأحداثه دونت بعد زمن وقوعها وفي وقت متأخر جدًّا، وما ورد فيه من نصوص هو وصف لجوانب عدة من تراث منطقتنا العربية قبل الميلاد، وهو جزء من تراثنا القديم فلابد من التمحيص والتدقيق فيما ورد فيه، ولابد أن نعلم أن صلات اليهود القديمة مغرقة في العداء للآراميين، ونشبت بين الطرفين معارك عسكرية طاحنة، وتزعمت مملكة دمشق الدفاع عن الأراضي السورية وألحقت الهزيمة بمملكة إسرائيل في عهد الملك الآرامي حزائيل.
لقد قدم الآراميين أعظم إنجاز في بناء صرح الحضارة العربية قبل الإسلام، وتمثل هذا الإنجاز في لغتهم التي غزت أقاليم المنطقة العربية في غرب آسيا وفي مصر أيضاً، ممهدة في ذلك إلى انتشار اللغة العربية.
إن التداول العربي قبل الإسلام في الجزيرة للألفاظ الآرامية ومعانيها لدليل على غنى الأرامية وعلى أن حكمة الله - سبحانه وتعالى- قد هيأت الآرامية والأنباطية تمهيدًا لكتابه العزيز.
ولئن استعمل العرب لفظ قرأ الآرامي بمعنى تلا فإن استعماله في تسمية الكتاب العظيم لكافٍ لئن يجعله عربي الجذر والنشأة.
ومن أسماء القرآن العظيم الفرقان قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) ﴾ [الفرقان: 1] لفظ القرآن في الأصل آرامي وتفيد مادته معنى التفرقة كأن في التسمية إشعارًا بتفرقة هذا الكتاب بين الحق والباطل.
ومن أسماء القرآن العظيم أيضاً الذكر، قال تعالى: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [الأنبياء: 50] ولفظ الذكر عربي خالص معناه الشرف، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنها التنزيل: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) ﴾ [الشعراء: 192] وهو عربي خالص.
هذه الأسماء هي الشائعة المشهورة للقرآن العظيم والقرآن العظيم في الاصطلاح الشرعي: هو الكلام المعجز المنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته.
شاء الله تعالى أن يستمر الوحي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة بعثته يعلمه في كل مرة شيئًا جديًا ويرشده ويهديه ويثبته ويزيده اطمئنانًا وكان مظهر هذا التجاوب نزوله منجمًا بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، ولذلك قسم القرآن إلى تخميس وتعشير ووضعت علامات لذلك، وقد صحَّ نزول عشر آيات في قصة الإفك جملة واحدة وقد صح نزول عشر من أول سورة المؤمنون جملة واحدة وصح نزول: ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ وحدها وهي بعض آية في سورة النساء في الآية الخامسة والتسعين في قوله: ﴿ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ [النساء: 95] بهذا الشكل وبهذه الطريقة ظل القرآن العظيم ينزل نجومًا ليقرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكث ويقرأه الصحابة شيئًا بعد شيء يتدرج مع الأحداث والوقائع والمناسبات الفردية والاجتماعية التي تعاقبت في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- خلال ثلاثة وعشرين عامًا.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ( بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أُمِرَ بالهجرة عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين)
بدأ نزول القرآن العظيم في رمضان في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ﴾ [القدر: 1] وقال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [الإسراء: 106]، وقال تعالى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، إن نزول القرآن العظيم تدرجًا كان مثار اعتراض المشركين الذين ألفوا وتعودوا أن يسمعوا القصيدة الشعرية جملة واحدة، وسمع بعضهم من اليهود أن التوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجومًا وودوا لو ينزل كله مرة واحدة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) ﴾ [الفرقان: 32: 33].
 
رحلة القرآن العظيم (13)

ورد في الأحاديث الصحيحة ما يفيد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صرح بنزول القرآن على سبعة أحرف، فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ( سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت له: كذبت فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرأها فانطلقت أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرسله يا عمر اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرأه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه).
إن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف مروي عن جمع كبير من الصحابة يصعب إحصاؤه ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة وقد أشرنا من قبل في حلقة ماضية إلى أن الله -سبحانه وتعالى- قد هيأ الرسم الإملائي المتطور عن الأنباط لحكمة أرادها في وجوه الرسم.
وعبارة الأحرف وهي جمع حرف الواردة في الحديث تقع على معانٍ مختلفة، لا سبيل إلى استعراضها في هذا المجال، وهي تفيد حصر لفظ السبعة رقمًا لا مجرد الكثرة، ولا تعني القراءات السبع، وليست الأحرف السبعة لغات قريش وهزيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر وليست لغات قبائل مضر خاصة وهي هزيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش ففي القرآن العظيم ألفاظ من لغات قبائل أخرى، وهي أكثر من أربعين لغة، فكلمة ﴿ اخسؤوا ﴾ بمعنى اخزوا بلغة عذرة وكلمة ﴿ بئيس ﴾ بمعنى شديد بلغة غسان، وكلمة ﴿ لا تغلوا ﴾ بمعنى لا تزيدوا بلغة لخم، وكلمة ﴿ حسرت ﴾ بمعنى ضاقت بلغة اليمامة، وكلمة ﴿ هلوعا ﴾ بمعنى ضجرا بلغة خثعم، وكلمة ﴿ الودق ﴾ بمعنى المطر بلغة جرهم وغير ذلك كثير.
والمراد من الأحرف السبعة -والله أعلم- الأوجه السبعة التي وسع بها على الأمة فبأي وجه قرأ القارئ منها أصاب ولقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يصرح بهذا حيث قال: (أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستعيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف) فاللفظ القرآني مهما يتعدد أداؤه وتتنوع قراءاته لا يخرج فيه التغاير عن الوجوه السبعة التالية:
أولها: اختلاف في وجوه الإعراب سواء تغير المعنى كقوله تعالى : ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 37]، فقد قرئ ﴿ فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾
أم لم يتغير المعنى كقوله -عز وجل-: ﴿ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ [البقرة: 282]، فقد قرئ ﴿ ولا يضاره ﴾
وثانيها: اختلاف في الحروف إما بتغير المعنى دون الصورة كاختلاف النقط في ﴿ يعلمون ﴾ و ﴿ تعلمون ﴾ أو في تغيير الصورة دون المعنى كما في ﴿ الصراط ﴾ و﴿ السراط ﴾ و﴿ المصيطرون ﴾ و﴿ المسيطرون ﴾
وثالثها: اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، قرئ ﴿ لأمانتهم ﴾ بالإفراد ورسمت في المصاحف العثمانية ﴿ لأمانتهم ﴾ لخلوها من الألف الساكنة، ومؤدى الوجهين واحد لأن في الإفراد قصدًا للجنس وفي الجنس معنى الكثرة، ولأن في الجمع استغراقًا للإفراد وفي الاستغراق معنى الجنسية فرعاية الأمانة كرعاية الأمانات تشتمل الكل والجزئيات.
ولأمر ما جاءت لفظة العهد مفردة على كلتا القراءتين وبكلا الحرفين فما قرئ ﴿ والذين هم لأماناتهم وعهودهم راعون ﴾ وما قرئ ﴿ والذين هم لأمانتهم وعهودهم راعون ﴾.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 70]، ذُكِّرَ في حرف قصدًا للجنس وأنث في حرف قصدًا للجماعة، تشابه بعد حذف التاء تخفيفا فأصله تتشابه.
ورابعها: الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة كما قرئ ﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ [الواقعة: 29]، و ﴿ طلع منضود ﴾.
وخامسها: اختلاف بتقديم وتأخير كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ [التوبة: 111]، قرئ ﴿ فيُقتلون ويَقتلون ﴾.
وسادسها: اختلاف بشيء يسير من الزيادة والنقصان جريًا على عادة العرب في حذف أدوات الجر والعطف كقوله تعالى: ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ ﴾ [التوبة: 100]، قرئ ﴿ من تحتها الأنهار ﴾ وهما قراءتان متواترتان، وقد وافق كل منهما رسم مصحف الإمام.
ومن النقصان قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ﴾ [البقرة: 116]، من سورة البقرة بغير واو كما في رسم المصحف الشامي.
وسابعها: اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل وكسر حروف المضارعة وقلب بعض الحروف وإشباع ميم الذكور وإشمام بعض الحركات من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾ [طه: 9]، وقوله ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4]، قرئ بإمالة: أتي وموسي وبلي.
وقوله تعالى ﴿ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17]، بترقيق الرائين، والصلاة والطلاق بتفخيم اللامين.
وقوله تعالى: ﴿ قَدْ افْلَحَ ﴾ بترك الهمزة وهو ما يسمى بالتسهيل، وقوله تعالى: ﴿ لِقَوْمٍ يِعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]، ﴿ نَحْنُ نِعْلَمُ ﴾ [الإسراء: 47]، و﴿ وَتِسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران : 106]، ﴿ أَلَمْ اعْهَدْ ﴾ [يس: 60]، بكسر المضارعة في جميع الأفعال، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾ [الصافات: 174]، فالهزليون يقرؤون عتى عين.
وقوله تعالى: ﴿ عَلَيْهِمُ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6]، ﴿ وَمِنْهُمُ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 58]، بإشباع ميم جمع الذكور في كلتا الآيتين.
وقوله تعالى: ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ [هود: 44]، بإشمام ضمة الغين مع الكسر، والحق أن هذا الوجه السابع أهم الأوجه فهو يبرز الحكمة من إنزال القرآن العظيم على سبعة أحرف ففيه تخفيف وتيسير على الأمة التي تعددت قبائلها فاختلفت بذلك لهجاتها، وتباين أداؤها لبعض الألفاظ، فكان لابد أن تراعى لهجاتها وطريقة نطقها، لأن الله -سبحانه وتعالى- اصطفى في قرآنه ما شاء، وتمثل في لغة قريش التي أصبحت صفوة العرب.
والقرشية باعتراف جميع القبائل هي الأغزر مادةً والأرق أسلوبًا والأغنى ثروةً والأقدر على التعبير الجميل الدقيق حتى إن الشاعر في العرب كان يتحاشى لغة قبيلته ويستعمل القرشية في شعره لهجة وتركيب جملة وانتقاء كلمة.
وإذا كانت الأوجه السبعة هذه التي ذكرناها هي التي عَنى بها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فإنها اجتمعت من مختلف القراءات التي أقرهم عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهى العلم بها إلينا، أحرف القرآن السبعة التي لم نعرفها إلا بطريق الاستنباط والاستقراء.
توه من كثيرون من القدامى والمحدثين أن الأحرف السبعة هي القراءات السبعة، ومصدر هذا الإيهام الإمام الكبير أحمد بن موسى بن العباس المشهور بابن مجاهد، حيث قام سنة ثلاثمائة للهجرة يجمع سبع قراءات في بغداد لسبعة من أئمة الحرمين والعراقين والشام وكان جمعه محض مصادفة واتفاق، وعبارة القراءات السبع لم تعرف من قبل في الأمصار وإنما بدأت تشتهر بإقبال الناس على قراءة بعض الأئمة دون بعض، فاشتهرت بمكة قراءة عبد الله بن كثير الداري المتوفى سنة عشرين ومائة هجرية ولقي من الصحابة أنس بن مالك وأبا أيوب الأنصاري وعبد الله بن الزبير، واشتهرت في المدينة قراءة نافع بن عبد الرحمن من أبي نُعيم المتوفى سنة تسع وستين ومائة هجرية وتلقى القراءة عن سبعين من التابعين أخذوا عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس.
وفي الشام قراءة اليحصبي المشهور بابن عامر المتوفى سنة ثمان عشرة ومائة للهجرة وتلقى القراءة من المغيرة المخزومي عن عثمان بن عفان، وفي البصرة قراءة أبي عمرو بن العلاء المتوفى سنة أربع وخمسين ومائة هجرية، وفي الكوفة قراءة كل من حمزة وعاصم وحمزة هو ابن حبيب الزيات المتوفى سنة ثمان وثمانين ومائة هجرية، وعاصم هو ابن أبي النجود الأسدي المتوفى سنة سبع وعشرين ومائة هجرية.
لقد حظيت قراءة هؤلاء السبعة من لدن ابن مجاهد بشهرة واسعة حتى توهم كثيرون أن المراد بالأحرف السبعة هي هذه القراءات، والحق أن ثمة ضابطاً إذا توفر في قراءة ما وجب قبولها، ويتوفر هذا الضابط في القراءات العشر والقراءات الأربع عشرة، وأما القراءات العشر فهي القراءات السبع مضافاً إليها قراءة يعقوب وخلف بن هشام ويزيد بن القعقاع والأربع عشرة فبزيادة الحسن البصري ومحمد بن محيصن ويحيى بن المبارك اليزيدي وأبي الفرج الشنبوذي، ولا تقبل قراءة مقرئ إلا إذا ثبت أخذه عمن أخذ بطريقة المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما عني بعض اللغويين والنحاة بتتبع القراءات الصحيحة منها والشاذة، فألف ابن خالويه المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة وألف هجرية كتاباً في القراءات سماه المختصر في شواذ القراءات، وصنف ابن جني كتابه المحتسب في توجيه القراءات الشاذة، ووضع أبو البقاء العكبري كتاباً أوسع وأشمل سماه إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن.
إن تنوع القراءات في الحقيقة هو السبيل إلى فهم النصوص القرآنية وما دام القرآن قد أُنزل على سبعة أحرف فنحن ندرسها جميعاً في كل قراءة تواترت محتوية على حرف منها، وعمادنا الأصح في النقل ولأننا نجعل القرآن العظيم حكماً على قواعد اللغة والنحو، ولا نجعل القواعد حكماً على القرآن، فما استمد النحاة قواعدهم إلا من القرآن بالدرجة الأولى ثم من الحديث بالدرجة الثانية ثم بكلام العرب.
لكل حادثة سبب ولكل حدث مقدمة سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً لا شيء كالتاريخ يشهد بصدق هذه السنة وانطباقها على الأحداث، ولا يمكن للمؤرخ أن يجهل أسباب الحوادث إذا أراد الوصول إلى الحقيقة من خلال الوثائق، ففي الأدب لابد من معرفة أسباب القصيدة حتى يمكن للأديب شرحها مهما حمل في زاده ثروة لغوية وتميز بحس ناقد واغتنى بالمعرفة لأسرار الألفاظ، فأسباب القول وسبب القصيدة يميط اللسان عن غوامض كثيرة في فهم النص وما يريده الشاعر والأديب.
ولئن كانت معرفة جو القصيدة تعين على الفهم فإن معرفة قصة الآية والأسباب التي اقتضت نزولها في القرآن الكريم أعون على دقة الفهم وأدنى لاستلهام أرجح التأويل وأصح التفسير.
ونحن من القرآن العظيم أمام شيء يفوق اللغة وقواعدها وآدابها، ونحن من القرآن أمام شيء يفوق التأريخ نفسه، فإن وقفنا على أسباب النزول التاريخي فستبقى أشياء أخرى كثيرة تفوتنا لفهم النص ولتفسير الحدث.
لقد حرم علماؤنا المحققون الإقدام على تفسير كتاب الله لمن جهل أسباب النزول، فقال الواحدي: " لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها.
والتعبير عن سبب النزول في القصة ينم عن ذوق رفيع ويجعل القرآن في كل زمان ومكان يتلى بشغف وولوع، وكثيرًا ما يوقع جهل أسباب النزول في اللبس والإبهام، فتفهم الآيات على غير وجهها، ولا يصيب الحكمة من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم أن قوله تعالى: ﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ﴾ [آل عمران: 188]، ظنه وعيدًا للمؤمنين فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: " لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عباس: ومالكم ولهذه، إنما دعا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ ﴾ حتى قوله: ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾ [آل عمران: 187: 188]، فلم يُزَل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول، ولولا سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ [المائدة: 93]، فقد حكي عن عثمان بن مظعون أنهم كانوا يقولون الخمر مباحة ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره لما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بإخواننا لذين ماتوا وهي في بطونهم وقد أخبرنا الله أنها رجس فأنزل الله تعالى ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾.
ولولا معرفة أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، والذي يطلع على سبب نزول الآية سيدرك أن نفرا من المسلمين صلوا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة فصلى كل رجل منهم على حاله تبعًا لاجتهاده فلم يضع الله لأحد منهم عمله وأثابه، ولو لم يتجه إلى الكعبة لأنه لا سبيل لذلك في ليل بهيم وإذا كانت الآيات قد نزلت جوابا لسؤال أو حادثة أو واقعة فإن كثيراً منها جاءت للإخبار والعبرة أو لتصوير قيام الساعة ومشاهد القيامة وأحوال النعيم والجحيم من غير ما سؤال أو حادثة.
فسبب سورة الفيل هي الإخبار عن وقائع ماضية كخبر نوح وعاد وثمود وبناء البيت وكذلك ذكره في قوله: ﴿ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ [النساء: 125].
وينقسم تعريف المصطلح بأسباب النزول إلى قسمة ثنائية لآيات القرآن العظيم، فالأول معرفة السبب، والثاني لا علاقة له بسبب أو حادثة.
إن الحديث في أسباب النزول يحتاج إلى التحقق من وقوع المشاهدة والسماع للحادثة والسؤال الذي كان سبب نزول شيء من القرآن.
لذا قال الواحدي: ولا يحل القول في أسباب نزل الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلب.
ولقد تعرضت تصانيف القدامى في أسباب النزول للتمحيص الشديد من قبل المحدثين بالرغم من ورع مؤلفيها وحذرهم العلمي.
إن كثيراً من آيات القرآن الكريم وقصصه نزلت من غير حادثة أو سبب، وإنما للعبرة والعظة والإرشاد، ولا يمنع أن يكون لها سبب ولكنها تفهم من غير سبب، وكذلك كثير من الأحكام في القضايا التشريعية.
وما أكثر الآيات التي وضعت في السطور حسب الحكمة ترتيبًا وحفظت في الصدور حسب الوقائع تنزيلاً.
إن قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ﴾ [النساء: 51]، قد نزل في كعب بن الأشرف وكان قد قدم إلى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فسألوه: من أهدى سبيلاً المؤمنون أو هم؟ فتملق عواطفهم وقال: بل أنتم أهدى من المؤمنين سبيلا.
بعد هذه الآيات يتجه القرآن العظيم إلى نسق آخر يدور حول الأمانة وأدائها فيقول جل شأنه: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، ويقول المفسرون: إن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة العبدري حاجب الكعبة لما أخذ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه.
وما دامت الآية هذه قد نزلت في الفتح وتلك نزلت في كعب عقب بدر فإن بينهما ست سنين، فلماذا جعلت الآية هذه إلى جانب تلك؟
إن موضوع الأمانة مشترك بين المقطعين، فأمانة المواثيق في أهل الكتاب خانها أصحابها وحالهم كحال الذين يحملون الأمانات ثم لا يحملونها.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعرف ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم)
وأخبر عبد الله بن مسعود قال: ( كنا لا نعلم فصل ما بين سورتين حتى نزل بسم الله الرحمن الرحيم ).
إن الابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم في مطلع كل سورة من سور القرآن العظيم التي بلغ عددها مائة وأربع عشرة سورة حرك لدى القارئ بالهيبة من جلال ذكر اسم الله بإيقاع منتظم في حياته، فقد استحبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي آية من آيات القرآن العظيم نستفتح بها ولها ارتباط مباشر بسلوك المسلم اليومي، يرددها عند دخوله منزله وفي بدء طعامه وشرابه ويكتبها في مطلع رسائله وعقود بيعه وشرائه، كل ذلك شغل الخطاط على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان، فما إن خطت الحروف الأولى للقرآن العظيم وبدأت ببسم الله حتى استفاض خيال الكاتب والخطاط في رسم حروف البسملة فرسم في البدء الحرف وأبدع في دراسة المسافة بين الحروف وعانق وشبك حرف السين ومطط في طولها وأطال المسافة فيما بين الحاء والياء والميم، وأعطى الألف شكلاً رخيمًا يعبر فيه عن عظمة الله وجلاله في الحرف الأول من اسمه جل شأنه.
ولم يمضِ القرن الهجري الأول حتى خُطت البسملة في المصاحف بأشكال وأفانين مختلفة، وأخذت أبعادًا فنية تحول فيه الخط من أسلوب كتابي إلى فن تشكيلي، وبالإضافة إلى الأشكال التزيينية التي رافقت كتابة اسم السورة بالذهب لتمييزها عن كتابة كلمات القرآن العظيم التي طور فيها الخطاط المسلم أشكال الحروف وأرسل لخياله العنان، فإن كتابة بسم الله الرحمن الرحيم أخذت أشكالاً لم تكن لتخطر على بال لولا عناية المسلمين بكتابهم العظيم.
لقد ظل المصحف الشريف يسير على نهج الكتابة اليابسة حتى القرن الخامس الهجري، ولم تكن الحروف على هذا المدى الطويل لتقف بجمود دون تطور، وإنما اتخذت فيها البسملة أشكالاً عديدة، ومن الخط اليابس الكوفي اشتقت خطوط ومن البسملة صيغت مئات الهيئات والأشكال في رسوم متناغمة متشابكة معشقة توحي بإبداع وخصب الخطاط المسلم الذي استمده من قرآنه العظيم الذي وجد فيه مادة غنية تعينه على فهم حياته وسر وجوده، فكان أن انطلق من روح شفافة ليكتب كلام الله في وحدات مبتكرة لم تكن موجودة من قبل.
لقد جاء القرن الخامس الهجري وتطورت الخطوط والكتابات ولم يعد للخط اليابس الكوفي شأن يذكر في كتابة المصاحف، وتحولت الخطوط اليابسة إلى خطوط لينة، فاستفاض خيال الخطاط المسلم ليبتكر من جديد في هيئات الحروف، ويضع النسب والمقاييس في كتابة البسملة وليحدد الأطوال والأبعاد والانضجاعات في تقعير النون وغير ذلك من الحروف، وتولدت خطوط لينة في العصر الأموي والعباسي والسلجوقي والزنكي والأيوبي والفاطمي والمملوكي والعثماني وجنح الخطاطون بخطوطهم لابتكار الأنواع والهيئات، فكان أن ولد الخط النسخي والثلث بحققه وجليه والمسلسل والإجازة والرقعة والتعليق وغير ذلك، وبهذه الأنواع توجت البسملة بأنواع لا حصر لها وأشكال لا عد لها، وحين وصل الخطاط إلى هذا القدر وهو يكتب كلام ربه - جل وعلا- ابتكر مجموعة من التركيبات حل بها البسملة فإذا هي مجموعة تارة مبسوطة أخرى، وفي كل ذلك تعبير عن روعة الحرف وعن قدسية وقداسة اسم الله في تركيب الخطوط.
 
رحلة القرآن العظيم (14)

