عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,330
- مستوى التفاعل
- 135
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=left]د.غازي طليمات(*)[/align]
ذم الخطأ في الشعر" رسالة من أصغر الرسائل التي كتبها أحمد بن فارس اللغوي [ت: 395هـ]. ورد ذكرها في أكثر من كتاب(2)، وطبعت مرتين: أولاهما سنة 1349 هـ مع كتاب "الكشف عن مساوئ المتنبي". والثانية سنة 1979 م في مجلة معهد المخطوطات العربية. والثانية فيهما طبعة محققة، حققها الدكتور رمضان عبد التواب واعتمد في تحقيقها على الطبعة الأولى غير المحققة، وعلى مخطوطتين: الأولى محفوظة في دار الكتب المصرية، ورقمها 181 صرف. والثانية محفوظة في مكتبة برلين، ورقمها 7181، وكلتا المخطوطتين تقع في ثلاث صفحات.
تتميز الطبعة الثانية إلى جانب الدقة في التحقيق بميزة قيّمة، وهي المقدمة التي درس فيها المحقق الصواب والخطأ في اللغة لتكون الدراسة جسراً، يجوزه القارئ إلى فكرة الرسالة. في هذه المقدمة يعّرف الدكتور رمضان عبد التواب الخطأ بأنه "مخالفة المألوف الشائع من الكلام في عصر من العصور لمن يتكلم بلغة ذلك العصر(3)". ويرى أن لكل لغة قوانينها ونظمها. "ومن خالف هذه القوانين وتلك النظم فهو مخطئ(4)".
من هذا المبدأ ينطلق الدارس إلى البحث في ضرائر الشعر، فيرى "أن علماء اللغة والنحو هربوا من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فتكلموا على الضرورة والشاذ والقليل والنادر(5)".ولم يتكلموا على الصحة والخطأ. وهذا الهرب أسبغ على هذه المخالفات صفة الجواز. ولذلك حمل المحقق على ابن السكيت أبي يوسف يعقوب بن إسحق [ت: 244هـ] (6)، لأنَّه أجاز التكلم بالنادر إلى جانب الفصيح الكثير. ودعا إلى إعادة النظر في قواعد النحو لتنقية العربية من الأوشاب التي علقت بها. وأعجب بعلي بن عبد العزيز الجرجاني(7) [ت:366 هـ] لجرأته على الشعر القديم، ولإقراره بما فيه من خلل وخطل، ولزرايته بالمسوّغات التي تغمّد بها الأقدمون من النحاة خروج الشعراء على أصول اللغة قال الجرجاني: "ثمَّ تصفحت مع ذلك ما تكلّفه النحويون لهم من الاحتجاج إذا أمكن تارةً بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرةً بالإتباع والمجاورة، وما شاكل ذلك من المعاذير المتحَّملة، وتغيير الروايات إذا ضاقت الحجة. وتبينَّت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة التي يشهد القلب أن المحرّك لها والباعث عليها شدةُ إعظام المتقدم(8)".
ثمَّ يستظهر بقول أبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري(9) [ت: بعد 395 هـ] التالي في الضرورة. يقول العسكري: "وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم بقباحتها، ولأن بعضهم كان صاحب بداية، والبداية مَزَلَّة. وما كان أيضاً تنقد عليهم أشعارهم، ولو قد نُقدت، وبهرج منها المعيب كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة، ويبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنبوها(10)". فالضرورة عند العسكري مخالفة، والمخالفة قبيحة، ولو وضّح الناقد القبح، ووقف عليه الشاعر لَجَانَبه.
من هذا العرض نستنبط أن فريقاً من النقاد جانبوا المجاملة والمصانعة، فكانوا أقرب إلى النزاهة، وسّموا الأشياء بأسمائها، وكرهوا الخطأ في كل شيء، وهجّنوه، ودعوا إلى التوقّي منه. لكن دراسة اللغة والشعر ليست وقفاً على نقاد النصوص، فلعلماء النحو في الموضوع آراء، وتعرّف آرائهم يلقي على الموضوع ضياء من جانب آخر، ومن لون آخر. فما آراء النحاة في الضرورة؟ ثمَّ ما موقف أحمد بن فارس في رسالته: ذم الخطأ في الشعر؟
ذهب سيبويه شيخ النحاة في البصرة (11)[ت: 180 هـ] إلى أن لكل ضرورة يرتكبها الشاعر تأويلاً يفسرها، وحجة تخرجها، ولم يرم الضرائر الشعرية بالخطأ، ولم يحملها على اللحن. قال سيبويه في الكتاب: "وليس شيء يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهاً(12)". غير أنه أقرّ بقبح طائفة من الضرائر، فقال: "ويحتلمون قبح الكلام حتّى يضعوه في غير موضعه".(13)
أمَّا أبو العبّاس محمد بن يزيد المبرّد(14) [ت: 286 هـ] فقد ميّز بين نوعين من الضرائر: نوع يرتكبه الشاعر، فيردّ الأشياء إلى أصولها كصرف الممنوع من الصرف، قال المبرّد: "واعلم أن الشاعر إذا اضطر إلى صرف مالا ينصرف جاز له ذلك لأنَّه إنّما يردّ الأسماء إلى أصولها(15)".ونوع يرتكبه الشاعر، فيخرج الأشياء عن أصولها، وهو قبيح، ومتجه بقربه من اللحن ـ قال المبرّد: "وإذا اضطر إلى ترك صرف ما ينصرف لم يجز له ذلك. وذلك لأنَّ الضرورة لا تجوّز اللحن(16)".
