رؤوسُ أقلامٍ .. في رؤوسِ أعلام (2)

إنضم
01/07/2013
المشاركات
134
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
السعودية
رؤوسُ أقلامٍ .. في رؤوسِ أعلام (2)([1])

في يوم الأربعاء التاسع من شهر جمادى الآخرة من هذا العام 1435هـ الموافق للتاسع من شهر إبريل عام 2014م كان الموعد في أرض الكنانة، للقاء شيخٍ جليل، يذكّرك بالكبار في أشياء كثيرة من حياته..إنه فضيلة الشيخ المحدث حجازي محمد يوسف شريف، المعروف بأبي إسحاق الحويني.
حين تم ترتيبُ اللقاء لم أكن أتوقع أن اللقاء يتجاوز ساعةً، فأنا أعرف ضيقَ وقته، وظروفَه الصحية التي مرّ بها ولا زالت بعضُ آثارها تظهرُ عليه، إلا أنه خالفَ كل توقعاتي، فأكرمني بستّ ساعاتٍ متواصلة، كانت مليئةً بالفوائد والتجارب والذكريات.
لقد أعطاني فضيلتَه دروساً في التواضعِ، وكرمِ النفس، وطيبِ الأحدوثة، وتنوع الفوائد، وتاج هذه الدروسِ: درسٌ لم أجده إلا عند الكبار الذين أدركنا بعضَ بقيتهم، وقرأنا عنهم كثيراً في كتب التراجم، إنه: الجَلَدُ والدَّأبُ العجيب في الاطلاع والبحث والتصنيف، حتى وهو في ظروفه الصحية التي لو أصابت بعضَ طلاب العلم في عصرنا لكانت عذراً في التخفف أو التوقف!
لستُ هنا أترجمُ له، أو أَسرد ما جرى به الحديثُ في ذلك المساء، فطلابُه المقرّبون منه يعلمون منه أكثر مني بلا شك، لكن هي تعبيرٌ عما في القلب من محبّة ومودة لهذا الشيخ، وربما كان فيها شيءٌ جديدٌ من الأخبار والمواقف؛ لعلها تشحذ الهمم، وتُذْكي العزائم.
وستكون البدايةُ بأولِ موقفٍ حصلَ بيننا حينَ دخلتُ بيتَه، فأبيتُ الجلوس قَبْله، وأن يكون ذلك في صدر المجلس! فقال لي: الامتثالُ خيرٌ من الأدب، ثم قصّ عليّ قصتَه مع هذا المثَل حين زار الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ وهي قصةٌ مشهورة لطيفة.
ثم استطرد بنا الحديثُ إلى رحلته المشهورة إلى الشيخ الألباني في الأردن عام 1407هـ، وفيها من الدروس والعِبَر الشيء الكثير، وهي منشورةٌ على الشبكة العالمية، ولسماعها من الشيخ أبي إسحاق ـ كفاحاً ـ طعمٌ آخر، فتقاسيمُ الوجه، ونبرةُ الصوت تعني شيئاً آخر.
وسماعُ أخبار مثل هذه الرحلات يذكّرك بأخبار العلماء السابقين في الرحلة والطلب، والصبر والدأب، ويدركُ معها الباحثُ أثرَ هذه الرحلات على أصحابها، فلُقيا الأكابر لها أثرها المعروف في رفع الهمّة، والتثبيت، والتأسي، وغير ذلك من الفوائد التي يلمسها مَنْ وُفّقَ لها.
وحسبُ القارئ الكريم أن يعرف أن الشيخَ الألباني هو السبب الذي أخذ بالشيخ الحويني إلى العناية بالسنة والعقيدة السلفية الصحيحة، كما صرّح بذلك في مقدمة الجزء الأول من "تنبيه الهاجد".
ومما تعجّبتُ منه وهو مُعْجِبٌ: أنه حدثني ـ حفظه الله ـ أنه سمع أو قرأ لأحدهم كلاماً تعرّض فيه للصحابي الجليل أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، ففكرتُ في طريقة الدفاع عنه، فخطبتُ خمسَ خطبٍ دفاعاً عنه، ثم قلتُ: الخطب مؤقتة، وربما هي لتثبيت العوامّ أقرب، ولا بد من جهد علمي ندافع به عن هذا الإمام الجليل؛ فقررتُ جمع مرويات أبي هريرة من كتب السنة، فاجتمع لي مسند أبي هريرة في خمسةٍ وعشرين مجلداً!
وأما كتابه "تنبيه الهاجد" فلا زال الشيخ يواصل عَمَلَه فيه، بجلَد ودأَبٍ عجيبين.
وأهلُ التخصصِ يعرفون مدى الصعوبة والعنتِ الذي يجده الباحثُ في تتبع الطُّرق والمتابعات والشواهد، وخصوصاً إذا كانت لأحاديث تَكثُر فيها الغرائبُ كما هو الحال في كتب الطبراني.