تعود الصلات بين بلاد الشام والجزيرة العربية إلى أزمان بعيدة في التاريخ، ولقد تمثلت الصلات هذه في صورة شتى من العلاقات التجارية والفكرية والسياسية واتخذت بعض القبائل العربية أرض الأغوار الجنوبية في بلاد الشام مواطن لها في إمارات تتبع الدولة الرومانية وتخضع لسلطانها، وكان حكم الرومان في بلاد الشام حكماً ظالمًا جائرًا فرض فيه الحكام على أهل الشام كثيراً من الضرائب.
وما إن تسامع الناس في بلاد الشام بالإسلام ومبادئه حتى تداعوا إليه هربًا وخلاصًا من الظلم، وشرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عقد الهدنة مع قريش في صلح الحديبية يبلغ الرسالة، فكتب إلى الملوك يدعوهم للدين الجديد، وبعث دحية الكلبي بكتاب إلى قيصر الروم يدعوه إلى الإسلام ولكن قيصر أبى واستكبر وفي السنة السابعة للهجرة أرسل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جيش الأمراء لبلاد الشام فكانت غزوة مؤتة.
ثم غزا بعدها بزمن أرض تبوك، ولما عاد من حجة الوداع جهز جيشًا للشام بإمرة أسامة بن زيد، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما لبث أن قُبض، فتوقف مسير جيش أسامة، واستُخلف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وارتدت القبائل العربية وشغل الخليفة بحروب الردة، ومع ذلك أرسل جيش أسامة فأوقع بقبائل قضاعة ثم عاد بعد أربعين يوماً، وعبّأ أبو بكر -رضي الله عنه- الجيوش وأرسلها للشام في السنة الثالثة عشرة للهجرة، وأوصى يزيد بن أبي سفيان قائلاً: "إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك فإن أحسنت رددت إلى عملك وزدتك وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه بعمله وقد وليتك عمل خالد فإياك وعدية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلي الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تحزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسر همًّا لقربها من النهار ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها، ولا تخذلها مدفعًا ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتفِ بعلانيتهم ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء واصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له".
وقبض أبو بكر -رضي الله عنه- وتولى الخلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفتحت دمشق في السنة الرابعة عشرة للهجرة، وبعد وفاة واليها يزيد بن أبي سفيان تولى معاوية من قبل الخليفة عمر في السنة الثامنة عشرة للهجرة.
لما فتحت بلاد الشام كانت أشبه بنصف عربية، فقد حكمها الغساسنة في الجنوب والتنوخيون في الشمال، وكانت القبائل والبطون العربية في أرجاء تدمر والفرات وغزة وسيناء، وكان جبلة بن الأيهم من ملوك الغساسنة وقصة إسلامه وحجه وارتداده زمن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- معروفة.
لقد جمع القرآن العظيم زمن أبي بكر -رضي الله عنه- وربط بخيط وسمي مصحفًا، وانتشر في الأمصار مع الفتوحات.
وفي زمن عمر -رضي الله عنه- فتحت بلاد فارس طولاً وعرضًا وفتحت الشام كلها ومصر كلها، ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف، وقرأ الأئمة القرآن وعلموه الصبيان في المكاتب شرقًا وغربًا، لقد عمت المدارس زمن الخليفة عمر -رضي الله عنه- في البلاد المفتوحة، وكانت تعليم القرآن فيها ضرورة هامة.
ذكر القلقشندي في صبح الأعشى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل أعرابيا هل تحسن القرآن؟ قال: نعم، قال فاقرأ أم القرآن فقال: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟ فضربه وأسلمه للكتاب، وأرسل يزيد بن أبي سفيان للخليفة عمر كي يعينه برجال يعلمون أهل الشام القرآن العظيم فبعث إليه عمر معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء -رضي الله عنهم-.
كان في فرق الجيش التي فتحت بلاد الشام كثير من الصحابة، كانوا يعلمون الجنود القرآن ويرتلونه بينهم في الحروب ليزيدوهم إيمانًا مع إيمانهم ويربطوا به على أفئدتهم في قتالهم للروم، ويحمسوهم على الجهاد في سبيل الله، ففي معركة اليرموك كان القارئ المقداد بن عمر الصحابي الجليل الذي شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الفارس المحنك، كان يقرأ سورة الأنفال عند اللقاء.
وكان للصحابة الثلاثة الذين أرسلهم الخليفة عمر إلى بلاد الشام نصيب وافر في تعليم أهل الشام القرآن العظيم، أما معاذ بن جبل المتوفى سنة ثماني عشرة فعلم أهل فلسطين القرآن، وأما عبادة بن الصامت المتوفى سنة أربع وثلاثين فعلم أهل حمص القرآن، وأما أبو الدرداء المتوفى سنة اثنتين وثلاثين فعلم أهل دمشق القرآن وكان أنشط الصحابة في تعليم أهل الشام مختلف العلوم الدينية والتاريخية والأدبية وكان كذلك في المدينة قبل أن ينزل دمشق فقد كان من أشهر علمائها.
روى الليث بن سعد عن عبد الله بن سعيد قال: "رأيت أبا الدرداء دخل مسجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومعه من الأتباع مثل ما يكون مع السلطان بين سائل عن فريضة وبين سائل عن حساب، وبين سائل عن شعر وبين سائل عن حديث وبين سائل عن معضلة".
وكانت حلقته أكبر الحلقات بمسجد دمشق إذ كان يؤمها وينتظم فيها مئات التلاميذ، قال مسلم بن مشكم الدمشقي كاتب أبي الدرداء: "قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندنا، يعني في مجلسنا فعددت ألفًا وستمائة ونيفًا فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة لكل عشرة منهم مقرئ وكان أبو الدرداء واقفاً يستفتونه في حروف القرآن يعني المقرئين فإذا أحكم الرجل من العشرة القرآن تحول إلى أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة إذا انتهى من الصلاة، فيقرأ جزءًا من القرآن وأصحابه محدقون به يستمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته جلس كل رجل في موضعه وأخذ على العشرة الذين أضيفوا إليه.
وقال السويد بن عبد العزيز مولى بني سليم الدمشقي المتوفى سنة سبع وستين ومائة: كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- إذا صلى الغداة في مسجد دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريفًا ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسألهم عن ذلك وكان أبو الدرداء أكثر الصحابة أثراً في أهل دمشق، قال الذهبي: " كان عالم أهل دمشق ومقرئ أهل دمشق وفقيههم وقاضيهم، وقد نبغ في حلقته أهم القراء في أهل الشام وتقرأ فيها أحد القراء السبعة وهو عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي، ومن قراء الصحابة الشاميين الذين علموا أهل الشام القرآن فضالة بن عبيد الأنصاري الدمشقي المتوفى سنة 56، وأشار ابن النديم وغيره إلى أن عبد الله بن عامر اليحصبي سمع منه القرآن وأخذ عنه.
كان الخلفاء والأمراء الأمويون من قراء القرآن وحفظته على تفاوت بينهم في القراءة والحفظ وكان لبعضهم معرفة بالقراءات وقد وردت عنهم الرواية في حروف القرآن إذ كان معاوية بن أبي سفيان من كتاب الوحي، وكان يقرأ القرآن في كل يوم، قال المسعودي في مروج الذهب: كان إذا صلى الفجر جلس للقاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتى بمصحفه فيقرأ جزأه، وقال المدائني: كان مروان -أي ابن الحكم - من رجال قريش وكان من أقرأ الناس للقرآن وكان يقول: " ما أخللت بالقرآن قط أي لم آتِ الفواحش والكبائر قط".
وكان عبد الملك بن مروان من التالين للقرآن، قال نافع: " لقد أدركت المدينة وما فيها شاب أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان".
وقال ابن حبان: كان عبد الملك من فقهاء أهل المدينة وقرائهم قبل أن يلي ما ولي.
وكان الوليد بن عبد الملك كثير القراءة للقرآن فقيل: إنه لما ولي الخلافة كان يختم القرآن في كل ثلاث.
وكان عمر بن عبد العزيز قد جمع القرآن وهو صغير وكان يواظب على قراءة القرآن، قال ابن كثير: " كان يقرأ في المصحف كل يوم أول النهار ولا يطيل القراءة" وكان الخلفاء الأمويون المتأخرون مثل هشام بن عبد الملك ويزيد بن الوليد بن عبد الملك، من أهل الصلاح والورع والتقوى وكانوا يحرصون على قراءة القرآن ولا ينقطعون عنها، ولا يفرطون فيها ومع أن الوليد بن يزيد كان مترفًا ومتنعمًا فإنه كان يقرأ القرآن وكان رفيقه في حله وترحاله، فعندما حوصر بقصر البخراء وأحاط به أعداؤه وعزموا على قتله واستيئس من النصر عليهم ألقى سلاحه وأخذ مصحفه يقرأ فيه ويقول: " يوم كيوم أمير المؤمنين عثمان".
إن القراء من الصحابة والتابعين الشاميين كانوا كثرة كثيرة وبذلوا جهدا كبيراً في إقراء القرآن، وكان القراء من الصحابة الشاميين يعلمون أهل الشام القرآن في مساجد أجناد فلسطين والأردن ودمشق وحمص، وكان لكل صحابي منهم تلاميذ يحيطون به ويأخذون القراءة عنه.
لقد اتصل نشاط القراء من التابعين الشاميين في إقراء القرآن وتعليمه لأهل الشام في مساجد الأجناد المختلفة، وكان نشاطهم في مسجد دمشق ومسجد حمص أقوى من نشاطهم في مسجد الرملة ومسجد بيت المقدس ومسجد طبرية، ففي دمشق وحمص توافر أشهر القراء وفيهما تخرج أكثر التلاميذ وكان التنافس بين قراء المسجدين وتلاميذهم شديداً وكان الخلاف بينهم لا يذكر، وكان قراء مسجد دمشق وتلاميذهم أكثر عدداً وأوسع أثراً، وفي الثلث الأخير من القرن الهجري الأول أصبح لمسجد بيت المقدس مكانة خاصة في القراءة، وعظمت مكانته في القرن الثاني إذ أخذ يؤمه بعض القراء من الصحابة الدمشقيين، كواثلة بن الأسقع الكناني وكانت أم الدرداء الصغرى تقيم به ستة أشهر وبدمشق ستة أشهر وكانت تقرئ فيه القرآن العظيم.
قُبض الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانتقل إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أتم الرسالة وبلغ الأمانة، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3 ]، لقد انقطع الوحي وتمت كلمات الله ونسخ القرآن العظيم في السطور وحفظ في الصدور ولم يكن الخط في ذلك الزمن مكتملاً ناضجًا ولم يكن الكاتب والخطاط قد عُني بجمال شكل، وإنما كان نظام الكتابة ضرورة للقراءة من غير ما تذويق أو تجميل، وبدا الحرف في القرآن العظيم أجردًا من غير نقط أو شكل ولم تكن الفواصل بين الآيات إلا فراغًا أحيانًا كما الفواصل بين السور.
وانتشر الإسلام في الأرض، وكتاب الله السفير المعلم في الشعوب الداخلة في الإسلام، لقد تم للمسلمين فتح سورية والعراق ومصر ومنطقة الشمال الإفريقي زمن الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل -رضي الله عنهم-.
وفي زمن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- نقلت العاصمة وأركان الدولة من المدينة المنورة إلى الكوفة التي مصرها سعد بن أبي وقاص بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما - في السنة السابعة عشرة للهجرة والتي توافق السنة الثامنة والثلاثين وستمائة من الميلاد.
وفتح المسلمون العرب بلاد فارس - إيران - ودخلت الجيوش العربية مدينة هارا سنة أربعين للهجرة الموافقة لسنة ستين وستمائة ميلادية، واستمرت في تقدمها حتى أشرفت على بلاد الهند، وكان أن استشهد سيدنا علي -رضي الله عنه- سنة أربعين هجرية وانتقلت الخلافة بعد زمن قليل إلى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- مؤسس حكم الأسرة الأموية التي دامت من سنة أربعين حتى اثنتين وثلاثين ومائة هجرية الموافقة لسنة ستين وستمائة حتى سنة تسع وأربعين وسبعمائة ميلادية.
إن أول عمل قام به معاوية بن أبي سفيان أن نقل مركز الخلافة من الكوفة لدمشق الشام، وفي العصر الجديد هذا اتسعت رقعة الدولة العربية الإسلامية كثيراً وامتدت إلى جبال البرانيز في شمال إسبانيا وشاطئ المحيط الأطلسي غربًا وإلى حدود الصين شرقًا، لقد تميز هذا العصر بانصراف المسلمين بشكل عام إلى الحياة الدنيوية عكس ما كان عليه الحال في العصر الراشدي حيث تجنب العرب إلى درجة كبيرة البذخ والترف فتقدمت الفنون المعمارية ومال العرب إلى الخط والزخرفة فتطورت بعض الحروف العربية وبقيت حروف الباء والواو والياء والكاف والفاء كما هي دونما تطوير.
لقد عُني المسلمون بجودة الخط لخدمة كتاب الله -عز وجل-، ونتيجة لكتابة كلام الله المجيد والعناية به فقد تبوأ الخطاطون مكانة رفيعة مرموقة في العالم الإسلامي، لقد اشتهر في العصر الأموي خطاطون كُثر على رأسهم مؤسس الدولة معاوية بن أبي سفيان وخالد بن أبي الهياج الذي كان يكتب المصاحف ويتأنق فيها ويذهبها، وقد كتب في قبلة مسجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة المنورة سورة والشمس وضحاها بالذهب.
وفي هذا ما يدل على نضج الخط واستخدمه في تزيين المساجد في وقت مبكر في تاريخ فن الخط عند المسلمين كما ورد عن محمد بن إسحاق أنه رأى مصحفا بخط ابن أبي الهياج.
وممن اشتهر أيضاً شهاب بن حمزة الكاتب المتوفى سنة اثنتين وستين ومائة للهجرة، وكان خطاطًا مجيدًا ماهرًا عرف بأناقة خطه وقوة حرفه واتزان فراغاته وسحر سطوره وكان يكتب للخليفة هشام بن عبد الملك كثيراً، بإملاء المحدث الزهري المتوفى سنة أربع وعشرين ومائة هجرية، وقد بقيت كتابات شعيب إلى القرن الثالث الهجري وروى الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائة هجرية أن كتابة شعيب مضبوطة مقيدة.
ومن مشاهير كتاب ونساخ وخطاطي المصاحف مالك بن دينار المتوفى سنة ثلاثين ومائة هجرية وكان يكتب المصاحف ويأخذ أجرها وفي ذلك ما يدل على أن حرفة النسخ بدأت تظهر في الدولة العربية الإسلامية.
أما قطبة المحرر المتوفى سنة أربع وخمسين ومائة هجرية فقد كان أكتب الناس على الأرض في العربية كما جاء في الفهرست لابن النديم وكان منقطعا للوليد بن عبد الملك يكتب له المصاحف وأخبار العرب وأشعارهم واستطاع أن يولد خطوطا أربعا منها الطومار والجليل.
لقد بلغ الخط العربي في العصر الأموي ومن خلال المصحف الشريق والقرآن العظيم مبلغًا عظيمًا، فقد أصبح الخطاط في المصحف يراعي المسافات بين الكلمات وبين الأسطر بشكل جيد وكذلك مراعاة المسافة بين الحرف والآخر الذي يليه مع الاهتمام في منح كل حرف نصيبه المعقول من الطول والقصر والدقة والغلظة وظهرت مدات في بعض الحروف المتصلة أضافت إلى الكتابة حسناً وتفخيما، وحافظت على جمال شكل السطر نتيجة لحسن استخدامها في بعض الحروف دون غيرها، وفي بعض الكلمات، واستخدمت المدات في نهاية الأسطر أحيانا لملء الفراغ الذي لا يفي كلمة أخرى، ومع ذلك فإن الأحرف في كلمة ما قد تنتقل إلى السطر الثاني من غير ما عنت أو كره، وقد يؤدي هذا أحيانا إلى اللبس في القراءة وهذا ما عنوه بالمشق في الكتابة، ويبدو أن المشق قديم في الكتابة العربية وكان مكروها لإفساده خط المبتدئ ولدلاته على تهاون الكاتب في معرفته لطول الكلمة لذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "شر الخطوط المشق".
وقد كره الأسلوب هذا في الكتابة وخاصة في المصاحف لأنه يؤدي إلى الخطأ والغلط أحيانا لقد فصل الخلفاء الأميون بين نوعين من الخطوط خط لشئون الدولة وشئون الرسائل وما تحتاجه الدواوين وخط جليل عظيم يأخذ هالة القدسية والجلال والعظمة يكتب به المصاحف.
وهذا ما أطلق عليه علماء الخط الخطَّ اليابس ثم وصفوه في العصر العباسي فيما بعد بالخط المحقق، إذا كان قد ظهر في الشام خط شامي لين لكتابة الرسائل وشئون وحاجات الدولة فإن طرقًا جديدة من الخط الكوفي اليابس قد ظهرت في الأقاليم المفتوحة وبكتابة المصاحف فمنذ افتتاح مصر سنة اثنتين وعشرين هجرية ودخول المصحف الشريف إليها بخط مدني رصين بدأ الخط يتطور ويأخذ أبعادًا جديدة.
وأنشأ عقبة بن نافع سنة خمسين للهجرة مدينة القيروان، وسرعان ما ظهر فيها الخط الكوفي القيرواني الذي تحدث عنه ابن النديم في فهرسه وأبو حيان في رسالته وابن خلدون في مقدمته.
وانتقال الخط إلى شمال إفريقية جاء عن طريق المدينة أولاً والشام ثانياً وليس عن طريق بغداد لأن الخط البغدادي والعراقي لم يظهرا إلا في منتصف القرن الثاني بعد تأسيس بغداد وتحول المنصور إليها في السنة السادسة والأربعين بعد المائة الهجرية، ومنذ تأسيس القيروان في سنة خمسين هجرية وحتى سقوط الدولة الأموية والخط القيرواني في تطور وثبات وتقدم.
لقد وصل إلينا من العهد الأموي جملة من صفحات المصاحف ونماذج تدل على طريقة كتابة المصاحف المتطور عما عليه زمن الخلفاء الراشدين، ففي متحف طبقابي مصحف برقم أربعين وقد كتب عليه أنه من السنة الثانية والخمسين للهجرة أي من القرن الأول وبخط عقبة بن عامر وما نلاحظه في هذا المصحف ما يومئ إلى أن التاريخ المكتوب والمخطوط والذي يعود إلى منتصف القرن الهجري الأول لا علاقة له بهذا المصحف لأن الكتابة أندلسية متطورة لا تنم ولا تعبر عن ذلك العصر، إذ الرموز في الخط متطورة والعلامات التي وضعت عليه متأخرة والشكل على طريقة الخليل مزاوجًا طريقة الدؤلي في بعض النواحي مع وجود رموز للقراءة لم تظهر إلا متأخرة في المصاحف.
كما أن طبيعة الخط تميل إلى الخطوط اللينة التي حافظ على هيئتها الأندلسيون المتأخرون في رسوم الكتابة، إن كتابة رأس اسم السورة بالذهب مع وجود هذه التقسيمات الزخرفية تبعث على الشك كل الشك بأن هذا المصحف متأخر ولا يمكن أن يعود لمنتصف القرن الأول الهجري، كما أن استخدام اللون الأزرق في تحلية الشكل وفي الأحزاب والأجزاء ورموز المدود ما كان ليظهر إلا بعد القرن الخامس الهجري كما أنه ينافي كل ماجاءنا من خطوط علامات الطريق والنقود وخطوط مسجد قبة الصخرة التي تعطينا صورة واضحة عن طبيعة الحرف الذي كان يستخدم أيام بني أمية في أواسط القرن الأول.
إن كتابة اسم السورة بالذهب وبخط كوفي متطور مع تبيان عدد الآيات لم يكن في في زمن معاوية، ونقرأ هنا في هذا المصحف بالكوفي وبالذهب سورة ﴿ حم (1)عسق (2) ﴾ [الشورى: 1: 2]، خمسون آية، وهذه السورة هي سورة الشورى وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية وهذه الفوارق هي التي تسرب الشك لهذه الوثيقة التي يحتفظ بها متحف استانبول.
أن استخدام النقط الثلاث في فواصل الآيات لم يظهر أيضاً إلا في القرن الهجري الثاني، ونظرة أخرى إلى بداية سورة لنلاحظ البسملة وقد مد الكاتب حرف الحاء بدل السين، ليجعل التوازن ما بين بداية الكلام ونهايته، وهذا لم يكن في كتابات القرن الأول إذ لم ينضج بعد فن الخط إلى المستوى الذي يمكن أن يصبح فيه فنًّا.
ونقرأ ونلاحظ الرموز المتطورة في المدود ووضع رمز مد فوق الكلمات في قوله تعالى : ﴿ حم (1)عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) ﴾ [الشورى: 1: 7].
وفي متحف طوبقابي مصحف آخر كتب بخط حديج بن معاوية بن مسلمة الأنصاري وقد كتبه للأمير المستجاب عقبة بن نافع الفهري سنة تسع وأربعين للهجرة.
والمصحف مشكول بنقط حمراء وسورت ورقاته بالذهب، وخطه أقرب للنسخي المدور منه للكوفي وفي خطه خصائص واضحة لا توجد في المصاحف الأموية الأخرى، ونلاحظ فيه حرف الألف يميل إلى اليمين، وفي ذيله عطفة إلى اليمين وفي رأسه خط يميل إلى اليسار، وهذا تميز عن المصاحف التي جاءتنا من القرن الأول كما نجد هذا الخط الصغير في رؤوس اللامات كما أن حرف العين المتوسط مختلف تماماً عما هو عليه في الزمن المؤرخ وكما هي الطريقة فقد كتبت أسماء السور بالكوفي المسور بالذهب، وفي أول المصحف ذكر عدد حروف الهجاء في القرآن العظيم كله.
وفي متحف بغداد أوراق من مصحف على الرق من القرن الأول ليس فيه نقط ولا شكل وليس فيه نهايات الآيات.
لقد اتسقت الكتابة في عصر بني أمية وأصبح المصحف بشكله الأنيق الجميل غاية في الجمال والضبط، ولم تعد مشكلات الإعراب والوقف صعبة أمام القارئ المسلم من شعوب الأرض المختلفة.
 
رحلة القرآن العظيم (15)
(ملاحظة: سقطت من النص بعض الكلمات عند الحديث عن قصة يوسف عليه السلام)

قراءة القرآن العظيم عبادة يثاب عليها الإنسان وينال الأجر من الله -عز وجل- وهذه الخصوصية ليست لغيره من الكتب السابقة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29]، فقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعلمون القرآن عشر آيات منه فلا يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.
وروى عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا هذا القرآن فإنكم تؤجرون فيه بكل حرف عشر حسنات، أما إني أقول لكن "آلم" حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في صلاته بالستين آية أو أكثر.
فقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- في كيفية قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان يصلي النافلة جالساً حين أسن فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع قام وقرأ نحو من ثلاثين أو أربعين آية ثم يركع.
وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه".
عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير فنزل ونزلت إلى جانبه فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا أخبرك بأفضل سورة في القرآن" قلت: بلى، فتلا: ﴿ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الفاتحة: 2]، وقال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : " الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " قال الله حمدني عبدي، فإذا قال: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " قال: مجدني عبدي، وإذا قال: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
إنها سورة فاتحة الكتاب مكية ومدنية لأنها نزلت مرتين في رأي بعض العلماء، الأولى بمكة حين فرضت الصلاة والثانية بالمدينة حين حولت القبلة، وهي سبع آيات وهي أم القرآن، والسبع المثاني، لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]، ولا صلاة لمن لم يقرأ بها، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب".
سورة البقرة مدنية إلا آية 281 فنزلت في حجة الوداع بمكة، وعدد آياتها 287 وهي أول سورة نزلت بالمدينة وأطولهن في القرآن العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال" يعني البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، "وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل"، وأما آل عمران فمدنية وعدد آياتها 200، قال عليه الصلاة والسلام: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن" وقال عليه السلام: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" آمن الرسول إلى آخر السورة.
عن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة -رضي الله عنها- أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: يا عائشة ذريني الليلة أتعبد لربي. قالت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلما يزل يبكي حتى بل حجره قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي -صلى الله عليه وسلم- حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال -عليه الصلاة والسلام-: أفلا أكون عبداً شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190] الآية كلها حتى قوله: ﴿ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 194].
وجاء في فضل سورة الكهف وعدد آياتها 110 وهي من السور المكية إلا آية 38 ومن آية 83 إلى الآية الواحدة بعد المائة جاء في فضلها، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين".
وفي سورة تبارك قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [تبارك: 1]، من قرأ ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ كل ليلة منعه الله -عز وجل- بها من عذاب القبر"، وكنا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسميها المانعة.
فضل قراءة سورة التكوير والانفطار والانشقاق، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن ينظر إلي يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ ﴿ إذا الشمس كورت ﴾، و﴿ إذا السماء انفطرت ﴾ و﴿ إذا السماء انشقت﴾.

* فضل سورة الزلزلة

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "﴿إذا زلزلت ﴾ تعدل نصف القرآن، و﴿ قل هو الله أحد ﴾ تعدل ثلث القرآن، و ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ تعدل ربع القرآن".
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن، قال: ﴿ قل هو الله أحد ﴾ تعدل ثلث القرآن".
وفي رواية قال: "إن الله -عز وجل- جزأ القرآن بثلاثة أجزاء فجعل ﴿ قل هو الله أحد ﴾ جزءًا من أجزاء القرآن".
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ"قل هو الله أحد" فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك، فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروه أن الله يحبه.

* فضل المعوذتين

عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن، ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾، و ﴿قل أعوذ برب الناس ﴾ وفي رواية لأبي داود قال: بينما أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بأعوذ برب الفلق وأعوذ برب الناس، ويقول: "يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما". قال: وسمعته يأمنا بهما في الصلاة.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا جابر فقلت وما أقرأ بأبي أنت وأمي قال: ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾، و ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾، فقرأتهما فقال: اقرأ بهما ولن تقرأ بمثلهما".
وعن عائشة -رضي الله عنها- كان إذا اشتكى -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وامسح بيده رجاء بركتها.
وعنها أيضاً كان -صلى الله عليه وسلم- إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما ﴿ قل هو الله أحد ﴾ و ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾ و ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: أتى رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أقرئني يا رسول الله فقال: اقرأ ثلاثاً من ذوات "آلر" فقال: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، فقال: فاقرأ ثلاثًا من ذوات "حم"، فقال مثل مقالته، قال: اقرأ ثلاثًا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: يا رسول الله أقرئني سورة جامعة، فأقرأه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا زلزلت الأرض زلزالها" حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفلح الرويجل، مرتين.
وسأل أحد الصالحين الإمام الشافعي -رحمه الله- شاكيًا علته فقال له الإمام: عليك بكتاب الله وآياته الشافيات الست قال السائل: وما هي؟ قال الإمام: اقرأ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 58]، ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، و﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]، و ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ (15) ﴾ [التوبة: 14، 15]، و﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 69]، و ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]، ثم قل: اللهم اشفني بشفائك وداوني بدوائك، واغنني بفضل عمن سواك فإنه لا يعينني على الحق إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ثلاث مرات يذهب الله عنك ما ألم بك من داء.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، تناول القرآن العظيم في بيانه مجموعة من أخبار الأمم السابقة وعرض طائفة من أنبائهم وصور أحوالهم وأفاض حينًا في تصوير مجتمعاتهم وعقائدهم وأوجز في مكان آخر.
ولقد امتاز عرض القرآن العظيم للقصة بسمو الغاية وشرف المقصد، كي يذهب النفس وينشد الحكمة وما ذاك إلا للعبرة في وعيد وتهديد وتخويف وإنذار وبشارة وجائزة، كما تناول القرآن العظيم في قصصه أنباء الرسل مع شعوبهم وفي بيئتهم ومع حكامهم فشرح أخبارهم وصور العاقبة بلفظ رائع وأسلوب حكيم.
قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ﴾ [الأعراف: 101]، وقال أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]، وقال جل شأنه: ﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].
لقد تناول القرآن العظيم في محكم آياته قصة الخلق خلق الأرض والجبال والسماوات والشمس والقمر وآدم وزوجه وأولادهما ونبأ ارتكاب أول جريمة على الأرض، وسرد القرآن العظيم قصة نوح وقومه الوثنيين الذين يعبدون الأصنام ودعوته ليلاً ونهاراً وسراً وإعلانا لعبادة الله الواحد، وأمرهم بالنظر إلى سر الوجود، وإبداع الكائنات، فاعرض من أعرض وآمنت فئة قليلة ونفذ صبر نوح فدعا ربه ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27) ﴾ [نوح، 26، 27].
وكان الطوفان الذي أغرق الشر والشرك وطهر الأرض ليستعمرها قلة من المؤمنين.
﴿ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وقص القرآن العظيم نبأ هود وقومه من عاد بالأحقاف من أرض ما بين عمان واليمن، وصور النعمة التي عاشوا بها ولم يحفظوها أو يقدروها وعتوا فسادًا وإفسادًا وظلمًا وبغيًا ولم يلتفتوا إلى هود وعظاته فأخذهم الله بريح فيها عذاب أليم، وهلكت عاد بذنوبها، فأورث الله ثمود أرضهم وديارهم فاستعمروا الأرض وفجروا العيون وغرسوا البساتين والحدائق وكانت سيرتهم كسيرة عاد، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- إليهم صالحًا وهو من أشرفهم نسبًا وأرجحهم عقلاً فدعاهم لعبادة الله والعبد عن الظلم والبغي وحضهم على فعل الخير فصمت آذانهم وعميت أبصارهم، وغلقت آذانهم، وطلبوا آية يتثبتوا من صدق ما يقول، وكانت الآية ناقة ضخمة وقال لهم: ﴿ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [الشعراء: 155]، ﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ ﴾ [الأعراف: 73]، ولكن نوازع الشر دفعتهم لعقر الناقة وخططوا لقتل صالح وأهله ففاجأتهم الصاعقة التي أذهبت نسلهم وحرثهم وقال صالح ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79].
ويقص القرآن العظيم سيرة إبراهيم مع أهل بابل ونمرودها وعبادة الأصنام ويصور إيمان إبراهيم العميق والشك الذي يداخله أحيانًا فيطلب من ربه أن يريه إحياء الموتى فيأمره بأخذ أربعة من الطير كي يزهق روحها ويمزق أجسادها ويجعل على كل جبل شلوًا ثم يدعوها فتأتيه ساعيةً قد دبت فيها الروح.
ويحطم إبراهيم الأصنام ويعاقب بالإحراق، فيلقى في النار فإذا هي برد وسلام ويستمر الصراع بينه وبين النمرود في حوار فكري سلس رائع فيقول إبراهيم قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]، حاول إبراهيم عن طريق الحوار أن يقنع قومه بالرجوع إلى الله فلم يستجيبوا فضاقت نفسه ذرعًا وقرر الرحيل تاركاً وطنه وأهله وقومه.
ويعرض القرآن العظيم جوانب من حياة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل وما يتعرض له من محن في مصر وفلسطين فيتوجه إلى أرض الحجاز ليستقر به المقام في وادي غير ذي زرع مع ابنه إسماعيل.
ويبني البيت العتيق، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) ﴾ [البقرة: 127، 128].
لما رحل إبراهيم عن أرض مصر كان بصحبته لوط قريبه، فافترقا كل في مكان وعاش لوط بين قوم لا يعرفون الخير، ويأتون الفاحشة في كل سبيل ومنها اقترافهم فاحشة لم يسبق إلى اجترامها، قال تعالى: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) ﴾ [العنكبوت: 28: 30].
وضاقت بلوط السبل وسدت أمامه أبواب الأمل حين حاول قومه الاعتداء على أضيافه الذين لم يكونوا إلا من الملائكة الكرام.
قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) ﴾ [العنكبوت: 33، 34].
لقد أفرد القرآن العظيم في جملة أخباره وقصصه سورة كاملة قص فيها ما جرى ليوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ولعل الصلات التجارية التي كانت قائمة بين مصر وفلسطين كانت السبب في حبك وذيوع أحداث القصة التي ضمت في جوانبها الصورة والنوازع الإنسانية من حسد وغيرة وشر وخير وعشق وحب ومكر ومؤامرات وخداع ووفاء ولقاء.
وهي كما قال عنها -سبحانه وتعالى- في قرآنه العظيم: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، وتبدأ الحكاية بحلم رآه يوسف ويخبر أباه به، فينصحه يعقوب بكتمانه إلا أن الضغينة والحسد بين أبناء الضرائر يسوقهم إلى إلقاء يوسف في جب فتلتقطه قافلة تجارية أثناء رحلتها إلى أرض مصر، ويعود الأولاد بعد فعلتهم النكراء إلى أبيهم ليخبروه بأن الذئب قد أكل يوسف الصغير، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) ﴾ [يوسف: 15: 18].
وتستقر به الأحوال في مصر بعد أن اشتراه عزيزها ويشب يوسف عن الطوق إنسان كاملاً جميلاً بهيج الطلعة يأسر الألباب بحديثه وتهيم النساء بجماله وتقع في هواه امرأة العزيز وتراوده عن نفسه ولكن الصلاح والتقوى والوفاء تعترض ما بينهما قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ (24) ﴾ [يوسف: 23، 24]، ويظهر سيد الدار العزيز ليرى ما يجري في داره ويسقط المكر والخداع وتشيع القصة بين نساء الطبقة الحاكمة فيلمن سيدتهن على عشقها فتبرر تباريحها بإخراجه لهن ليرين من هذا الذي هامت به حبًّا وعشقًا.
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) ﴾ [يوسف: 30، 31]، وتتصعد جذوة
+++
+++
يوسف لربه ليصرف عنه السوء والفحشاء ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، لما استيئست امرأة العزيز من فتاها آثرت أن تنتقم منه فحاكت له وزجته في السجن ردًّا على إعراضها عنها وفي السجن التقى بمظلومين وضعفاء ومجرمين وأشقياء وكان ممن التقى بهم ساقي الملك وخازن طعامه ورأى كل واحد منهما حلماً مفزعا فأسرعا إلى يوسف بعد أن عرف في السجن بصلاحه وتقواه ودعواه إلى فعل الخير ففسر الحلمين ورأى أن واحدًا سيعود لعمله والآخر سيصلب وتأكل الطير من رأسه، قال تعالى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ﴾ [يوسف: 36]، فأولها لهما يوسف عليه السلام.
قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، وتصدق النبوءة ويرى الملك حلمًا ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾ [يوسف: 43]، ويطلب تفسيره، فيذكر ساقيه يوسف في السجن، ويذهب إليه فيفسر له الحلم بزرع سبع سنين يعقبهن قحط، ويعجب الملك بتفسيره وتنكشف قصة النسوة اللاتي قطعن أيديهن وقصة الظلم الذي حاق به من امرأة العزيز وحصص الحق ليصبح يوسف وزيرًا للمالية، وتدور الأيام والأفلاك على المنطقة ويرسل يعقوب أولاده إلى مصر يتسقطون الغذاء.
ويلتقي يوسف بأخوته دون أن يعرفوه فيكرم وفادتهم ويحسن إليهم ويتعرف على أحوالهم ويطلب منهم أن يأتوه بأخيهم الذي يرعى والدهم، ولكن يعقوب أوجس خيفة إلا أن الحاجة اضطرتهم للذهاب والعودة، وتعرف يوسف على أخيه ومكر بأخوته حين دس الصواع في رحل أخيه اتهمهم بالسرقة واحتجز أخاه عنده وعاد الركب إلى أبيهم ليخبروه بما حدث وإذا العزيز ابنه يوسف وتتحرك نوازع الأبوة في فؤاده بعد أن ابيضت عيناه وشاخ إلا أن إحساسه كان صادقًا فقال، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، وقال أيضاً: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100].
 
رحلة القرآن العظيم (16)