فإذا انتقلنا من المبردر إلى أبي الفتح عثمان بن جني(17) [ت: 392هـ] وجدنا الضرورة سائغة عنده، ووجدنا المحاورة بين ابن جني وشيخه أبي علي الفارسي الحسن بن أحمد(18) [ت: 377هـ] تدور حول أمر آخر منشعب من الأول، وهو: هل يجوز للشعراء المحدثين ما جاز للأقدمين من ارتكاب الضرائر؟
قال ابن جني: "سألت أبا علي ـ رحمه الله ـ عن هذا، فقال: كما جاز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا، وما حظرته عليهم حظرته علينا(19)". من هذه المحاور يظهر أن أبا علي وتلميذه ابن جني يؤثران مسامحة الشعراء المحدثين، ويسوغان لهم من الضرائر ما ساغ من ضرائر الأقدمين عند سيبويه. وحجّتهما ـ وكلاهما مغرم بالقياس ـ حمل الحديث على القديم.
ثمَّ يتابع ابن جني مناقشة الضرائر، فينقد آراء المتشددين المتزمتين الذي زعموا أن الأقدمين معذورون فيما ارتكبوا من ضرائر، وأن المحدثين لا عذر لهم، وحجّبة هؤلاء أن الأوائل كانوا يرتجلون الشعر ارتجالاً، فلا يحككون ولا يثقفون، وأن المحدثين يملكون من الأناة والصنعة ما يقمعون به جموح الارتجال، فيساوي ابن جني بين الفريقين، ويدحض ادّعاء المنادين بتحريم الضرائر على الشعراء المحدثين، فيقول: "يسقط هذا من أوجه: أحدُها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً، بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له، والتلوّم على رياضته، وإحكام صنعته نحوٌ ممّا يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يُروى عن زهير، من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين، فكانت تسمى "حوليات زهير" لأنَّه كان يحوك القصيدة في سنة... وثانٍ أن من المحدثين أيضاً من يسرع العمل، ولا يعتاقه قطّ... وثالثٌ كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات(20)".
وابن جني لا يقف عند المساواة بين الشعراء الأقدمين والمولدين في إباحة الضرائر للفريقين، بل يجاوز هذا الموقف المتسامح إلى ما هو أوسع تسامحاً، فيرى أن ضرائر المتأخرين أولى بالاغتفار، وأن ضرائر المتقدمين أحقّ باللوم. فالأوائل أصحاب ملكات سليمة، واللغة في زمانهم كانت نقية صافية. والمتأخرون عاشوا في زمان الاختلاط وفشوّ العجمة، وفي الحواضر التي فسدت فيها السلائق، فكيف تبرأ ألسنتهم من الضرائر؟ قال ابن جني: "إذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولّدين أحرى بالجواز(21)".
على هذا النحو من النظر المنطقي الواقعي نظر ابن جني إلى الضرائر، فكان من أشدّ النحاة تسامحاً، وعذر الأقدمين والمحدثين على السواء، وكان في قبول الضرائر المحدثة أرحب صدراً وأوسع عذراً. فكيف كان موقف أحمد بن فارس من هذه الظاهرة النحوية، وهو علم من أعلام اللغة والنحو عاش في زمان ابن جني، وعايش الشعراء الذين عايشهم ابن جني؟
يبدأ ابن فارس رسالته (ذم الخطأ في الشعر) بمقدمة، تعدُّ طويلة إذا قيست بمقدماته في رسائله الأخرى، يتكلم فيها على تفرّد البشر من بين المخلوقات بالنطق، وقدرتهم على الإبانة، ويخصّ الأنبياء بالتفوّق في البيان، لأنهم كُلّفوا بإبلاغ البشر شرائع الله. ولهذا، فإن الله "عصمهم من كل شائنة، ونزههم عن كل دنيّة(22)".أمَّا البشر فهم متفاوتون في القدرة على التعبير، فيهم العالم والجاهل، والمخطئ والمصيب. والتناقض سمة من سمات الحياة والأحياء، "فلو لم يكن جهل لم يعُرف علم، ولو لم يكن خطأ لم يعرف صواب، لأنَّ الأشياء تعرف بأضدادها"(23).
بعد هذه المقدمة يتحدث ابن فارس عن فريق من الشعراء القدماء، أصابوا في أكثر شعرهم، وجانبوا الصواب في أقلّه، "وجاء النحاة فجبنوا عن اتهام الأقدمين بالخطأ، ونظروا إلى الشعر القديم بعين الإجلال، وجعلوا يوجهون لخطأ الشعراء وجوهاً، ويتمحّلون لذلك تأويلات، حتّى صنعوا فيما ذكرناه أبواباً، وصنفوا في ضرورات الشعر كتباً"(24). ثمَّ يُتبع الشيخ كلامه هذا بنموذجات من ضرائر الحذف وفكّ الإدغام، ويذكر أقوال سيبويه في تخريجها ذكر الساخر المستنكر، لا ذكر المظاهر المعترف.