وأما عمله على مستخرج أبي عوانة؛ فشيء تَقرُّ به العين! من حيثُ العناية بالنصّ ـ وهو الأهم هنا ـ وحسنُ الإخراج الفنّي الذي يُعيْن على الاستفادة منه، كما سيلحظه القارئ إذا طُبِع الكتاب، والذي كاد الشيخُ أن يخرجه مطبوعاً لولا أنه بلغه أن الجزء المفقود من الكتاب موجودٌ عند شخصٍ في الجزائر، والذي صَوّرَ جزءاً منه ورفعه على صفحته في الفيسبوك، ثم اختفى هذا الباحث باختفاء صفحته من الفيسبوك! ولا زال الشيخ يأمل في التواصل مع هذا الباحث، لعل الكتابَ يخرجُ تامّاً، وكانت وجهة نظري التي قلتها للشيخ هي: أن يبادر لإخراج ما لديه، فإذا تيسر الجزء المفقود فيخرج بعد ذلك.
بقي أن يعلم القارئ الكريم أن الشيخ في جميع ما أخرجه من مصنفات وتحقيقات لا يَعتمد على الحاسب الآلي، ولا يراجعه إلا نادراً بعد أن ينتهي تماماً، خوفاً من فوات بعض الطرق، وغالباً ما يكون الذي وقف عليه الشيخ أكثر من نتائج الحاسب! وهذا له سرٌّ، وهو أن الشيخ ـ تأسياً بشيخه الألباني ـ وضع له فهرساً خاصاً بأطراف وطرق الأحاديث التي راجعها أو عمِل عليها من قبل.
وعلى صعيد العمل الدعوي: فإن المتابع لما يطرحه الشيخُ في الساحة الدعوية يلمس منه ما منّ الله به عليه من رجاحة عَقْلٍ، وأناةٍ، وبُعْد نظر، فهو من أبعد الناس عن الدخول في معترك القضايا التي انشغل بها بعضُ المنتسبين للعلم والدعوة ـ وللأسف الشديد ـ، فضاعت بذلك جهودٌ، واستُنفدت طاقاتٌ، وشَمَتَ بهم العدوّ والجاهل!
ولم تزدني هذه الزيارة إلا بصيرةً بذلك، فقد وجدتُ منه أنه إذا رأى ما يستحق التنبيه، فإنه لا ينشغل بتتبع مقالات الأشخاص، بل يجتهد في ردّ المقولة بعلم وعدل، وهذا ـ بلا ريب ـ أدعى لقبولها، وتجرُّدها من "الشخصنة" التي تحول غالباً بين قبولها والانتفاع بها.
كما أن الشيخ من أبعد الناس ـ فيما علمتُ ـ عن الانشغال بالدفاع عن الهجوم الذي ينال شخصَه لشخصه ـ وهو كثيرٌ في الصحف والفضائيات ـ، أما ما ينال منه لصلته بالدعوة والمنهج الذي ارتضاه فهذا له شأن آخر.
وكان مما جرى به الحديث: عن سبب عنايته بعلم أصول الفقه، فقد لحظتُ هذا في عددٍ من دروسه التي تيسر لي سماعُها؟ فقال: نزولي إلى الساحة الدعوية اضطرني لمزيد من العناية بهذا العلم العظيم.
وقد أبى الشيخُ ـ حفظه الله ـ إلا أن يعطيني درساً في تعظيم السنّة، فحين هممتُ بالانصراف أبى إلا أن ينزل من الدور الرابع إلى الدور الأرضي لأجل التوديع، وأنا أحاول ثنيه عن ذلك، فلا يزيد على القول: هذه هي السنة، يفعل ذلك، وهو في ظرف صحي يُعْذر به.
ولا زال الشيخ بهمّته ودأَبه علمياً ودعوياً، وهو يسير بعربته الكهربائية التي احتاجها بعد بتر جزء من قدَمِه، جعل الله ذلك الابتلاء رفعةً له في الدارين.
هذه ومضات من فوائد تلك الزيارة الماتعة النافعة، أسطّرها هنا؛ اعترافاً بفضل هذا العالِم الفاضل، وشكراً له على ما أكرمني به من نفيس وقته، وكرم ضيافته.
أسأل الله تعالى أن يحفظ الشيخ أبا إسحاق، وأن يبارك في علمه وولده، وأن يمتِّع به على حسن عمل، وأن يجمعنا به في دار الكرامة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.



([1]) هذه المقالة هي امتداد لسلسلة غير مرتبة زمنياً، بدأتُ في الحديث فيها عن شيخنا المحدث أ.د.أحمد معبد عبدالكريم حفظه الله.

* المقال على الموقع: http://almuqbil.com/web/?action=articles_inner&show_id=1432
 
عودة
أعلى