تناول القرآن العظيم بين دفتيه مجموعة من الأخبار والأنباء والقصص كما بينَّا في الحلقة الماضية، وقد قص علينا أحوال شعوب سادت ثم بادت، منها ما بقيت آثاره ومنها ما اندثر وفني ولم يعد له وجود.
وقد أمرنا الله -عز وجل- لنسير في أرجاء الأرض نستكشف العوالم ونأخذ العبرة من الماضي الذي بقيت بعض شواهده، ومن ذلك أن عرب مدين الذين كانوا يسكنون أرض معان من أطراف الشام كانوا يعبدون الأيكة، الغابة من الشجر، ويشركون ويكفرون بالله الواحد القهار وكانوا يبخسون الناس أشياءهم وإذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، حتى بعث الله فيهم شعيبًا رسولاً وآزره بالمعجزات وأيده بالبينات.
فدعاهم لعبادة الله وترك الشرك، وأمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وذكرهم بنعمة الله عليهم وخوفهم نقمته وعذابه فاستهزءوا به وتهكموا وقالوا له: يا شعيب لن نترك ما تعودنا عليه ونتبعك وما تدعونا إليه وما أنت إلا مشعوذ ساحر كذاب، وإن كنت صادقًا فيما تدعيه فاطلب من ربك أن ينزل العذاب لنرى.
استجاب الله دعاء شعيب الذي دعاه، وآزره الله بنصره فابتلاهم بارتفاع درجات الحرارة فلم يروهم ماء ولم يمنعهم ظل ففروا من ديارهم هاربين مسرعين من هول ما رأوه من العذاب، ورأوا سحابة فظنوها أنها ستقيهم من حر الشمس اللاهبة، واجتمعوا تحتها فجاءتهم الصيحة منها ورمتهم بشرر وشهب فأصبحوا أثرًا بعد عين، وقال: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 93].
ويطوف القرآن العظيم في سرد أخبار الأنبياء من الرسل، ويذكر بالتفصيل قصة سيدنا موسى -عليه السلام- وعناءه وتعبه مع قومه من بني إسرائيل في سورة القصص، يقول تعالى: ﴿ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) ﴾ [القصص: 1- 4]، ويذكر القرآن العظيم مولد موسى -عليه السلام- وخوف أمه عليه فتلقيه في اليم وتقص أخته أثره، ويحرم الله -سبحانه وتعالى- عليه المراضع فترضعه أمه ويتكفل فرعون بتربيته، ولما بلغ أشده آتاه الله العلم والحكمة، واتجهت إليه أنظار المستضعفين ليكون لهم نصيرًا.
ويخرج لأرض مدين بعد أن ائتمر به القوم ليقتلوه، وهناك يلقى الاطمئنان والاستقرار ويتزوج، ثم يجمع متاعه مع زوجه ويعود لمسقط رأسه ويلقى في طريقه نارًا من جهة الطُّور، وهناك يكلم رب العزة فيصبح كليم الله ويخصه الله بكرامة النبوة والخوارق والمعجزات، وكانت عصاه أولى الخوارق، ويدخل الأرض التي نشأ بها ليبدأ حوارًا مع فرعون وليدعوه لعبادة الله الواحد القهار، ويلقى ما يلقى من فرعون والسحرة، ويعاند فرعون أمام المعجزات والحقائق التي يراها، ويقرر البطش بموسى وقومه.
ويخرج موسى مع قومه فارًّا بدينه ويفرق الله له البحر وينطبق البحر على فرعون وتستقر عصا التسيار بموسى ومن معه بطور سيناء، وهناك يأخذ الألواح ويتبع قومه السامري فيعبدون العجل ثم يستغفرون ربهم ويتبعون موسى ويتيهون في الصحراء، ويمتحنهم الله سبحانه بذبح البقرة، ويلتقي موسى مع صاحب العلم الذي يصحبه في رحلة فيها من الأسرار ما يخفى على موسى الذي يتعلم من خلالها أن العلم واسع لا يمكن الإحاطة به مهما أوتي من نصيب، ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82].
ويختار القرآن العظيم قصة قارون من قوم موسى فيحدثنا عما حل به، وكيف ينتهي الظالم المتكبر الذي يذل العباد إلى قرار الجحيم، كما ينبئنا القرآن العظيم عن خبر طالوت في سورة البقرة ولقائه مع داود الذي ألان الله له الحديد، قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80].
وفي سورة الأنعام يأتينا خبر سليمان وبلقيس، وفي سورة ص والأنبياء يأتينا نبأ أيوب، وفي الصافات ذكر يونس -عليه السلام- وفي مريم ذكر زكريا ويحيى وفي سورة آل عمران والنساء ومريم والأنبياء والتحريم أخبار للسيدة مريم والمسيح عليهما السلام، إذ أنطق الله المسيح وهو طفل في المهد ليبين حقيقته وخلق أمه التي لم تأت بفاحشة ولم تك بغيًا ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ﴾ [مريم: 30- 33].
نشأ سيدنا عيسى -عليه السلام- في الناصرة، ورحل إلى القدس مع أمه في الثانية عشرة، وسعى ليرد اليهود عن زيغهم وضلالهم بعد أن حرفوا شريعة موسى السمحة وجعلوا همهم المال، وانغمسوا في ملذات الحياة الدنيا، فوجه دعوته إليهم ولم يجد أذنًا صاغية فحقدوا عليه وعقدوا العزم على قتله ولما فاجأه الجند رفعه الله إليه، وأمسكوا شبيهًا له ذاك الذي دلهم على مخبئه، فاستاقوه وصلبوه بين الصخب والضجيج.
قال تعالى في قرآنه العظيم: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) ﴾ [النساء: 157، 158].
لقد صور القرآن العظيم في آياته ذلك الغازي الفاتح المحارب الملقب بذي القرنين، وسرد بعضًا من سيرته وصلاحه وصنعه السد من قطع الحديد وذائب نحاس.
وصور أصحاب الكهف في سورة سميت باسمهم، وأصحاب الأخدود في سورة البروج التي جرت أحداثها على أرض نجران ولاقى فيها النصارى إبادة دينية عرقية كاملة على يد "دينواس".
وفي مجال تاريخ الحضارات القديمة تناول القرآن العظيم بين جنبيه قصة دولة سبأ التي قامت على أطلال دولة مَعِين باليمن، وقصة سد مأرب الذي أحال الله به البلاد اليمنية جنة خضراء، ثم تهدم بعد استكبار أهلها وكفرهم للنعمة التي أنعم الله عليهم، وأصبحت يبابًا بعد النعيم والخير الوافر، قال تعالى: ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17].
وفي سورة قصيرة أشار القرآن العظيم ببلاغته الموجزة وبيانه الرائع لأصحاب الفيل، حيث شد أبرهة الرحيل بجيشه لهدم البيت العتيق فأرسل الله إليه عذابًا من فوقه وجعل طير الأبابيل وسيلة من وسائل تشتت جمعه وعودته لليمن خائبًا.
ومن الأحداث التي جرت في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تناول القرآن العظيم عدة أمور أهمها الإسراء، سورة سميت بالإسراء، قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
وتناول القرآن العظيم حدث الهجرة في سورة الأنفال والتوبة قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) ﴾ [النساء: 157، 158].
وتحدث القرآن العظيم عن غزوة بدر في سورة البقرة والأنفال، وعن غزوة أحد في آل عمران قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].
وفي سورة الحشر حديث عن جلاء يهود بني النضير، وفي سورة الأحزاب تفصيل ذلك الحدث قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) ﴾ [الأحزاب: 26، 27].
وفي سورة النور تناول القرآن العظيم قصة الإفك التي رميت بها زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- السيدة عائشة -رضي الله عنها- وقد برأها الله من إفك رميت به وهي الحَصَان.
حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل سوء وباطل
﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (15) ﴾ [النور: 15]
وصور القرآن العظيم في آيته وسوره المنافقين والفاسقين والمشركين في سورة المنافقين وسورة الحجرات.
وبشر في سورة الفتح بفتح مكة والنصر على العدو وسيادة الإسلام على أرض الجزيرة العربية وفي سورة التوبة عرض القرآن العظيم أحداث غزوة حنين وأشار إليها، والمسلمون بين الهزيمة والنصر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين خاصته وأهل بيته الذين يهتفون بالمسلمين ويحثونهم على القتال.
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ﴾ [التوبة: 25، 26].
هذا هو القرآن العظيم الذي وقف أمامه العرب مشدوهين في جديده وقصصه وتعبيره وتأويله، جاءهم بجديد في الأفكار والأساليب والأداء ليس هو بالشعر الذي عرفوه ولا النثر الذي ألفوه، إنه كلام عميق الدلالة بعيد الأفق واضح بين قصير الجمل، والجملة القصيرة فيه تختزن على قدرة كبيرة من الجزئيات، إنه الكتاب المعجز الذي تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بآية من مثله فوقفوا عاجزين.
في العام العاشر الهجري أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- عزمه على الحج إلى بيت الله الحرام، وهي المرة الوحيدة التي حج فيها بعد الهجرة، وكانت حجته هذه هي خاتمة الرسالة، وكان الوداع للمسلمين الذين تقاطروا من أرجاء الجزيرة العربية للحج معه، وفي عرفة نزلت عليهم آية كريمة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
واستمع المسلمون إليه -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وسمعوه في خطبته يوصيهم خيرًا بالنساء فيقول: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتن فروجهن بكلمة الله) وينتهي ليقول: (وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، فقال وهو يرفع سبابته إلى السماء: اللهم اشهد، اللهم اشهد).
وبعد عودته من حجة الوداع بثلاثة أشهر ألم به المرض عشرة أيام وانتقل إلى الرفيق الأعلى في يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول وهو ابن ثلاث وستين سنة، لقد انقطع الوحي وختم القرآن العظيم وتمت آياته، وغدا الدستور الخالد للأمة يحفظه الله على تعاقب الأزمان واختلاف السكان.
وقد استمر علماء المسلمين طيلة قرون يبذلون جهودًا عظيمة في خدمة المصحف، فنقطوه وأعربوه وعرفوا بمواضع الوقف والابتداء، ووضعوا العلوم المتنوعة لخدمته، وتكونت مكتبة نفيسة في علومه.
وقد أثار حفظه وتدوينه إعجاب المنصفين من علماء الغرب، قال "لوبلوا": من ذا الذي لم يتمن لو أن أحدًا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام تدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة، لقد ظل القرآن العظيم يغذي عقول وأرواح المسلمين ويذكي فيهم الطموح إلى المعرفة والاندفاع لبناء الحضارة وتشييد المدنية، ويبين لهم أسباب ذلك بما حواه من قوانين الأخلاق ومبادئ الاجتماع وإقرار العدل وتحقيق السلام، قال دكتور "موريس بوكاي": إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الإلهية الأزلية لبني البشر.
لم يكن القرآن العظيم إلا كتاب فيه إرث ثقافي عظيم، إن أربع آيات من القرآن العظيم تبسط ما جاء به من إصلاح ثقافي وتربوي، قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
وقال أيضًا: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].
وفي سورة آل عمران: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
وفي سورة الجمعة: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [الجمعة: 2].
وتنص هذه الآيات الأربع على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ليتلو القرآن العظيم عليهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
لقد أنشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أول جامعة علمية هي مسجده في المدينة المنورة وأُجيز منها تلامذته وهم من الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرة بالجنة، وآلاف الصحابة الذين نشروا الدعوة.
وكان مسجد الكوفة والبصرة ومسجد دمشق وبيت المقدس والفسطاط والقيروان موائل علم وثقافة في آسيا وإفريقية وأوروبا، ولما ضاقت المساجد بما رحبت كان لابد من إنشاء مدارس ودور للتعليم، وكانت بلاد ما وراء النهر أسبق البلاد الإسلامية في تأسيس المدارس الفقهية المنفصلة عن المساجد، فظهرت في حدود سنة 290 هجرية أقدم مدرسة منفصلة.
وبعدها كانت مدرسة النيسابور التي أسسها "حسان بن محمد الأموي"، وظهرت بعد ذلك أكثر من مائتي مدرسة في الشرق الإسلامي والعراق والجزيرة والأناضول، وازدهرت دمشق بمدارس القرآن العظيم والحديث وغير ذلك وتفردت من بين بغداد والقاهرة والقدس وجميع مدن العالم الإسلامي بكثرة المدارس ودور القرآن العظيم، إن أول مكان منفصل عن المسجد كانت تلقى فيه الدروس بدمشق ويخصص له المدرسون والأوقاف كان دار القرآن الرشائية، في أوائل القرن الخامس الهجري، وبذلك انفك الطلبة من الحلقة التي كانت تعقد في المسجد أمام سارية من سواريه أو في طرف من أطرافه.
وأول مدرسة بنيت في القاهرة هي المدرسة الناصرية المؤسسة سنة 566 هجرية، وأما بغداد فقد أسست فيها المدرسة النظامية سنة 459 هجرية، أي إن دمشق سبقت بغداد بنحو 60 سنة، وسبقت القاهرة بـ 166 سنة، وسبقتها بلاد ما وراء النهر بأكثر من 100 سنة.
إن مدارس القرآن العظيم التي أسست في دمشق كانت تنمو وتزداد كلما خطا الزمان خطوته، وبلغت الذروة في القرن التاسع أي في زمن المماليك، وقد عرضنا في حلقة ماضية كيف أن يزيد بن أبي سفيان أرسل للخليفة عمر كي يعينه بقراء يقرءون القرآن العظيم.
إلا أن التدريس للقرآن العظيم بمفهوم التدريس لم يكن إلا في عهد عبد الملك بن مروان في الجامع الأموي قبل أن يُبنى، وكان موضع الجامع أيام الآراميين في الألف الثاني قبل ميلاد المسيح -عليه السلام- هيكل إله المزعوم "حدد" وكانت مساحته 380 بـ 300 متر، واتخذه اليونانيون معبدًا لآلهتهم الباطلة في العصر الهلنستي، وجاء الرومان فاتخذوه معبدًا لإلههم الخرافي "جوبيتر" وتهدم بعض المعبد أيام قيصر روما "تيدورز" فأقام فيه كنيسة ماريو حنا المعمدان.
ولما كان الفتح الإسلامي اتخذ المسلمون القسم الشرقي من المعبد مسجدًا، يقول الرحالة الفرنسي "أركولف" الذي زار دمشق سنة 50 هجرية أيام معاوية إن المسلمين والمسيحيين كانوا يدخلون من باب واحد ولكل معبده الخاص.
لقد قدم هشام بن إسماعيل المخزومي على عبد الملك فحجبه، فجلس هشام في مسجد دمشق بعد الفجر فقرأ القرآن وقرأ أهل المسجد بقراءته، فأقبل عليهم الضحاك بن عبد الرحمن أمير دمشق منكرا، وقال: إن هذا شيء ما سمعته ولا رأيته ولا سمعت أنه كان من قبل.
واستمرت بعد ذلك قراءة القرآن العظيم وتعليمه في الجامع الأموي قرونًا طويلة.
وذكر الأسدي أن الشيخ إبراهيم الصوفي كان مثابرًا على قراءة القرآن بالأموي بالرواق الثالث مقابل باب الخطابة، بكرة وعشية وحلقته مشهورة يحضرها خلق كثير يلقنون القرآن ويقرءونه، وختم القرآن في حلقته خلق كثير منهم ألف شخص اسم كل منهم "محمد" وفي مدارس القرآن العظيم كان يشترط بعضهم أنه إذا لم يحفظ الطالب القرآن العظيم غيبًا في مدة أقصاها ثلاث سنوات يقصى من المدرسة ويُؤتى بغيره، وكان أهل الشام يقرءون بقراءة ابن عامر تلاوة وصلاة وتلقينًا قريب الخمسمائة سنة، وكان ابن عامر إمام الأموي وشيخ القراء وقاضي دمشق في عصر بني أمية وقد توفي سنة 118 هجرية.
إلى جانب دور القرآن التي خصصت لحفظه وقراءته وعلومه في دمشق وعواصم العالم الإسلامي كان ضرب من دور الحديث والفقه لتعليم القرآن معًا، وكان نفر من الأغنياء يجعلون أوقافًا دورًا للقرآن أيضًا يبتغون من وراء ذلك نشر القرآن ونوال الثواب.
وكانوا يشترطون أن يقرأ فيها القرآن ويعلم بها، وإن لم تسم دارًا للقرآن، وكان وقف الملك الأشرف الأيوبي في دمشق مكانًا يُتَعلم فيه، وكان مشيخة الإقراء فيه أبو شامة، وكان من شرط التدريس أن يكون الشيخ المقرئ أعلم أهل البلد بالقراءات.
إن دور القرآن العظيم التي انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي لم يكن منشأها الحكام والملوك والأمراء كما حدث في مدارس الفقه والحديث، وإنما كان العلماء والتجار هم الذين بنوا دور القرآن، كدار القرآن الدولمية التي بناها أحد بن زيد الدين دولامة البصري، أحد أعيان وتجار مدينة دمشق في منطقة الصالحية، والمدرسة أو دار القرآن كان لها مخطط معماري يحتوي إيناوات أربعة وباحة وقبة، وهي مستوحات من الفن الرافدي.
إن القرآن العظيم كان يدرس في كل مكان تقريبًا وليس في دور خاصة فحسب لشرف وعظمة القرآن ولكي يتخصص علماء القراءات في التفرغ لخدمة كتاب الله العظيم.
كان القرآن العظيم يدرس في المدارس الفقهية والخوانق والربط والزوايا، ولم يكن أحد من العلماء أو الطلاب يجهل القرآن العظيم مهما كانت المدرسة التي تخرج منها.
ولو استعرضنا جوانب المنشآت المعمارية عبر التاريخ الإسلامي بدمشق لشاهدنا أن عدد المدارس في عصر السلاجقة لم يتعد السبعة عشرة مدرسة وفي عصر نور الدين بلغت المدارس اثنتين وثلاثين، وفي القرن السابع صار العدد أكثر من تسعين، وفي القرن الثامن بلغت المدارس خمس عشرة ومائة مدرسة، وفي القرن التاسع وصل العدد إلى خمسين ومائة.
إن هذا العدد من المدارس ودور القرآن لم يجتمع لأية مدينة في الشرق الإسلامي كله، ونظرًا لأهمية دور القرآن العظيم في رحلة القرآن العظيم فإننا نعرض صورة مختصرة لوقفية توضح نظام التعليم في عصر المماليك.
أولاً: توزيع الحجرات، الإيوان القبلي مسجد لجميع المسلمين، ولا يحرم منه أحد، يخصص بيت غرفة ضمن المدرسة للإمام الشيخ، يخصص بيت لكل فقير من المتلقين للقرآن في المدرسة.

* المعلمون والإداريون وطرق التدريس

قارئ، إمام، ومؤذن، رجل مسلم حافظ للقرآن، يكون شيخًا للقراء يعلمهم ذلك في كل يوم من بعد صلاة الصبح إلى وقت الضحى، ومن بعد صلاة العصر إلى الغروب وعليه ملازمة هذين الوقتين في كل يوم، يلقن القراء ويسمع من كل منهم.
يأخذ كل فقير ثلاثين درهمًا في الشهر، وعلى كل فقير الحضور في الوقتين المذكورين، يشترط أن يكون الفقراء بالغين بذقون، بحيث لا يكون فيهم أحد أمرد ويقيمون في غرف المدرسة ليلاً ونهارًا.
مدة الدراسة ثلاث سنوات لحفظ القرآن العظيم، فمن حفظه من الطلاب في هذه المدة يعطى خمسين درهمًا مكافأة ويغادر الدار، ومن لم يحفظه يفصل منها بدون مكافأة ويؤتى بغيره.
يقيم في المدرسة أيضًا خمسة عشر يتيمًا في الطابق العلوي، يتعلمون القرآن العظيم على يد شيخ حافظ قارئ، ولكل منهم إجازة يوم واحد في الأسبوع وأيام العيدين والمواسم، تزاد المصاريف في الدار في أيام المواسم، يخصص قارئ للحديث الشريف يكون أهلاً لميعاد على الكرسي، ويشترط عليه الحضور في كل يوم سبت وأن يعمل ميعادًا يشتمل على شيء من التفسير والعلم، ويعين قارئ آخر ليومي السبت والثلاثاء.
لقد انتشرت قراءات القرآن العظيم في دور القرآن بدمشق، وكانت عناية الدماشقة بقراءة ابن عامر حتى ما بعد الخمسمائة، سائدًا حتى قدم سبيع بن المسلم إليها، فانتشرت قراءة أبي عمرو، ثم ظهرت الشاطبية فحفظها الناس، وفي العصر العثماني انتشرت في الشام رواية حفص عن عاصم وعندما انتشرت طباعة القرآن العظيم طبع بها في معظم أنحاء العالم الإسلامي وهي الرواية الغالبة اليوم.
 
ما شاء الله

جزى الله د . عبد الرحمن وكذلك الأستاذ محمد خير الجزاء على هذا النقل الرائع

وجعل ذلك في موازين حسناتهم .
 
رحلة القرآن العظيم (17)

بلغ الخط العربي في أحضان المصحف الشريف من النفاسة والكمال والإتقان غاية كبيرة ولم يعد وسيلة لتسجيل الفكر وإنما غدا فنًّا من الفنون الجميلة والجليلة هذبته ألفاظ القرآن العظيم وشذبته فنال المكانة العالية الرفيعة.
ونظرة سريعة إلى التحولات التي طرأت على جسد الحرف لنرى سرعة التطور التي شبَّ بها وأصبح ذا قيمة فنية سامية.
والحق أن كتابة القرآن العظيم بخط عربي وتلاوته في المصاحف والتعبد بذلك قد أدى إلى إعزاز شأن الخط العربي وإجلاله، ذلك أنه صار يرتبط في أذهان المسلمين بالقراءة والتلاوة والتعبد ومن ثم لم يقف إعجاب المسلمين بالخط عند حد ما فيه من قيمة جمالية، بل صار يتصل أيضاً بالعاطفة الدينية، وهكذا صار المسلمون ينظرون إلى الخط من خلال المصحف نظرة إكبار وتقدير ويتذوقونه بمتعة روحية.
إن الخط في المصاحف الأولى التي جاءتنا من القرن الهجري الأول وفي وقت مبكر كان ينقصها التنسيق، ولكن الخط فيها ما لبث أن اتخذ أسلوبًا منسقًا في مدى فترة وجيزة نسبيًا، ويتضح هذا من استعراضنا لمجموعة من المصاحف لنشاهد فيها ما قلناه.
نشاهد الضغط فيما بين الأسطر وعدم العناية في كتابة الأحرف والانتقال من سطر لسطر مع تجزئة الكلمة الواحدة، ونقرأ في الأسطر الثلاثة الأولى من سورة يونس ﴿ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) ﴾ [يونس: 17: 18]، ونلاحظ أن حرف النون جاء في بداية السطر الذي يليه وليس في ذلك غرابة زمنَ كتابة المصحف، إلا أن الإخراج والضبط تطور بعد سنوات في خط الكوفة المحقق، وأصبح تنسيق السطر والبعد بين الكلمات والأسطر موزونًا كما ي أوراق المصحف الذي يحتفظ بتسع وثلاثين ورقة منه متحف "طوبقابيبسراي" ونرى فيه رصانة الخط الكوفي وتنسيق العبارات والجمل والتباعد فيما بينها والتباعد بين الأسطر، وتحتوي الصفحة أواخر سورة التوبة، وفي أول الصفحة كلمة ( رحيم )، وهي من آخر الآية التي قبلها ثم نقرأ قوله تعالى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، وداخل الدائرة التي جردت من أشكال زهرة الزيتون عدد الآيات وهي كما جاءت هنا مائة وثلاثون، وسورة التوبة برواية حفص عن عاصم هي مائة وتسع وعشرون آية، وفي وسط الصفحة يوجد اسم السورة وقد كتب بالذهب "يونس مائة وتسع آيات" ونلاحظ في الداخل أشكالاً مجردة من عناقيد العنب ثم نشاهد تحت اسم السورة البسملة، ومن الغرابة أن كلمة الرحمن كُتبت بألف طويلة وهذا ما لا نراه في جميع مصاحف القرون الماضية ونقرأ بعدها: ? الر تِلْكَ آيَاتُ ? كتب هذا المصحف على الرق تبعًا لقواعد أبي الأسود الدؤلي فيه حركات الفتحة والخفضة والضمة بلون أحمر وفوق وتحت وبين يدي الحرف.
وننتقل إلى القرنين الخامس والسادس الهجريين لنشاهد تطور رسم الخط المصحفي وتطور الإخراج والتنسيق في مصحف يحتفظ به متحف "طبقابي سراي" أيضاً.
ونقرأ فيه من سورة مريم ﴿ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ﴾ [مريم: 49 : 50]، لقد استطاع الخطاط أن يطور في رسم الحرف الكوفي البديع والذي أطلق عليه علماء الخط المستشرقون اسم الخط الكوفي المشرقي، وجنح إلى التزويق في الوصل فيما بين الحروف وجمل في حرف النون واللام ألف وحرف الدال والهاء وأخذ من سعف النخل أشكالاً لرسم دائرة يضع فيها الرقم على طريقة حساب الجمل.
فوضع في الدائرة العليا حرف نون دلالة على الرقم خمسين ووضع في الدائرة السفلى حرفين "نا" النون والألف دلالة على الرقم واحد وخمسين، وسور الكلام وجدوله ضمن أشكال منظمة مقتبسة مجردة من ورق التين، بالإضافة إلى استخدامه شكلاً واحداً من ثمر الرمان.
وفي هذا المصحف أيضاً تطور الرموز في الشكل بالرغم من استخدامها رموز الخليل بن أحمد الفراهيدي فقد وضع علامة الميزان فوق الراء والسين كما استعمل الألوان الحمراء للشكل والزرقاء للتزيين، وقد أطلق بعض الباحثين على هذا الشكل من الخط اسم الكوفي القرمطي، نسبة إلى القرامطة الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري، وهذا منافٍ لبعض الاصطلاحات في الرسم والخط، إذ إن الرمطة تعني الدقة في تقارب الحروف ولذلك قال: علماء الخط السابقون" قرمط بين الحروف، إلا أن هذا النوع من الكتابة يعود إلى التحسين والتجميل في الخط الكوفي البديع ولا علاقة للقرامطة ولا القرمطة بين الحروف به.
ويوضح ذلك تأملنا في الحروف التي سنراها على جانب آخر من الغلظة في أسلوب آخر يحتفظ به مركز دراسات الحضارة والفنون الإسلامية بقصر رقادة بقيروان بتونس، ونقرأ فيه الآية الثانية عشرة بعد المائتين من سورة البقرة: ﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ ﴾ [البقرة: 212]، وكتب هذا المصحف علي بن أحمد الوراق على خمسة أسطر على الرق لحاضنة المعز بن باديس الصنهاجي سنة عشر بعد الأربعمائة الهجرية، ثم حبسته الحاضنة على الجامع الأعظم بالقيروان.
إن مقارنة بسيطة في أسلوب الكتابة بين المصحفين تقودنا إلى أن استخدام الألوان في التشكيل كأنما كانت قاعدة في هذه المرحلة الزمنية من التاريخ، فاستخدام اللون الأحمر والأزرق يدلنا على أن رمز الألوان كان ناضجًا متطورًا في هذه الفترة المبكرة من الفن، وفي المصحف الذي تحتفظ به مكتبة طوبقابيبسراي بخط أبي بكر ابن أحمد بن عبد الله الغزنوي في المحرم من سنة ثلاث وسبعين وخمسائة هجرية نشاهد تطورًا بسيطًا في الكوفي البديع الذي رأيناه في المصاحف التي سبقته وخاصة حرف الصاد، كما نرى فيه تطورًا آخر في رموز الوقف أثناء القراءة. وهذه الشارات التي تدل على ذلك هي إشارات وضعها أبو الفضل محمد بن طيفور السجاوندي المتوفى سنة ستين وخمسمائة هجرية وعرفت باصطلاحات أو إشارات سجاوند في تلاوة القرآن العظيم.
وفي المصحف ما يخالف القواعد المتبعة في خطوط رؤوس الآيات، فلم يستخدم الخطاط في هذا المصحف الخط الكوفي المورق لرؤوس السور وإنما استبدله بخط لين من قلم التوقيع.
وذَهَّبّ الأسماءَ واستعمل الزخرفة المجردة من زهرة الرمان وأكسبها ألوانًا جديدة.
إن هذه العناية في كتاب الله -عز وجل- لاقت من المجتمع تقديرًا واحترامًا واندفع أصحاب الشأن ليكلفوا الخطاطين بكتابة المصاحف الشريفة، وكانت مصاحف الحكام والأمراء والسادة والتجار على جانب كبير من الذوق في التذهيب لقد ظل الخط الكوفي في المصاحف حتى القرن الخامس والسادس الهجريين يتناوب ما بين محقق وبديع مع العناية التامة بالتذهيب والزخرفة.
وكانت مصاحف الأندلس تميل نحو اللين في كتابتها اليابسة الكوفية مما أحدث طرازًا ونمطًا جديدًا في الخط العربي أطلق عليه اسم الخط الأندلسي، لقد كان للمسلمين فضل كبير في الأندلس في تطوير الكتابة، بالرغم من أن التاريخ يثبت أسبقية المغرب والقيروان للإسلام والعروبة، والفتوحات كانت من المغرب والمغاربة مع الفاتحين حملوا كتابتهم الأولى للأندلس، والتطورات التي حدثت في القيروان تأثر بها الأندلسيون من خلال روابط العلاقات الثقافية الوطيدة فيما بينهم، وكانت القيروان مركز عبور نحو الشرق ومنه، كما كان يقصدها من الأندلس طلاب وعلماء للبحث والدراسة، إلا أن الحضارة التي عرفت باستقرار المسلمين في الأندلس جعلت التبعية في تطور الكتابة فيها لا للقيروان.
ونما الخط في الأندلس وتطور وقد وصلتنا نماذج تؤكد وتدل على ذلك، وتاريخها يعود للقرن الرابع الهجري ونحن نعلم أيضاً أن العلوم القرآنية في القرن الخامس قد بلغت مبلغًا عظيمًا من التقدم، فقد ترك أبو عمرو الداني - المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة هجرية - كتبًا قيمة عن نقط المصاحف وقراءاتها، يقول ابن خلدون: وأما أهل الاندلس فافترقوا في الأمصار عند تلاشي حكم العرب ومن خلفهم من البربر وتغلبت عليهم أمم نصرانية فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع وتعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما، وصارت خطوط إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها؛ لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس.
ويقول أيضاً: وتميز مُلكُ الأندلس بالأمويين، فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط، فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد، لقد مال الخط الكوفي البديع القيرواني إلى الليونة في الأندلس وأصبح خط الأندلس هو القدوة للمغرب.
وفي مصحف ابن غطوس نشاهد التطورات التي جرت في أحضان المصحف في بلاد الأندلس فمن اليبوسة إلى الليونة، ومن القيرواني البديع إلى الأندلسي البهي الجميل، وابن غطوس من بلانسيا بالأندلس وخطاطها الشهير، كان وحيد عصره في كتابة المصاحف في الأندلس، فقد روي أنه كتب ألف مصحف وتعلم هذا الفن عن والده وأخيه الأكبر وعاهد الله ونفسه على ألا يكتب غير المصاحف، وكان يختلي في غرفته ولا يسمح لأحد بالدخول عليه، وقيل: إن مصحفه كان يباع بما يزيد على مائتي دينار، وقيل: إن رجلا جاءه من مكان قصي فاشترى منه مصحفًا فلما عاد إلى بلاده أدرك أن به بعض الأخطاء في الحركات فعاد إلى تلك المدينة البعيدة وطلب منه تصحيحها ولتكون بخطه.
وقد توفي ابن غطوس هذا سنة عشر وستمائة هجرية، وفي مصحفه المحفوظ بمكتبة جامعة استانبول قسم يالديز نشاهد سورة الفيل وسورة قريش إلى سورة الناس، وقد كتب بمداد بني فاتح على الرق، ووضعت إشارات الشد والجزم باللازاود وإشارات التشكيل الأخرى باللون الأحمر، وخصص اللون البرتقالي للهمزة وقام بتذهيبه وزخرفته وعلى الهامش علامات التخميس والتعشير.
كما نشاهد مصحفًا آخر في مكتبة سراي طوبقابي ونقرأ فيه من سورة مريم قوله تعالى: ﴿ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) ﴾ [مريم: 94: 98]
لقد كتب هذا المصحف بالذهب المسور بالمداد الأسود وجاءت بعد كل آية دائرة محلاة كتبت داخلها كلمة آية، وجاءت علامة التخميس على شكل طرة وعلامات التأشير المستديرة وضعت بين الآيات في المكان المناسب، وفي الصفحات التي تضم تسعة أسطر جاءت علامات رؤوس السور والأجزاء والأحزاب في هامش المتن على شكل مرصعات محلاة.
وقد وضعت حروف ألف باللون الأحمر إشارة إلى المد خلافاً للرسم العثماني للمصفح ونشاهدها في السطور الخمسة الأولى وكتبت رؤوس السور باللون الأحمر، ثم سورت أطراف الحروف بالذهب، وأشير إلى الهمزات بنقط مستديرة خضراء فوق الحرف وحمراء تحته، أما الشدة وإشارة الجزم فهي باللون الأزرق بينما وضعت الحركات الأخرى باللون الأحمر.
ويوجد من هذا المصحف أوراق متفرقة وفي متاحف العالم بعض أوراق متفرقة منه. إن الأندلس بما طورته من كتابتها الأموية سبقت المشرق بقرون في استخدام الخط اللين بدل اليابس على صفحات القرآن العظيم.
انبثق نور الإسلام من الجزيرة العربية فكان ثورة على الواقع الفاسد، رفع الظلم والاستغلال عن كاهل الإنسان وحث على طلب العلم وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، وانتشر دين الله وبسرعة في مناطق واسعة من العالم، ومصرت الأمصار وصارت المساجد الجامعة دورًا لحفظ القرآن العظيم، واختصت بعدها دور خاصة بذلك وازدادت العناية بخطوط ورسوم المصحف الشريف وتزيينه ولاحظنا من خلال الحلقات السابقة، مسيرة التطور واختراع الخطوط اليابسة واللينة وكان لاحتكاك العرب بغيرهم من الشعوب ودخول أمم جديدة في الدين الجديد أثر كبير على جمالية وقواعد الخط العربي ومن ذلك مصحف بالخط الكوفي البديع ومن القرن الخامس الهجري وهو بخط عثمان بن حسين الوارق الغزنوي والجديد في هذا المصحف أن تفسيرًا باللغة الفارسية وشرحًا للآيات جاء منتظمًا في سطور تحت الآية وبخط أصغر من الكلام الحق العزيز، ونقرأ في هذا المصحف من سورة مريم : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) ﴾ [مريم: 83 : 85]، لقد كتبت الآيات بأحرف كبيرة وشكل مختلف ووضعت الحركات باللون الأحمر ووضعت الشدات والهمزات بالمداد الأخضر ووضعت النقاط مستديرة بقلم الذهب المسور باللون الأسود، ونرى كذلك بعض الحروف المهملة، وعلامة الميزان التي سبق وأشرنا إليها بأنها توضع فوق الرأي وفوق حرف السين نراها هنا وقد وضعت فوق حرف الدال أيضاً في نعد وعدًا ووفدًا.
ونذكر أن هذه العلامة كانت توضع فوق حرف الصاد أيضاً في القرن الرابع الهجري، كما نرى الأعداد وقد كتبت لغة داخل دوائر محلاة على الطريقة العشرية، وهذا نموذج فريد من المصاحف التي جاءتنا من هذه الفترة، كما نلاحظ الدوائر المرصعة التي تدل على التخميس والتعشير وقد وضعت على حاشية المصحف.
واستخدم الخطاط في هذا المصحف فواصل في نص التفسير بين الفقرات مستخدمًا نجمة محورة على شكل زهرة وهذا مما ليس موجودًا في مدونات القرن الخامس، لم ينقضِ القرن الخامس ولم تأفل شمسه بعد حتى كان الخط اللين قد حل بشرف مكان الحرف اليابس الكوفي، ولقد وصلتنا مصاحف جميلة الخط بهية الزخرفة من هذا الزمن، تدل على الذوق الرفيع الذي تحلى به الخطاط في عمله بالمصحف الشريف وكان ابن مقلة وابن البواب من قبل قرن من الزمان قد خطا بالنسخ القرآن العظيم.
وصلتنا من القرن السابع الهجري نسخة من المصحف بالخط الريحاني لياقوت المستعصمي، ويحتفظ بها متحف الآثار الإسلامية التركية وتمثل هذه النسخة الفريدة نموذجًا هاما للتطورات التي طرأت على توزيع وتنسيق الكتابة والخط في المصحف، فقد كتب بالخط الريحاني وعلى خمسة عشر سطرا لكل صحيفة وهذا من حسن التوزيع، إذ أصبح قاعدة لمن جاء من بعد لكتابة المصحف للحفاظ على نهج المستعصمين وتعد هذه النسخة تحفة فنية نادرة لما فيها من رونق التذهيب وجمال التجريد، وقد كتبت رؤوس السور بخط التوقيع الدقيق بمداد أبيض على أرضية مذهبة وشُعِّرتْ أطراف الكتابة بالمداد الأسود كما نرى علامات التخميس قد وضعت بعيدًا عن حيز الكتابة بدوائر وردية محلاة، ونقرأ في هذا المصحف في الصفحة الأولى سورة الفاتحة وثلاث آيات من سورة البقرة، وفي الصفحة الثانية وهي الأخيرة سورة الناس، ونشاهد حرف السين الذي سها عن كتابته ثم وضعه بعد التأطير في داخل الإطار وفي النهاية نقرأ ، " وكتب ياقوت المستعصمي في سنة خمس وثمانين وستمائة بمدينة السلمي ببغداد حامدًا الله تعالى على نعمه ومصليًا على نبيه محمد وآله الطيبين الطاهرين ومسلماً ومن ذنوبه مستغفرًا".
ويعد ياقوت من الخطاطين المجودين الذين تركوا بصمتهم على تطور خط النسخ وقد توفي سنة ثمان وتسعين وستمائة هجرية، وتقول الروايات: إن ياقوت جمال الدين كان عبدًا مملوكًا للخليفة العباسي الأخير المستعصم بالله، نشأ في بلاطه وعرف بانتسابه له، وأتقن العربية والأدب وقرض الشعر، وقد عاش حياة فيها الرفاهية والرغد في ظل انتسابه للخليفة، واستطاع أن يستعيد منزلته بعد غزو المغول لبغداد سنة ست وخمسين وستمائة هجرية، وفي رواية: إن ياقوت لجأ إلى إحدى المآذن واختبأ بها عندما دخل هولاكو بغداد وأنه حتى في تلك الأيام الرهيبة لم ينقطع عن الكتابة.
وكانت الأقلام الستة قد بلغت شأوًا كبيراً من التطور قبله فجودها وحسنها ووصل بها إلى الوضع الأخير الذي كانت عليه قبل ظهور المدرسة العثمانية، واتخذ الخط المائل للقلم بدلاً من الخط المستوي فأضفى على خطوطه جمالاً آخر وقد أمضى حياته في بغداد حتى تحولت بفضل أعماله إلى مركز لفن الخط.
ومن المصاحف الجميلة التي وصلتنا من القرن الثامن مصحف تحتفظ به مكتبة سراي طوبقابي بخط أحمد بن السهروردي بقلم جلي المحقق، ومقاسه خمسون بخمس وثلاثون وقد كتبه للسلطان غازان محمود الخان سنة سبعين وستمائة هجرية ثم قام محمد بن أيبك بن عبد الله بتذهيب وزخرفة أجزائه جميعاً بأناقة حملت خصائص عصره، استخدم نبات زهر الرمان المحور ومراوح النخل وعسيبه وشكل الضفائر وخط رءوس السور بالخط الكوفي البديع المورق على أرضية زرقاء كامدة.
وسور آيات القرآن بتغييم زخرفي، وجعل في كل صفحة ثلاثة أسطر، ونقرأ فيه ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 142 : 143]، إن أغلب الأجزاء من هذا المصحف وللأسف فقدت مع مرور الزمن والأجزاء المتبقية محفوظة منها ثلاثة في مكتبة سراي طبقابي وأربعة أخرى موزعة على إيران متحف بستان، وإيرلاندا مكتبة شيستر بيتي، وأميركا متحف المتروبوليتان وقد دام العمل في هذا المصحف سبع سنوات متواصلة حتى تم إنجازه، وأحمد بن يحيى السهروردي ولد في بغداد وكان يعرف بلقب ابن الشيخ وقد كتب في حياته ثلاثة وثلاثين مصحفًا وعددًا من خطوط الجلي على بعض عمائر بغداد لم يصل منها شيء، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة هجرية وكان هذا المصحف الذي شاهدناه آخر أعماله الفنية.
ومن المصاحف الجميلة التي كتبت بالخط الريحاني وصلنا من القرن الثامن الهجري مصحف بخط علي بن أبي سالم وقد أهدي لمكتبة الملك الناصر محمد الأول سنة أربع عشرة وسبعمائة هجرية، وكتب بمداد السناج، وكتبت رؤوس السور بخط التوقيع بمداد الذهب المسور بالمداد الأسود، وطريقة الكتابة فيه مخالفة لقواعد الكتابة التي عرفت زمن المماليك وهي طريقة ياقوت في كتابة المصحف على شكل جداول وأما التنسيق في تباعد الأسطر فقد أغفل تماماً ونلاحظ تقارب وتراصَّ الأسطر عكس ما هو معروف كما نرى على هوامش الصحيفة طررًا لعلامات التخميس ودوائر محلاة لعلامات التعشير وفصل فيما بين الآيات بدوائر وردية منتظمة متناسقة تشبه بعضها بعضُا، وقد ورد اسم المجلد والمزخرف وهو عبد الله الصفوي الحلبي وهذا المصحف نموذج هام نادر من المصاحف التي خطت وزخرفت في دمشق الشام، و نقرأ فيها من رأس الصفحة من آخر سورة المدثر: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآَخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) ﴾ [المدثر: 38: 56].
إن ما نراه في هذا المصحف مخالف لكل ما جاء من المصاحف التي كانت تكتب بالخط الكوفي وبالرسم العثماني، فقد خالف رسمه رسم المصحف بالرغم من أنه كُتبَ في القرن الثامن ولابد أن تعترضنا هنا مسألة هامة وهي أن مصحف ابن البواب جاء كذلك برسم مخالف ولكأن رسوم الخطوط اللينة لا توافق ما جاء في مصحف الإمام الذي كتب برسم إملائي وبخط يابس، لقد جاءت كلمة أصحاب في هذا المصحف بألف طويلة في السطر الأول بينما في مصحف الإمام لا وجود للألف وكذلك في الكلمات " جنات وأتانا وشفاعة والشافعين" ونلاحظ أيضاً الخلاف في الآيات ففي قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ﴾ [المدثر: 39: 41]، ثلاث آيات في مصحف الإمام ونراها هنا وقد دمجت في آية واحدة، إن الخلاف في الرسم الإملائي لم يكن له ضابط في العصر العباسي وما بعده ولم تكن رسوم المصحف في مشرق الأرض ومغربه لتلتزم بقواعد مصحف الإمام وهذا ما دعا الداني في محكمه لينوه عن ضرورة الالتزام برسم مصحف الإمام، وبقيت بلاد الأندلس والمغرب على تمسكها برسم الإمام حتى عصرنا الحاضر، بينما سعى أهل المشرق في منتصف القرن الماضي ليهذبوا مصاحفهم ويعيدوها إلى الكتبة الأولى، كتابة رسم زمن الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- .
ومن المصاحف الجميلة التي خطت في دمشق الشام مصحف تحتفظ به مكتبة جامعة استانبول، ويعود للقرن الثامن الهجري الموافق للرابع عشر الميلادي خطه وزخرفه عبد الله الأنصاري الذي يقول بأن نسبه يعود لأبي أيوب الأنصاري، ونرى من تنظيم الصحيفة أنه كتب سطرًا بخط المحقق بمداد أسود مسور بالذهب، ثم ثلاثة عشر سطرًا بالنسخ بمداد الذهب المسور بالحبر الأسود ثم سطرًا أخيرًا بالمحقق كما السطر الأول، أما علامات التشكيل فقد رسمت بالحبر الأحمر ولم يعتنِ جيدًا بتسوير الحروف ووضع في نهاية الحروف أشكالاً محلاة تشبه بعضها بعضًا.
أما علامات التخميس والتعشير فقد وضعها على هامش النص على شكل طرر ورصائع محلاة، وفي هاتين الصفحتين آيات من سورة الشعراء.
ومن المصاحف المملوكية الجميلة التي حفظ لنا الدهر بعضًا منها مصحف بخط علي بن محمد بن محمد بن زيد من أهل الموصل، وقد خُطَّ هذا المصحف بالذهب المسور بالمداد الأسود، ويحتفظ متحف الآثار التركية الإسلامية باستانبول بثمانية أجزاء منه، ويوجد أربعة أجزاء منه أيضاً في أماكن مختلفة من تركيا كما توجد بعض أوراق من الجزء السادس منه في إيرلاندا، والجزء الخامس والعشرون في انجلترا والثامن والعشرون في إيران والأجزاء الباقية مفقودة وقد شرع عليٌّ بكتابته بسرعة فائقة رغم العناء الذي كابده وهو يكتبه على خمسة أسطر فأتم الأجزاء الخمسة عشر الأولى في سنة واحدة، ثم توقف أربع سنوات وأعاد الكرة ليتم القرآن العظيم في سنة واحدة، وقد كُتبَ هذا المصحف لأمر السلطان الإلفاني أوليجاتو سنة ثمانين وستمائة هجرية ونلاحظ في جداول رؤوس السور أنها كتبت بخط التوقيع بمداد أبيض اللون، ثم سورت الكتابة مرتين بالذهب والمداد الأسود، ويوجد إلى جوار كل جدول رصيعة محلاة تدل على بداية السورة، أما الآية فقد فصلت بينها دوائر زخرفية بديعة كتبت في داخلها كلمة آية بينما تُركتْ أطراف الصحيفة بغير جدول ونلاحظ رموز علامة الميزان على حرف الراء، وإن نظرة إلى ما قام به من زخرفة على أرضية كتابة اسم السورة سنلاحظ العناية التامة في رسم الزخرفة المقتبسة المحورة من آيات القرآن العظيم، وإن التوريقات التي أخذت من نخيل وأعناب وزيتون ورمان لتدل دلالة واضحة بينة على خصب خيال الخطاط المسلم الذي اتخذ من القرآن وآياته إبداعًا جَمَّلَ به صفحات القرآن العظيم، واستخدامه على الإطار شكلاً مجرداً من نوى ثمرات النخيل وإعطاؤها لونًا أحمر يميل إلى اللون البني مما يوضح اتصال الخطاط المسلم بالألوان والأصباغ واستخدامها رموزًا تحدد هيكل ما يريد وما يبوح به، إنها سورة الرعد: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 1].
 