فإذا فرغ من العرض انتقل إلى المناقشة. فسخر من الحجة التي يلجأ إليها النحاة، واستنكر أشد الاستنكار تسويغ الخطأ، وتسميته ضرورة. وهذه الحجة هي: أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز للخطيب والكاتب، ويجرّد الشعراء من هذا الحق، ويهزأ منهم وممن بايعهم بإمارة الكلام، ويرى أن النحاة أمروا على دولة الفصاحة والبلاغة قوماً غير أكفّاء، فيقول: "وهَبْنا جعلنا الشعراء أمراء الكلام، فلِمَ أجزنا لهؤلاء الأمراء أن يخطئوا، ويقولوا ما لم يقله غيرهم؟"(25).
من تساؤل أحمد بن فارس يتبيّن لك أن الخطأ نزع منهم الجدارة بالإمارة، ونقلهم من صفوف الملوك إلى صفوف السوقة. أمَّا احتجاجهم بإقامة الوزن فحجّة داحضة، وعذر مضعوف، لأنهم غير مكرهين على قول سليم الوزن عليل الصحة. يقول أحمد بن فارس: "ونحن لم نَرَ، ولم نسمع بشاعر اضطره سلطان أو ذو سطوة بسوط أو سيف إلى أن يقول في شعره ما لا يجوز، ومالا تجيزونه أنتم في كلام غيره"(26).
ولسائل أن يسأل ابن فارس بعد أن استنكر فعل الشعراء والنحاة عن المخرج من هذا المأزق. فما المخرج؟ وكيف نعامل الشعراء؟ عالج الشيخ المشكلة بأسلوب صارم حازم، يريح الشعراء والنحاة من أعباء التأويل والتعليل، وهو أن يحذف الشاعر من قصيدته كل بيت فيه تعبير متعثّر، أو خروج على الأصول. يقول ابن فارس عن الفرزدق بعد أن يزري بهفواته: "ولو أنه أعرض عن هذا الملحون المعيب لكان أحرى به"(27).
يبدو ابن فارس في هذه الرسالة علماً فرداً، يكره التقليد والمصانعة، ويؤثر الصراحة والحفاظ على اللغة. ويبدو كذلك حَكَماً عادلاً، يشوب العدل بالقسوة، يجبه من سبقه ومن عايشه برأي واضح، ويقارع المتسامحين مقارعة لا تعرف المجاملة واللين. وهو في مقارعته يبارز أعتى الخصوم من الشعراء والنحاة. يختار أقوال سيبويه، ويفندها، وضرائر الفرزدق ويزري بها. ولكنه لا يفعل ما يفعل إلا بعد أن يخرج الشعر والنحو من الدرع التي يحتميان بها، وهي الحفاظ على الوزن. إن الوزن في رأي ابن فارس ليس إلا ذريعة، يتذرع بها الضعفاء، ويقبع وراءها الخطأ خزيان ذميماً. فمن أحب أن يطاول قمة الشعر فعليه أن يرقى إليها من مسالكها لا من الشعاب الملتوية.
ولعل أقسى ما في هذه الرسالة أن ابن فارس ينزع من الشعراء سلاحهم، وهو أنهم فوق النحو وقبل النحو، وأنه يسمي الضرائر لحناً صُراحاً، فيقول عن الشعراء: "إنهم يخطئون كما يخطئ الناس"(28). ولم يسبقه إلى هذه الصراحة إلا المبرّد في حديثه عن الضرائر القبيحة. غير أن ابن فارس كان أوضح من المبرد وأصرح، وأقسى على الشعراء وأعتى. فالضرائر كلها قبيحة، والقبح كله خطأ، والخطأ في اللغة والنحو لحن. والشعراء والكتاب سواء أمام القضاء.
ولا يمكن أن نردّ موقف ابن فارس هذا إلى تحامله على الشعر. فقد كان الشيخ يقرض الشعر إلى جانب غيرته على اللغة والنحو، وله في الشعر مقطعات لطيفات. وإنما يمكن أن نرده إلى طبيعة ابن فارس، وإلى ثقافته العربية الخالصة، وإلى تعلقه بلغة القرآن الكريم وانصرافه إلى دراسة اللغة وتصنيف المعجمات.
وهذا الموقف لا يعني أن ابن جني وأبا علي الفارسي كانا أضعف منه غيرة، وأوهى حميّة، إلا أنهما غرقا في المنطق، وبرعا في القياس، وكلفا بتشقيق الحجج وتفريع القواعد. وبقي ابن فارس سادن اللغة الحريص على نقائها وصفائها. ولما كان النحو قياساً يتّبع، وكانت اللغة سماعاً ورواية، فقد مال ابن جني وشيخة أبو علي إلى إخضاع الضرائر للقياس، وإلى تخريجها بما يرضي العقل، ومال ابن فارس إلى صيانة اللغة، وغسلها من الأوضار.
