د. محي الدين غازي
New member
ذوالقرنين والمشروع العالمي لخدمة البشر
د. محيي الدين غازي
لا يتعرض هذا المقال الوجيز للتفاصيل الواردة فى الكتب عن تحديد الشخصية التاريخية لذي القرنين، ولا عن تحديد الجهات التي سار إليها، ولا عن تحديد الأمم التي ورد ذكرها فى قصته. وإنما يكتفى فيه بذكر الحكم والمعاني التي تضمنتها قصة ذي القرنين فى صورتها وصيغتها الواردة فى القرآن الكريم، والتي تظهر للمتأمل فى الآيات التي تتحدث عنها، حيث ذلك هو الهدف الرئيسي من هذا المقال، وهو يوافق المقصد القرآني من ذكر القصة فيما أرى.
قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)(سورة الكهف)
يقول الشيخ ابن عاشور: "ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حكمية أو خلقية فلذلك قال الله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً}"[1]
ووصفُ القرآن الكريم لرحلات ذي القرنين أنها كانت من مغرب الشمس إلى مطلعها، ثم إلى بين السدين، يدل على أنها امتدت إلى أبعد المناطق من جانب وأصعبها وصولا فى جانب آخر، إلا أن الباعث من وراء تلك الرحلات لم يكن استرقاق الشعوب واستغلال الموارد ولا انتهاك الحرمات وإنزال الويلات، بل رعاية البائسين ونصرة المظلومين، وإقامة العدل ونشر السلام.
فالحلقة الأولى من قصته تصوره وهو قد وصل بجيشه إلى قوم يعانون من الظلم والاضطهاد، فعزم على إلغاء الظلم والضرب على أيدي الظالمين، وإنزال العقوبة الشديدة على المصرّين منهم.
وأما من آثر العمل الصالح على الظلم وأحب أن يعيش مؤمنا آمنا، فوعد لهم بقوله: وسنقول له من أمرنا يسرا، وهذا هو شأن الملك العادل المحب للإنسانية، حيث يكافح الظلم لتوفير الأمن للناس، وفى نفس الوقت يحمل مشروعا واعدا لتلبية حاجات الرعية وتوفير التيسير والمرافق والرفاهية لهم، حيث اختاروا لأنفسهم طريق الإيمان والأمن والعمل الصالح.
يقول السيد قطب: "وهذا هو دستور الحكم الصالح. فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم.
والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء .. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسنا ، ومكانا كريما وعونا وتيسيرا ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة .. عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج."[2]
وفى الحلقة الثانية نجد ذا القرنين بجيشه وأسبابه حيث آتاه الله من كل شيء سببا، أمام شعب بائس متخلف فقير، حيث الشمس تطلع عليهم وليس لهم من دونها سترا. والقرآن الكريم عندما يذكر ذلك، لا يذكر فقط لمجرد تصوير حالهم، وإضافة معلومة تعريفية عنهم، وإنما يتجلى من هذا التصوير ما ثار فى نفس ذي القرنين من همٍّ وتألم حين وجدهم فى هذه المعاناة. فإنه لم ينظر إلى الغنائم التي يمكن جمعها من أرضهم، ولم يتطلع إلى الموارد الطبيعية التي يمكن استغلالها لمصلحة نفسه وبلاده، كما هو ديدن الدول الكبرى على مر العصور، ولم يطمع إلى الموارد البشرية التي كان يمكن له استرقاقها، ومن ثم سوقها إلى بلاده، كما سيق الملايين من البشر كالبهائم من إفريقيا إلى أوروبا وأمريكا.
ولكنه نظر فقط إلى بؤسهم وشقائهم، نظر بعين الأسى والرعاية والاهتمام، وهنا سكت القرآن الكريم، ولم يذكر ما اتخذ ذوالقرنين من قرار، لأن ذكر اتخاذات القرارات الحاسمة فى الحلقة الأولى والثالثة أغنى عن الذكر فى هذه الحلقة، فإن ذا القرنين الذي دفع الظلم الداخلي عن شعب وبنى سدا فى شعب آخر لابد أنه فعل شيئا كبيرا وأعلن عن مشروع ضخم لدفع المعاناة عن هذا الشعب البائس، سواء كان سبب المعاناة التخلف الحضاري أو الفقر السائد.