رحلة القرآن العظيم (18)

تطور الخط العربي في أحضان القرآن العظيم تطوراً مذهلاً سريعاً، وعني المسلمون به عناية فائقة، حتى أصبح تحفة فنية ثمينة.
وإذا ما أتيح للإنسان النظر والتأمل في مخطوط من مخطوطات المصحف، فإنه سيقف مجدوهاً لا يدري بأي شيء يعجب، ألجمال الخط ورشاقته، أم للدقة في رسم الزخارف المذهبة وروعتها، أم لتناسق الألوان واتساقها ونضارتها، أم لنقوش الغلاف الجلدي الذي حمل أساليب شتى من ضروب الفن!!
لقد كانت المصاحف الشريفة ميداناً لفن تجويد الخط وتنوعه، فقد كتبت المصاحف الأولى بالكوفي، بألوانه وأشكاله وتعدد أنماطه، حتى آذن فجر القرن الخامس الهجري بالمغيب، وتقدمت الخطوط اللينة، لتأخذ مكانها على صفحات المصحف من محقق وريحان، وتوقيع، ونسخ.
وبين أيدينا صفحة بخط نسخ بديع "ليحيى الصوفي" تعود لسنة 739 هجرية، يحتفظ بها متحف الآثار الإسلامية بتركيا، وهي إحدى صحيفتي الصدر في المصحف والتي اصطلح على تسميتها بـ"سار لوحة".
وداخل المصحف بدون تغييبه كتب على الطريقة ياقوت المستعصمي فجعل سطراً بالمحقق وأحد عشر سطراً ثم سطراً أخيراً بالمحقق، أما رؤوس السور فقد كتبت بخط التوقيع بمداد الذهب، كما كتبت أسماء السور وعدد آياتها بالخط الكوفي.
ومن المصاحف الجميلة التي وصلتنا من مدينة "هراه" مصحف بخط شمس الدين باسنقري، المتوفى سنة 850 ويحتفظ به متحف الآثار التركية الإسلامية، وفيه سورة الفاتحة وأول البقرة، وقد كتب المصحف بخط النسخ محاكاةً لياقوت المستعصمي، والمصحف هذا تحفة فنية رائعة نادرة في خطه وزخرفته على السواء.
وفرغ من كتابته في نفس العام الذي توفي به باسنقرى، ونلاحظ في صحيفتي صدر المصحف هاتين أنه كتب أسماء السور وعدد آياتها بالخط الكوفي، وزخرف نهاية الآيات بأشكال زخرفية رقيقة، بينما ملأ ما بين السطور بأشكال تشبه الغيوم، وبوحدات زخرفية نباتية.
وللمصحف ظهرية بديعة، والظهرية صحيفة أو أكثر تلي صحيفتي الصدر في المصاحف.
كما جاءتنا أوراق من مصحف جميل للغاية بخط المحقق والنسخ والثلث، وقد خطها على أسلوب ياقوت محمد بن سلطان شاه الهروي، سنة 890 في هراة، وتحتفظ به مكتبة سراي تبقابي ونقرأ فيه من أواخر سورة "يس" في رأس الصفحة :
﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ﴾ [يس: 75: 83].
إن جمال التنسيق والعناية البالغة في هذا المصحف جعلته من النوادر، بالإضافة إلى التنويع في أنماط الخط.
لقد ارتأى الخطاط الفنان أن يكتب السطر الأول بخط المحقق، ثم يكتب ستة أسطر بالنسخ، ثم سطراً بالثلث، ثم ستة أسطر بالنسخ، ثم سطراً بالمحقق، وآثر أن يكتب النسخ بالمداد الأسود، والمحقق والثلث بالذهب المسور بالأسود، ويدل هذا على ذوق رفيع وأناقة في توازن اللون على صفحات المصحف.
ثم انتقى اللون الأزرق والأسود ولون الزهر والأبيض للمرصعات والحليات والمسكاوات، التي حملت رموز التخميس والتعشير.
إن دقة التصوير للآيات التي كتبت بالذهب وتشغيرها يعطي الإنسان فكرة عن مقدار الصبر الذي تحلى به الخطاط بالإضافة إلى متانة اليد في رسم الخطوط، وملء الفراغات في الحروف باللون الأسود.
ونلاحظ أيضاً أنه ترك أربع مسافات على جوانب سطور النسخ مما أضفى على المصحف جمالاً وجاذبية.
ويتمم هذا الجمال والجاذبية ما نراه من زخارف لرءوس السور وعلامات التخميس والتعشير على جوانب المصحف، ونرى دوائر محلاة في نهاية الآيات يشبه بعضها بعضاً، وآثر أن يبتكرها من أسلوب الضفائر، ويمثل هذا المصحف طراز مدرسة هارات، الذي حافظ على بريقه في عصر حسين بيقرا سنة 875.
ولنفس الخطاط والمذهب مصحف آخر في مكتبة "جيستر بيتي" بدابلن بإيرلاندا.
ومن النماذج الجميلة والفريدة التي تعبر عن مدى تعلق الخط.. وأناقة إخراج المصحف الشريف ما صنعه حمزة الشرفي في القرن السابع الهجري حين ترك لنا أثراً فنياً مبهراً في كتابته للخط الكوفي.
ففي مكتبة سراي "طوبقابي" عشر ورقات من مصحف شريف لنموذج بديع للخط الكوفي المزخرف.
ونلاحظ فيه امتداد الأحرف والتزيينات لوحدات زخرفية هي من أهم العناصر في أسلوب التذهيب الإسلامي.
ونرى أيضاً التشغير بمداد السناج الأسود بالذهب، وكتابة علامات التشكيل باللون الأحمر مما أعطى الكتابة شكلاً جذاباً، ولقد حاكى فيه الخطاط أساليب المماليك في الكتابة الكوفية، كما حفظ جلد المصحف باللاك على أسلوب بلاد ما وراء النهر.
ومما يبهر في هذه الأوراق باللاك، دون أن يمس سطح الورقة بعد تشعيره بالذهب.
ويعني هذا أن الخطاط حمزة الشرفي قام بكتابة الخطوط أكثر من مرة، ويعد هذا نادرة من النوادر.
وغطى جلد المصحف أيضاً بفتات الصدف، وتعد هذه الأوراق تحفة رائعة في فن الخط والزخرفة، وفي ختام الصفحات كتب الخطاط منوهاً إلى أن هذه الصفحات مقدمة إلى السلطان قنصوا القوري، ونقرأ في هذه الصفحة :
﴿ ...(10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) ﴾ [الفتح: 10: 12].
خط المصحف الشريف كما لاحظنا بالخط الكوفي في القرون الخوالي، ثم تشرف الخط اللين ليحتل المكانة الرفيعة في كتابة المصحف، وكان السبق لخط النسخ والمحقق، ثم كان للثلث والريحان مجال، إلا أن خط التعليق الذي تطور في بلاد فارس وأصبح له الشأن الأكبر لم تكتب به المصاحف ولم يتقدم خطاطو الفرس بنماذج من المصاحف بخط التعليق أو كما يسمى في بلاد ما وراء النهر بالنستعليق.
وفي مكتبة سراي طبقابي باسطنبول مصحف بالتعليق للشاة محمود نيسابوري من تبريز.
ونقرأ سورة الشرح وسورة التين، وسورة العلق، وفيها:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى (14) ﴾ [العلق: 1: 14].
يعتبر هذا المصحف من أجمل المصاحف التي كتبت بخط التعليق، ومن المعروف أن هذا النمط من الخط لا يقبل التشكيل ولا العلامات؛ لأن أي إضافة عليه تفسد جماله وتناغمه، وبالرغم من ذلك فإن الخطاط هنا آثر أن يستعمل الرموز والشكل فجاءت الكتابة بهية الرونق جميلة الشكل رائعة المظهر، لقد كتب الشاه محمود هذا المصحف بطلب من شاه محمود بهادر خان، والذي قدمه بالتالي هدية للسلطان العثماني مراد الثالث.
وقد وقع الفراغ من كتابته في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر المحرم، سنة 945 هجرية، والتي توافق سنة 1538 ميلادية.
وقام على تذهيبه أشهر المذهبين والنقاشين في ذلك العصر، وعلى رأسهم، المذهب والنقاش الشهير حسن البغدادي.
ويمثل جلد المصحف هذا نموذجاً بديعاً من التجليد في القرن العاشر الهجري.
لقد عرف شاه محمود بلقب زري القلم، أي صاحب القلم الذهبي، ولد في نيسابور، وتعلم قلم التعليق، وأخذه عن خاله عبدي نيسابوري، ثم عن الخطاط الشهير سلطان علي المشهدي، ويقال إن الشاه إسماعيل الصفوي كان يحبه ويجله، فلما وقعت الحرب بين العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول وبين الصفويين بقيادة الشاه إسماعيل وخشي الشاه أن يفر محمود إلى جانب العثمانيين نظراً لأنه كان سنياً أخفاه مع الرسام بهزاد في إحدى المغارات.
وكان الشاه محمود يعمل خطاطاً في خزانة الكتب طه ماسيبر ابن الشاه إسماعيل.
ثم قضى بعد ذلك عشرين عاماً من حياته في مشد، عمل خلالها بالتدريس وقدم وهو في الثامنة والثمانين من عمره أعمالاً جميلةً لا تنسى، وقرض الشعر، وكان نابغةً عبقريةً قلّ نظيرها.
ومن النماذج الفريدة التي وصلتنا من خط المحقق، نسخة قرآن كريم تحتفظ بها مكتبة جامعة إسطنبول، وهي من أجمل النماذج في إتقان خط المحقق، وقد شرع في إنجازه عبد الله القرمي نسبة إلى بلاد القرم، ولكن العمر لم يسعفه فتولى تلميذه عمل ما تبقى.
عرف عبد الله بلقب التتري أو القرمي، نسبة إلى بلاد القرم التي نوح منها، وقد أخذ الأقلام الستة عن أستاذه درويش محمد بن مصطفى ددا.
فأتقنها وأجادها، وأصبح واحداً من الخطاطين البارزين، ونقرأ في هذه الوثيقة من أول سورة الأنعام:
﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) ﴾ [الأنعام: 1: 3].
إن ما نلاحظه في هذه الوثيقة هو العناية الفائقة بخط المحقق وترك توزيع الآيات وتنسيقها فلم يفصل بين الآيات، وإنما جاءت ملتفة مع بعضها دون توقف، وهذه من طبيعة نمط الخط الذي يكتب به.
ومن الغرائب أن هذا الخطاط شعر بدنو أجله فأعد قبره بنفسه، وكتب شاهدة قبره بخطه وأرخ سنة الوفاة فوضع على الشاهدة رقمي 9 متجاورين، وترك مكاناً فارغاً بينهما وقال: إن تلميذاً هو الذي سيضع التسعة الأخيرة.
وبالفعل كانت سنة وفاته سنة 999 هجرية، ولا تزال شاهدة قبره محفوظة في متحف الآثار الإسلامية التركية باسطنبول.
وفي مكتبة سراي طبغابي مصحف خط بالثلث والنسخ، ولم يبقى منه سوى تسع وسبعين ورقة وقد خطه أحمد قره حصاري المتوفى سنة 963 هجرية، والتي توافق سنة 1556 ميلادية.
ونشاهد في هذه الصفحة والوثيقة جمال خط الثلث المكتوب بالذهب المصور بالمداد الأسود، وفي الحروف تطور عما كنا نراه من قبل في الثلث والنسخ، بالإضافة إلى التفاف الكلمات وتوازنها والكتابة على طريقة التركيب.
وآثر الخطاط أن يفتتح الصفحة بالثلث لا بالكوفي، ولا المحقق، ثم أرسل قلمه إلى النسخ الواضح على طريقة ياقوت، وتجاوز عما كان عليه السلف في الكتابة والتوزيع، فقد كانوا من قبل يخشون أن تختلط أسماء السور بالكتابة، ويلجئون إلى تغيير نمط الخط حتى في المصاحف التي كتبت بالخطوط اللينة، فقد يأتي اسم السورة بالكوفي أو بالتوقية أو بأي نوع مخالف للنص.
ولكن القرة حصاري هنا كتب بذات الأسلوب الذي خطت فيه الآيات، فكلمة "سورة الفاتحة" وهي سبع آيات، وسورة الأنعام 165 آية هي من ذات السطر الأخير في الصفحة.
كما استخدم رموز التشكيل طريقة الخليل ولم يلتزم بإملاء وإشارات ورموز مصحف الإمام.
وفي المتحف الوطني بدمشق مصحف آخر لأحمد قرة حصاري كتب على ذات الطريقة والأسلوب.
مرت على تدوين القرآن العظيم قرون، وكان أن خطت حروفه الأولى على سعف النخل، والعظام والحجارة، والأقتاب والرقع وورق البردي، وكان الورق الذي تعلم العرب صناعته العامل الأكبر في انتشار العلوم والفنون وتدوين القرآن، وتسابق الخطاطون ليطوروا ويحسنوا ويجملوا شئون الكتابة، والقرآن العظيم غايتهم وكلام الله -عز وجل- دافعهم إلى الرفعة وبلوغ المرام.
وتدرجت المصاحف عبر التاريخ في حلل شتى، وعني المسلمون بأنواع وأنماط الخطوط المختلفة من أجل قرآنهم العظيم عناية ما بعدها عناية، وكتبوه على صفائح الذهب والفضة، وعلى صفائح العاج، وطرزوا آيات القرآن العظيم بالذهب والفضة على الحرير والديباج، وزينوا بها محافلهم ومنازلهم ونقشوها على الجدران في المساجد والمكاتب والمجالس، ورسموه بكل الخطوط وأجملها على كل أصناف الرقوق والكواكد بالأدراج والكراريس والرقاع بأصناف المداد وألوانها.
وملئوا بين الآيات بالذهب، وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يتبركون بكتابة المصحف بأيديهم، ويحفظونها في المساجد أو نحوها.
وهكذا تحول المصحف الشريف من دستور حياة ومنهج عمل إلى وسيلة تزين بها الأماكن، ويتفاخر الناس به، بكتابته بالذهب والفضة، ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل لهذا الأمر، ولقد عرضنا في الحلقات الأولى تاريخ ورحلة القرآن العظيم منذ أن دون في عصر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم في عصر الخلفاء الراشدين عصر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ثم زمن الأمويين والعباسيين، وفي الدولة الحمدانية والفاطمية والزنكية والأيوبية والمملوكية، وفي الصين والهند والتركستان وإفريقية والمغرب وبلاد الشام وفارس، وفي أسيا الوسطى، واعتنت هذه الشعوب التي دخلت بوتقة الإسلام بكتابها العظيم، وكل يريد أن ينال السبق والشرف في تعلمه وتجويده، وتجميل صفحاته وخطوطه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وصل القرآن بهذه الصورة البهية إلى العصر المملوكي، واشتغل المماليك بخطه ونقشه وزخرفته فبلغوا درجات الجمال وارتقوا سلم الكمال.
ولم يكن الصفويون في بلاد فارس بأقل منهم درجة وما إن سيطر العثمانيون السلاجقة الأتراك على البلاد وأنشئوها خلافة إسلامية حتى كان سلاطينهم وخلفاؤهم من أوائل من تذوقوا ورعوا كتابة المصاحف حتى نبغ فيهم أفاضل الخطاطين في كتابة القرآن العظيم.
ونحن نعلم أن الدولة العثمانية تأسست سنة 699 هجرية والتي توافق سنة 1341 ميلادية، وكانت متصلة بدولة سلاحقة الروم، ومنها أخذوا استقلالهم وثقافتهم، وتعلموا الخط على أيديهم ثم عن الفرس والعرب.
ولما فتحوا المدن مثل بروسا وأدرنه تقدموا في الثقافة والفن، ثم فتحوا القسطنطينية في سنة 857 هجرية، والتي توافق سنة 1453.
ويعد هذا التاريخ بداية تقدم خطوطهم في المصاحف، وما إن فتحت بلاد الشام في سنة 922 هجرية والموافقة لسنة 1517 ميلادية أيام السلطان سليم ياووز ثم مصر وبغداد، حتى حمل السلطان كنوزاً رائعة من المصاحف إلى عاصمته إسطنبول لتصبح موئل الفن في كتابة القرآن العظيم.
وبظهور حنظلة بن الشيخ سنة 833 هجرية الموافق لسنة 1429 ميلادية يصبح خط النسخ في المصاحف المتفرد الوحيد، وليتحول على يديه إلى تسميته خط المصحف.
إن حنظلة هو ابن مصطفى دداه، أحد أتراك بخارى الذين هاجروا إلى بلدة أناسيا في آسيا الصغرى، فقد اضطلع حنظلة على خطوط المستعصمي والصيرفي وأصبح نابغة في النسخ.
وحين كان السلطان بايزيد بن محمد الفاتح والياً على أماسيا تعرف على حنظلة وأخذ الخط على يديه، ولما صار سلطاناً بعد وفات أبيه ضمه إلى بلاطه في اسطنبول.
وكان السلطان بايزيد يجله إجلالاً كبيراً، ويمسك له الدواة وهو يكتب، ويجلسه في صدر المجلس ويقول: إن يداً تخط القرآن الكريم لابد أن نجلها ونحترمها ونعظمها، وتحتفظ مكتبة جامعة اسطنبول قسم يلدز بنسخة من مصحف جميل بخط النسخ، خطه على طريقته الخاصة، وعلى أحد عشر سطراً وهو واحد من سبعة وأربعين مصحفاً حطها الشيخ.
ونرى في الصفحتين الأخيرتين من مصحفه هذا آخر سورة المسد والإخلاص والفلق والناس.
ثم قيد الفراغ من كتابته، وقد نقش المصحف وزخرف على الطريقة التقليدية الرومية، ويظهر الأسلوب العثماني التقليدي فيه، والذي بدأ منذ هذا العهد من كتابة حنظلة.
كما نلاحظ أسلوبه في كتابة القرآن العظيم عند ابنه مصطفى ددا، الذي تعلم على يديه أيضاً في نسخة تحتفظ بها مكتبة جامعة اسطنبول، وهذه النسخة فريدة كتبها على أحد عشر سطراً مقلداً أباه في التنسيق والتحسين، ونلاحظ ذلك في هاتين الصفحتين.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ﴾ [الطلاق: 1، 2].
لقد حالت وفاة الشيخ حنظلة سنة 926 بينه وبين تعلم طريقته في الكتابة، فآثر أن يذهب إلى مصر ودرس نماذج وأسلوب خط والده في القاهرة، وحج إلى مكة المكرمة، وعاد إلى أسكودار في الطرف الأسيوي من اسطنبول، وتوفي وهو في قمة عطائه الفني ولم يترك سوى هذه النسخة الفريدة من القرآن العظيم.
ومن المصاحف التي خطت بقلم نسخي بديع مصحف "لشكر الله خليفة"، سنة 899 هجرية، والغريب وغير المألوف في المصحف هذا أنه خط أسماء السور وعناوينها بقلم التوقيع، وخصص لها مساحة كبيرة لم تكن من قبل في المصاحف، ونشاهد سورة العلق والقدر والبينة.
ونقرأ سورة القدر خمس آيات:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ﴾ [سورة القدر].
لقد تحدثت المصادر عن براعة شكر الله خليفة في أستاذيته لقلم نسخ المصاحف، وهاتان الصحيفتان من مصحفه النادر الذي وصلنا عنه.
وسبب إطلاق اسم خليفة عليه إنما جاء من أنه كان من أبرز رواد مدرسة الشيخ حنظلة وخليفته في هذا الفن، ونلاحظ أيضاً أن رؤوس السور قد خطت بخط التوقيع وبمداد الذهب المصور، وعلى أرضية وردية، وهو أحد النماذج الفريدة في فن الخط والزخرفة العثمانية.
ونلاحظ على جوانبه ووروداً محلاةً استخدمت كعلامات لمواضع الأجزاء والأحزاب والسجود، وقد تمت زخرفتها بأشكال مختلفة جميلة.
أما إشارات التخميس والتعشير فلا وجود لها في هذا المصحف الشريف، وشكر الله من أناسيا بلدة الشيخ حنظلة أجاد الأقلام الستة على يديه وكتب هذا النموذج الفريد من القرآن العظيم، وكان يقوم على خدمة أستاذه وشيخه وتزوج من ابنته، ونهج على منهجه في أسلوب الكتابة وأسس لمدرسة تقوم على أسلوب حنظلة سار عليها ابنه وحفيده.
وفي متحف سراي طورقابي مصحف لأحمد حفيد شكر الله خليفة.
ونشاهد في هاتين الصفحتين من خط النسخ سورة الضحى والإنشراح والتين والعلق.
قدمها على طريقة آبائه في النسخ ولم يطور فيها شيئًا، إلا أننا نلاحظ ونشاهد في هذه النسخة رقة الزخارف التي أحاطت برؤوس السور وعلامات التعشير المحلاة على جانبيه.
وهي من أجمل ما جاءنا من هذا الزمن المبكر في أسلوب الزخارف العثمانية.
ومن عباقرة فن كتابة المصاحف الذين أصلوا نسخه وشذبوا وهذبوا في حروفه الجميلة في الدولة العثمانية: الحافظ عثمان.
وتحتفظ مكتبة جامعة اسطنبول بنسخة فريدة رائعة بديعة، نشاهد فيها أسلوبه المتميز الذي تفرد به عن سائر من كتب القرآن العظيم.
لقد ورد الحافظ عثمان في اسطنبول وألف 1052 هجرية والتي توافق سنة 1642 ميلادية، وحفظ القرآن وهو طفل صغير، فأطلق عليه لقب الحافظ وتعلم الأقلام الستة على يدي درويش علي، ثم نهج على أسلوب حنظلة الأناسي على يدي سيغول جيزادا ونفى الزاده ونال الإجازة منهما، ولم يك ليتم الثامنة عشرة من عمره.
وابتداءً من سنة 1090 تخلى الحافظ عثمان على كل أساليب من سبقه، وشرع يكتب المصاحف بطريقته الخاصة، وترك لنا خمساً وعشرين مصحفاً متميزاً على طريقته، منها هذه النسخة التي يحتفظ بها متحف طبقابي باسطنبول.
إن المصاحف التي طبعت في القرن العشرين في الأمصار العربية وبخاصة في دمشق الشام ولبنان ومصر في القرن الماضي هي بخط الحافظ عثمان، كانت السبب في ذيوع شهرته في الأمصار هذه وأصبح الناس والحفاظ لا يقتنون إلا مصحف الحافظ عثمان؛ لجمال خطه وجلال أسلوبه في تنسيق القرآن العظيم.
وقد عاش الحافظ عثمان ألمع مراحله الفنية في الفترة الواقعة بين أعوام 1009 هجرية و1110 هجرية.
وفي هذه الفترة الزمنية خط لنا أكثر من أربعين مصحفاً.
توفي الحافظ عثمان سنة 1110 في اسطنبول.
ومن الذين أجادوا في نسخ المصاحف من الأتراك العثمانيين: الخطاط إسماعيل زهدي.
وتحتفظ مكتبة سراي طوبقابي بنسخة جميلة من مصحف بخط نسخي بهيج.
وهذه النسخة من القرآن العظيم نموذج رائع على تطور خط النسخ بعد الحافظ عثمان، وتعود لسنة 1218 هجرية.
وقد أعطى الزهري في كتابتها قلمه حقه كاملاً في الدقة والغلظة، وهذا ما يمكن أن ندركه في استرسال الحروف، كما نلاحظ في هذا المصحف أن الأجزاء والإشارة إليها قد كتبت في رأس الصفحة، وليس على الجوانب.
ونشاهد ونقرأ من الجزء الرابع من سورة آل عمران:
﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) ﴾ [آل عمران: 92: 94]، وهكذا إلى نهاية الآيات.
إن آلاف المصاحف التي خطها خطاطو الدولة العثمانية بخط النسخ رسخت قواعد هذا الخط وجعلته مع العادة والمران خط القراءة السهل الذي يقبل شكل جميع الحركات، من فتحة وضمة وكسرة وتنوين وغير ذلك من شئون قواعد التجويد في الابتداء والوقف.
واكتمل النسخ على يد الحافظ عثمان وتطور على يد إسماعيل زهدي وأخيه راقم، ثم اتخذت قواعده في الكتب العادية ليكون الخط الأرفع الذي تكتب وتدار به شئون الدولة والعلم.
لقد ولد خط النسخ مع رسائل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتطور في أحضان القرآن العظيم منذ زمن بني العباس وأشرقت ألفاته على صفحاته القرآن العظيم زمن الأيوبيين في بلاد الشام ومصر، وتفرد وأصحب الآسر زمن العثمانيين ورافق كتابة المصحف العظيم.
 
