ذكريات ومواقف مع العلامة ابن عثيمين رحمه الله [1-2]
( منتقاة من : رحلتي إلى النور )
كتب الأخ مازن الغامدي رحمه الله رواية لحياته الشخصية "رحلتي إلى النور" في (280)صفحة بيّن فيها مسيرته في الحياة، ومن ذلك انتقاله للقصيم في مقتبل شبابه لطلب العلم على يد العلامة ابن عثيمين رحمه الله عدة سنوات، وقد حصلت له مواقف وذكريات مع الشيخ سيما وقد خصه الشيخ برعايته وكان يصطحبه في بعض أسفاره ؛ فاقتبست لكم كثيرا من هذه المواقف والذكريات- بنصها أو بتصرف يسير جدا- مما في نقله فائدة أو طرافة.. ووضعت لبعضها عناوين مناسبة ، وإذا كان لي تعليق – وهو نادر – فأضعه بين قوسين.. والله الموفق .
1- زهده في الدنيا :
روى لي أحد الثقات ..
يقول منذ زمن بعيد حيث لم يكن شيخنا يملك سيارة ..
اتصل عليه الأمير سلطان بن عبد العزيز ودعى الشيخ ليزوره في مزرعته
المعروفة في القصيم..
فلبى شيخنا الدعوة .. واستأجر سائقا أعرابيا ويقود سيارة تاكسي توصله
لمزرعة الأمير..
فكان البروتوكول التابع للأمير قد رتب أن يستقبل الأمير سلطان
شيخنا من باب السيارة ..
فتوسطت تلك السيارة العتيقة سيارات الأمير وحشمه وضيوفه
فأصابها الخجل والحياء أمام أخواتها الفارهات الحسن ..
غير أن شيخنا لم يتأثر من ذلك..
فهو زاهد بالمظاهر ولا تحرك في مشاعره شيئا ..
فلما رأى الأمير الشيخ ورأى أنه قدم مع سيارة تاكسي ..
تغير وجهه وأشفق على شيخنا ..
وقال : ياشيخ محمد ،لا بد أن نشتري لك سيارة ..
فقال الشيخ : تعبرنا وتقضي حاجتنا ..
أنا مرتاح والله يغنيك ويجزاك خير..
ولقد روى لي شخص قصة وسألت عنها شيخنا فأكد لي ما حدث..
حيث أن أحد الأمراء بعث لشيخنا سيارة فارهة جدا هدية منه ..
إكراما للشيخ وحبا فيه ..
فرد شيخنا ذلك وشكر المهدي وقال : اعتبر هديتك وصلت وأعفني من
قبولها!!
شيخنا حينما يرد تلك الهدايا لا يقصد احتقار ما يهدى أو من يقدم
الهدية.. أبدا والله ..غير انه رحمه الله رجل بسيط ويحب البساطة ولا يريد التكلف في اللباس والمظهر أو المركوب .. عاش على ذلك ومات عليه ..
كما هو شأن سلفنا الصالح..
روى لي جمع من الناس ومنهم شيخنا بنفسه ..
أنه في عام 1407 للهجرة حينما زار الملك فهد رحمه الله وعفا عنه
منطقة القصيم ..
اتصل الملك على شيخنا وقال له : نريد أن نزورك في منزلك..
فرحب به الشيخ وقال على الرحب والسعة إن شاء الله..
فشقت المواكب الهائلة الطرق إلى بيت شيخنا وغصت بالجنود والعسكر
الطرقات في عنيزة .. ودوت صفارات الشرط..
وظن الناس أن المزور هو إحدى قصور عنيزة الفسيحة ..
فتجمعت الحشود لذلك الضيف الكريم..
وقال الناس: هنيئا لمن سينزل هذا الكريم في داره..
وما علم الناس أن شيخنا هو المقصود..
وأن بيته المتواضع هو قبلة الملك والأمراء ...
فلما ترجل الملك من سيارته ..
ونزلت الحاشية من المواكب..
تفاجأ الملك وحشده الكبير ..
أن الشيخ محمد يعيش في بيت من طين!!
فصعقوا من ذلك .. وتعجبوا واستغربوا ..
ولعلهم بلغهم الأمر فظنوه مبالغة..
فدخل الملك البيت .. وتجول بنظره فيه وفي جدرانه البالية ..
وسقوفه المتواضعة..
فما رأى شيئا يرد النظر ويملأ العين..
ولعل الذاكرة حينها عادت به لسنوات بعيدة جدا في صغره ..
حيث البيوت المشابهة في الرياض القديمة والدرعية ..
فشق ذلك على الملك وأبت عليه نفسه إلا المبادرة ..
فعزم على الأمر وعقد النية ..
وحينما دخل للمجلس ..
وجلس على الأرض مع الشيخ الكريم..