والفرق بين الموقفين لا يقتصر على الشعر القديم وضرائره، بل يمتد إلى الشعر المحدث وعواره. فابن جني يتيح للمحدثين ما أتيح للأقدمين من رُخص، ولا يرى أدنى غضاضة في إتيانها. وابن فارس يريد أن يقمع هذه الظاهرة قمعاً، وأن يجتثها اجتثاثاً. ولو أنه كتب لرأيه البقاء والغلبة لأراح النحو من نصف مشكلاته، وأقاله من أسوأ عثراته، لأنَّ أكثر مسالكه التواء تتعرج في دواوين الشعر، ولأن أوعر طرقه مسالك تطؤها أقدام الشعراء.
والدراسات الحديثة شهدت نقاداً دفعتهم الغيرة على اللغة إلى استنكار الضرورة، فهي عندهم غلط محض، شقّ على الفصحى عصا الطاعة، وخالف قواعدها المطردة. ومن هؤلاء النقاد الأستاذ أحمد عبد الغفور عطا، محقق صحاح الجوهري. ذهب العطار إلى أن الضرورة صورة فجّة من صور التعبير القديمة، انبثقت من غور سحيق، وخالطت الصور الناضجة الراقية. قال: "وغير بعيد عندي أن يكون هذا الخطأ أثراً من آثار رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل والتهذيب، تظهر على الألسنة، ولا يستطيع الناطق لها ردّاً"(29). ولا يشفع لهذه الصور عنده صدورها عن فصاح أقحاح، يُحتجُّ بكلامهم، إذ يقول: "وعلى سبيل المثال أذكر بعض هذه الرواسب التي أعتدها من الخطأ الذي وقع من العرب ممَّن يُحتجُّ بلغتهم هو خطأ عند من يبتغي السهولة واليسر والقاعدة الصحيحة التي لا تلف ولا تدور"(30).
وبعد هذا الحكم الحاسم الجازم يذكر العطار خمسة وعشرين شاهداً من الضرائر الشعرية التي يعدّها تعبيراً عن المخالفة والشذوذ. وسواء أكانت هذه الشواهد من رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل أم مخالفة قاد إليها وزن الشعر فهي غلط عند العطار، كما كانت غلطاً عند ابن فارس.
المصادر والمراجع
1 ـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروزبادي ـ تح. محمد المصري، دمشق 1392هـ/ 1972.
2 ـ الخصائص: ابن جني ـ الطبعة المصورة، (بلا تاريخ).
3 ـ الصحاح: الجوهري ـ تح. أحمد عبد الغفور عطار ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة.
4 ـ الصناعتين: أبو هلال العسكري ـ تح. علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم ـ القاهرة.
5 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ مصورة عن طبعة بولاق، (بلا تاريخ).
6 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ تح. عبد السلام هارون (طبعة مصورة).
7 ـ مجلّة المخطوطات العربية ـ المجلد 25، الجزآن 1، 2.
8 ـ معجم الأدباء: ياقوت الحموي ـ بيروت ـ دار المستشرق (بلا تاريخ).
* باحث من سورية.
(2) سمى ابن فارس كتابه هذا في (الصاحبي ص 471) باسم خضارة وباسم (نعت الشعر). وذكر هذا الكتاب في مفتاح السعادة 1/109 وكشف الظنون 1 / 827 باسم ذم الشعر، وكذلك ذكر في آداب زيدان 1 / 619 والأعلام 1 / 184
(3) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(4) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(5) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(6) ترجمة في معجم الأدباء 20 / 50 ـ 52
(7) ترجمة في معجم الأدباء 14 / 14 ـ 35
(8) مجلة المخطوطات العربية، الجزآن 1، 2 ص 33 والنص مقتبس من الوساطة للجرجاني ص 5
(9) ترجمة العسكري في اللغة ص 62
(10) النص في كتاب الصناعتين 150
(11) هو عمرو بن بحر، ترجمته المفصلة في معجم الأدباء 16/ 114 ـ 127
(12) كتاب سيبويه 1 / 26 (هارون) ص 8 (بولاق)
(13) كتاب سيبويه 1 / 13 (هارون) 1 / 13 (بولاق)
(14) ترجمة المبرد في معجم الأدباء 19/ 111 ـ 123
(15) المقتضب للمبرّد 3 / 354
(16) المصدر السابق 3 / 354
(17) ترجمة ابن جني في معجم الأدباء 12 / 81 ـ 115
(18) ترجمة أبي علي الفارسي في معجم الأدباء 7 / 232 ـ 261
(19) الخصائص لابن جنّي 1 / 323
(20) المصدر السابق 1 / 328
(21) المصدر السابق 1 328
(22) مجلة معهد المخطوطات العربية، مج 25 الجزآن 221 ص 45
(23) المصدر السابق.
(24) المصدر السابق.
(25) المصدر السابق.
(26) المصدر السابق.
(27) المصدر السابق، ص50..
(28) المصدر السابق، ص51.
(29) الصحاح للجوهري، طبعة دار الكتاب العربي، مقدمة المحقق، ص17.
(30) المصدر السابق، ص17.