رحلة القرآن العظيم (19)

منذ أن نسخ القرآن العظيم على الرق، وعلى الورق كانت الحاجة إلى التغليف حفظاً لصفحات القرآن العظيم من التلف والضياع، واختلاط الصفحات مع بعضها.
والتجليد هو أسبق الفنون التي ولدت في أحضان القرآن العظيم وأولها ظهوراً، وقد مر معنا من قبل أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- هو أول من جمع القرآن العظيم وربطه بخيط.
ومعنى هذا أن بذور الصناعة التجليد العربية وجدت منذ عهد أبي بكر -رضي الله عنه- وأن المصحف أو القرآن العظيم هو أول كتاب عربي مخطوط جلد بما تعنيه هذه الكلمة.
والتجليد مشتق من الجلد، ولم تكن الجلود قد استعملت في التغليف بعد، ولذلك عنينا بما تعنيه هذه الكلمة بمفهومها الواسع.
وكان التجليد أو طريقة الحفظ من قبل هي أن يوضع المخطوط بين لوحين من الخشب مثقوبين في مكانين متباعدين من ناحية القاعدة، ويمر بكل ثقب منهما خليط من ليف النخيل، وتثقب الأوراق وتعقد، وقد أخذ العرب هذه الطريقة البدائية عن الأحباش، وما زالت بعض المكتبات تحتفظ لنا بمخطوطات عربية وحبشية قديمة مجلدة بنفس الطريقة.
يقول القلقشندي في صبح الأعشى: وسمي المصحف مصحفاً لجمعه الصحف، والسبب في انفراد المصحف بهذا الشكل هو أن القرآن العظيم كان أول نص عربي قديم طويل يكتب، فلم تكن الكتابات قبل القرآن وحتى بعد نزوله بقرن أو أكثر سوى تآليف صغيرة على شكل رسائل يسهل طيها على هيئة لفافة أو درج.
والقرآن العظيم يحتاج في كتابته إلى عدد ضخم من اللفائف والدروج، خاصة كما شاهدنا في مصاحف القرون الأولى الكلمات وهي تكتب متباعدة وبحروف كبيرة، ففي الصفحات الواحدة لا تتجاوز الكلمات عن العشر، ولم تكن تجزئة القرآن العظيم مأمونة العواقب، فقد تختلط اللفائف، ويضطرب النص القرآني، ولذلك كان ظهور التجليد ضرورةً لحفظ نص القرآن العظيم.
ثم عممت الدفاتر بعد ذلك في سائر الكتابات التي تعالج شئون الحياة.
وفي الحبشة أتيح للعرب والمسلمين الذين هاجروا إليها من أن يطلعوا على كتب في شكل دفاتر وكراريس، فلم يكن غريباً أن يطوروا ويحسنوا في تجليد كتابهم الأقدس القرآن العظيم.
لقد نسخ المصحف زمن الخلفاء الراشدين وبقيت الدروج تستعمل في شكل دفاتر وكراريس في التآليف الصغيرة حتى زمن العباسيين، وحتى منتصف القرن الهجري الثاني، وليس للعرب من كتاب إلا القرآن العظيم.
لقد خرجت نسخ المصحف الشريف من المدينة المنورة إلى الأمصار، وكل واحدة منها بين لوحين بسيطين من الخشب لا فن فيهما ولا حلية ولا زخرفة، ثم لم يلبث العرب أن وجدوا عند أقباط مصر رقياً وازدهاراً في هذا الفن، فلم يجدوا بأساً في أن يقتبسوا من فنهم بعد أن دخلت مصر تحت راية الإسلام.
وكان أهل مصر يستعملون البردي كخامة جيدة للتجليد، وتغليف المصاحف الصغيرة منها والمتوسطة.
أما المصاحف كبيرة الحجم التي تنسخ للمساجد فلا مجال لاستخدام البردي لها.
منذ أواخر القرن الهجري الثاني على وجه التقريب، بدأ الجلد يدخل في صناعة التجليد العربية على استحياء، فاستعملت منه شرائط في لصق الكعبين، ثم كانت مرحلة التوسع والتفنن والزخرفة بحيث اكتسب قيمةً جمالية.
إن صناعة التجليد وجدت في بلاد العرب تربة خصبة تمدها بأسباب النمو والازدهار، ومع كثرة النساخ للقرآن العظيم، وكثرة النسخ تقدمت صناعة التجليد تقدماً مذهلاً.
يقول المقدسي في أحسن التقاسيم: وكذلك كانت الأدم تجلب من اليمن في عصر الجاحظ وقبل عصره، وكانت اليمن معدن العصائب والعقيق والأُدم والرقيق، واشتهرت مدن زبيد وصعدة بدباغة الجلود منذ العصر الجاهلي، وكانت الطائف بلد الدباغ، وامتازت عدن بجلود النمور التي كانت تجلب من إفريقية.
لقد استطاع المسلمون أن يتفوقوا على ما صنعه المسيحيون والمانوية والزردشتية في هذا المضمار.
وفي العراق وبلاد الشام ودمشق خاصةً وبلاد الأندلس كان الاهتمام بتجليد القرآن العظيم والكتب بالغاً وعظيماً، وقد حض أمراء المسلمين وسلاطينهم على ذلك، ودفعوا الجوائز والمكافئات للنسخ الجميلة بسخاء منقطع النظير، وإذ لم يبقى من تجليدات القرون الأولى للهجرة شيء ذا بال، إلا أنه من غير المعقول كما يقول جروهمن أن تزدان صفحات المصاحف الأولى والفواصل بين السور والآيات ومواضع السجدات بالزخارف الملونة، في حين تبقى جلودها عارية من الحلي والزخارف.
وبين أيدينا مصادر ونماذج ونصوص وأخبار تدل على أن التجليد العربي كان قد وصل إلى درجة عالية من التقدم والرقي على مشارف القرن الرابع الهجري، وفي المصاحف جميعاً.
فالخطيب البغدادي يذكر أن المصاحف كانت مبطنة بالحرير والديباج، مجلدة بالأديم الجيد ويحدثنا المقدسي أنه حين رحل إلى اليمن في القرن الرابع وجد الناس هناك يلسقون الدروج ويبطنون الدفاتر بالنشاة.
أما هو فكان قد تعلم الصنعة على يد أهل الشام، الذين كانوا يستعملون الأشراس بدل النشاة، والذين كانت صنعتهم أدق وأرقى، بدليل ما يذكره من أن أمير عدن بعث إليه مصحفاً يجلده له، وأن أهل اليمن كان يعجبهم التجليد الحسن، ويبذلون فيه الأجرة الوافرة، حتى لقد كان يعطى على تجليد المصحف الواحد ديناران.
وهكذا كان لأهل الشام طريقتهم في التجليد، ولأهل اليمن طريقتهم، ولا شك أن كل إقليم كانت له طريقته الخاصة في فن التجليد، ونستطيع أن ندرك جيداً إلى أي حد من الرقي وصل فن التجليد الإسلامي في المصاحف في تلك الفترة المبكرة إذا رجعنا إلى جلدتين من جلود المصاحف محفوظتين في مكتبة "ألبرتين" بفينا ضمن مجموعة الأرشدوق "رينر".
وهما من القرن الرابع الهجري، غنيتان بالزخرفة النباتية والهندسة الدقيقة، وتدلان على ما وصل إليه المسلمون من إتقان الصنعة منقطعة النظير.
إن الشرائط الزخارف النباتية كانت تشكل إطاراً لا غنى عنه في زخرفة جلود المصاحف، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنها كانت أساس جماليات المصحف.
وإنما يعرف بلسان المصحف الذي وجد ليقي المصحف من التمزق والبلى كان من صنع أهل الشام، وأصبح خاصة من خصائص التجليد في القرن الثالث الهجري.
وبدراسة الزخارف الموجودة على بطانات جلود المصاحف التي يمكن إرجاعها إلى القرنين الرابع والخامس نلاحظ أن بعض الأشكال كان يتكرر بحيث يملأ المساحة كلها.
لم يقنع المجلدون المسلمون برسم الزخارف والأشكال الهندسية والنباتية على الوجوه الداخلية للمصاحف، وإنما استعملوا طريقة أخرى تقوم على تخطيط المساحة أولاً، ثم عمل الزخارف على أوراق منفصلة، وقصها ولصق كل جزء منها في مكانه من الوجه الداخلي.
ولم يكد القرن الرابع الهجري يصل مداه حتى كانت صناعة التجليد قد بلغت من التقدم مبلغاً عظيماً وزخرفت الأغلفة من الخارج ومن الداخل وما زال العرب والمسلمون يتفنون ويبتكرون حتى وصلوا إلى درجة عالية من الأصالة الفنية.
وانتقلت صناعة التجليد إلى أوروبا في العصور الوسطى، فاقتدى المجلدون الأوروبيون بالمسلمين وجعلوهم النموذج الأعلى فمضوا يقلدون حيناً ويقتبسون حيناً آخر.
وكانت إيطاليا أول الدول الغربية التي تجاوبت مع التيار العربي الإسلامي بحكم العلاقات التجارية بينها وبين الشرق، وبحكم مجاورة بلاد الأندلس وبحكم الطبيعة الفنية التي كانت غالبةً عليها، ومن أجل هذا ظهرت مسحة شرقية على كتب القرن الخامس عشر للميلاد التي تم تصنيعها في البندقية.
وصلت الأغلفة التي حوت كلمات القرآن العظيم أوجها في العصر المملوكي، وعرف المجلدون في هذا العصر طرقاً مبتكرة في الرسوم الناثرة والغائرة على الجلد، حتى بدا غلاف المصحف لوحة فنية يعجز اللسان عن وصفها.
ولقد ورث العثمانيون فن التجليد عن الفرس، لا عن المماليك بعد القضاء على دولتهم.
يقول الدكتور زاره: إن العثمانيين تتلمذوا في فن التجليد على الإيرانيين الذين قدموا واستقدموا إلى اسطنبول وأدرنة، والواقع أن فن التجليد العثماني قام على أكتاف المجلدين الإيرانيين والشاميين، وفن التجليد العثماني ما هو إلا استمرار لما كان عليه في الأمم الإسلامية السابقة، فاستعمل العثمانيون صفائح الذهب أو الفضة في كسوة الأغلفة الثمينة، كما زينوا هذه الأغلفة بالأحجار الكريمة، وكانت هذه النسخ عادةً والمصاحف للسلاطين.
وفي متحف طوبقابي سراي مجموعة من أغلفة المصاحف تمثل النمط العثماني في التجليد الذي أخذوه عن بلاد الشام ومصر، واستخدم فنانو بني عثمان شرائح الجلد في كسوة الأغلفة الورقية، وزينوا وزخرفوا الشرائح الجلدية بالضغط، والختم أو التنقيب.
كما استخدموا طريقة القطع، ومن الطرق التي ورثها العثمانيون عن زملائهم المسلمين في هراة وبلاد ما وراء النهر هي طريقة القالب وطريقة الورق المضغوط المدهون باللك.
وتختلف الشرائح الجلدية المستعملة في تغليف الكتب والمصاحف في ألوانها، فبعضها يكون لونها أحمر قالم، أو أحمر قاتم، وبعضها يكون لونها أصفر في لون الحمص المقشور، وبعهضا يكون زيتونياً، ويعتبر استعمال هذه الألوان الثلاثة بمثابة تقدم في صناعة التجليد العثماني وتطور عما كانت عليه الكتب سابقاً.
إن تطور العثمانيين بفن التجليد لم يقف عند حد الإكثار من الألوان بل لقد ابتكروا طريقة جديدة استبدلوا فيها الجلد بالحرير وبالمخمل المطرز بالألوان المختلفة، فقد يستعمل في التطريز خيوط الذهب، وفي هذه الحالة يطلق على الغلاف في التركية كلمة "فردوز".
أما الزخارف التي تستعمل في التطريز سواء بخيوط الحرير أو الذهب فكانت آية من آيات الجمال الفني.
وأقدم جلود المصاحف العثمانية التي وصلت إليها واحدة محفوظة في متحف "طوبقابي" بسراي، وهي غلاف مصحف السلطان محمد الفاتح، وهي غير كاملة، ولم يبقى إلا جزء واحد، والغلاف مكسو بشريحة من الجلد تزدان بزخارف بسيطة تتوسطها سرة مستديرة، مكونة من أقواس متصلة ومملوءة بالزخارف النباتية، ويتصل بهذا الجزء رابط يتصل بدوره باللسان، واللسان امتداد لأحد الجزئيين الرئيسيين للغلاف في الاتجاه الأفقي، وزين بزخارف بسيطة.
ومن خصائص الفن الإسلامي الإكثار من الزخرفة والهروب من الفراغ، وفي عهد السلطان سليمان القانوني اشتهرت بفن التجليد أسرة كانت تعيش في اسطنبول منها: محمود شلبي، وسليمان ومصطفى، ومن خلال التجارب والمقارنة بينهم وبين الفرس نلاحظ أن أعمالهم تفوق أعمال الرسول -صلى الله عليه وسلم- جمالاً ومتانةً وحسن صنعة.
ومن عصر السلطان محمد الثالث أي أوائل القرن السابع عشر وصلت إلينا مخطوطة من مصحف جميل ومما يلفت النظر أن السرة الوسطى مملوءة بالزخارف النباتية التي تبدوا فيها الزهرة الصينية "بوني بال ميت".
وفي الزوايا الأربع لمتن الغلاف نرى الزخرفة الشبيهة بالسرة، وأما الربط فقط قسم الصفحة إلى أربعة أقسام متساوية، وفي أجزاءها وأطرافها الأربعة زخارف وأزهار جمالية من نبتة التوليب.
لم يكن محمد بن عبد الله أول نبي خاطب الناس باسم الوحي وأخبرهم بحديث السماء، وإنما كان من قبله أخيار اصطفاهم الله منذ نوح ليبلغوا رسالته، ويزرعوا الخير في الأرض وكان الوحي متماثلاً عند جميع الأنبياء فالمصدر والغاية واحدة ، قال تعالى في سورة النساء:
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) ﴾ [النساء: 163، 164].
إن ما صرحت به الآية من أسماء أشهر أنبياء بني إسرائيل كان بسبب شهرتهم بين أهل الكتاب المجاورين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحجاز، ولذلك حرص القرآن العظيم على تسمية ما نزل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- وحيًا؛ ليشبه لفظ الوحي عند جميع النبيين.
قال تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾ [النجم: 1: 4].
وقال: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [يونس: 15].
وقال: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ (203) ﴾ [الأعراف: 203].
لقد سمى القرآن العظيم هذا الدرب من الإعلام الخفي السريع وحيًا، ولم يبتعد عن معنى الأصل اللغوي لمادة الوحي والإيحاء، ومن معاني الوحي الإلهام الفطري للإنسان كقوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [القصص: 7]، وقوله: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) ﴾ [المائدة: 111].
ومنه الإلهام الغريزي للحيوان كالذي في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ﴾ [النحل: 68]، ومنه الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء، كما في قوله عن زكريا: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) ﴾ [مريم: 11].
وعبر القرآن العظيم بالوحي عن وساوس الشيطان وتزيينه خوطر الشر للإنسان فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) ﴾ [الفرقان: 31].
وقال: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121].
وعبر بالوحي عما يلقيه الله إلى الملائكة من أمره ليفعلوه كقوله: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الأنفال: 12].
أما تعبيره -سبحانه وتعالى- بالوحي عما يكلف الله الملك حمله إلى النبي من آية كتبه المنزلة فهو شديد الصلة بتعبيره بالوحي إلى النبي نفسه وما بين مدلولي التعبير من اختلاف لا يعدوا الوظيفة التي يتحملها ملك الوحي بالنقل الأمين، ويتحملها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوعي والحفظ والتبليغ.
قال تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ﴾ [النجم: 10].
ومدلول الوحي في هذه الآية كمدلول النزيل الصريح في الآية الأخرى في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ﴾ [الشعراء: 192: 194].
والقرآن العظيم عند مراعاته المعنى اللغوي الأصلي للإيحاء حين سمى ذلك وحيًا لم يقصر ذلك على الاتصال الغيبي الخفي بين الله وأصفيائه على تنزيل الكتب السماوية بوساطة ملك وحي بل أشار إلى صور ثلاث في آية واحدة:
إحداها: إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه.
والثانية: تكليم النبي من وراء حجاب، كما نادى الله -عز وجل- نبيه موسى من وراء الشجر وسمع نداءه.
والثالثة: ما يفهمه الناس حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية.
وبهذا نطقت الآية الكريمة: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) ﴾ [الشورى: 51].
إن ظاهرة الوحي في القرآن العظيم تختلف عن جميع مظاهر الوحي اللفظية التي استعملت قديماً وحديثاً، ولابد لنا من أن نستخدم الألفاظ كما هي في مدلولها، ولا نحور ما يشابه أو يشتبه بها، كالإلهام والحدس الباطني، واللاشعور، الشعور الداخلي، وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لأساليب اللاشعور والحدس والفراسة.
لقد وصف النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه فقال: (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول).
لقد كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- صراحةً عن صورتين من الوحي، إحداهما: عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، وعندها يسمع صوتاً متعاقباً كصوت الجرس المجلجل، والثانية: عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشابهه في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه في القول ولا يرعبه، ولا شك أن الصورة الأولى أشد وطأة كما قال الله -تعالى-: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً (5) ﴾ [المزمل: 5]، وكان يصحب ذلك رشح الجبين عرقاً كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً).
بل كانت وطأة الوحي في هذه الصورة تبلغ أحياناً أشد ثقلاً فتبرك راحلته للأرض إذا كان راكبها.
وأما الصورة الثانية فهي أخف وطأً وألطف وقعاً، فلا رشح ولا جلجلة، وفي الصورتين يحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على وعي ما أوحي إليه، فقال في الأولى: (فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وفي الثانية: (فيكلمني فأعي ما يقول).
بهذا الوعي الكامل لم يخلط -عليه السلام- مرة واحدة بين شخصيته المأمورة المتلقية، وشخصية الوحي الآمرة المتعالية طوال مراحل التنزيل.
فهو واعٍ أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، فيبتهل لربه: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبتي قلبي على دينك).
وكان أول عهده بالوحي يعجل بالقرآن مخافة النسيان، فيسر الله عليه حفظه وطمأن قلبه فقال: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ﴾ [القيامة: 16: 19].
ونهاه عن العجلة التي لا مسوغ لها فقال: ﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
إن صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن هي صورة العبد المطيع الذي يخاف عذاب ربه إن عصاه، فيلتزم حدوده، ويرجو رحمته، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) ﴾ [يونس: 15، 16].
إن في هذه الآيات فرقاً بين صفة الخالق وصفة المخلوق، وهذا المعنى كثيراً ما يتكرر في القرآن العظيم، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر مثل سائر البشر لكنه يوحى إليه، ليس عليه إلا البلاغ، ولا يزعم لنفسه صفةً ملكية تغاير صفة الإنسان، ولا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الأرض، قال تعالى في فصلت: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [فصلت: 6]، وفي الأعراف: ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ [الأعراف: 188]، وفي الأنعام: ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50].
ولتصدير الآيات بعبارة "قل" مغزاً لطيف يفهمه العربي بالسليقة، وهو توجيه الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعليمه ما ينبغي أن يقول، فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه.
ولذلك تكررت عبارة "قل" في القرآن العظيم أكثر من ثلاثمائة مرة، ليعلم القارئ أن محمد -صلى الله عليه وسلم- لا دخل له بالوحي، فلا يصوغه بلفظه ولا يلقيه بكلامه وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاءً.
ويأتي الفرق واضحاً في الآيات التي يعتب فيها الله -سبحانه وتعالى- على نبيه، ففي غزوة تبوك يعاتبه بشأن من أذن لهم بالقعود فيقول جل شأنه في سورة التوبة: ﴿ عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) ﴾ [التوبة: 43]، والعتاب الشديد نقرأه في آيات الفداء في سورة الأنفال وقد جاء عنيفاً صادعاً منذراً متوعداً إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين أشاروا عليه بأخذ الفداء من أسرى بدر، مؤثرين عرض الحياة الفاني على نصرة الدين في أول معركة، وقد صيغ العقاب صياغة عامة تحدد صفات الأنبياء والرسل.
قال تعالى : ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ﴾ [الأنفال: 67، 68].
ويقرب من هذا العتاب ما أدب الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- حين جاءه الأعمى عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوا أكابر قريش للإسلام، ظناً منه بالاستجابة والإعلاء لدين الله بهم، ونزلت الآيات: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) ﴾ [عبس: 1: 11].
وأشد من ذلك كله ما يوجه للرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإنذار والتهديد في مثل قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) ﴾ [الإسراء: 74، 75].
وهذا الإنذار يبلغ القمة فيصغر بعده كل تهديد وكل وعيد حين يقول جل شأنه: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ﴾ [الحاقة: 44: 47].
يتبين لنا من خلال هذه الآيات المتوعدة المنذرة والعاتبة المؤدبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وبوعيده الكامل كان يفرق بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله.
قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾ [النجم: 3، 4].
 
رحلة القرآن العظيم (20)

استقلت ظاهرة الوحي عن ذات النبي -صلى الله عليه وسلم- استقلالاً مطلقاً، وتفردت عن عوامله النفسية تفرداً كاملاً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك حتى حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن العظيم، بل الله يتكفل بتحفيظه إياه، ولقد بطل هنا قانون التذكر، وعفا تجاه إرادة الله -عز وجل- ومع أن أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه المتعلقة بالتشريع توقيفية تلقى من الوحي مضمونها، فقد جردها الكتبة بالرغم من صلتها الشديدة بالآيات التي تفسرها ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صاغها بأسلوبه وبينها بلفظه، وما كان لأسلوبه ولا لأسلوب أحد أن يختلط بأسلوب القرآن العظيم المعجز المبين، حتى الأحاديث القدسية رغم اعتراف العلماء بأن معناها لله، ومنزل من عند الله فقد فصلت عن القرآن العظيم وجردت.
وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم خلطها بكتاب الله بما كان يستهل به مطالعها من عبارات يشعر بها سامعيه أنه يصوغها بأسلوبه البشري.
وشتان بين أسلوب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو من أفصح البشر، وأسلوب منزل القرآن العظيم.
لذا وجب على كل مستشهد بحديث قدسي أن يستهل العبارة بقوله: « قال رسول الله فيما يرويه عن ربه » أو: « قال الله -تعالى- فيما رواه عنه رسوله »، أو: « قال تعالى في الحديث القدسي » بهذا التقييد والتحديد.
إن التفرقة بين كلام الله -سبحانه وتعالى- وبين كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ملحوظة مدركة بينة، وقد أكد ذلك في أحاديث كثيرة، فقال:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار)
، ومن المعروف أن بني أبيرق عمدوا إلى التضليل في قضية من قضايا السرقة، على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فدافعوا عن السارق حتى اقتنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببراءته، ولام قتادة بن النعمان على اتهامه الأبرياء، فقال:
(يا قتادة: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة) ، ثم لم يلبث أن نزل قوله تعالى:
﴿ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [النساء: 105].
وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن بني أبيرق خانوه ولجئو إلى التضليل، فاستغفر الله مما وجهه إلى قتادة من العتاب والتوبيخ.
لقد كان النبي –صلى الله عليه السلام- مقتنعاً بأن التنزيل القرآني ليست له فيه إرادة، وليس له اختيار في ما ينزل أو ينقطع، فقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يكثر عليه، وقد يفتر عنه في وقت أحوج ما يكون إليه.
إن الوحي ينزل على قلبه صلوات الله عليه وسلامه في أوقات مختلفة، إنه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفوا إغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسماً، فقد أوحيت إليه سورة "الكوثر"، وإنه ليكون وادعاً في بيته وقد بقي من الليل ثلثه فتنزل عليه آية توبة في الثلاثة الذين خلفوا، قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
إن الوحي لينزل على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل الدامس والنهار، وفي البرد القارص أو لظى الهجير، وأثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب، وحتى في الإسراء إلى المسجد الأقصى والعروج إلى السماوات العلى.
وها هو الوحي ينقطع عن النبي وهو أشد ما يكون له شوقاً فقد فتر ثلاث سنين بعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق، وحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزنا كما قالت السيدة عائشة:
(غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بالذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه).
وبينا هو ماشٍ ذات يوم إذ سمع صوتاً من السماء فرفع بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء، فرعب منه فرجع إلى زوجته الوفية خديجة يقول: (زملوني) فأنزل الله:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) ﴾ [المدثر: 1: 5]
، فحمي الوحي وتتابع واستبشر النبي وتبدل انتظاره الحزين فرحةً غامرة، وأيقن أن الوحي خارج عن إرادته ومصدره الله علام الغيوم.
لقد أبطأ الوحي عليه شهراً كاملاً بعد حادثة الإفك، رمى به المنافقون زوجه بنت الصديق بالفاحشة وأثاروا الفضيحة وعصفت بقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- الريبة، وقال لزوجه أم المؤمنين:
(أمَا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ).
مر شهر على النبي -صلى الله عليه وسلم- كالسنين الطويلة، فقد خاض المنافقون في الصديقة خوضاً باطلاً والنبي -صلى الله عليه وسلم- صامت لا يتكلم، وتنتابه نوازع الشك والقلق ينتظر خبر السماء، ونزلت بعدها آيات النور تبرئ أم المؤمنين، ولو كان الأمر بيده لما طالت المدة وطال الزمن، ولو كان القرآن من كلامه وصنعه لما بقي كل هذه الفترة والناس يخوضون في عرضه، إنه خبر السماء، وكلام رب العزة.
لقد كان النبي – صلى الله عليه السلام- يتحرق شوقاً إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة قِبَلَ البيت، ولكن الله -تعالى- لم ينزل في هذا التحويل قرآناً رغم تلهف رسوله الكريم إلا بعد قرابة عام ونصف العام.
ونزلت الآية:
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) ﴾ [البقرة: 144].
إنه الوحي الذي ينزل على محمد حين يشاء رب محمد، ويفتر إذا شاء له رب محمد الانقطاع.
ولقد تحير العرب في الربط بين الذات الملقية والذات المتلقية فتخبطوا، وتبلبلت أذهانهم وتضاربت آراؤهم وصور الله حيرتهم.
قال تعالى:
﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾ [الأنبياء: 5].
ردوا مصدر القرآن إلى رؤى النائم أو شطحات المجنون، وافتراءات المختلق، وتخرصات الكذوب، وإلى أخيلة الشاعر وسبحات الأديب، ونلاحظ في توالي حرف الإضراب "بل" ثلاث مرات تهكم لاذع باضطرابهم وتضاربهم، ألا ساء ما يحكمون.
إن أضغاث الأحلام التي تحدث عنها الجاهلون ردها وحي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ اللحظة الأولى التي خاطب الله فيها بقوله: "اقرأ" إلى أن نزلت الآية الأخيرة من القرآن ولحق بالرفيق الأعلى.
ومن الخطأ الجسيم أن يقع بعض المفسرين والكتاب المعاصرين عن حسن نية إلى تصوير النبي -صلى الله عليه وسلم- نائماً في غار حراء أول ما نزل عليه الوحي، مع أن رواية الصحيحين قاطعة في أن الوحي فاجئه وهو يقظ يلتمس الحقيقة ويتحنث لله، ولذلك رعب وجاء خديجة يرجف فؤاده، ولأمر ما قال القرآن:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) ﴾ [النجم: 11، 12].
لقد وصف القرآن العظيم نشأة الخلق الأولى ومصيره المحتوم، وفصل نعيم الآخرة وعذابها الأليم، وأحصى أبواب جهنم، والملائكة الموكلين بكل باب، وعرض هذا كله على العرب تحت سمع أهل الذكر وبصرهم ممن أوتوا الكتاب، وقال:
﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31].
من أين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تلك المعارف الغيبية الواسعة في مثل بيئة قومه الأميين الوثنيين؟
لقد قص القرآن أحسن القصص عن أمم خلت، وصحح به أخطاءً وردت في الكتب السابقة تتناول عصمة الأنبياء، وفند بعض المغالطات التاريخية، قص قصة نوح، وفصل من أحوال موسى، وأسهب في سرد قصة يوسف، وكم من خبر كشف حجابه فتحقق ورأوه بأم أعينهم، فقد ذكر انتصار الروم على الفرس من بعد غلبهم في بضع سنين، وتم ذلك ورأوه رأي العين.
قال تعالى:
﴿ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ، للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (4) ﴾ [الروم: 1: 4].
ولحقت بالمشركين هزيمة في بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة تصديقاً لآية في سورة القمر:
﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45].
لقد سفه القرآن العظيم كل أمر حاول العرب أن يلصقوه بالوحي المنزل، وقال بلهجة قاطعة:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) ﴾ [يونس: 37، 38].
وعجز العرب وهم أمة الفصاحة والبلاغة على أن يأتوا بسورة من مثله بعد أن تحداهم وتحدى العالم قائلاً في ثقة ويقين:
﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) ﴾ [الإسراء: 88].
بالأسلوب المعجز مس القرآن العظيم قلوب العرب من الوهلة الأولى التي سمعوه بها، وكانت الفترة المكية غنية بالصور والمشاهد، وكان الرفض من المعاندين الجاحدين من قبل أن تنزل آيات التشريع والنبوءات الغيبية والنظرة الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان، ولو أتيح لمعاصري الوحي القرآني أن يطلعوا منه على الجانب العلمي كما أتيح لبعضنا اليوم وكان لهم من الثقافة ما يمكنهم من الحكم على حقائق التاريخ لأدركوا مثل جميع المنصفين عجز الزمان عن إبطال شيء منه، ولأيقنوا أن علوم الكون ستظل جميعاً في خدمته للكشف عن آيات الله في الآفاق والأنفس، كما قال -عز وجل- في سورة فصلت:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
إن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- تلقى الوحي بحواسه كلها، ومشاعره كلها، واعياً كل الوعي أنه عبد الله ورسوله الأمين.
وشاء الله أن يظل الوحي متجاوباً مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلمه في كل مرة جديداً ويرشده ويهديه ويثبته ويزيده اطمئناناً، وتجاوباً مع الصحابة -رضوان الله عليهم- يربيهم ويصلح عاداتهم ويجيب عن وقائعهم ولا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته.
قال تعالى:
﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى (3) تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4) ﴾ [طه: 1: 4].
وقال أيضاً:
﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [طه: 114].
مر تفسير القرآن العظيم بأطوار كثيرة حتى وصل إلى ما وصل إليه من تآليف غصت بها بطون الكتب والتصانيف ما بين مطبوع ومخطوط، ولقد نشأ التفسير منذ زمن مبكر ومن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أول شارح لكتاب الله يبين للناس ما نزل على قلبه؛ لأن الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- فما كانوا يجرئون على تفسير آية وهو – صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم، فلما لحق بالرفيق الأعلى لم يكن بد للصحابة العلماء بكتاب الله الواقفين على أسراره من أن يقوموا بتوضيح ما فهموه.
والمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة:
الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير.
أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، والرواية عن الثلاثة قليلة جداً، وأن السبب تقدم وفاتهم، وأجدر العشرة جميعاً بلقب عالم التفسير هو عبد الله بن عباس، الذي شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعلم ودعا له بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) وقد لقب بـ "ترجمان القرآن".
لكن الناس تزيدوا في الرواية عن ابن عباس وتجرأ بعضهم على الوضع عليه، والدس في كلامه، حتى قال الإمام الشافعي: « لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث ».
ومن الذين ورد عنهم شيء من التفسير من الصحابة غير العشرة أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، والسيدة عائشة أم المؤمنين، وما روي عنهم قليل بالنسبة إلى العشرة، وتلقى نفر من التابعين أقوال الصحابة، فنشأت في مكة طبقة للمفسرين وفي المدينة طبقة ثانية، وفي العراق ثالثة.
قال ابن تيمية: « أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس »، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاووس، وغيرهم.
وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس.
وعن التابعين أخذ تابعوا التابعين، فجمعوا الأقوال ممن تقدمهم، وصنفوا التفاسير كما فعل سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد بن حميد، فكانوا بذلك المعين الذي ربى منه ابن جرير الطبري، وجاء المفسرون من بعد ليأخذوا عن ابن جرير. بعد ذلك اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة فكان ما يسمى بالتفسير المأثور، وهو امتداد لما سبق، والتفسير بالرأي، تعددت فيه المناهج وتضاربت الأفكار، فحمد بعضه وذم بعضه.
وأجل التفاسير بالمأثور تفسير ابن جرير الطبري، ويسمى كتابه "جامع البيان في تفسير القرآن"، ومن خصائصه أنه عرض فيه لأقوال الصحابة والتابعين وتحرير أسانيدها، وترجيح بعضها على بعض، واستنباط الكثير من الأحكام، وذكر بعض وجوه الإعراب التي تزيد المعنى وضوحاً.
ويقرب من تفسير الطبري، وقد يفوقه في بعض الأمور تفسير ابن كثير، عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي المتوفى سنة 744 هجرية، ومن مزاياه بساطة العبارة والوضوح في الفكرة والدقة في الإسناد، وتبعا لذلك ألف السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة هجرية كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور".
إلا أن التفسير بالمأثور معرض غالباً للنقد الشديد؛ لأن الصحيح من الروايات اختلط بغير الصحيح، ولليهود وزنادقة الفرس باع طويل في الدس على الدين وتشويه تعاليمه.
بعد معرفتنا وعرضنا للتفسير بالمأثور لابد أن نتعرض للتفسير بالرأي الذي اختلف العلماء حوله، فمن محرم ومن مجوز، والمحرم سببه الجزم بمعنى قول الله في كتابه العظيم من غير برهان، أو محاولة التفسير مع جهل المفسر بقواعد اللغة وأصول الشرع، وتأييد بعض الأهواء بآيات القرآن العظيم زوراً وبهتاناً، أما إذا كانت الشروط المطلوبة متوافرة في المفسر فلا مانع من اجتهاده ومحاولته في التفسير بالرأي.
قال تعالى:
﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ﴾ [محمد: 24].
وقال أيضاً:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (29) ﴾ [ص: 29].
وأشهر التفاسير بالرأي التي تتوفر فيها الشروط الصحيحة تفسير الرازي المسمى "مفاتيح الغيب".
ويعنى ببحث الكونيات عناية خاصة، ويقسم الآية والآيات التي يفسرها إلى عدد من المسائل ثم يسترسل في تأويلها.
وتفسير آخر بالرأي للبيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، ولا يفوته التنبيه على قواعد اللغة، وأكثر مروياته غير صحيح.
وتفسير آخر لأبي السعود، وهو "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" يعنى بالأبحاث المتعلقة بإعجاز القرآن، وهو جميل الأسلوب يتذوق بلاغة القرآن العظيم بشكل سليم.
وأما التفسير النسفي أبو البركات عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 710 هجرية، فهو يرد على أهل الأهواء والبدع، وهو جامع لوجوه الإعراب والقراءات، وفيه إشارات لروائع البلاغة القرآنية في عبارة موجزة.
وتفاسير الفرق الإسلامية المختلفة ترجع في الحقيقة إلى التفسير بالرأي، وتدخل في النوع المذموم، وأصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم، أو لانتصار لمواجيدهم، ومنها تفاسير المعتزلة والمتصوفة والباطنية.
ويغلب على تفسير المعتزلة الطابع العقلي، والمذهب الكلامي، تبعاً لقاعدتهم الشهيرة: « الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل ».
وخير من يمثل هذه النزعة العقلية في التفسير محمود بن عمر الملقب بجار الله المتوفى سنة 538 المعروف بالزمخشري في تفسيره الكشاف.
ويغلب على تفسير المتصوفة الشطحات التي تبعدهم عن النسق القرآني وتجعل كلامهم غامضاً وغير مفهوم، فإن كان يبحث عن نكت بلاغية فسيعود إلى الزمخشري، وإن التمس المباحث الكلامية عاد إلى الرازي، وإن أراد إعراب القرآن فعليه بالبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، المتوفى سنة 745 هجرية، ففيه كثير من المباحث النحوية، والمسائل المتعلقة بالقراءات.
لقد ألفت في القرن الأخير تفاسير لبعض العلماء فيما محاولة للتجديد، ولكن أغلبها قد أخفق وابتعد عن المعاني الصحيحة للقرآن العظيم.
القرآن يفسر بعضه بعضاً، عبارة يرددها المفسرون كلما وجدوا أنفسهم أما آية قرآنية واضحة، ولهم أن ينهجوا في تأويل القرآن هذا المنهج؛ لأن دلال القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول.
لقد كانت هذه الدلالات شاملة جديرة بأن توحي للعلماء وضع مصطلحات خاصة يرمز بكل منها إلى السمة البارزة في كل فكرة يدعوا إليها القرآن العظيم وفي كل مشهد يصوره.
ومن هنا نشأت الدراسات الإسلامية، وفيها ما يسمى بمنطوق القرآن العظيم ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه، ومقيده، ومجمله، ومفصله، وعرفت هذه المصطلحات وأمثالها واستعرضت الشواهد الكثيرة الدالة عليها، وتباينت مناهج العلماء في دراستها.
فمنهم من يبحثها على أساس تشريعي وهم الأصوليون، ومنهم من ينظر إلى هذه المصطلحات من خلال الزاوية اللغوية والأدبية، ليتتبع بلذة وشغف طريقة القرآن في الأداء والتعبير.
لقد نزل القرآن العظيم بلسان عربي مبين يعبر عن العام بالألفاظ التي وضعها العرب لإفادة الشمول والاستغراق، وقد دل الاستقراء على أن ألفاظ العموم لا تخرج عن قوله تعالى:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) ﴾ [الرحمن: 26].
فلفظ ﴿ كُلُّ ﴾ فيها ما يدل على العموم، وفي ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29] ، ولفظ ﴿ جَمِيعًا ﴾ يدل على العموم، وفي قوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]، فيها العموم في لفظ ﴿ كَافَّةً ﴾.
هذا هو القرآن العظيم إنه وحي يوحى وتنزيل منزل.
لقد أقبل العلماء عليه مشغوفين بكل ما يتعلق به فأحصوا عدد آياته وحروفه وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة وأطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما اجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون ذلك وزناً معتقدين أن لهم في كل هذا ثواباً عند الله وأجراً، ولقد بذل العلماء الجهد في تصنيف وتأليف وتبيين مجمل ما ولد من علوم في أحضان القرآن العظيم والدراسات التي دارت حول الذكر الحكيم فخدمت أغراضه وغاياته، وعبرت عن كلياته وجزئياته، وقد بذل أئمة الإسلام الجهد الضخم في تأصيل الأصول ووضع القواعد، فأنشأوا المدارس الفكرية وصنفوا الكتب العلمية، لقد نزل القرآن العظيم وفيه البيان للإنسان ليدرك حقيقته على هذه الأرض، فقد جعله الله خليفته على هذه الأرض التي يعيش فيها، فقال جل شأنه:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) ﴾ [البقرة: 30].
وبين له من خلال القرآن العظيم الحلال والحرام والحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والقوانين الدولية، وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، ومواطن التقييد والإطلاق، وسرد له أسرار الكون وما فيها من خبر مضى وما هو آت ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾ [النجم: 4].
 
