رؤية حول مفهوم التدرج التشريعي في القرآن الكريم
تشير مادة " درج " فى معاجم اللغة إلى الترقي شيئاً فشيئا وصولاً إلى غاية محددة.
ومنه يقال كما فى لسان العرب: أدرجت العليل تدريجاً أي: أطعمته قليلاً، وذلك إذا نقه، حتى يتدرج إلى غاية أكله كما كان قبله العلة، درجة درجة، ولأجل ذلك يقال للأرجل: دوارج، حيث انها بها يتم التدرج والتنقل، وفيه جاء قول الفرزدق:
بكى المنبر الشرقى أن قام فوقه خطيب فقيمى قصير الدوارج
وهذا المعنى المذكور هو استعمال القرآن الكريم للكلمة: قال تعالى: { سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الأعراف: 182 ) قيل: معناه سنأخذهم قليلاً قليلاً ولا نباغتهم.
وعلى ذلك فالتدرج هو الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها وأرفع فى الحس أو فى المعنى أو فى كليهما وفى ضوء هذا المعنى قيل لمنازل الجنة درجات من جهة أن بعضها يرتفع فوق بعض أخذاً من الدرجة التى تعنى الرفعة والمنزلة.
وأما التشريع ، فيعنى به المناهج والقوانين التى سنها الله تعالى لعباده ليعرفوا بها الأحكام المنظمة لحياة الأفراد فى علاقتهم مع ربهم وعلاقتهم مع بعضهم البعض، وما يتبع ذلك من مبادئ تنظم قانون الثواب والعقاب. ويشمل لفظ التشريع ما كان أصله ثابتا بالقرآن والسنة، وما كان أصله إجماعا أو قياسا.
فالتشريع أعم من الشريعة غير أن المناسب لموضوعنا هذا ما كان أصله الكتاب والسنة نظريةً بالكتاب وتطبيقًا بالسنة لأن التدرج في التشريع بدأ وانتهى في عصر النبوة.
في ضوء ما مضى من تعريف مفردات هذا التركيب أستطيع أن أضع لهذا العنوان أو ذاك التركيب تعريفاً أقول فيه:
إن التدرج التشريعي في القرآن هو عبارة عن التنقل والارتقاء شيئاً فشيئاً في تشريع الأحكام التكليفية المنوط بأدائها المكلفون، توطيناً لنفوسهم، ومراعاة لأحوالهم، من خلال آيات الأحكام فى القرآن الكريم.
هذا هو المفهوم العام لهذا التركيب لدى العامة، وعندي أن التدرج إنما كان بالناس في امتثال التشريع، بمعنى أن القرآن الكريم راعى ظروف المدعوين –وهم الجيل الأول جيل الصحابة- في صعوبة التخلي عما دأبوا على فعله فتدرج بهم على سبيل التربية لأجل أن يسهل عليهم امتثال التشريع.
وهذا الفهم يجرنا إلى السؤال التالي:
هل هو تدرج في التشريع، أو تدرج بالناس في امتثال التشرع ؟.
وجهة نظري أن التشريع في القرآن فيما ذكروا أنه قد تدرج فيه ، هو ليس تدرجا في التشريع حيث لم يتقلب الحكم بين الأحكام التكليفية الخمسة كلها أو بعضها ، ممتطيا سلم الارتقاء وصولا إلى الحكم النهائي، فمثلا تحريم الخمر وهو أبرز مثال للتدرج يسوقه العلماء لم يتقلب فيه التشريع بين الأحكام التكليفية المعروفة ، بل إن كل الآيات الواردة فيه تدفع باتجاه منعه الذي قوي شيئا فشئا إلى أن وصل إلى هذا الأمر "فاجتنبوه" في سورة (المائدة:90)
فالتشريع إذن في الخمر ، هو المنع لكن التعبير عن هذا المنع اختلف من موطن إلى آخر لتربية الجيل الأول وتدريبه على أمر قد اعتادوه ويشق التخلي عنه دفعة واحدة.
وأيا ما كان فهذا التركيب يشير إلى مبدأً قرآني عظيم تمثل في أن القرآن الكريم لم يأت بتشريعاته جملة واحدة وإنما تدرج بالقوم شيئًا فشيئًا حتى وصل بهم إلى الكمال في التشريع تقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: " إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبدا " أخرجه البخاري.