منقول من مجلة التراث العربي - العدد 98
[align=left]د.غازي طليمات(*)[/align]
ذم الخطأ في الشعر" رسالة من أصغر الرسائل التي كتبها أحمد بن فارس اللغوي [ت: 395هـ]. ورد ذكرها في أكثر من كتاب(2)، وطبعت مرتين: أولاهما سنة 1349 هـ مع كتاب "الكشف عن مساوئ المتنبي". والثانية سنة 1979 م في مجلة معهد المخطوطات العربية. والثانية فيهما طبعة محققة، حققها الدكتور رمضان عبد التواب واعتمد في تحقيقها على الطبعة الأولى غير المحققة، وعلى مخطوطتين: الأولى محفوظة في دار الكتب المصرية، ورقمها 181 صرف. والثانية محفوظة في مكتبة برلين، ورقمها 7181، وكلتا المخطوطتين تقع في ثلاث صفحات.
تتميز الطبعة الثانية إلى جانب الدقة في التحقيق بميزة قيّمة، وهي المقدمة التي درس فيها المحقق الصواب والخطأ في اللغة لتكون الدراسة جسراً، يجوزه القارئ إلى فكرة الرسالة. في هذه المقدمة يعّرف الدكتور رمضان عبد التواب الخطأ بأنه "مخالفة المألوف الشائع من الكلام في عصر من العصور لمن يتكلم بلغة ذلك العصر(3)". ويرى أن لكل لغة قوانينها ونظمها. "ومن خالف هذه القوانين وتلك النظم فهو مخطئ(4)".
من هذا المبدأ ينطلق الدارس إلى البحث في ضرائر الشعر، فيرى "أن علماء اللغة والنحو هربوا من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فتكلموا على الضرورة والشاذ والقليل والنادر(5)".ولم يتكلموا على الصحة والخطأ. وهذا الهرب أسبغ على هذه المخالفات صفة الجواز. ولذلك حمل المحقق على ابن السكيت أبي يوسف يعقوب بن إسحق [ت: 244هـ] (6)، لأنَّه أجاز التكلم بالنادر إلى جانب الفصيح الكثير. ودعا إلى إعادة النظر في قواعد النحو لتنقية العربية من الأوشاب التي علقت بها. وأعجب بعلي بن عبد العزيز الجرجاني(7) [ت:366 هـ] لجرأته على الشعر القديم، ولإقراره بما فيه من خلل وخطل، ولزرايته بالمسوّغات التي تغمّد بها الأقدمون من النحاة خروج الشعراء على أصول اللغة قال الجرجاني: "ثمَّ تصفحت مع ذلك ما تكلّفه النحويون لهم من الاحتجاج إذا أمكن تارةً بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرةً بالإتباع والمجاورة، وما شاكل ذلك من المعاذير المتحَّملة، وتغيير الروايات إذا ضاقت الحجة. وتبينَّت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة التي يشهد القلب أن المحرّك لها والباعث عليها شدةُ إعظام المتقدم(8)".
ثمَّ يستظهر بقول أبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري(9) [ت: بعد 395 هـ] التالي في الضرورة. يقول العسكري: "وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم بقباحتها، ولأن بعضهم كان صاحب بداية، والبداية مَزَلَّة. وما كان أيضاً تنقد عليهم أشعارهم، ولو قد نُقدت، وبهرج منها المعيب كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة، ويبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنبوها(10)". فالضرورة عند العسكري مخالفة، والمخالفة قبيحة، ولو وضّح الناقد القبح، ووقف عليه الشاعر لَجَانَبه.
من هذا العرض نستنبط أن فريقاً من النقاد جانبوا المجاملة والمصانعة، فكانوا أقرب إلى النزاهة، وسّموا الأشياء بأسمائها، وكرهوا الخطأ في كل شيء، وهجّنوه، ودعوا إلى التوقّي منه. لكن دراسة اللغة والشعر ليست وقفاً على نقاد النصوص، فلعلماء النحو في الموضوع آراء، وتعرّف آرائهم يلقي على الموضوع ضياء من جانب آخر، ومن لون آخر. فما آراء النحاة في الضرورة؟ ثمَّ ما موقف أحمد بن فارس في رسالته: ذم الخطأ في الشعر؟
ذهب سيبويه شيخ النحاة في البصرة (11)[ت: 180 هـ] إلى أن لكل ضرورة يرتكبها الشاعر تأويلاً يفسرها، وحجة تخرجها، ولم يرم الضرائر الشعرية بالخطأ، ولم يحملها على اللحن. قال سيبويه في الكتاب: "وليس شيء يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهاً(12)". غير أنه أقرّ بقبح طائفة من الضرائر، فقال: "ويحتلمون قبح الكلام حتّى يضعوه في غير موضعه".(13)
أمَّا أبو العبّاس محمد بن يزيد المبرّد(14) [ت: 286 هـ] فقد ميّز بين نوعين من الضرائر: نوع يرتكبه الشاعر، فيردّ الأشياء إلى أصولها كصرف الممنوع من الصرف، قال المبرّد: "واعلم أن الشاعر إذا اضطر إلى صرف مالا ينصرف جاز له ذلك لأنَّه إنّما يردّ الأسماء إلى أصولها(15)".ونوع يرتكبه الشاعر، فيخرج الأشياء عن أصولها، وهو قبيح، ومتجه بقربه من اللحن ـ قال المبرّد: "وإذا اضطر إلى ترك صرف ما ينصرف لم يجز له ذلك. وذلك لأنَّ الضرورة لا تجوّز اللحن(16)".