رحلة القرآن العظيم (21)

حمل المسلمون من جزيرتهم العربية وبلاد الشام قرآنهم العظيم إلى إفريقية، وكان مع الفاتحين في قراطيسهم وقلوبهم، يلهجون به ليلاً ونهاراً، ويطربون لسماعه في كل حين، وكان دوي صوتهم به يرعب الأعداء ويشفي صدور قوم مؤمنين، ولما كان هذا القرآن عربي اللسان صوتاً وخطاً فقد حمل حروفه الفاتحون إلى كل مكان وصقع حلوا فيه.
وفي سنة خمسين للهجرة وجه الخليفة معاوية بن أبي سفيان جيشاً لإفريقية على رأسه عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري.
وانتصر عقبة على البربر، ودخل معه منهم من دخل في الإسلام، وعينه معاوية والياً على إفريقية، ففكر عقبة في إنشاء مدينة محصنة تكون مركزاً لعملياته الحربية وداراً للتموين والسلاح لمتابعة الفتح، وملجًأ أميناً للجند العربي من تآلب البربر، واختار لذلك مكاناً قريباً من تونس الحالية مملوءاً بالغابات وكانت مدينة القيروان.
واختط عقبة المدينة على نهج المدن المعسكرات، فاختط في وسطها المسجد الجامع، ثم دار الإمارة، ثم بيوت الجند، وبنا حولها صوراً متيناً، واستمر العمل في بنائها أربع سنوات، وكان اهتمام عقبة ببناء الجامع أكثر من بقية أحياء المدينة حتى قيل: لم يبني عقبة مدينة لها جامع بل بنى جامعاً له مدينة.
وقصد عقبة أن يكون الجامع قيرواناً، أي معسكراً وحصناً، واختار مكان قيروانه بعيداً عن شاطئ البحر ليكون المسلمون في مأمن من أسطول الروم وغارات الفرنجة التي كانت تنقض على تونس من صقلية وإيطاليا واليونان، فتحتل وتخرب مدن الساحل مثل سوسا وجربا.
وقد قال له أصحابه حين فتش عن مكان المدينة الجديدة: نحن أصحاب إبل، ولا حاجة لنا بمجاورة البحر.
وكانت الصحراء التي أنشأ فيها المدينة أشبه بصحراء جزيرة العرب، ولن يشعر الجندي العربي بالغربة فيها لما لها من مزايا البيئة الجغرافية العربية.
وبذلك أصبحت الغابة الكثيفة التي كانت مرتعاً للوحوش والزواحف، أرضاً مستوية تقوم فوقها تلك المدينة الزاهرة التي لا تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.
وقد اتخذها الفاطميون في أول تأسيس دولتهم عاصمةً لهم، ثم انتقلوا إلى المهدية، فالقاهرة بعد أن أسسها لهم قائدهم "جوهر الصقلي".
ومن بعدهم اتخذها ملوك الصنهاجيين مقراً لهم، كما كانت منزلاً لأهل قريش من بني فهر وبني تميم وبني هاشم، وفيها مدافن عدد من الصحابة.
لقد كان سكان إفريقية الشمالية من البربر يعيشون على البداوة، وكان لهم بالرغم من بداوتهم كتابة تسمى "فيناج"، لم تزل مستعملة لدى الطوارق في الصحراء الجزائرية حتى الآن.
لم يمضي القرن الهجري الأول حتى كان الإسلام عزيز الجانب موطد الأركان في كل أنحاء المغرب، ودخل في الدين الجديد آلاف البربر، وشحذوا هممهم لتعلم القرآن العظيم، واستهل القرن الهجري الثاني وإذا أفواج من الدعاة والعلماء والفقهاء تفيد على أرض المغرب، فانصهر البربر في المجتمع الجديد، وتحولوا عن حروفهم ومعتقداتهم ونبذوها وراء ظهورهم، وتعلموا شريعة الإسلام، وهجروا حروفهم، وأقبلوا على حروف القرآن العظيم بخط عربي جميل، وبعشق يتناغم من الجدة في المعتقد ويتأصل مع كلام رب العالمين.
وتأسست في أواخر القرن الأول للهجرة جامعة ذائعة الصيت في القيروان، فقصدها طلاب من كل الأنحاء ووفد إليها علماء أجلاء من مدارس الكوفة والبصرة.
قال عنها المراكشي: وكانت القيروان هذه في قديم الزمان منذ الفتح إلى أن خربتها الأعراب دار العلم بالمغرب إليها ينسب أكابر علماءه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم، ولئن كان التطور الحرف العربي، والخط العربي عبر ثلاثة قرون في أحضان المصحف، وكان تحوله من اليابس إلى اللين على يد الوزير أبي علي بن مقلة، فإن الليونة في الخط جاءت عبر رسائل التدوين التي خطت منذ القرن الهجري الأول وأخذت شكلها في القرن الخامس وتحولت إلى نسخ بديع.
ولئن كان ذلك قد حدث في مشرق العالم الإسلامي في حاضرة المسلمين بغداد، فإن الكتابة والخط المغربي اللين قد اشتق مباشرة من الخط الكوفي الجاف اليابس.
وكان هذا الاشتقاق في نفس الفترة الزمنية التي شاع فيها استعمال الخط اللين، المشرقي، ولم يكن لليونة المشرق أي أثر في ليونة المغرب، الذي ظل محافظاً على هيكل يبوسته حتى الآن.
ولقد أصاب "هوداس" فيما ذهب إليه في بحثه محاولة في الخط المغربي من أن المغاربة مع اتصالهم بالمشرق لم يستجلبوا الخط اللين؛ لأنهم توصلوا إلى تبسيط خط الكوفة، وإخضاعه لأغراض تدوين القرآن العظيم.
ولأهل المغرب اعتزاز بما توصلوا إليه من تطوير في الخط الكوفي إلى اعتبار الخطوط المشرقية أقل مستوى من خطهم المغربي الذي تواءم مع إملاء مصحف الإمام، وخضع لتطورات الشكل بالنقط، وإلى استخدام ألوان مخالفة لما في المصحف الذي كتب ببغداد.
لم يرفض المغاربة كل ما جاء إليهم من المشرق، فقد قبلوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير، واستعملوا نقط الإعجام، مع نقط القاف بنقطة واحدة من الأعلى والفاء بنقطة من الأسفل.
واستعملوا الشكل لبيان الحركات الإعرابية بطريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وانفردوا عن أهل المشرق بتجريد حرفي القاف والنون من النقط من الإفراد والتطرف؛ لأنهما لا يلتبسان بحروف أخرى، ولم يكتبوا أسماء السور كما عهدناه في المصاحف المشرقية بخط كوفي مورق مشجر وإنما ابتكروا له نوعاً خاصاً، أطلقوا عليه اسم "خط الثلث المولدي" من "خط الثلث المشرقي" مع استدارات تتواءم مع الخط المغربي.
وكما المشرق فقد ظلت المصاحف المغربية حتى القرن الخامس الهجري تكتب بخط كوفي يابس، أطلق عليه اسم الخط القيرواني، ونلاحظ فيه تطوراً واضحاً نحو ليونة الحرف مع استعمال اصطلاحات خاصة بالمغرب كجرة الوصل التي تثبت في المصاحف المغربية، ولو تتبعنا الخط اليابس في الكتابات المغربية في المصاحف وغيرها لملاحظة تطوره نحو الليونة المتفردة المستقلة لرأينا ذلك من خلال الوثائق التي ما زالت محفوظة في المكتبة الوطنية بتونس.
ونرى في الوثيقة هذه مثالاً لخطوط يابسة تعود لسنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة، وفيها عرقات النون وأشباهها قد تقوست وخالفت أصلها اليابس في حرف السين والراء، في السطر الثاني من الوثيقة.
ولقد رسمت الألف على استقامة واحدة من دون عقفة نحو اليمين كما في الكوفي المشرقي المحقق، كما تنحدر الألف المنفصلة عن مستوى السطر فتكون زائدة كوفية، وهي من ميزات الخط المغربي الذي ما زال إلى الآن، ولعل ذلك راجع إلى رسمها من الأعلى، ولهذه الزائدة أصل في الكتابات الكوفية قبل القرن الثالث الهجري، والكتابات الأنباطية قبل ذلك.
وفي المكتبة الوطنية بتونس أيضاً أوراق من مصاحف عثر عليها في مسجد القيروان، تمثل بداية تحوير اليبوسة إلى الليونة، وفي هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نقرأ: ﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) ﴾ [طه: 134، 135].
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... ﴾ [الأنبياء: 1: 2].
في هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نشاهد بوضوح عراقات النون والياء وأشباههما بأشكال دائرية إلا أن الخطاط لم ينسى أصلهما الجاف، فاستعملهما عند الاضطرار لضيق في آخر السطر، ومثالهما في كلمتي "متربص" "السوي" من آخر السطر الأول والثاني.
أما اللام المتطرفة فلم يقع بها تغيير.
واستعمل هنا الشكل أبا الأسود الدؤلي ونقطه، فالنقطة الحمراء فوق الحرف للفتحة، وتحته للكسرة، والمتراكبتان للضم، والنقط الأخضر للهمزة، ولا وجود للإعجام إلا في حرف الياء من السطر الأخير "يلعبون" "لاهية".
كما تفصل الآيات دوائر فيما بينها، ويبدوا أنهم أجازوا نقط التاء والياء كما رواه الداني فقال: كان القرآن مجرداً في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه: النقط على الياء والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا فيها نقطاً عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ونلاحظ في هذا المصحف أيضاً مخالفته للرسم العثماني الذي حافظ عليه المغاربة في كل عهودهم، وذلك في كلمتي "أصحاب" و"صراط".
والأصل في كتابتهما بالمحذوف، وفي الوثيقة التالية التي جاءتنا من مكتبة جامع القيروان وهي من مصحف لم يتبقى من أوراقه سوى ستمائة وألفي ورقة تحتفظ بها المكتبة الوطنية بتونس، وكتبت على خمسة أسطر وبالخط الكوفي القيرواني الريحاني.
وكتبها وجلدها علي بن أحمد الوراق القيرواني لفاطمة الحاضنة سنة 410 هجرية.
نلاحظ انسياب الحروف وجمالها، ودقة التوزيع والتنسيق فيما بين الأسطر، ونقرأ من سورة البقرة: ﴿ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
إن أثر الجودة والعناية واضح في تنوع منبسطات الحروف مع الألفات الموزونة الطول ودقة الفراغ بين الصواعد وسائر الحروف.
وامتاز المصحف في أوراقه وحروفه بالشكل المثلث الكبير للحروف ذات الرؤوس كالواو والميم والهاء، وكذلك السين والدال، وليتحد شكلهما مع الحروف الأخرى، ورسمت عيون هذه الأحرف دوائر صغيرة مفتحة ومن ميزات هذا المصحف أننا نشاهد حرف الألف بعقفته نحو اليمين، ونرى الألف المتصلة، وحرف الدال وفيهما طرف ينحدر عن مستوى السطر، وعراقة الراء والميم خط دقيق بجانب القلم، وميل في ألف حرف الطاء وكأنما تشبه حرف الكاف، واستقامتها في ثلثها الأعلى، ونلاحظ أيضاً كبر رأس العين في جميع الحروف، وسيبقى هذا الأثر واضحاً في جميع المصاحف التي ستأتي من بعد.
وللألف لام ميلان نحو اليمين في الألف المركبة على اللام، ولقد اتبع الخطاط ابن الوراق في هذا المصحف طريقة الخليل بن أحمد في الشكل من ضم وفتح وكسر وشدة، وجعل رأس الهمزة رأس عين صغيرة. وابتكر للمدة صورة وضعها في رأس الألف في قوله: ? بِمَا شَاءَ ?، وابتكر للصلة جرة، جعلها إتباعاً لموقع الحركة، وهو ما تمتاز به المصاحف المغربية عن غيرها، وإن نظام بدايات السطور ونهاياتها واتزان الحروف واتصالها ببعضها لا يدل على تمكن يد الخطاط وذوقه الرفيع.
ويتجلى في رسم الحروف ذات الرؤوس في شكل مثلثات، وإخضاع حروف أخرى لهذا الشكل، والكلمات أيضاً، وابتكر ياءً راجعة في قوله ﴿ الْعَلِيُّ ﴾ بعد أن نسق الفراغ فيما بين أعلى الكلمة وأسفلها.
إن هذا الفراغ الذي يفصل الخطوط المستقيمة بدقة واستواء لهو امتحان لبراعة الكاتب وإجادته، وهذه القاعدة التي اتبعها في هذا المصحف من تنسيق البياض بين أجزاء الحروف الضخمة لهي من الأساليب المتبعة عند أهل المغرب، وفي كتاباتهم عبر الزمن الطويل.
ولقد كان للخط العربي تأثير في الكتابة الكوفية منذ عهد الأندلس، ومنهم شاع هذا التأثير في الأساليب الخطية الغربية اللاتينية، إنه القرآن المعجز في كل جوانبه.
تأخرت كتابة المصاحف الشريفة في المغرب والأندلس وتأخر تدوينها أكثر من قرنين من الزمان عن تدوينها في المشرق، وأقدم المصاحف التي جاءتنا من الأندلس أو المغرب لا يتعدى القرن الرابع الهجري، وكان أهل إفريقية والأندلس يسيرون في كتابتهم مسيرة أهل المشرق، ويحذون حذوهم في استخدام قلم الكوفة المحقق اليابس، وينقطون الحروف ويعجمونها على طرائق أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي مع بعض التبديل والتغيير والتعديل.
ولما غدت القيروان حاضرة المغرب ومهبط الفن في إفريقية وشبه الجزيرة الليبيرية انتقل إليها كتاب وعلماء وفنانون ومزخرفون ومذهبون.
وقامت في المغرب نهضة خطية لا مثيل لها، وأسست مناهجه ومدارس ومذاهب في الكتابة لا علاقة للمشرق بها.
وتميزت بلاد الأندلس عما هو في بغداد في دخول المرأة هذا الميدان ونوالها شرف الكتابة، كتابة المصحف الشريف، وكانت النساء الأندلسيات في الدواوين يعملن كاتبات وخطاطات، يعملن مع لبنى بنت الخليفة المستكفي.
وكانت فاطمة العجوز تنسخ لها بخطها الجميل الكتب وتخرجها مذهبة رائعة.
وممن اشتهرت من النسوة ونالك شرف كتابة المصحف العظيم عائشة بنت أحمد وراضية مولاة عبد الرحمن الناصر لدين الله.
وجاء في تاريخ الموحدين لدوزي أنه كان فقط في الروض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة لنسخ المصاحف، ومنهن من يتمتعن بالخط الجميل، ويحق أن يحملن لقب ميفنة.
لقد كان المغرب في النصف الثاني من القرن السادس الهجري تحت حكم الموحدين، بعد انقراض دولة المرابطين بقتل آخر ملوكهم "تاشفين بن علي" سنة 539 هجرية، والموافق لسنة 1145 ميلادية.
ويعد القرن الثاني عشر الميلادي عصر إمبراطورية الموحدين بلا جدال، أكبر إمبراطورية شهدها غرب البحر الأبيض المتوسط.
نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت الملقب بالمهدي، ودعى إلى القضاء على دولة المرابطين، ولما توفي سنة 524 هجرية بايع أصحابه تلميذه عبد المؤمن بن علي الذي استولى على مراكش، وفتح بلاد إفريقية ومد نفوذه إلى برقة، وخرج للجهاد في بلاد الأندلس، وفي عهده أمر بإخراج المصحف الإمام من قرطبة سنة 552 هجرية، وهو أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار.
وقد اعتنى به الموحدون كل الاعتناء، وأقاموا له كل زينة من تذهيب وكسوة، وقد تحدثنا عنه مفصلاً في حلقات سابقة.
نجح عبد المؤمن خليفة بن تومارت في أقل من ثلاثين سنة في توحيد المغرب وغزو الأندلس والسيطرة على بني هلال في الجزائر، وإعادة السلام إلى تونس، فأصبح يدعى له على المنابر من طرابلس حتى قشتالة، وسرعان ما وضع نظاماً إدارياً حازماً استمده من النظام الأندلسي.
ونشر الحضارة الإسلامية الأندلسية في شمال إفريقية وشجع خطاطي المصاحف وقدم لهم المكافآت المجزية، وشاع في عصره البنيان متألقا بطرازه الإسلامي واضحاً في هيئته ونمطه، ومثال ذلك مئذنة جامع القطبية، ومساجد تازة وتمال.
ووصل خلفاؤه صنعه، فأكمل أبو يعقوب المنصور قصرة مراكش وأنشأ الحصن الموحدي، وشرع في بناء مئذنة ومسجد حسان بالرباط، وخص الأندلس بأعمال بلغت حداً كبيراً من العظمة، مثل الخرالدا وسور القصر.
تولى الخلافة يوسف من سنة 558 هجرية، فسار للأندلس وقاتل الفرنجة، وتوفي فيها متأثراً بجراحه سنة 580 هجرية، وكان عالماً شديد الاحتفال بالعلماء ففي عهده ظهر ابن رشد الشهير، وجاء من بعده يعقوب وسار للأندلس مرتين انتصر فيهما في موقعة الأرك سنة 559 هجرية.
لم يكن الأمراء والموحدون من بعد يعقوب بمثل قوة آبائهم وشجاعتهم وجهادهم، فضعفوا وحل محلهم المرينيون في مراكش، ودولة بني عبد الواد في الجزائر، وبني حفص في تونس، ويمتاز عهد الموحدين في الأندلس منذ عبد المؤمن بشيوع كتابة المصاحف الشريفة، ونبوغ آل غطوس في فالنسيا كما شاهدنا ذلك في حلقات ماضية.
أفل في المغرب العربي قمر الموحدين، وسطعت شمس المرينيين، لتصور اللحظات الأخيرة للتجمع المغربي الأندلسي.
والمرينيون من زناتا، وينتسبون للأمير عبد الحق بن الأمير محيو، وهو أمير ابن أمير إلى جد مرين، دخل المغرب من الصحراء من ذا بإفريقية موضع إمارته عام 610، وانضمت إليه قبائل البربر مطيعين له، فعظم سلطانه واتسع ملكه، ودامت إمارته 22 سنة، وقتل سنة 614 هجرية.
وفي عهد حفيده علي تمت معاهدة الصلح مع الأسبان، اشترط فيها إعادة المخطوطات من المصاحف الثمينة والكتب إلى قرطبة وإشبيلية، ولما تسلمها حبسها على المدرسة التي أنشأها في فاس، واعتنى بتأسيس المدارس حول جامعة القرويين، واشتهر بنسخ ثلاث مصاحف أهداها للبيت الحرام، ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى.
ويذكر المقري نقلا عن ابن مرزوق أنه أهدى نسخة من المصحف الشريف بخطه للملك الناصر قلاوون.
لم يكن المغرب خلال هذه الفترة يسير على ما جاء به المشارقة من رموز في المصحف الشريف، وإنما كانت لهم شخصية مستقلة آثروا بها التميز في كتابة القرآن العظيم، وممن اشتهر منهم في قرطبة وكانت من أكثر البلاد التي استنسخ فيها القرآن العظيم محمد بن إسماعيل الذي يكتب المصحف في أسبوعين، ومنهم خلف بن سليمان وكان متخصصاً في نقط المصاحف لإتقانه علم القراءات.
وهذا يدل على أن نساخ المصاحف كانوا ينقسمون إلى فئات، فمنهم من يكتب الحرف، ويأتي من بعده من ينقط عن علم ودراية.
وللنقط فنون وعلوم، والألوان فيها تأخذ جل المعاني فالأصفر والأخضر والأحمر واللازبرد وغير ذلك كل منها له دلالة ووظيفة، وكل دائرة لها معنى ولها اصطلاح واشتهر في طليطلة نصر المصحف، وابن مفضل من أهل مالقة الذي كتب سبعين مصحفاً كاملاً، ومحمد بن حكم بن سعيد الذي أجاد في كتابة مصاحفه، وكان الناس يتنافسون على اقتناء مصحف من خطه.
وأورد ابن الأبَّار المؤرخ الفلنسي عدداً كبيراً من كتبة ونساخ المصاحف من أهل فلنسيا وغرناطة في القرن السابع والثامن الهجريين، وتقول المصادر الأسبانية التي احتفظت بوثائق مصحفية مؤرخة سنة 900 وبعد أن انتهت حركة الاسترداد ظل بين ظهرانينا المورسكيون، الذين حافظوا على مصاحفهم، وتعليمهم الديني، وكتبهم ومخطوطات الأجداد التي تركوها، ولكن بقدر ما تسمح الظروف لهم، وبقدر الزمن الذي كانوا يعيشون فيه، وقد قاومنا مسألة تعليم القرآن مقاومة عنيفة، وأدت أوامر التحريم المتكررة اعتبار هذا الميل جريمة، وانتهى بطرد المورسيكون من أسبانيا، والموريس اصطلاح أسباني أطلق على اللاجئين المسلمين وهي مرادفة لاصطلاح المدجلين الذين استكانوا وبقوا بعد سقوط آخر دولة إسلامية في الأندلس.
لقد حفظ التاريخ لنا بعضاً من الوثائق والمخطوطات والمصاحف نرصد من خلالها مسيرة التطور في الرسم القرآني المصحفي المغربي والتي تختلف قليلاً عن مسيرة التطور في مصاحف أهل المشرق.
وبين أيدينا وثيقة من مصحف يعود لفترة ازدهار الحضارة في المغرب والأندلس، وتحتفظ به مكتبة الأوسكريال، وكتب على الرق وهو من القرن السادس للهجرة، ونقرأ في الوثيقة من سورة المرسلات ورأس سورة النبأ والبسملة: ﴿ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) ﴾ [المرسلات: 42: 50]، سورة النبأ أربعون آية، بسم الله الرحمن الرحيم.
نشاهد في هاتين الصفحتين طرازاً جميلاً لحرف متطور عن الكوفي اليابس، وفيه من الليونة ما يدل على النظرية التي كنا قد أشرنا إليها فيما مضى، وهي أن الخط المغربي تحول مباشرة عن الكوفي اليابس، بعكس ما جرى مع المشرق حين تطور النسخ عن خط الرسائل اللين.
كما نشاهد في هذه الوثيقة الحفاظ على الرسم العثماني وهي ميزة تميزت بها المصاحف المغربية والأندلسية، فلم تخالف رسوم المصحف الإمام، وإنما بقيت محافظة عليه طيلة الزمن الطويل.
كتب هذا المصحف بمداد لون بني ووضع رسوم الشدة والسكون بلون أزرق.
وقد يتساءل المرء عن اختياره للشدة والسكون لوناً واحداً، وحين نعلم أن الخطاط كان على علم بالعربية والتجويد يزول التساؤل، وهذا من توافق المبنى مع المعنى، فالشدة عبارة عن حرفين ساكن فمتحرك، والسكون ساكن هادئ، فتوافقت الشدة وتآلفت معه ؛ لأنها من ذوات الصوت الخفي، ولن ينسى الناسخ أن يضع حرف ميم للإقلاب، وبلون أزرق وهي توحي بالسكون أيضاً ففي قوله: ﴿ هَنِيئًا بِمَا ﴾ نلاحظ حرف الميم باللون الأزرق، وكذلك في قوله: ﴿ حَدِيثٍ بَعْدَهُ ﴾ ونشاهد في هذه الوثيقة أيضاً الخلاف في الرموز المشرقية، وهي الفوارق التي نأى بها المغاربة عن المشارقة فنقطت الفاء بنقطة من الأسفل، ونقطت القاف بواحدة، وأما الضمة فقد رسمت حرف راء بدل الواو، وهي مأخوذة من فعل "رفع"، وشكلت الحروف باللون الأحمر على طريقة الخليل، والفتحة رسمت مستقيمة، كما وضعها الخليل ألفاً مبطوحة مالت مع مرور الزمن، وأما الهمزة فقد رسمت نقطة صفراء برتقالية، ووضعت كلمة مد في ? هَنِيئًا ? رمزاً للمدة، ورسمت دوائر ثلاث فواصل بين الآيات وهي مضفورة تنبئ عن بداية تطور الفن الزخرفي، ورسم حرف الهاء بالذهب نهاية كل خمس آيات دلالةً على التخميس.
وفي الحاشية مرصعات أيضاً وضع في داخلها كلمة "خمس"، وذهب اسم الصورة بقلم الكوفي المتطور عن المحقق، ونشاهد حرف العين في أربعون مفتوحاً على سنة القرن الهجري الأول، ولتبيان حرف الألف المحذوف في رسم المصحف أضاف حرف ألف باللون الأحمر لضرورة النطق السليم، وهذا ما نلاحظه في ﴿ وفواكه﴾ و﴿ كذلك﴾ وفي ﴿الرحمن﴾.
ومصحف آخر يسير على نفس النسق مكتوب على الرق نقرأ فيه من سورة الأعراف: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ (57) ﴾ [الأعراف: 55: 57].
كتبت حروف هذا المصحف بمداد لون بني ضارب للحمرة وخطه أندلسي مغربي، استخدم فيه الخطاط دائرة خضراء للدلالة على همزة الوصل، وهو ما شاهدناه أيضاً في المصحف من قبل.
ونهج فيه ذات النهج فاستخدم الشدات والسكنات ورسمها بلون أزرق، في حين استخدم النقطة الصفراء لهمزات القطع، واستخدم النقطة الواحدة لتدل على نهاية الآية، ورسم على الحاشية ثلاث نقط دلالة على نهاية الآية، وبين أيدينا مصحف نادر جداً صغير الحجم كتب على الرق وبخط مغربي أندلسي وبالحبر البني الفاتح اللون، ويحتوي على ست صفحات مزخرفة بشكل هندسي ونباتي، وفيه من الدقة ما يعجب له الإنسان.
وأسماء السور في هذا المصحف كتبت بالخط الكوفي المغربي، وتنتهي برصائع على هامش الصفحة دائرية الشكل ملفوفة ببعضها، ونلاحظ الهامش وقد اكتظ بالأشكال، وهي تحمل شكل رأس السورة ورموز الأخماس والأعشار، وفي الصفحة اليمنى وفي القسم العلوي نشاهد شارة بدء العشر الثامن، وهذه التقسيمات التي اعتنى بها المسلمون عناية بالغة حين قسموا المصحف لأجزاء وأرباع وأحزاب، وقد رسم المذهب الشكل على شاكلة نافذة لتطل على العشر الثامن، وتحمل الحواشي أشكالاً هندسية ضمن دوائر تحمل رمز السجدة، وقد كتبت بالذهب على أرض زرقاء، ونلاحظ في هذه الصفحات بالرغم من صغرها دقة الفن في جماليات القرآن العظيم.
ونشاهد سورة العصر وسورة الهمزة، وسورة الفيل، وسورة قريش، وسورة الماعون، وسورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، وسورة المسد، والإخلاص، والفلق، والناس.
 