وفى الحلقة الثالثة نجد شخصية ذي القرنين المحبة للإنسانية تنجلي فى غاية الوضوح، حيث لما انتهى من تفقد أحوال الناس من مشرق الشمس إلى مغربها، سلك طريقا وعرا لرحلته الهادفة ليصل بين السدين، فإذا به أمام معضلة، وهي أن القوم لايكادون يفقهون قولا، وأن هناك عائق اختلاف اللغة الذي يحول دون تعرفه لما بهم من هموم ومعاناة، أو عائق الفرق الحضاري الذي جعلهم لشدة تخلفهم لا يكادون يفقهون قولا كما قال البعض.
قال الشيخ ابن عاشور:"ومعنى {لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يعرفون شيئا من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام. ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم."[3].
ولكن ذاالقرنين بهمته العالية ولاهتمامه البالغ جاوز هذا العائق بطريقة ما وإن لم يذكرها القرآن الكريم، ولا غرابة فقد آتاه الله من كل شيء سببا. وبذلك استطاع التحدث إليهم وأن يتعرف على أشد النوائب تنزل بهم، وهي غارات ياجوج وماجوج بين حين وآخر وما يتبع ذلك من قتل ونهب، ولم يكن لديهم واقيا ناجحا من غاراتهم، وكانوا لشدة معاناتهم، عرضوا على ذي القرنين أموالا عظيمة لقاء إقامة سد منيع، وقد قرّر ذو القرنين أنه سوف سوف يساعدهم فى دفع البلاء عنهم، وأنه سوف يقيم السد، بل الردم وهو فوق السد فى القوة والمنعة، ولكن من دون مقابل ومن غير استغلال لظروفهم، على خلاف ما تفعله الدول الكبرى حين تتقدم لمساعدة شعب أو دولة، حيث تجعل تحقيق مصالحها الشخصية هي الهدف الرئيسي من وراء تقديم النصرة والمساعدة، وتفرض على ذلك الشعب أو الدولة ثمنا باهظا مقابل ذلك.
وكان ذوالقرنين إلى جانب تبنيه المشروع العالمي لخدمة البشر، يحمل في قلبه هموم الدعوة إلى الله، وكان يجمع بين مشروع الدعوة العالمي ومشروع الخدمة العالمي بأسلوب فى غاية الروعة والتناسق، ففي الحلقة الأولى نجده يوعد الظالمين بعذاب الآخرة إلى جانب العقوبة الدنيوية، لأن عذاب الآخرة هو الوازع الحقيقي وليست العقوبات الدنيوية، وكذلك يبشر المؤمنين الصالحين بالجزاء الحسن فى الآخرة إلى جانب ما يقدمه من عنده من عون وتيسير، لأن الباعث الحقيقي على الإيمان والعمل الصالح هو رضا الله سبحانه وتعالى ومن ثم الجزاء فى الآخرة.
وفى الحلقة الثالثة نجده يعطي الخدمة لونا رائعا للدعوة، فإنه عزا عمل السد الضخم العظيم إلى رحمة ربه بدلا من عزوه إلى نفسه، ولو عزاه إلى نفسه لصدّقه الحاضرون، وقرّر عن السدّ الذي يبهر العقول لعظمته ومنعته أنه خاضع لأمر الله وقال: "فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا"، ولو قال إنه خالد لن يزول أبدا لصدّقه الناظرون، فكل ذلك أسلوب للدعوة فى غاية القوة والتأثير، حيث يأخذ هذا الأسلوب بمجامع القلوب ويمسك بنواصي المعجبين بقوّة السدّ وعظمته وقدرة ذي القرنين ومهارته، ويجعلهم يخرّون للرّحمن سجّدا، يسبّحون بحمده ويؤمنون بوعده.
يقول الدكتور على الصلابي: "لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب، وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق، والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا"[4]
[1]تفسير التحرير والتنوير - (15 / 121)
[2]فى ظلال القرآن (4 / 2291)
[3] تفسير التحرير والتنوير - (15 / 131)
[4]فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم لعلي محمد الصلابي (1 / 172)