فإذا انتقلنا من المبردر إلى أبي الفتح عثمان بن جني(17) [ت: 392هـ] وجدنا الضرورة سائغة عنده، ووجدنا المحاورة بين ابن جني وشيخه أبي علي الفارسي الحسن بن أحمد(18) [ت: 377هـ] تدور حول أمر آخر منشعب من الأول، وهو: هل يجوز للشعراء المحدثين ما جاز للأقدمين من ارتكاب الضرائر؟
قال ابن جني: "سألت أبا علي ـ رحمه الله ـ عن هذا، فقال: كما جاز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا، وما حظرته عليهم حظرته علينا(19)". من هذه المحاور يظهر أن أبا علي وتلميذه ابن جني يؤثران مسامحة الشعراء المحدثين، ويسوغان لهم من الضرائر ما ساغ من ضرائر الأقدمين عند سيبويه. وحجّتهما ـ وكلاهما مغرم بالقياس ـ حمل الحديث على القديم.
ثمَّ يتابع ابن جني مناقشة الضرائر، فينقد آراء المتشددين المتزمتين الذي زعموا أن الأقدمين معذورون فيما ارتكبوا من ضرائر، وأن المحدثين لا عذر لهم، وحجّبة هؤلاء أن الأوائل كانوا يرتجلون الشعر ارتجالاً، فلا يحككون ولا يثقفون، وأن المحدثين يملكون من الأناة والصنعة ما يقمعون به جموح الارتجال، فيساوي ابن جني بين الفريقين، ويدحض ادّعاء المنادين بتحريم الضرائر على الشعراء المحدثين، فيقول: "يسقط هذا من أوجه: أحدُها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً، بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له، والتلوّم على رياضته، وإحكام صنعته نحوٌ ممّا يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يُروى عن زهير، من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين، فكانت تسمى "حوليات زهير" لأنَّه كان يحوك القصيدة في سنة... وثانٍ أن من المحدثين أيضاً من يسرع العمل، ولا يعتاقه قطّ... وثالثٌ كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات(20)".
وابن جني لا يقف عند المساواة بين الشعراء الأقدمين والمولدين في إباحة الضرائر للفريقين، بل يجاوز هذا الموقف المتسامح إلى ما هو أوسع تسامحاً، فيرى أن ضرائر المتأخرين أولى بالاغتفار، وأن ضرائر المتقدمين أحقّ باللوم. فالأوائل أصحاب ملكات سليمة، واللغة في زمانهم كانت نقية صافية. والمتأخرون عاشوا في زمان الاختلاط وفشوّ العجمة، وفي الحواضر التي فسدت فيها السلائق، فكيف تبرأ ألسنتهم من الضرائر؟ قال ابن جني: "إذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولّدين أحرى بالجواز(21)".
على هذا النحو من النظر المنطقي الواقعي نظر ابن جني إلى الضرائر، فكان من أشدّ النحاة تسامحاً، وعذر الأقدمين والمحدثين على السواء، وكان في قبول الضرائر المحدثة أرحب صدراً وأوسع عذراً. فكيف كان موقف أحمد بن فارس من هذه الظاهرة النحوية، وهو علم من أعلام اللغة والنحو عاش في زمان ابن جني، وعايش الشعراء الذين عايشهم ابن جني؟
يبدأ ابن فارس رسالته (ذم الخطأ في الشعر) بمقدمة، تعدُّ طويلة إذا قيست بمقدماته في رسائله الأخرى، يتكلم فيها على تفرّد البشر من بين المخلوقات بالنطق، وقدرتهم على الإبانة، ويخصّ الأنبياء بالتفوّق في البيان، لأنهم كُلّفوا بإبلاغ البشر شرائع الله. ولهذا، فإن الله "عصمهم من كل شائنة، ونزههم عن كل دنيّة(22)".أمَّا البشر فهم متفاوتون في القدرة على التعبير، فيهم العالم والجاهل، والمخطئ والمصيب. والتناقض سمة من سمات الحياة والأحياء، "فلو لم يكن جهل لم يعُرف علم، ولو لم يكن خطأ لم يعرف صواب، لأنَّ الأشياء تعرف بأضدادها"(23).
بعد هذه المقدمة يتحدث ابن فارس عن فريق من الشعراء القدماء، أصابوا في أكثر شعرهم، وجانبوا الصواب في أقلّه، "وجاء النحاة فجبنوا عن اتهام الأقدمين بالخطأ، ونظروا إلى الشعر القديم بعين الإجلال، وجعلوا يوجهون لخطأ الشعراء وجوهاً، ويتمحّلون لذلك تأويلات، حتّى صنعوا فيما ذكرناه أبواباً، وصنفوا في ضرورات الشعر كتباً"(24). ثمَّ يُتبع الشيخ كلامه هذا بنموذجات من ضرائر الحذف وفكّ الإدغام، ويذكر أقوال سيبويه في تخريجها ذكر الساخر المستنكر، لا ذكر المظاهر المعترف.