رحلة القرآن العظيم (22)

قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ﴾ [الحجر: 9]، وعد إلهي ولا يخلف الله وعده بأن تظل كلمات القرآن العظيم محفورة في القلوب قبل أن تخط في الصحائف والسطور.
ولقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بدء التنزيل بالرغم من حفظ آيات رب العرش العظيم في الصدور أن تخطى وتحفظ لتكون الكتابة صنو القراءة والحفظ.
ومرت الأيام سراعاً ودوِّن القرآن العظيم في السطور، وتطور الخط العربي في أحضانه وأصبح فناً لا يجارى، وولدت علوم وصنائع كان أهمها صناعة الكتاب وما احتواه من فن التجليد والتقشير ومن قبل صناعة الورق.
كل ذلك خدم الثورة الثقافية والدعوة للعلم التي جاء بها الإسلام، وكانت آياته الأولى التي تتنزل تدعو إلى ذلك ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ﴾ [العلق: 1]، ولم يمض نصف القرن حتى أصبح المصحف الشريف في لبوس موَشن يحفه الجمال والكمال في الهيئة التي صاغها الإنسان المسلم شرفاً وعزة وتعظيماً لكتاب الله -عز وجل-.
وكان أول من أجاد وحسن وطور في خط المصاحف خالد بن أبي الهياج، الذي كان منقطعاً لكتابة المصاحف للوليد بن عبد الملك، وجاء من بعده مالك بن دينار المتوفى سنة 131 هجرية، ثم جاء قطبة المحرر إلى أن ظهر ابن مقلة وطور في الخط اللين، وكتبت المصاحف بالخطوط اللينة، ولقد جاءنا من القرون الأولى مجموعة من المصاحف من مشرق الأرض ومغربها، استعرضنا أغلبها في الحلقات الأولى من البرنامج، وشاهدنا أجودها وأجملها ولاحظنا التطور الذي طرأ على رسوم العربية عبر القرون، وبين أيدينا صحيفة متبقية من مصحف شريف كتب على الرق بالخط الكوفي المحقق المذهب المسور بمداد السناج.
وقد استخدم فيه كاتبه قواعد أبي الأسود بالألوان، مما جعل الصفحة ذات بريق رائع وحسن أخاذ، كما تظهر في الصفحة فواصل الآيات، وقد زينت بشكل أزهار دائرية زرقاء، ونلاحظ علامة التعشير وهو حرف الياء في هذه الفواصل، وهذه الوثيقة من النوادر جداً، ومن المعروف أن الكتابة بالذهب كانت تقتصر على مصاحف الخلفاء والأمراء فحسب، ولقد ضاعت معظم صفحات الصحف، ولم يبق منها سوى هذه النادرة.
ونلاحظ دقة وإتقان الحروف التي توحي ولكأن كاتبها قد خطها بمسطرة.
ونقرأ في هذه الوثيقة من سورة "ق" ومن الآية السادسة من قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) ﴾ [ق: 6: 14].
إن ما صنعه الخطاط في هذه الوثيقة أن أجرى تعديلاً وتطويراً في حركة التنوين حين يأتي مكسوراً، فقد نقطه باللون الأزرق وبدائرتين متجاورتين، وهذا ما لا نبصره في جميع المصاحف، إذ لم يقتصر على تغيير اللون فحسب، وإنما وضع النقطتين متجاورتين، وإن في هذه الصفحة من الإتقان ما هو عجيب ينم عن صبر طويل وجلد، فقد وضع في الصفحة عشرة أسطر، وانتقى الصفحات مستطيلة الشكل كما جرت العادة في المصاحف الأولى.
ومن المصاحف الكوفية المذهبة وصلتنا وثيقة هامة لما تحويه من غلظ القلم أثناء الكتابة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا المصحف كتب لأمير أو لسلطان طاعن في السن، ويدل عليه حجم القلم الذي كتب فيه كي يبصر القارئ بوضوح كلمات الله في كتابه المجيد.
وقد صورت الكلمات كما جرت العادة بمداد السناج وبلون بني.
وخطت الآيات على الرق، وجعلت الفواصل باللون الأزرق، وكتب بداخل الفاصلة رقم الآية حرف لام، ويوازي رقم ثلاثين في حساب الجُمَّل، ثم وضع الرقم كتابة على الحاشية، وهذا تطوير جديد في ترقيم المصحف، إذ كنا نشاهد فيما مضى علامات التخميس والتعشير فحسب، وليس من أرقام على صفحات القرآن العظيم.
ونقرأ في هذه الوثيقة آيات من سورة العنكبوت من قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) ﴾ [العنكبوت: 31، 32].
تعود هذه الوثيقة إلى القرن الثالث الهجري وهي من القيروان، وقد مضى على كتابتها أكثر من ألف سنة، وما زالت تحتفظ ببريقها وجدتها، وكأنها كتبت حديثاً وذهبها يضيء ولكأنه ثقل حديثاً، وتوجد صفحة أخرى من هذا المصحف النادر الذي عفت عليه القرون وضاعت صفحاته ضمن مجموعة متحف مدينة "سان بيتر سبورج".
ومن الصفحات النادرة أيضاً التي جاءتنا من القرون الخالية صحيفة من مصحف شريف متميز بالخط الكوفي المذهب على الرق المصبوغ بالنيل الأزرق الداكن دون علامات تشكيل، ووضعت فواصل آياته على شكل دائرة بالفضة، وهذه الوثيقة فيها ملامح ومعالم بداية استقرار صنع الألوان المجردة التي ترمز إلى السماء الزرقاء، واستعمل الذهب للكتابة ليؤدي دور التضاد في اللون مما يبهج العين ويعجب به المتأمل.
وتعود هذه الصفحة للقيروان، ومن مطلع القرن الرابع الهجري، وينسبها بعض الخبراء للقرن الثالث، وقد خطت لأحد الحكام الفاطميين.
ونقرأ في هذه الوثيقة آيات من سورة آل عمران من قوله تعالى: ﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) ﴾ [آل عمران: 188: 192].
إن التناسق في ترتيب السطور جاء مدروساً بأبعاده وأحجامه، ولا شك أن الكاتب قد عانى في صبره وهو يخط هذه الآيات على أرضية زرقاء قاتمة، وكل ذلك تقرباً إلى الله -سبحانه وتعالى- في حفظ تدوين كتاب الله -عز وجل- بأبهى حلة وأجمل شكل.
وفي الوثيقة التي جاءتنا من القيروان وهي هامة؛ لأنها توضح كتابة وتدوين القرآن العظيم في الفترة التي سبقت تطوير الخط المغربي، ولأنها خطت بالخط الكوفي المغربي، ونلاحظ في حروفه هيكل الحرف الذي مال فيما بعد إلى الليونة.
خطت هذه الوثيقة على الرق، ودونت بمداد بني قاتم داكن، ولونت علامات التشكيل بالأحمر دون أن تكون هناك فوارق بألوان النقط، ونحن نعلم أن المغرب استعملت فيه النقطة الصفراء لهمزة القطع، ونراها في هذه الوثيقة وقد نقطت باللون الأحمر على طريقة أبي الأسود، وما هو جديد في حروف هذا الخط الكوفي المغربي أن الكاتب قد جنح إلى الليونة والانضجاع في حروف الياء والنون، ونقط الحروف المعجمة على طريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي مع شيء من التطوير.
ونقرأ في هذه الوثيقة من قوله تعالى من سورة هود: ﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) ﴾ [هود: 27: 30].
إن هاتين الصفحتين من القرآن العظيم هما في حالة حسنة، وهما ضمن مجموعة متحف مقاطعة "لوس أنجلوس".
وقد قامت الدراسات على هذه الوثيقة لتبيان التطورات التي جرت على رسوم الكتابة في المغرب العربي، والتي وصلت إلينا في هذا العصر على الطريقة اللينة المبسوطة.
ومن المصاحف النادرة التي خطت في العصر السلجوقي وصلتنا ثلاث صحائف من مصحف شريف كتب على الورق وبالخط الكوفي البديع، الذي يسميه علماء الكتابة من المستشرقين، الخط الكوفي المشرقي.
ونلاحظ في هذه الوثائق تغير قطع المصحف، وتطوره من شكل المستطيل الأفقي إلى الطولي، وفي الصفحة ستة أسطر، وقد أحيطت أسماء السور بزخارف ذهبية زاخرة، حيث تمتد أطرافها إلى هامش الصحائف بسعيفات ذهبية زرقاء.
انتشر هذا الخط الجميل في أحضان القرآن العظيم بعد ظهور الورق، ورافق تطوره تطور الزخرفة واتباع القطع الرأسي.
كل هذه التطورات بدأت منذ القرن الخامس الهجري، ونلاحظ في هذه الوثيقة مرصعة فيها نوع الصورة وهي مكية، كما نلاحظ جمال الخط الكوفي في رسم اسم السورة، وقد صاحبته الزخارف تنم عن ذوق رفيق لأشكال ورقة التين.
ونقرأ في الصفحة الأولى من نهاية سورة التحريم من قوله تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ(12) ﴾ [التحريم: 12]، ثم نقرأ اسم السورة التي تليها وهي سورة "الملك" ثلاثون آية، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الصفحة الثانية نقرأ من نهاية سورة القلم من قوله تعالى: ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) ﴾ [القلم: 51، 52].
ثم نشاهده شكلاً جمالياً زخرفياً وقد قسم إلى جدولين، في الجدول الأول اسم السورة "سورة الحاقة"، وفي الوسط كلمة "خمسون" وفي الجدول الثاني "وآية مكية" والسورة هي اثنتان وخمسون آية مكية على رواية حفص، ثم نقرأ من سورة الحاقة، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) ﴾ [الحاقة: 1: 3].
وننتقل إلى الصفحة الثالثة ونشاهد فيها غنى الزخرفة في رأس السورة، وهذا يدل على أن القرآن هذا لو وجد لرأينا فيه غنى في الزخرفة الإسلامية؛ لأن المذهب استخدم أشكالاً لكل سورة يختلف فيها الاسم ضمن تكوينات جديدة ساحرة مذهبة.
كما نلاحظ المرصعات التي على حواشي المصحف، فاستخدم المذهب أيضاً فواصل مروحية بين الآيات، مستمدة من مراوح النخل، وفيها أرقام الآيات على حساب الجُمَّل.
ونقرأ في رأس السورة اسم سورة "الإنسان" ثلاثون، ثم ننتقل إلى الجدول الثاني الذي رسمه على شكل مثمن دائري وفيه وآية مكية وبذلك يكون عدد الآيات لهذه السورة إحدى وثلاثون.
ونقرأ في هذه الوثيقة بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ... ﴾ [الإنسان: 1، 2] لقد كتبت هذه الصفحات من هذا المصحف النادر بمداد لون بني قاتم، كما زاوج في شكله بين طريقتين ومنهجين حين قرن أسلوب أبي الأسود بأسلوب الفراهيدي، ونقط الكلمات باللون الأحمر، ووضع الشدات والسكون باللون الأزرق، صفحات من قرآننا العظيم تحدثت عنها القرون، وحملتها الصدور عبر ألف وأربعمائة عام.
ظهر في وقت متأخر مصطلح الرسم المصحفي والرسم العثماني في المؤلفات التي اهتمت بموضوع خط المصحف وصار مصطلح الرسم يهتم بكيفية كتابة الكلمات في المصحف، ولم يحدث لكتاب في تاريخ البشرية أن نقل عناية التامة والاهتمام من حيث كتابته ورسم حروفه ومن حيث تلاوته وتحقيق قراءته ومعرفة أحكامه وبيان معانيه كالقرآن العظيم.
فقد روى علماء الرسم وسجلوا في كتبهم وصف هجاء كل كلمة وردت في المصحف، خاصة تلك التي تميزت برسم معين، إذ ما إن وصلت المصاحف التي كتبت في المدينة في خلافة الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار الإسلامية حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها حرفاً بحرف، وكلمة بكلمة، وإقامة مصاحفهم بعرضها عليها.
وكما اشتهر أئمة بقراءة القرآن العظيم وإقراءه في الأمصار كذلك اشتهر أئمة بضبط اسمه والكتابة على ما جاء في المصحف الإمام الذي وجه إليهم.
وبذلك قامت المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول، وما إن بدأ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري حتى سارع أئمة الضبط في رسم كلمات المصحف إلى تدوين هذا العلم، وتسجيل ذلك في كتب أصبحت الأساس لسور الكلمات في المصاحف، ومرجعاً لمن أراد أن يخط مصحفاً بالإضافة إلى ما تبقى من المصاحف المنسوخة.
وظهر علماء في مختلف الأمصار يعملون في ميدان علم رسم المصحف ويقارنون بين المصاحف المكية والمدنية، ومصاحف أهل الشام والعراق.
وظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما جاء في مصحف بلده، وأئمة القراءات كانوا يروون كيفية رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة، وكانت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داراً للقرآن وقراءاته ورسمه، فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، المتوفى سنة 117 هجرية.
ومن أهم من نقل رسم كلمات القرآن العظيم إمام المدينة في الرسم نافع بن عبد الرحمن بن أبي النعيم، المتوفى سنة 169 هجرية، وهو أحد القراء السبعة الأعلم، وهو من أهم من نقل رسم المصحف.
ولد بالمدينة وأقرأ الناس بها بكثير من القراءات، وعاش عمراً طويلاً، وكان مصحف عثمان -رضي الله عنه- الذي أعطاه لأهل المدينة يحتفظ به عنده، وقد حفظه برسمه عن ظهر قلب، وقرأ عليه خلق كثير، فقد أقرأ الناس أكثر من سبعين سنة، وشرق تلامذته وغربوا، ونقلوا عنه علوم رسم كتابة المصحف.
ومنهم سليمان بن مسلم بن جماز، المتوفى سنة 170 هجرية، وإسماعيل بن جعفر المدني المتوفى سنة 180 هجرية، وعبد الله بن وهب المتوفى سنة 197 هجرية، والغازي بن قيس الأندلسي المتوفى سنة 199 هجرية، وعيسى بن مينا قالون المتوفى سنة 220 هجرية، وفي البصرة كان أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 إماما في الرسم، وفي الكوفة كان أبي عمارة حمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156 من أئمة الرسم أيضاً، وفي دمشق كان أبو الدرداء المتوفى سنة 132 هجرية إماماً في الرسم.
أخذ عنه عبد الله بن عامر المتوفى سنة 118 هجرية، وجاء هشام بن عمار المتوفى سنة 245 فأخذ الرسم عن ابن عامر وكان إمام أهل دمشق في زمانه.
هؤلاء هم أئمة الرسم وعماد الرواية، ينقلون كلمات المصحف العظيم كما هي، وألف ابن عامر والكسائي والفراء كل منهم كتاباً في علوم فن رسم رموز وكلمات المصحف الشريف.
ظلت المصاحف إلى جانب روايات الأئمة المصدر لدراسة رسم كلمات المصحف، والمؤلفون يروون الروايات المتقدمة، ويعقبون بأنهم رأوا ذلك في مصحف بلدهم، والمصاحف المخطوطة في الزمن الأول خير شاهد ودليل، وأفضل معين وأصدق رواية عن طريقة رسوم كلمات المصحف العظيم، والتي لا يمكن أن يغفلها أمام روايات وكتابات المدونين لعلوم الرسم المصحفي.
يطلق على الرسم المصحفي الذي كتبت به حروف القرآن العظيم وكلماته اسم الرسم العثماني نسبة إلى سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وهذا لا يعني أن الخليفة عثمان -رضي الله عنه- قد وضع رسوم المصحف وهيئة كلماتها، وإنما هو الذي أمر أن يجمع في عهده ويخط من المصحف الأم الذي خط زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجمع لأول مرة زمن الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ولا فضل لعثمان في الرسم إلا أمره بالجمع بعد أن أخذ مشورة الصحابة، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، الذي كان يقول دائماً: « لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوالله ما فعل الذي فعل بالمصاحف إلا بأمر منا ».
وفي الرسم هذا لا يطابق المنطوق المكتوب، والرسم يتحمل أكثر من وجه، وأكثر من صورة منطوقة، لقد ألفت كتب كثيرة في علم الرسم المصحفي هذا من حيث هو علم، وفي ذلك اهتمام عظيم للقرآن العظيم فهو كلام رب العرش -جل وعلا- الذي سيظل في الأرض حتى يرثها ومن معها.
ألف السجستاني أبو حاتم المتوفى سنة 255 هجرية كتاباً في اختلاف هجاء المصاحف، وألف أبو عمرو الداني المتوفى سنة 444 هجرية كتاب "المقنع والمحكم"، وألف سليمان بن نجاح المتوفى سنة 496 هجرية كتابه "التنزيل"، وألف أبو العباس المراكشي المعروف بابن البناء المتوفى سنة 721 هجرية سفره النفيس الذي يعد من أندر الرسالات في موضوعه وهو كتاب "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل" .
يقول ابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654 هجرية: « اعلم وفقك الله أن رسم المصحف يفقتر إلى معرفة خمسة فصول عليها مداره أولها: ما وقع فيه من الحذف، وثانياً: ما وقع فيه من الزيادة، وثالثها: ما وقع فيه من قلب حرف إلى حرف، ورابعها: أحكام الهمزات، وخامسها: ما وقع فيه من القطع والوصل ».
ويعرف الخط بأنه تصوير اللفظ بحروف هجائه، ومن هنا كان الأصل في كل مكتوب أن يكون موافقاً تماماً للمنطوق به زيادة ونقصاً وتغييراً، إلا أن هذا الأصل خولف كثيراً في المصحف المكتوب، وظل مصطلح الرسم القرآني مستقلاً بنفسه، جارياً في بعض ألفاظه على غير قياس، غير متأثر ببعض القواعد الهجائية القديمة أو المستحدثة، وقد نشأ بسبب اختلافات الرسم الإملائي لما هو منطوق علم الرسم القرآني و ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [الفرقان: 1]، بسورة الفرقان، و ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا ﴾ [الفرقان: 10]، في سورة الفرقان، و ﴿ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64] بسورة غافر.
ونشاهد الألف المحذوفة في الآيات ﴿ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ ﴾ [الرعد: 4]، في سورة الرعد، ﴿ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ﴾ [النحل: 11] في سورة النحل، ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ﴾ [النحل: 67]، في سورة النحل أيضاً، و﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) ﴾ [النبأ: 32] في سورة النبأ، وهي مثبتة في قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [البقرة: 266]، في سورة البقرة.
ونشاهد أيضاً حذف الألف في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ في كلمة ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ في الآية الثانية والثلاثين من سورة البقرة، وفي ﴿ سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191] في سورة آل عمران، وفي ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، في سورة الإسراء، وفي ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ [الإسراء: 43] في سورة الإسراء، وفي ﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ [الإسراء: 108] في سورة الإسراء أيضاً.
بينما نشاهد الألف مثبتة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [الإسراء: 93] في سورة الإسراء، ومما نشاهد في الاختلاف أيضاً كتابة حرف التاء، وفي أغلب المواضع تاءً مبسوطة في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ﴾ [البقرة: 218] في سورة البقرة، و ﴿ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ﴾ [هود: 73] في سورة هود، و ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ [مريم: 2] في سورة مريم، و ﴿ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ ﴾ [الروم: 50] في سورة الروم، و ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 32] في سورة الزخرف، و ﴿ رَحْمَت رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 32] في سورة الزخرف.
قال الزركشي: « إن اتباع حروف المصحف كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها، لقد تبع علماء الرسم المصحفي الكلمات التي يختلف رسمها عن نطقها، وعللوا لها بما يعرف منه أن مرجع الخلاف هو ما في الكلمات من قراءات يحتملها الرسم، أو ما فيها من قراءات واحدة يستدعى أن تكتب بسورتها التي لا تحتمل ما سواها.
وهذا نظام الدين النيسابوري ينقل عن جماعة من الأئمة قولهم: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت، وكان أمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكاتب وحيه، وعالماً من هذا العلم بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يعلم غيره، فما كتب شيئاً من ذلك إلا لعلة لطيفة وحكمة بليغة، ألا ترى أنه لو كتب على صلواتهم أو إن صلاتك بالألف بعد الواو أو بالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على وجه واحد وقراءة واحدة.
وكذلك ﴿ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 42] تكتب: "وسيعلم الكفر" بغير ألف ألف قبل الفاء ولا بعدها، ليدل على القراءتين.
وإن في الرسم العثماني المصحفي فوائد:
منها: الدلالة على الأصل والشكل والحروف لكتابة الحركات حروفاً باعتبار أصلها في نحو ﴿ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، و﴿ سَأُرِيكُمْ ﴾ و ﴿ الصَّلاَةِ ﴾ بالواو بدل الألف، و ﴿ الزَّكَاةَ ﴾ بالواو بدل الألف أيضاً.
ومنها: النص على بعض اللغات الفصيحة ككتابة هاء التأنيث تاءً مجرورة على لغة طيء، وكحذف ياء المضارع لغير جازم فيه ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ... ﴾ [هود: 105]، على لغة هذيل.
ومنها إفادة المعاني المختلفة بالقطع والوصل في بعض الكلمات في قوله تعالى: ﴿ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ [النساء: 109]، و ﴿ أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا ﴾ [الملك: 22]، فإن قطع "أم" عن "من" يفيد معنى "بل" دون وصلها بها.
وفي قوله: ﴿ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ [الكهف: 64]، في سورة الكهف، فمع إجماع كتاب المصاحف على كتابتها بغير ياء بعد الغين، فقد اختلف القراء في إثبات الياء وحذفها، فأثبتها وصلاً نافع وأبو عمرو، وأبو جعفر، والكسائي، وأثبتها وصلاً ووقفاً ابن كثير ويعقوب، وحذفها وصلاً ووقفاً ابن عامر وعاصم وحمزة وخلف، وهذه الياء حذفت رسماً للتخفيف، فمن قرأ بحذفها وافق الرسم تحقيقاً، ومن قرأ بإثباتها وافق الرسم تقديراً، والأصل إثباتها؛ لأنها لام الكلمة.
وفي قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ... ﴾ [البقرة: 9] في سورة البقرة فيه اختلاف في القراءات فقرأها "يَخْدَعون" بفتح الياء، وإسكان الخاء، وفتح الدال، كل من ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر ويعقوب، وقرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو "يُخَادِعون" بضم الياء وفتح الخاء وألف بعدها، وكسر الدال.
وفي قوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ﴾ [الأنعام: 115]، فقد اتفق كتاب المصاحف على كتابتها بحذف الألف بعد الميم، وبالتاء المبسوطة بعدها، واختلف فيها القراء، فقرأها عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب بالإفراد "كلمة"، وقرأها بالجمع "كلمات" نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر.
هذا هو الرسم المصحفي خط ووصل عبر القرون بهذه الهيئة لحكمة أرادها الله.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138].
 
رحلة القرآن العظيم (23)

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ [المزمل: 4]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (زينوا القرآن بأصواتكم) وقال أيضاً: (ليس منا من لم يتغنى بالقرآن).
وعن عائشة قالت: (استبطأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: ما حبسكِ؟ قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتاً بالقرآن، فأخذ ردائه وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك).
للقرآن أغراض منها: الإعلام والتنبيه، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، ووصف الجنة والنار، والاحتجاج على المخالفين، والرد على الملحدين، والبيان عن الرغبة والرهبة، والخير والشر، والحسن والقبيح، ومدح الأبرار، وذم الفجار، إلى غير ذلك.
وليس طبيعياً أن نقرأ هذه الموضوعات بأسلوب واحد، وإذا كان ترنم الباكي مقبولاً في آيات التوبة والاستغفار فهو مقبول في غير ذلك، مما يسعد ويبهج ويبعث الطمأنينة في النفس البشرية.
وقراءة القرآن قرآءة معبرة أمر قديم.
قال الزمخشري في "أساس البلاغة": «ومن المجاز صوت حزين» أي رخيم.
يقول ابن قتيبة: « أول من قرأ بالألحان عبد الله بن أبي بكرة، وكانت قراءته حزناً» أي فيها رقة صوت ليست على شيء من ألحان الغناء، ولا الحداء.
وبكى الطبيب البصري ناصر جويه وهو يهودي حين سمع قراءة القرآن العظيم من أبي الخوخ المقرئ، فقيل له: كيف بكيت من كتاب الله ولا تصدق به؟ قال: إنما أبكاني المعنى في الشجا.
للقرآن العظيم تقطيعاته الخاصة به، وهي نابعة من ذاته، يدركها كل مقرئ ويشعر بها من فيض إحساسه، وهذا ما جعل العرب يحارون أثناء قراءته أو سماعهم له، فلم يعرفوا بما يصفونه، أسحر هو أم شعر، أم هو الشيء الذي يدخل القلوب فتخشع الذات له من غير استئذان، وهذا هو الإعجاز، وهذا هو الفن.
ومن بدائعه أن نرى في مضمونه دلائل فريدة تنبع من حروفه المتزنة العظيمة، فنرى فيه الانسجام وهو كما يقول عنه ابن أبي الإصبع: يأتي منحدراً كتحدر الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة لفظ، وسلامة تأليف، حتى يكون للجملة من المنثور وللبيت من الموزون وقع في النفوس، وتأثير في القلوب.
وهو كما يقول السيوطي: لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه يسيل رقة.
وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت قراءته موزونة من غير قصد.
ومن بلاغة القرآن العظيم ما نراه في الإبدال وهو إقامة بعض الحروف مكان بعض، ومنه قوله: ?انفَلَقَ? بدل "انفرق"، ولهذا قال: ﴿ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ ﴾ [الشعراء: 63]، فالراء واللام متتابعان.
ومنه ﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ﴾ [ص: 32]، أي "الخيل" والتخفيف من بلاغة القرآن المنبعثة من داخله بمعانٍ شتى من المدح والوصف وغير ذلك من الفنون، كل جملة منفصلة عن أختها مع تساوي الجمل في الوزن، ومنه قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) ﴾ [الشعراء: 78: 81].
واستخدم القرآن العظيم في مفرداته التعداد كأسلوب جميل رائع، ونلاحظ اللفظة المفردة على سياق واحد، كقوله جل شأنه في سورة الحشر: ﴿ هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [الحشر: 23]، وقوله في سورة التحريم: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم: 5]، وقوله في سورة التوبة: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ ﴾ [التوبة: 112].
وفي اختلاف اللفظين بحرف مقارب في المخرج سواء كان في الأول أو الوسط أو الآخر كقوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 26]، ومن بلاغة القرآن العظيم التي يتردد صداها في جوانبه ما عُرِفَ بحسن النسق وهو أن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، ولو أن كل جملة قائمة بنفسها، ومنه قوله تعالى في سورة هود: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) ﴾ [هود: 44].
ونلاحظ في كتاب الله العزيز أسلوب المشاكلة وهو ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً، كقوله -عز وجل-: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [المائدة: 116]، ومن سورة آل عمران قوله: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54]، و﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194]، وقوله: ﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ ﴾ [الجاثية: 34]، وقوله: ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 79]، وقوله: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (15) ﴾ [البقرة: 114، 115].
ومن المماثلة في القرآن العظيم وهو تماثل الألفاظ كلها أو بعضها في الوزن دون التخفية كقوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) ﴾ [الطارق: 1: 4].
ومما يوفر للقرآن العظيم وقعه الذاتي أنه هو نفسه يوفر الانسجام بين ألفاظه وأصواته من طرق كثيرة منها:
• حذف ياء المنقوص المعرف كقوله: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]. وفي قوله من سورة غافر قوله: ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ [غافر: 32].
• وحذف ياء الفعل غير المجذوم كقوله جل شأنه: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) ﴾ [الفجر: 4].
• وحذف ياء الإضافة كقوله: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) ﴾ [القمر: 16]، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32].
• ومن أسلوبه أيضاً: زيادة حرف المد كقوله: ﴿ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10]، ﴿ الرَّسُولاَ ﴾ [الأحزاب: 66]، ﴿ السَّبِيلا ﴾ [الأحزاب: 67]..
• وصرف ما لا ينصرف في ﴿ قَوَارِيرَ ﴾ [الإنسان: 15]..
• واختيار أغرب اللفظين نحو: ﴿ قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 22]، ولم يقل: قسمة جائرة. وكذلك في قوله: ﴿ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 4]، ولم يقل في جهنم، وفي سورة المدثر: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) ﴾ [المدثر: 26]، وفي المعارج: ﴿ إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج: 15]. وفي سورة القارعة ﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) ﴾ [القارعة: 9]]، وذلك مراعاة لفواصل كل سورة.
• وقد يكون العدول عن صيغة الماضي إلى صيغة الاستقبال كقوله تعالى: ﴿ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، والأصل "قتلتم".
• وقد يطغى هذا الأسلوب لتغيير بنية الكلمة نحو ﴿ وَطُورِ سِينِينَ (2) ﴾ [التين: 2]، والأصل "سينا".
وقد كثر في القرآن العظيم ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون، يقول السيوطي: « وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلك » كما قال سيبويه: «إنهم إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون ؛ لأنهم أرادوا مد الصوت ويتركون ذلك إلى لم يترنموا، وجاء القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع».
والوقع في عبارة القرآن يسير المعاني فهو بإطلاق في التقريع والإعذار والإنذار، والتحذير والتخويف، ذو ألفاظ شديدة قابضة مزعجة، فإذا بشر ووعد وحمد، فألفاظه بإطلاق أيضاً باسطة بهيجة مشوقة، وقد قيل أن هذا الأسلوب في الأصوات القرآنية يلعب في تكييف عقل السامع وتهيئته لتلقي الدعوة دوراً هو فوق التعريف، وإن الجمال الفني في القرآن العظيم هو الذي جذب العرب إلى الإسلام.
إن أسلوب القرآن العظيم من دلائل إعجازه إذ أنه غير ما يكتب البشر، وما يقدمونه من نثر فني قد يعمد إليه بعضهم.
فيضحي من أجله قليلاً أو كثيراً بدقة المعنى، والترتيل في القرآن العظيم إبراز الحروف ونطقها مع الفصاحة، وهو ما يساعد على السير في إبراز وقع النص القرآني، وهو غير تنغيم والترعيد الذي نهى جل العلماء عنه، والترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف، وقد كثر الاعتناء بالوقف وأماكنه في القراءة، عندما دخلت في الدين الجديد شعوب من الأعاجم.
وقد انتشر الاهتمام بتجويد الحروف ومعرفة الوقوف، وحث السلف عليه حتى إنهم ألزموا المستجيز أن يعرف الوقف والابتداء قبل أن يجاز في تلاوة القرآن العظيم، والقارئ المتقن يقف عند المقاطع، والجاهل يقف عند انقطاع نفسه، وقد يقف في موضع يضر الوقوف عنده، ويخل بالمعنى.
وقوقد حذر العلماء من الوقوف على المواضع التي لا يتم فيها الكلام والكثير من خط المصاحف وضع لفظ "لا" بالأحمر للتنبيه بعدم الوقوف، وقد يكون في الآية وقفان، وقد رمز بثلاث نقاط علامة لمنع الوقف بين الكلمتين وجواز الوقف على واحد منهما، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3]، والوقف على ﴿ غَيْرِ ﴾ [الفاتحة: 7]، في الفاتحة.
والوقف والقطع والسكت يقصر بها النفس عند أكثر القراء، وتشدد القراء في الوقف ما لم يرد فيه قراءة معتمدة وأن يكون الوقف غير مخالف للإعراب. قال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل الذي يقرأ القرآن حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران).
لما بلغ الدين ذروة الكمال، وبلَّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده وربى أمة تقلدت مهام النبوة ومسئولياتها من غير نبوة وكلفت النهوض بالدعوة وصيانة الدين من التحريف، فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وضمن الله لهذا القرآن العظيم الذي هو أساس الإيمان واليقين بالبقاء والنقاء فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ﴾ [الحجر: 9].
وأقر الله عين نبيه بدخول الناس في هذا الدين أفواجاً، وبدت طلائع انتشاره في العالم وظهوره على الأديان كلها، فقال: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) ﴾ [النصر].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن العظيم، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك العام: (إنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي).
لما كان كل ذلك أذن الله لنبيه باللقاء الذي لم يكن أحد أشد شوقاً له منه، وقد أحب الله لقاءه كما هو أحب لقاءه، ومرت الأيام والشهور والسنون والقرون، وكتاب الله -عز وجل- الذي دارسه إياه جبريل، وحفظه صحابته عن ظهر قلب من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودونوه وخطوه ونسخوه في الرقوق وعلى العظام، والحجارة النحاف، وسعف النخل، والأقتاب والورق، مع دوران الشمس ودورة القمر في مشرق الأرض ومغربها، يأخذ حلته القشيبة، ويجلوا في بهاء وجمال وروعة مع كلمات الخالق البارئ المصور، فمن التنسيق في خطوطه وسطوره إلى التحسين في البنية الجمالية في الورق والتجليد والتذهيب.
ونشطت في أحضانه فنون وولدت علوم وابتكرت أنماط في الخطوط لم تكن من قبل، وظهر مئات الخطاطين النابغين المبتكرين عبر هذا الزمن الطويل، فرسموا آلاف المصاحف بخطوطهم الجميلة تقرباً إلى الله يرجون عفوه ومغفرته، ولم يقنعهم حبر سناج ومداد الورد والرمان، فطيعوا الذهب وكتبوا به، وحلوا فواصله بالفضة، وجلدوه بالديباج والحرير والجلد، واستخدوا اللك لبقائه ودوامه أطول مدة ممكنة، وولدوا آلاف الأشكال التي اقتبسوها مما أرشدهم إليها قرآنهم العظيم من الأزهار والنبات وبات المصحف العظيم موشاً في حلة بهية، يدهش الرائي لمرآه ويخشع القلب لنصه ومعناه.
وبات كل مسلم في أقاصي الأرض يقرأ في سطوره ويتمتع بجمال الحرف العربي وإن كان أعجمي اللسان من الصين إلى الهند فآسيا وأوروبا وإفريقية، ودوى في السحر الحرف العربي تلهج به ألسنة المؤمنين بلكناتها من أسود وأبيض وأصفر.
وخلال هذه القرون الممتدة في الزمن البعيد القريب تبلورت الاتجاهات المختلفة لنوع الخط وطريقة الضبط في المصاحف وسارت في مذهبين:
الأول: ساد في المشرق ويمثله مصحف ابن البواب الذي كتبه سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة هجرية في مدينة السلام ببغداد، نموذجاً ممتازاً له، ويغلب عليه استعمال العلامات التي وضعها الخليل، واستعملها الكتاب وأهل اللغة.
والثاني: هو الاتجاه الذي امتاز باستعمال الخط المغربي، وأظهر ميلاً أكثر للإبقاء على العلامات القديمة، وقد ساد هذا الاتجاه في بلاد المغرب الإسلامي، ولا تزال آثار هذين الاتجاهين بادية ظاهرة على ما يطبع من مصاحف إلى اليوم.
مضت القرون والسنون، والمصحف ينسخ باليد كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً وكان لظهور الورق وصناعته على أيدي العرب المسلمين وتطويره وصقله وتقهيره أثر كبير على مسيرة فن المصحف وفن الكتاب العربي، وبظهور الورق ظهرت المطبعة سنة 1431 ميلادية في أوربا، وكان لظهورها الأثر في تقدم الثقافة والعلوم ونشرها في مختلف الطبقات، وكان لظهور المطبعة سبب في ظهور المصحف المطبوع الذي غدا متناولاً عند كل الشعوب.
كان ظهور المصحف المطبوع في أوروبا قبل ظهوره في أي بلد مسلم، نتيجة التطور الصناعي الذي حظيت به تلك البلاد، وظهر على أيدي المستشرقين، ويجمع كل من درس تاريخ المصحف المطبوع، على أن أول مصحف أخرجته المطابع ورأى النور كان في سنة 1106 هجرية تقريباً، والتي توازي سنة 1694 ميلادية والذي وقف على طبعه المستشرق "هينكل مان" في مدينة "هامبورج" بألمانيا.
وقد طبع ذلك المصحف بطريقة تنضيد الحروف، وليس تصورياً لمصحف مخطوط، ويقع في 560 صفحة، في كل صفحة ستة عشر سطراً مع مقدمة في ثمانين صفحة باللاتينية، وعلى رأس كل آية رقمها مع علامة تدل على انتهائها.
وفي دار الكتب المصرية نسخة منه، ولقد عانى هذا المصحف مما تعانيه التجربة الأولى في الطباعة، وخاصة إذا كانت على يد رجل ليس له إلمام ومعرفة بالقرآن العظيم.
في النسخة أخطاء فاحشة، لا تكاد تخلوا صفحة منه، سواء من حيث الرسم أو الضبط، كوضع كلمة مكان أخرى، ووصل ما لا ينبغي أن يوصل، إلى أخطاء تدل على جهل وسقم بالعربية وقواعدها، وقد جرى ضبط المصحف على طريقة الخليل وأهل المشرق، فالفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف، والضمة واو صغرى فوق الحرف أيضاً، والكسرة مثل الفتحة تحت الحرف، والتنوين علامتان منها، والسكون دائرة مفرغة، والصلة رأس صاد، والشدة رأس شين، والهمزة رأس عين، والمدة بقية من كلمة مد، وقد جرى تنضيد حروفه على الإملاء الاصطلاحي، وتوالت طباعة المصاحف منذ ذلك التاريخ، ودخلت البلاد الإسلامية.
وأول طباعة إسلامية خالصة للقرآن العظيم ظهرت في "سان بيتر سبورج" بروسيا سنة 1787 قام بها مولاي عثمان، وظهرت المصاحف المطبوعة في دار الخلافة العثمانية ومصر والهند وغيرها من بلاد المسلمين ومن سواهم، ومنها مصحف طبع في قاذان سنة 1295 هجرية، والتي توافق سنة 1877 ميلادية، وهو مطبوع بالحروف مثل مصحف "هامبورج".
ورغم أنه لم يخلوا من الأخطاء إلا أن القائمين على طبعه قد حرصوا على الإشارة إلى مواطن الخطأ والصواب في خاتمة المصحف، وهو مضبوط على طريقة أهل المشرق تماماً، إلا في حالة الضمة والتنوين معها، فعلامة الضمة القصيرة فيه واو صغيرة مطموسة الرأس، والضمة الطويلة أكبر من القصيرة، وليس في المصحف أرقام للآيات.
لم تكن كل المصاحف المطبوعة تجري على طريقة تمضيد الحروف، بل الغالب هو تصوير مصحف مخطوط على الحجر أو بالزنك كالمصاحف التي طبعت في ألمانيا وفي "لايبزك".
وقد تمت طباعة مصحف للحافظ عثمان الشهير بقايد زاده كتبه سنة 1094 هجرية، ويعد هذا المصحف الذي طبع بطريقة التصوير من أجمل المصاحف إخراجاً وخطاً، وقد كتب بقلم النسخ، وكتبت رؤوس الآيات بخط التوقيع، وفي كل صفحة أحد عشر سطراً، ونهج في إملائه على طريقة ابن البواب، واستخدم طريقة المشارقة في الشكل.
والمدهش في هذا المصحف أن علامات التخميس والتعشير والأحزاب والأجزاء والأرباع قد رسمت كل واحدة منها بشكل مستقل تختلف عن أختها، ويدل هذا على خصب خيال المفن الذي ذهب ووشح هذا المصحف الشريف.
وبالرغم من أن الحافظ عثمان قد كتب أكثر من أربعين مصحفاً لم يبقى منها إلا القليل فإن هذه النسخة المتميزة تحمل أسلوبه في الكتابة، وتعبر عن السحر الحلال الذي وصل إليه خط النسخ حتى اختص بكتابة القرآن العظيم، واشتهر بمصر في أوائل القرن الهجري الحالي أواخر القرن التاسع عشر مصحف رضوان، الذي طبع سنة 1308 هجرية، الموافق لسنة 1890 ميلادية.
إلا أن المصحف الذي فاق كافة المصاحف المطبوعة شهرة هو المصحف الذي طبع في زمن ملك مصر فؤاد الأول، في اليوم السابع من شهر ذي الحجة لسنة 1342 هجرية، وقد كتب بخط النسخ الجميل، وصنعت حروفه بألمانيا، وضبط ضبطاً تاماً على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن مغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي، وأخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها عثمان بن عفان إلى البصرة والكوفة والشام ومكة.
والمصحف الذي جعله لأهل المدينة، والمصحف الذي اختص به نفسه، وعن المصاحف المنتسخة منها.
وعلى الجملة كل حرف من حروف هذا المصحف موافق لنظيره في مصحف من المصاحف الستة السابق ذكرها.
والعمدة في بيان كل ذلك على ما حققه محمد بن محمد الأموي المشهور بالخراز، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة بعلامات الخليل ابن أحمد وأتباعه من المشارقة.
واتبعت في عد آياته طريقة الكوفيين، وآي القرآن على طريقتهم 6236 آية، وأخذ بيان أوائل أجزائه الثلاثين، وأحزابه الستين، وأرباعها من الصفاقسي وبيان مكيه ومدنيه من كتب القراءة والتفسير، وأخذ بيان السجدات ومواضعها من كتب الفقه، وبيان السكتات من الشاطبية، ووضع الصفر المستدير فوق حرف علة يدل على زيادة ذلك الحرف، فلا ينطق به في الوصل ولا في الوقف، نحو قوله تعالى: ﴿ قَالُوا ﴾ وقوله: ﴿ يَتْلُو صُحُفًا ﴾ وقوله: ﴿ لأَذْبَحَنَّهُ ﴾ وقوله: ﴿ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ ﴾ وقوله: ﴿ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾. ووضع الصفر المستطيل القائم فوق ألف بعدها متحرك يدل على زيادتها وصلاً لا وقفاً، نحو ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ﴾ وقوله: ﴿ لَكِنَّ هُوَ اللهُ رَبِّي ﴾ وقوله: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ﴾ وقوله: ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ وقوله: ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ (16) ﴾ وأهملت الألف التي بعدها ساكن نحو ﴿ أَنَا النَّذِيرُ ﴾ من وضع الصفر المستطيل فوقها، وإن كان حكمها مثل التي بعدها متحرك في أنها تسقط وصلاً وتثبت وقفاً لعدم توخم ثبوتها وصلاً.
ووضع رأس فاء صغيرة بدون نقطة فوق أي حرف ساكن نحو ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ ﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ ﴿ قَدْ سَمِعَ ﴾ ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ ﴿ نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ﴾ ﴿ أَوَعَظْتَ ﴾ ﴿ خُضْتُمْ ﴾ ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ ﴾.
وتعرية الحرف من علامة السكون مع تجديد الحرف التالي يد على إدغام الأول في الثاني إدغاماً كاملاً نحو ﴿ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ﴾ ﴿ يَلْهَثْ ذَلِكَ ﴾ ﴿ وَقَالَت طَّائِفَةٌ ﴾ ﴿ وَمَن يُكْرِهُّهنَّ ﴾ ﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم ﴾.
وتعريته مع عدم تشديد التالي يدل على إخفاء الأول عند الثاني، فلا هو مظهر حتى يقرعه اللسان، ولا هو مدغم حتى يقلب من جنس تاليه نحو: ﴿ مِن تَحْتِهَا ﴾ ﴿ مِن ثَمَرَةٍ ﴾ ﴿ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ ﴾.
أو إدغامه فيه إدغاماً ناقصاً نحو: ﴿ مَن يَقُولُ ﴾ ﴿ مِن والٍ ﴾ ﴿ فَرَّطتُمْ ﴾ ﴿ بَسَطتَ ﴾.
ووضع ميم صغيرة بدل الحركة الثانية من المنون أو فوق النون الساكنة بدل السكون مع عدم تجديد الباء التالية يدل على قلب التنوين أو النون نحو: ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا ﴾ ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) ﴾ ﴿ مِن بَعْدِ ﴾ ﴿ مُّنبَثًّا ﴾.
والحروف الصغيرة تدل على أعيان الحروف المتروكة في المصاحف العثمانية مع وجوب النطق بها نحو: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ ﴿ دَاوُدُ ﴾ ﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ﴾ ﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ ﴿ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا ﴾ ﴿ إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ ﴾ ﴿ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ﴾ ﴿ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ ﴾ ﴿ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ ﴿ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ ﴾ ﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وكان علماء الضبط يلحقون هذه الأحرف بقدر الحروف الأصلية، ولكن تعسر ذلك في المطابع فاكتفي بتصغيرها في الدلالة على المقصود.
هذه هي بعض علامات التي تهتم بضبط القراءة من أجل النطق بقراءة صحيحة للقرآن العظيم.
ونشاهد الجهود التي بذلت من أجل إخراج النص على هذه الصورة البديعة، وقد خط حروف هذا المصحف الذي اعتمد عليه كل من خط أو طبع مصحفاً من بعد الأستاذ الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية.
وعرف المصحف في كل أصقاع العالم الإسلامي باسم مصحف الملك، وطبع منه ملايين النسخ، وأعيد طبعه مرات ومرات حتى كان طبع مصحف المدينة.
 