الذي هلل ورحب بالملك وضيوفه ..
بادره الملك قائلا:
يا أبا عبد الله لا بد أن تقبل مني هدية بسيطة..
ولم ينتظر جواب الشيخ .. وقال:
أريد ابني لك بيتا ..
فابتسم شيخنا ..
وقال : جزاك الله خيرا
ولكنني مرتاح في هذا البيت وخيركم وصل يا أبا فيصل وهديتكم مقبولة ..
ولكن أعفني من ذلك ..
فألح عليه الملك وأصر ..
ولكن شيخنا أبى..
وقال له: وجودك في منزلي هو أبلغ إكرام ..
فقبل الملك منه ذلك وعرف أنه رجل زاهد ومهما حاول معه فسوف يعجزه
ولقد زار شيخنا في هذا المنزل البسيط الملك سعود والملك خالد والملك فهد رحمهم
الله جميعا..
قال لي الشيخ مرة : والله لقد مر علي زمان لا أملك الريال الواحد في جيبي!!
وبعد سنين ابتنى شيخنا بيتا آخر بعد أن وسع الله عليه ..
ونزله منذ عام 1409 للهجرة وبقي فيه حتى وفاته.. رحمه الله ورزقه القصور
في الفردوس الأعلى..
- من عادة الشيخ أن ينام على الأرض ..دون مراتب أو أسرّة..وذلك في كل أسفاره ... وكنت أفعل مثله واعتدت على ذلك..
فهو لا يطلب سوى وسائد يضعها تحت رأسه..
يخلع عمامته ثم يقوم بتمريرها على الأرض ثلاث مرات
ثم يقرأ أذكار النوم وينفث على يديه ويمسح بها على جسده كما هي السنة..
ثم يلف عمامته على وجهه ولا يخلع ثوبه..ويستلقي على يمينه ثم ينام..
2- الحرص على نفع الناس وتعليمهم:
- أذكر مرة في حج إحدى السنوات أن شيخنا لم يكن ينام خلال
أربع وعشرين ساعة سوى أربع ساعات تقريبا ..
ولقد كان يبلغ منه الجهد فينعس وينام وسماعة الهاتف في يده ..
فأقوم أنا أو أحد مرافقيه بغلق السماعة وفصل خط التلفون وترك الشيخ وحيدا ليستريح ، فيستيقظ ويقول أين الهاتف ؟؟
فنقول له : أجهدت نفسك ياشيخي نم قليلا..
فيقول : الناس محتاجة لمن يفتيها وأنا أنام؟؟
هات التلفون .. فيرغمنا على إحضاره ونحن نشفق عليه من التعب ..
- كنت معه مرة في العشر الآواخر من رمضان في مكة وكان لا ينام طوال الليل إلا أن يغفو قريبا من النصف ساعة إن وجد لها متسعا من الوقت قبل السحور..
ذات يوم لم أتمكن أنا و شيخنا من النوم نهارا بسبب شغل ما ، فأثقل ذلك
علينا جدا فكنت أذهب للمسجد للصلاة أو لقراءة القرءان أو لاستماع الدروس
فتغلبني عيني فأنام ولا استطيع القراءة أو الإصغاء ..
غير أن المشقة الأكبر هي على شيخنا رحمه الله فهو لا يجد فرصة ليستريح
لكثرة الناس والمحتاجين ..
فتحنا الأبواب للناس كما هو العادة في عصر ذلك اليوم وجلس الشيخ للناس
والمحتاجين وللفتاوى عبر الهاتف ..
ولا تسل عن حال شيخنا المسكين فقد كان يرفع سماعة الهاتف ويستمع لسؤال
السائل فينام وتسقط سماعة الهاتف من يده فيرفعها ويقول : أعد سؤالك فينام
ويكاد يسقط على وجهه دون أن يشعر..
وكان السائل يجلس بين يدي الشيخ فيكلمه والشيخ ينصت له ولكن النوم يغلبه
فينام ويبقى السائل حائرا ولا يدري ما يفعل حتى أغمز شيخنا فيستيقظ فيقول
: أين كنا؟؟
واستمر شيخنا في برنامجه حتى اليوم التالي وصمد للناس حتى بلغ به الإعياء
حدا لا يوصف..
وكانت القاصمة فجر اليوم التالي .. حيث أن الشيخ رحمه الله نام وهو يستمع
لقراءة الأسئلة وحوله الجمع الهائل من المستمعين والمقدر بالآلاف وكل يشهد
هذا الموقف وقد يذكره بعضكم !!
.. ولقد كان يتوقف أحيانا في الدرس فيغفو لثوان معدودة ثم يكمل حديثه في
موضوع مختلف .. حتى ظن بعض الجهال أن الشيخ خرف !