فإذا فرغ من العرض انتقل إلى المناقشة. فسخر من الحجة التي يلجأ إليها النحاة، واستنكر أشد الاستنكار تسويغ الخطأ، وتسميته ضرورة. وهذه الحجة هي: أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز للخطيب والكاتب، ويجرّد الشعراء من هذا الحق، ويهزأ منهم وممن بايعهم بإمارة الكلام، ويرى أن النحاة أمروا على دولة الفصاحة والبلاغة قوماً غير أكفّاء، فيقول: "وهَبْنا جعلنا الشعراء أمراء الكلام، فلِمَ أجزنا لهؤلاء الأمراء أن يخطئوا، ويقولوا ما لم يقله غيرهم؟"(25).
من تساؤل أحمد بن فارس يتبيّن لك أن الخطأ نزع منهم الجدارة بالإمارة، ونقلهم من صفوف الملوك إلى صفوف السوقة. أمَّا احتجاجهم بإقامة الوزن فحجّة داحضة، وعذر مضعوف، لأنهم غير مكرهين على قول سليم الوزن عليل الصحة. يقول أحمد بن فارس: "ونحن لم نَرَ، ولم نسمع بشاعر اضطره سلطان أو ذو سطوة بسوط أو سيف إلى أن يقول في شعره ما لا يجوز، ومالا تجيزونه أنتم في كلام غيره"(26).
ولسائل أن يسأل ابن فارس بعد أن استنكر فعل الشعراء والنحاة عن المخرج من هذا المأزق. فما المخرج؟ وكيف نعامل الشعراء؟ عالج الشيخ المشكلة بأسلوب صارم حازم، يريح الشعراء والنحاة من أعباء التأويل والتعليل، وهو أن يحذف الشاعر من قصيدته كل بيت فيه تعبير متعثّر، أو خروج على الأصول. يقول ابن فارس عن الفرزدق بعد أن يزري بهفواته: "ولو أنه أعرض عن هذا الملحون المعيب لكان أحرى به"(27).
يبدو ابن فارس في هذه الرسالة علماً فرداً، يكره التقليد والمصانعة، ويؤثر الصراحة والحفاظ على اللغة. ويبدو كذلك حَكَماً عادلاً، يشوب العدل بالقسوة، يجبه من سبقه ومن عايشه برأي واضح، ويقارع المتسامحين مقارعة لا تعرف المجاملة واللين. وهو في مقارعته يبارز أعتى الخصوم من الشعراء والنحاة. يختار أقوال سيبويه، ويفندها، وضرائر الفرزدق ويزري بها. ولكنه لا يفعل ما يفعل إلا بعد أن يخرج الشعر والنحو من الدرع التي يحتميان بها، وهي الحفاظ على الوزن. إن الوزن في رأي ابن فارس ليس إلا ذريعة، يتذرع بها الضعفاء، ويقبع وراءها الخطأ خزيان ذميماً. فمن أحب أن يطاول قمة الشعر فعليه أن يرقى إليها من مسالكها لا من الشعاب الملتوية.
ولعل أقسى ما في هذه الرسالة أن ابن فارس ينزع من الشعراء سلاحهم، وهو أنهم فوق النحو وقبل النحو، وأنه يسمي الضرائر لحناً صُراحاً، فيقول عن الشعراء: "إنهم يخطئون كما يخطئ الناس"(28). ولم يسبقه إلى هذه الصراحة إلا المبرّد في حديثه عن الضرائر القبيحة. غير أن ابن فارس كان أوضح من المبرد وأصرح، وأقسى على الشعراء وأعتى. فالضرائر كلها قبيحة، والقبح كله خطأ، والخطأ في اللغة والنحو لحن. والشعراء والكتاب سواء أمام القضاء.
ولا يمكن أن نردّ موقف ابن فارس هذا إلى تحامله على الشعر. فقد كان الشيخ يقرض الشعر إلى جانب غيرته على اللغة والنحو، وله في الشعر مقطعات لطيفات. وإنما يمكن أن نرده إلى طبيعة ابن فارس، وإلى ثقافته العربية الخالصة، وإلى تعلقه بلغة القرآن الكريم وانصرافه إلى دراسة اللغة وتصنيف المعجمات.
وهذا الموقف لا يعني أن ابن جني وأبا علي الفارسي كانا أضعف منه غيرة، وأوهى حميّة، إلا أنهما غرقا في المنطق، وبرعا في القياس، وكلفا بتشقيق الحجج وتفريع القواعد. وبقي ابن فارس سادن اللغة الحريص على نقائها وصفائها. ولما كان النحو قياساً يتّبع، وكانت اللغة سماعاً ورواية، فقد مال ابن جني وشيخة أبو علي إلى إخضاع الضرائر للقياس، وإلى تخريجها بما يرضي العقل، ومال ابن فارس إلى صيانة اللغة، وغسلها من الأوضار.