وقد مضت سنة التدرج بالناس في امتثال التشريع القرآني في ضوء الأطر الآتية:
1 – السكوت عما كان يفعله الكفار فترة من الزمن، ثم إبطاله مرة واحدة كما هو الحال في مسألة إبطال التبني.
2 – التشريع الإجمالي في أول عهد التشريع لأمرٍ ما، ثم التوسع في بيان مسائل كثيرة مفصلة لهذا الإجمال، كما هو الحال في تشريع الجهاد الذى بدأ بالإذن به بقوله تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " [ الحج: 39 ]، ثم تلا ذلك تفصيل أحكام الجهاد، حيث شرعت كيفية الاستعداد له، وأحكام الأسرى، والتخلف عن الجهاد، والإنفاق عليه، وكيفية أداء الصلوات أثناء القتال، وهكذا.
3 – التدرج في إلغاء بعض العادات المتأصلة، على مراحل، كما هو الحال في مسألة تحريم الخمر والميسر حيث تم ذلك على ثلاث مراحل بدأت بنزول قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } ( البقرة: 219 ) وهي آية أومأت إلى خطورة كل من الخمر والميسر وهي بالنسبة للصحابة خطوة في الاتجاه للتحريم وبالنسبة لنا هي من النصوص المحرمة للخمر لأنها ذكرت لنا أن أضرار الخمر أكبر من منافعها، والقاعدة عندنا "أنه إذا غلبت المفسدة المصلحة في شيء فإنه يحرم بل إذا تساوتا أيضا يحرم لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"
ثم نزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ( النساء: 43 ) وذلك حين شرب الخمر أحد الصحابة فصلى بالناس إماما فهذى في صلاته فنهوا عن شربها في أوقات الصلوات، فكانوا لا يشربونها إلا بعد صلاة العشاء، وما قلناه تعليقا على الاية السابقة ايضا يصلح هنا وهو أن هذه الآية بالنسبة للصحابة خطوة في الاتجاه للتحريم الشامل وبالنسبة لنا هي من النصوص المحرمة للخمر بأبلغ طريق وأسده، لأن الصلاة عماد الدين ومظهر الإيمان الذي لا يختلف حوله، بل إن القرآن لم يسم أي عبادة إيمانا إلاها ، وذلك في قوله سبحانه {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة:143) فإذا نهى القرآن عن قربانها على أهميتها وضرورتها بسبب السكر كان هذا تحريما للسكر بأبلغ طريق ، لأن الامتناع عن أداء الصلاة ، هو محرم في الإسلام ، وما يجر إلى الحرام هو حرام ، فإذا أدى السكر إلى عدم قربانها فهو حرام ، لأنه جر إلى حرام.
ومن هذه الناحية يثبت لدينا أن هذه الآية أيضا نص في التحريم.
وأيا ما كان فليس هناك شك في أن الجيل الأول من المخاطبين قد التفتوا وانتبهوا إلى خطورة الخمر من خلال المرحلتين السابقتين وقد صارت النفوس مهيأة لاستقبال الحكم النهائي بل إن بعضهم كان يتعجله كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يقول:
اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، وفي هذه الظروف تنزل هذه الآية التي تقطع كل احتمال وتجزم بالتحريم القاطع وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ( المائدة: 90، 91 )
4 – التدرج بالمخطئين في تقرير بعض العقوبات عليهم من اليسير إلى الشديد، كما هو الحال فى عقوبة الزناة التى كانت أول التشريع إيذاء وحبسا في البيوت، حتى يظهر منهم التوبة والصلاح ( انظر: الزنى )
قال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء:15،16)
إلى أن أفصح عن العقوبة بعد ذلك فكان الجلد للزاني غير المحصن، والرجم للمحصن.
5- التدرج بحكم قد أُذِن به أولاً على طريق التخيير، ثم إلغاء هذا التخيير، وتعيين أحد المُخيَّرَيْن، كما في الصوم حيث شرع أولاً الصوم مخيراً بينه وبين الفدية عنه، بالنسبة للقادرين على الصوم، ثم ألغى هذا التخيير، وتعين الصوم وحده عليهم.