3- مواقف في الحرم:
وصلنا إلى الحرم وبدأنا بطواف القدوم..وكان الشيخ يسرع في خطاه حتى يكاد أن يجري .. وهو ما يسمى الرمل.. وكنا نفعل مثل ما يفعله خلافا لكثير من الطائفين ..
لاحظنا أحد العاملين في تنظيم المعتمرين حول الكعبة ..
وهو رجل كبير في السن عليه عباءة مزررة باللون الذهبي..
مر بجواره الشيخ فلم يعرفه فنادى على الشيخ : إن ما تفعله بدعة وخلاف السنة..!!
فلم يلتفت إليه الشيخ ولم يرد عليه..
وحينما مر بجواره المرة التالية كرر عليه الكلام ..
حينها رد عليه الشيخ وهو يسير (والرجل يلهث خلفه ويمسك بمنكب الشيخ يريد إيقافه!!) قائلا : قد ثبت بالنص أن ذلك من السنة وروى له الحديث .. ثم دفع يده واستمر.. ثم قام الشيخ صالح الزامل وهمس في أذن الرجل وقال له : الشخص الذي تتكلم معه ، هو الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء!!
تأفف الرجل وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ،والله ما عرفت الشيخ ..
بعد انقضاء الأشواط الثلاثة التي يرمل فيها ، مشينا مشيا عاديا ولحق ذلك الرجل بنا واعتذر من الشيخ ..
لا يحب شيخنا أن يعرف نفسه لأحد فذلك ليس من شيمه ..
إلا إن رأى حاجة لذلك ..
من المواقف التي أذكرها جيدا ..
في سنة من السنوات كنت أسعى بين الصفا والمروة معه ...
وكان الشيخ بطبيعة الحال محرما ..وكثير من الناس لا يميز جيد ا حينما يكون محرما..فهو بخلاف الشكل المعتاد له..
مررنا بجوار رجل في الخمسينيات يحمل مصحفا في يده ويلبس نعلا في المسعى..
فاقترب شيخنا منه وقال له: لا ينبغي لك يا أخي أن تسير في المسعى بنعلك..
فالتفت للشيخ ولم يعرفه وأخذه طولا وعرضا وقال: هذا من السنة!!
فقال له الشيخ : نعم هذا من السنة حينما كان الصفا والمروة واديا مفروشا بالحصى والتراب.. أما الآن فهو مبلط ولو لبس الناس النعال مثلك لتأذى المصلون من ذلك ..
فقال الرجل : هذا أمر لا يعنيك وانصرف وترك الشيخ !!
فلحقه شيخنا وقال له : أريد أعرفك بنفسي ، أنا أخوك في الله محمد بن صالح العثيمين!!
فقال : هو أنت ؟؟
الشيخ؟؟
قال : نعم أنا !!
فانحنى الرجل وحمل نعله وقال : والله ياشيخ ما عرفتك سامحني!!
وقبل رأس الشيخ واعتذر منه ... وهي تحية تعورف أنها للعلماء!!
فقال الشيخ : سامحك الله يا أخي .. لو أنك عرفت الرجال بالحق خير من أن تعرف الحق بالرجال!!
ومن المواقف التي أذكرها جيدا .. أنه ذات مرة كان الشيخ خارجا من باب الصفا من الدور الثاني بعد صلاة العشاء .. فلمح عاملا سعوديا في البلدية يطارد امرأة تكرونية ممن يبعن أمام الحرم بعض الخردوات والزينة والنعال.. كانت تجري وتحمل متاعها الملفوف في قطعة قماش وتصيح وتولول.. والرجل يجري خلفها يريد الإمساك بها..
وكانت امرأة كبيرة في السن وهو شاب نشيط فلحقها على درج أحد البيوت فأمسك بمتاعها.. فأخذت تصيح وتترجاه وتبكي بصوت محزن يقطع الفؤاد ..
وهو لا يلتفت إليها ولا يرد عليها..
فرأيت الشيخ أحمر وجهه وامتلئ غضبا وتوجه لذلك الرجل ..
فأمسك به بشدة ونزع القماش من يده وألقاه في يد العجوز فطارت به واختفت عن ناظرنا..
وقال لذلك الشاب الذي صعق من الموقف ولم يتوقعه ويستعد له.. وكانت علامات الخوف والتعجب ظاهرة على ومحياه قال له: اذهب لمديرك وقل له إن ابن عثيمين قد أطلق تلك المرأة وسوف أتحمل المسئولية عن ذلك !!
أعتذر من الشيخ وقبل يده ورأسه وانصرف ...
وللحديث بقية في الحلقة القادمة إن شاء الله وفيها جوانب عن العلم وطلبه ودروس الشيخ ، والعبادة ، وإنكار المنكر، ومواقف متفرقة..