والفرق بين الموقفين لا يقتصر على الشعر القديم وضرائره، بل يمتد إلى الشعر المحدث وعواره. فابن جني يتيح للمحدثين ما أتيح للأقدمين من رُخص، ولا يرى أدنى غضاضة في إتيانها. وابن فارس يريد أن يقمع هذه الظاهرة قمعاً، وأن يجتثها اجتثاثاً. ولو أنه كتب لرأيه البقاء والغلبة لأراح النحو من نصف مشكلاته، وأقاله من أسوأ عثراته، لأنَّ أكثر مسالكه التواء تتعرج في دواوين الشعر، ولأن أوعر طرقه مسالك تطؤها أقدام الشعراء.
والدراسات الحديثة شهدت نقاداً دفعتهم الغيرة على اللغة إلى استنكار الضرورة، فهي عندهم غلط محض، شقّ على الفصحى عصا الطاعة، وخالف قواعدها المطردة. ومن هؤلاء النقاد الأستاذ أحمد عبد الغفور عطا، محقق صحاح الجوهري. ذهب العطار إلى أن الضرورة صورة فجّة من صور التعبير القديمة، انبثقت من غور سحيق، وخالطت الصور الناضجة الراقية. قال: "وغير بعيد عندي أن يكون هذا الخطأ أثراً من آثار رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل والتهذيب، تظهر على الألسنة، ولا يستطيع الناطق لها ردّاً"(29). ولا يشفع لهذه الصور عنده صدورها عن فصاح أقحاح، يُحتجُّ بكلامهم، إذ يقول: "وعلى سبيل المثال أذكر بعض هذه الرواسب التي أعتدها من الخطأ الذي وقع من العرب ممَّن يُحتجُّ بلغتهم هو خطأ عند من يبتغي السهولة واليسر والقاعدة الصحيحة التي لا تلف ولا تدور"(30).
وبعد هذا الحكم الحاسم الجازم يذكر العطار خمسة وعشرين شاهداً من الضرائر الشعرية التي يعدّها تعبيراً عن المخالفة والشذوذ. وسواء أكانت هذه الشواهد من رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل أم مخالفة قاد إليها وزن الشعر فهي غلط عند العطار، كما كانت غلطاً عند ابن فارس.
المصادر والمراجع
1 ـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروزبادي ـ تح. محمد المصري، دمشق 1392هـ/ 1972.
2 ـ الخصائص: ابن جني ـ الطبعة المصورة، (بلا تاريخ).
3 ـ الصحاح: الجوهري ـ تح. أحمد عبد الغفور عطار ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة.
4 ـ الصناعتين: أبو هلال العسكري ـ تح. علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم ـ القاهرة.
5 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ مصورة عن طبعة بولاق، (بلا تاريخ).
6 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ تح. عبد السلام هارون (طبعة مصورة).
7 ـ مجلّة المخطوطات العربية ـ المجلد 25، الجزآن 1، 2.
8 ـ معجم الأدباء: ياقوت الحموي ـ بيروت ـ دار المستشرق (بلا تاريخ).
* باحث من سورية.
(2) سمى ابن فارس كتابه هذا في (الصاحبي ص 471) باسم خضارة وباسم (نعت الشعر). وذكر هذا الكتاب في مفتاح السعادة 1/109 وكشف الظنون 1 / 827 باسم ذم الشعر، وكذلك ذكر في آداب زيدان 1 / 619 والأعلام 1 / 184
(3) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(4) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(5) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(6) ترجمة في معجم الأدباء 20 / 50 ـ 52
(7) ترجمة في معجم الأدباء 14 / 14 ـ 35
(8) مجلة المخطوطات العربية، الجزآن 1، 2 ص 33 والنص مقتبس من الوساطة للجرجاني ص 5
(9) ترجمة العسكري في اللغة ص 62
(10) النص في كتاب الصناعتين 150
(11) هو عمرو بن بحر، ترجمته المفصلة في معجم الأدباء 16/ 114 ـ 127
(12) كتاب سيبويه 1 / 26 (هارون) ص 8 (بولاق)
(13) كتاب سيبويه 1 / 13 (هارون) 1 / 13 (بولاق)
(14) ترجمة المبرد في معجم الأدباء 19/ 111 ـ 123
(15) المقتضب للمبرّد 3 / 354
(16) المصدر السابق 3 / 354
(17) ترجمة ابن جني في معجم الأدباء 12 / 81 ـ 115
(18) ترجمة أبي علي الفارسي في معجم الأدباء 7 / 232 ـ 261
(19) الخصائص لابن جنّي 1 / 323
(20) المصدر السابق 1 / 328
(21) المصدر السابق 1 328
(22) مجلة معهد المخطوطات العربية، مج 25 الجزآن 221 ص 45
(23) المصدر السابق.
(24) المصدر السابق.
(25) المصدر السابق.
(26) المصدر السابق.
(27) المصدر السابق، ص50..
(28) المصدر السابق، ص51.
(29) الصحاح للجوهري، طبعة دار الكتاب العربي، مقدمة المحقق، ص17.
(30) المصدر السابق، ص17.
منقول من مجلة التراث العربي - العدد 98