6- تنويع الحكم الواحد وتصنيفيه حسب حالات المكلفين، ومراعاة لظروفهم، وذلك كما هو الحال فى العدة حيث تتنوع إلى: ( عدة وفاة، وعدة طلاق، وعدة الحامل، وانتفت العدة عن غير المدخول بها ) وكما هو الحال في الكفارات أيضاً التي تتنوع إلى عتق، وصيام، وإطعام للمساكين، أو كسوتهم، وغير ذلك.
وفى رأيي أن هذا اللون من التدرج بالناس في إطار الحكم الواحد، لا يقل أهميةً عما يتصوره كثيرون من التدرج بالحكم بتغييره، وتبديله بأخر، بل إنه يدل أيما دلالة على أن هذه الشريعة الغراء ليست شريعة قسرية جافة، ولكن شريعة حية تتفاعل مع المكلفين مراعية لظروفهم النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فتشرع لهم ما يتناسب وحالهم.
وإلا فلِمَ لَمْ يعين القرآن نوعاً واحداً من أنواع العدة للمرأة ليستمر معها، وإن اختلفت أسباب الاعتداد ؟َ ولَمْ يعين كذلك نوعاً واحداً من أنواع الكفارات، ليكون جبراً لما يقع فيه المكلف من أخطاء؟
إن الناس تختلف ظروفهم، وأحوالهم، وطاقاتهم، فمنهم من يتناسب وحاله هذا اللون أو ذاك، ومنهم من لا يلائمه إلا هذا اللون أو ذاك، كل ذلك فى إطار حكم واحد تعددت أشكاله، وفق حكمة عالية من قبل الشارع، ويعرف بذلك بجلاء من يقف على حكمة التشريع الظاهرة البعيدة عن التكلف، لأي حكم من الأحكام التكليفية.
* كيف نقف على سنة التدرج هذه من خلال آيات القرآن الكريم ؟
والجواب أن ذلك يتأتى من خلال ترتيب الآيات الواردة في الموضوع الخاضع للدراسة ترتيباً زمنياً، يتميز فيه السابق على اللاحق، ومن خلال التدبر فى مجموع هذه الآيات تدبراً يُبْنى فيه ثان على أول، ولاحق على سابق، تظهر الفوارق، وينجلي الحكم، ويوقف على سلم التدرج.
ومما يعين على معرفة الترتيب الزمني للآيات للكشف عن التدرج وتمييز مراحله ما يلى:
1 – أن يكون في النص القرآني ذاته ما يشير إلى ذلك، كما في قوله تعالى: { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " ( الأنفال: 65، 66 )
وهذا مثال للكشف عن الترتيب الزمني للتشريع ، وليس مثالا للتدرج ، لأن هذا تدلٍ في التشريع ، وليس ترقيًا.
2 – أن ينعقد الإجماع على تعين المتقدم والمتأخر من النصوص المتعلقة بالموضوع الخاضع للدارسة.
3 – أن يرد نص صحيح عن بعض الصحابة حول تعيين السابق واللاحق من الآيات المقصودة، ويحضرني في ذلك مثال في صحيح البخارى، وهو تحديد عبد الله بن مسعود للسابق واللاحق من آيتي البقرة، والطلاق، في عدتي المتوفى عنها زوجها، والحامل، وأعني آية { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ( البقرة: 234 )، وآية { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ( الطلاق: 4 ) فقد قال ـ رضي الله عنه ـ في ذلك فيما أخرجه البخاري قال: " لنزلت سورة النساء الصغرى بعد الطولى " مصدراً كلامه بلام التأكيد، ويقصد أن سورة الطلاق نزلت بعد سورة البقرة.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن سورة النساء الكبرى هي سورة البقرة ، كما ينص على ذلك وصف ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا، خلافا لما هو شائع من أنها سورة النساء ، حيث شاع ذلك بين المفسرين ، ولم أقف لى أثر يؤيد ما قالوا ، بل الأثر يدل على ما ذكرت والله أعلم.
4 – أن تكون هناك روايات صحيحة قد وردت في سبب نزول هذه الآيات يتعين فيها تاريخ كل.