رحلة القرآن العظيم (24 والأخيرة)

دخلت المطابع البلاد العربية والإسلامية ونشطت طباعة القرآن العظيم تحت إشراف هيئات من العلماء بعد حوار طويل بين التحريم والتحليل.
وكانت مطبعة دير قزحية جنوب شرق طرابلس في بلدة إهدن من أقدم المطابع التي أنشئت في الشرق، وكان وجودها سنة 1610 ميلادية باعثاً على نشر الثقافة في المنطقة العربية.
وبدأت تطبع باللغة السريانية والحرف العربي الكرشوني، ثم باللغة العربية وبالحرف العربي.
ثم قامت في حلب المطبعة الملكانية بإشراف البطريق أثناثيوس الثاني دباس الأرثودكسي سنة 1710 ميلادية.
ثم مطبعة عبد الله زاخر سنة 1722 ميلادية، ثم تتالت المطابع بعدها، وحمل نابليون بونا بارت معه إلى مصر المطبعة سنة 1798ميلادية، وجهزها بحروف عربية وفرنسية.
وأفتى شيخ الإسلام من مقره اسطنبول 1716 بجواز استخدام حروف الطباعة، وأنشأت مطبعة بولاق سنة 1802، وفي حلب أيضاً أنشأ الوالي جودت باشا مطبعة فورات بالحروف العربية والتركية، وفي دمشق كانت مطبعة الدوماني التي توقفت سنة 1885 ميلادية، ثم المطبعة الرسمية سنة 1864 ميلادية.
وكانت تطبع بالعربية والتركية، وقامت الطباعة أول الأمر على الحجر الجيري اللين، واستخدام ألواح معدنية، ينفذ منها الرسم بقلم خاص مشبع بالمادة الدهنية.
وتمت طباعة المصاحف المحفوظة بأخذ صور منها على الحجر، وطباعة أنفسها وأضبطها للقراءة.
وخرج إلى النور طبعات من المصحف العظيم بخط الحافظ عثمان وغيره، وهي غاية في النفاسة والجمال.
وحرم العلماء في البدء طباعة القرآن العظيم بالحروف التنضيدية والسبب في ذلك وقوع أخطاء شنيعة كما حدث في مصحف هامبورج وغيره، وقد يسلم الخطأ إن كان المصحف مخطوطاً ونقل كما هو لطباعته، بالإضافة إلى كل ذلك فإن المصحف المخطوط يحمل سمات الجمال بالحرف والشكل والهيئة، وهي صفات قصر عنها الحرف الطباعي.
وفي الهند خط محمد روح الله اللاهوري مصحفاً عمد فيه إلى إعجاز تنسيقي في طريقة الكتابة، فجعل في الصفحة ثلاثة وعشرين سطراً، وهي سني البعثة التي دامت تأريخياً بدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن العظيم تنزل على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- خلال ثلاث وعشرين سنة، ثم التزم أن يكون أول كل سطر من القرآن كلمة أولها حرف ألف، وحرف الألف هو الذي يعد في الأبجديات كلها رقم واحد.
والمصحف هذا الذي خطه اللاهوري أخذت عنه صورة وطبع بالهند، ونلاحظ فيه خط النسخ المشرقي ويختلف هذا النمط عن النسخ الذي تطور على يد الحافظ عثمان، فرأس الواو عند الحافظ عثمان مفتوحة، وهي هنا مطموسة، وميزان الحروف مختلف عما هو في مصاحف الفترة العثمانية، ومما هو لطيف في هذا المصحف أن قام الخطاط بكتابة أنواع البسملة التي تطورت عبر التاريخ منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى عصرنا الحاضر.
وكتب لكل صورة بسملة خاصة، وهذا يدل أيضاً على الغنى الفني الذي يأتي لمن يكتب أو يخط المصحف العظيم.
كما وضع أشكالاً لتقسيمات المصحف داخل إطار مزخرف وأسلوب المصحف هذا هو ما عُرف عند علماء الفن والرسم بخط بلاد ما وراء النهر.
وناسخ النسخة الحافظ محمد روح الله بن الحافظ محمد حسين اللاهوري الهندي هو من القلائل المبدعين الذين تفننوا في كتابتهم للمصحف، وكان بارعاً عجيباً في تراثه الذي تركه، فقد كتب في سنة 1109 هجرية مصحفاً شريفاً عدد أوراقه 305 ورقة صغيرة، مثمنة الأضلاع في خمسين يوماً.
وحلى أوله بالذهب، والألوان كما كتب مصحفين كل منهما في ثلاثين ورقةً، والتزم أن يكون أول كل سطر في صحائفها كلمة أولها حرف الألف.
وهذه النسخ تحتفظ بها دار الكتب العربية بالقاهرة.
لم يصمد المصحف المطبوع بطريقة التنضيد طويلاً، ولم تستسغه مشارب المسلمين في أصقاع الأرض، ولم يرقى إلى مرتبة المصحف المخطوط الذي يصور بطريقة الطباعة الحجرية أو بطرائق أخرى.
وصنع الصفائح المعدنية وإعدادها لتحمل جمال حرف القرآن، الذي خطه الخطاط المسلم بكل صفاء وحس واطمئنان.
ودارت عجلة الزمان، ودارت عجلات المطابع وتطورت طرق التصوير، فأخرجت لنا مصاحف من الأصل المكتوب على غاية من الروعة، وتكاد تكون أشبه بالنسخة المخطوطة، فقد ساد في أوائل القرن الماضي مصحف الحافظ عثمان في بلاد الشام والعراق ومصر، ثم انتصف القرن الماضي لتخرج لنا المطابع مصحفاً جميلاً خط بالنسخ الجميل، ولكن عرض القلم الذي كُتب به أكثر سمكاً من قلم الحافظ عثمان، مما جعل العامة يقبلون عليه لوضوح حرفه وسهولة قراءته بالرغم من أن آياته غير مرقومة.
خط هذا المصحف وعرف بمصحف مصطفى نظيف الشهير بقدر غالي، وطبع في ألمانيا بمطبعة تنو إيس.
في ذي الحجة الشريفة لسنة 379 بعد الألف الهجرية. بإشراف السيد عزيز بوز قوردوا إبراهيم برق ألب، خط المصحف على خمسة عشر سطراً.
ورتب على أن يكون نهاية آية، وهو سهل للحافظ كي يراجع فيه من حيث تقسيماته وترتيبه.
وقد خطت رؤوس الآيات فيه بقلم الإجازة، وكنا قد لاحظنا في المصاحف التي مررنا عليها في الحلقات الماضية أن الخطاط يخط رؤوس الآيات بقلم الكوفي أو بقلم التوقيع، ليميزها عن كتابة القرآن العظيم، وقد بقي هذا النظام سنةً متبعةً لخطاطي المصاحف، إذ لابد من تمييز رأس السورة بخط يخالف نص القرآن، وما نشاهده في هذا المصحف الجميل خلو علامات التخميس والتعشير بالرغم من عدم ترقيم الآيات، واكتفى بوضع مرصعات على الهامش تحمل علامات الأجزاء والأحزاب والسجدات، وميز كل واحدة بشكل يحمل سمات الزخرفة العثمانية التي تطورت من الدائرة تحتضنها بعض التشغيرات.
كما حمل المصحف رموز سجواند التي تدل على الوقف والابتداء، وطبعت باللون الأحمر فحرف الميم علامة على لزوم الوقف ولزوم اصطلاحي لا شرعي كلزوم الوقف على ﴿ إِلاَّ اللهُ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ [آل عمران: 7]. ثم يبتدئ بقوله: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾ وحرف الطاء علامة على الوقف المطلق المجرد عن اللزوم والجواز، وحرف الجيم علامة على جواز الوقف والتخيير بين الوقف والوصل، لكن الوقف أولى.
وحرف الصاد علامة الرخصة فإذا ضاق نفس القارئ يقف ثم لا يعيد ويبتدئ مما بعدها، وحرف الراء علامة الجواز، والوصل أولى من الوقف، وحرف "لا" علامة على عدم جواز الوقف، ومعناها لا تقف فإن المعنى غير تام، ولو وقف بحسب الضرورة يعيد الكلمة الموقوف عليها، وإذا كانت "لا" في منتهى الآية فيقف ثم لا يعيدها.
وحرف "القاف" علامة الوصل عند أكثر القراء ويجوز الوقف، وكلمة "قف" أمر من الوقف، ومعناها "قف وقفة لطيفة". وهذا علامة على أن الوقف أولى من الوصل، إشارة إلى أن في الوقف فائدة في المعنى.
وحرف "عين" علامة على الركوع، يعني إن كان القارئ في الصلاة وأراد أن يركع فالمناسب له أن يركع في تلك العلامة؛ لأنها إشارة إلى تمام المعنى والموعظة أو القصة.
وعلامة النقاط المتراكبة الثلاث إشارة إلى وقوف المعانقة، والتالي إذا وقف في النقط الأولى لا يقف في الثانية، وإذا لم يقف في الأولى وقف في النقط الثانية، ليصح المعنى المقصود، وإذا وقف في كليهما لا يتم المعنى.
ولنقرأ في هذا المصحف ونشاهد رموز ساجاوند في سورة "ص": بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) ﴾ [ص: 1: 9].
ما من وسيلة أو رمز يخدم نص قراءة القرآن العظيم إلا وطرقه المسلمون بكل أمانة ودقة حفاظاً على سلامة نطق مخارج حروف العربية، من فيّ من إذا أراد أن يرتل القرآن ترتيلاً.
ولو عندنا إلى القرنين الهجريين الأول والثاني، لرأينا نساخ المصاحف المسلمين يستخدمون نوعاً من المداد لكتابة النص وآخر لشكله، ورأينا اللون الأحمر الذي استخدمه أبو الأسود الدؤلي لشكل الحروف فعالج اللحن وضبط القراءة بعد أن ضبط الحروف، وعدت رموز وأشكال وألوان الدؤلي سنة يُقتدى بها في جميع المراحل التي دون فيها القرآن العظيم، ولاحظنا كيف أن المشارقة والمغاربة استخدموا النقاط الصحراء والخضراء والحمراء واللازوردية في ضبط آيات القرآن العظيم والغاية من ذلك كله الوصول إلى الترتيل في آي الذكر الحكيم، والترتيل هو معرفة الوقف وتجويد الحرف، ولقد استخدمت الصفراء علامة على همزة القطع، فتقرأ، وجعلت النقطة الخضراء لهمزة الوصل كي لا تُلفظ أثناء الوصل، وباتت الألوان اصطلاحاً يتعلمه جميع النساخ دون العبث به، وأصبح قاعدة لا يشذ عنها خطاطو المصاحف.
وفي منتصف القرن الماضي تقريباً طبع من المصحف الذي خطه مصطفى قدري غالي آلاف المصاحف، ولعدة طبعات، وانتشر في بلاد الشام والجزيرة العربية واليمن ومصر وتركيا، ونظر فيه الحفاظ فاستحسنوا خطه، وأعجبوا بحسن تنسيقه وتوزيع سطوره، فقام الحاج الحافظ علي أغورلي المغنيسي أصلاً والأنقروي إقامةً بعمل جديد ليسهل للقارئ الأعجمي اللفظ والنطق والقراءة فعمد لترميز اللون الأخضر الذي اتبع من قبل سنة في المصاحف كنقطة لهمزة الوصل، وجرد الحروف الشمسية وكساها اللون الأخضر في المصحف الذي خط على يد مصطفى نظيف سنة 1886 ميلادية.
ووسع بين سطور المصحف ووضع الأرقام المتسلسلة بين الآيات والسور والأجزاء، وحتى تسهل تلاوته على أصول التجويد لسنة 1384 من الهجرية النبوية من شهر رمضان المبارك.
ويعد عمل المغنيسي هذا أول عمل لوني في المصاحف اللينة، وأول خطوة لكتابة الحروف بالألوان وكل ذلك خدمة لكتاب الله -عز وجل-.
ونقرأ في هذا المصحف من سورة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ﴾ [الفجر: 1: 14].
الله جميل يحب الجمال.
وقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الإنسان في أحسن تقويم، وجعله خليفته في الأرض وقال لملائكته: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ واصطفى من خلقه أنبياء واصطفى من الأنبياء محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون خاتم الأنبياء، وليتشرف بتلقي كلماته وحفظها وتدوينها في أبدع صورة وأجمل حلة.
ألف وأربعمائة عام ونيف على منازل القمر والشمس تجري لمستقر لها، وكلام الله الذي استقبله نبيه الكريم بالحفظ والتدوين، لا تزال العناية الإلهية تحيط به، زمن طويل، مرت عليه شعوب وأقوام، وآلاف وملايين الأقلام، نحتت وهي تسجل كلمات الخالق العظيم على الرقوق والورق والحرير، وآلاف الآيات صيغت بأساليب فنية لتغدوا متعة للبصر، وراحة للقلب، وطمأنينة للنفس بمعناها ومبناها، ووصل كتاب الله إلى ما وصل إليه من الدقة والإتقان في ضبطه وكتابته.
لقد شعر الخطاط بالرهبة وهو يخط كلمات الله على الورق بحبر تارة، وبلازورد أخرى، وبذهب وفضة أحياناً.
لم يقبل لكلمات الله أن تخط على عجل وسرعة، ولكن بأناة وهدوء وتبصرة.
لقد كان كلام الله -عز وجل- وآياته مبعث بهجة في نفوس كتبته، فارتقوا بآياته واقتبسوا من نورانيته فصاغوا الأشكال والهيئات وطوعوا الحرف بالتفاتاته وانضجاعاته وبسطه وتطويره حتى وصل على أيديهم إلى الذروة من كمال الهيئة.
وبين أيدينا مصحف جميل الطباع أنيق التجريد رائع التنسيق، سليم التوزيع، بين الحرف بهي التذهيب، خطه الحاج الخطاط الحافظ محمد أمين الرشدي سنة 236 بعد الألف الهجرية، وقد خطه لوالدة السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود خان العثماني.
وقامت وزارة الأوقاف بالعراق بتكليف خطاط العراق هاشم محمد البغدادي المتوفى سنة 1973 بالإشراف على تنقيحه وتزويقه.
فقام بالمهمة خير قيام، وأشرف على طباعته في ألمانيا حتى خرج على أكمل وجه وأتم إتقان.
يعد هذا المصحف من أجمل المصاحف المطبوعة في العصر الحديث، لم ينافسه مصحف آخر.
وذلك لرقة أسلوبه في الإخراج وعدم البذخ في تحليته بما لا يلزم، وقد ناجى الخطاط الرشدي الذي نسخه على منهج الحافظ عثمان الشهير بقايد زادة وسار على أسلوبه في الهجاء وعلى تقسيمته في توزيع الأجزاء والأحزاب والأرباع والسجدات وأسماء السور ونهايات الفواصل.
وأما ترقيمه فقد جرى على طريقة الكوفيين في تفصيل الآيات.
وتمت بيان علاماته على علامة الإمام أبي جعفر بن طيفور السجاوندي، وانتهى عمل الطباعة فيه سنة سبعين وثلاثمائة وألف جزرية وجرى تنقيح الضبط لقراءته ما يوافق رواية حفص ابن سليمان بن المغيرة الأسدي لقراءة عاصم بن أبي النجود.
خط المصحف بقلم النسخ البديع الجميل، وكتبت رؤوس السور بقلم الإجازة، وهو قلم متطور عن قلم التوقيع القديم، حيث مزج قواعد الثلث بالنسخ وأصبح ما يعرف بالإجازة، وذلك لأنهم يجيزون الخطاط بهذا النوع بعد أن تكتمل معارفه ويصبح معلماً يحق له أن يوقع باسمه تحت كتابته.
طبع المصحف على ورق من نوع شامواه، يميل لونه للصفرة، وذهب صفحته الأولى وخطها هاشم بقلمه، بعد أن وضع في وسط الصفحة الأولى مشكاة ركب في داخلها بخط الثلث المحكم قوله تعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ﴾ [الحجر: 9].
وقسم الصفحة إلى مستطيل في الأعلى خط داخله آية بقلم الثلث المركب، وفيها: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ومستطيل في الأسفل كتب بداخله في خط الإجازة الإشراف وسنة الطبع.
والمصحف خال من علامات التخميس والتعشير وفيه مرصعات للأحزاب والأجزاء والسجدات، وفيه الفواصل بين الآيات وقد رسم لها زهرة دائرة بين ورقتين بالذهب المسور بالأسود، والدائرة بلون أزرق فيروزي ضم رقم الآية باللون الأبيض، وسجلت الأرقام العربية بفواصل الآيات، وهي التي يقال عنها بأنها هندية، ولا علاقة للهنود بهذا الشكل من الأرقام.
ضمت الصفحة المستطيلة أحد عشر سطراً خطت الكلمات فيه بارتياح تام؛ لأن الخطاط لم يلتفت لتوزيع الصفحة لتكون نهاية آية، وإنما استرسل بالخط وجعل أكبر همه إخراج نسخة رائعة يقدمها للسلطان وينال من الله العفو والغفران، كما نلاحظ في هذا المصحف أسلوب التعقيب في نهاية كل صفحة يمنى، وفي أسفلها على اليسار نقرأ الكلمة التي في رأس نقرأ الكلمة التي في رأس الصفحة المقابلة، وهذا الأسلوب كان متبعاً منذ القرن الخامس الهجري.
حتى لا تضيع الأوراق وتختلط ببعضها، كما نلاحظ في هذا المصحف علامات الأجزاء والأحزاب والسجدات ضمن الإطار الخارجي ولم تستقل بالهامش كما هو الحال في جميع المصاحف التي سبقته.
ونقرأ في هذا المصحف من الجزء الثلاثين من سورة التكوير، ونشاهد في الصفحة هذه ما يمكن أن ننعته بالراحة للرؤية البصرية، وبالسحر في علاقة التناغم بين كلام الله المنشأ بألفاظه والمخطوط بأحرفه.
قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ﴾ [التكوير: 1: 19].
ومن المصاحف الجميلة التي طبعت في القرن الماضي مصحف بنهاية آية للحفاظ وبخط الخطاط الشهير حسن رضا، ونلاحظ فيه نهج الحافظ عثمان أيضاً، من حيث طول الصفحة التي ضمت خمسة عشر سطراً، وتم ضبطه على طريقه الساجوند في الرموز.
كما خطت رؤوس السور بالإجازة مع رسوم مرصعات على الهوامش تحمل شارات الأجزاء والأحزاب والسجدات، وقد طبع هذا المصحف باسطنبول بإشراف سليمان سامي إجلين سو، في مطبعة بوس قورد سنة 1386.
كما طبع مصحف آخر لآخر خطاطي العهد العثماني حامد الآمدي، وقد طبع فيه لفظ الجلالة باللون الأحمر، ليظهر لفظ الجلالة واضحاً من خلال النص، وهذه السنة في التمييز كانت سائدة في المصاحف المملوكية، ولكنهم كانوا يحلون لفظ الله بالذهب المسور بمداد السناج.
تعد النسخة هذه التي كتبها حامد من النسخ البديعة الجميلة، والنسخ فيها يختلف عن أساليب من سبقوه، إذ خط كتابته بقلم النسخ المتوسط، ولم يغلظ في القلم، كما هو عند مصطفى نظيف، ولم يرقق كما هو الحال في مصاحف الحافظ عثمان وحسن رضا وشوقي وغيرهم، وإنما توسط في قطة قلمه، وليأتي المصحف على يديه بأسلوب تميز فيه عمن سبقوه، فخط أجمل الكلمات بأحلى الخطوط، وبأروع اتساع منظوم كالعقد الجمام.
إذا كانت آيات القرآن العظيم قد خطت منذ البعثة على مواد متفرقة ثم جمعت في مصحف فإن نساخ المصاحف لم يقتصروا في كتاباتهم على المصحف الشريف، وإنما أخذوا منه آيات الحكمة وهو كله حكمة، وأبرزوها ضمن لوحة أو صفحة خاصة لتكون متعة للتأمل والتبصر، وليرتفع مقدار الجمال عند الخطاط بكتابة آياته الكريمة ضمن تشكيلات وتكوينات جذابة رائعة.
فهذا هو حامد الآمدي الذي خط المصحف المذكور يترك لنا تراثاً هائلاً من كتابته لآيات القرآن العظيم، ليس في الصحف فحسب، بل وبلوحات مستقلة أيضاً تحمل البشرى أحياناً والوعيد أخرى.
ونقرأ في مصحف حامد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) ﴾ [النازعات: 1: 9].
ونلاحظ أسلوب حامد في كتابة خط النسخ الذي مزج فيه بعدة أساليب ثم انفرد فيه بنكهة خاصة، دلت على تمكنه وعمقه في فن الخط المصحفي.
إن لوحة وبخط خطاط شهير تحمل آية من القرآن العظيم أصبحت اليوم تنافس أشهر لوحات فناني أوروبا بل وتفوقهم في سحر الجمال وجمال المادة.
لقد خط حامد سورة "الفاتحة" وقلد فيها راقماً وجاءت اللوحة على أتم الحروف وأكمل البنيان، وهي بالثلث الذي غدا أكثر الخطوط فناً ووقاراً وهيبة.
كما نلاحظ الجمال في حروف الثلث للوحة خطها الحاج أحمد الكامل، وفيها:
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ﴾ [القدر].
لقد كتب بقلم أغلظ من قلم الثلث، بل ويقابل الثلثين، ولا يعد هذا النوع من الكتابة ثلثاً وإنما يطلق عليه اسم الثلث المشبع.
وفي اللوحة ما هو تقليدي على أسلوب العثمانيين في الكتابة والزخرفة، التي غدت ترافق لوحات آيات القرآن العظيم في جميع ما يكتب.
آلاف اللوحات خطت بأقلام متعددة، وكلها يحمل آيات القرآن العظيم ضمن تشكيلات جميلة رائعة.
ولئن كان القرآن العظيم في القرون الخالية مخطوطاً ضمن صفحات المصحف الشريف فإنه ومع مرور الزمن فقد اعتلى جدران المساجد وأروقة البيوت، وغدا من أبرز العناصر الفنية التي استعملها الخطاط المسلم ضمن تشكيلات فيها الرونق والهيبة والإجلال والتعظيم.
هذا هو المصحف الشريف، وتلك هي رحلة القرآن العظيم، التي امتدت عبر قرون مر فيها على أصقاع الأرض، وامتلأت به خزائن متاحف الأرض.
طرز شتى، وخطوط شتى من يابس إلى لين ومن مبسوط إلى مقور، ومن كوفي محقق إلى نسخي بديع، ومن ريحان إلى توقيع، في كل حرف منه خلجة وبكل آية وقعة، ولكل سورة تأطير، إنه الوحي الذي سيظل في هذه الأرض تتردد أصداؤه بألسنة العباد، وتلهج له القلوب، في السحر والسمر.. ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ﴾ [الشعراء: 192: 194].
 
[align=center]جزاكما الله خيرا[/align]
 
عودة
أعلى