( منتقاة من : رحلتي إلى النور )
كتب الأخ مازن الغامدي رحمه الله رواية لحياته الشخصية "رحلتي إلى النور" في (280)صفحة بيّن فيها مسيرته في الحياة، ومن ذلك انتقاله للقصيم في مقتبل شبابه لطلب العلم على يد العلامة ابن عثيمين رحمه الله عدة سنوات، وقد حصلت له مواقف وذكريات مع الشيخ سيما وقد خصه الشيخ برعايته وكان يصطحبه في بعض أسفاره ؛ فاقتبست لكم كثيرا من هذه المواقف والذكريات- بنصها أو بتصرف يسير جدا- مما في نقله فائدة أو طرافة.. ووضعت لبعضها عناوين مناسبة ، وإذا كان لي تعليق – وهو نادر – فأضعه بين قوسين.. والله الموفق .
1- زهده في الدنيا :
روى لي أحد الثقات ..
يقول منذ زمن بعيد حيث لم يكن شيخنا يملك سيارة ..
اتصل عليه الأمير سلطان بن عبد العزيز ودعى الشيخ ليزوره في مزرعته
المعروفة في القصيم..
فلبى شيخنا الدعوة .. واستأجر سائقا أعرابيا ويقود سيارة تاكسي توصله
لمزرعة الأمير..
فكان البروتوكول التابع للأمير قد رتب أن يستقبل الأمير سلطان
شيخنا من باب السيارة ..
فتوسطت تلك السيارة العتيقة سيارات الأمير وحشمه وضيوفه
فأصابها الخجل والحياء أمام أخواتها الفارهات الحسن ..
غير أن شيخنا لم يتأثر من ذلك..
فهو زاهد بالمظاهر ولا تحرك في مشاعره شيئا ..
فلما رأى الأمير الشيخ ورأى أنه قدم مع سيارة تاكسي ..
تغير وجهه وأشفق على شيخنا ..
وقال : ياشيخ محمد ،لا بد أن نشتري لك سيارة ..
فقال الشيخ : تعبرنا وتقضي حاجتنا ..
أنا مرتاح والله يغنيك ويجزاك خير..
ولقد روى لي شخص قصة وسألت عنها شيخنا فأكد لي ما حدث..
حيث أن أحد الأمراء بعث لشيخنا سيارة فارهة جدا هدية منه ..
إكراما للشيخ وحبا فيه ..
فرد شيخنا ذلك وشكر المهدي وقال : اعتبر هديتك وصلت وأعفني من
قبولها!!
شيخنا حينما يرد تلك الهدايا لا يقصد احتقار ما يهدى أو من يقدم
الهدية.. أبدا والله ..غير انه رحمه الله رجل بسيط ويحب البساطة ولا يريد التكلف في اللباس والمظهر أو المركوب .. عاش على ذلك ومات عليه ..
كما هو شأن سلفنا الصالح..
روى لي جمع من الناس ومنهم شيخنا بنفسه ..
أنه في عام 1407 للهجرة حينما زار الملك فهد رحمه الله وعفا عنه
منطقة القصيم ..
اتصل الملك على شيخنا وقال له : نريد أن نزورك في منزلك..
فرحب به الشيخ وقال على الرحب والسعة إن شاء الله..
فشقت المواكب الهائلة الطرق إلى بيت شيخنا وغصت بالجنود والعسكر
الطرقات في عنيزة .. ودوت صفارات الشرط..
وظن الناس أن المزور هو إحدى قصور عنيزة الفسيحة ..
فتجمعت الحشود لذلك الضيف الكريم..
وقال الناس: هنيئا لمن سينزل هذا الكريم في داره..
وما علم الناس أن شيخنا هو المقصود..
وأن بيته المتواضع هو قبلة الملك والأمراء ...
فلما ترجل الملك من سيارته ..
ونزلت الحاشية من المواكب..
تفاجأ الملك وحشده الكبير ..
أن الشيخ محمد يعيش في بيت من طين!!
فصعقوا من ذلك .. وتعجبوا واستغربوا ..
ولعلهم بلغهم الأمر فظنوه مبالغة..
فدخل الملك البيت .. وتجول بنظره فيه وفي جدرانه البالية ..
وسقوفه المتواضعة..
فما رأى شيئا يرد النظر ويملأ العين..
ولعل الذاكرة حينها عادت به لسنوات بعيدة جدا في صغره ..
حيث البيوت المشابهة في الرياض القديمة والدرعية ..
فشق ذلك على الملك وأبت عليه نفسه إلا المبادرة ..
فعزم على الأمر وعقد النية ..
وحينما دخل للمجلس ..
وجلس على الأرض مع الشيخ الكريم..
الذي هلل ورحب بالملك وضيوفه ..
بادره الملك قائلا:
يا أبا عبد الله لا بد أن تقبل مني هدية بسيطة..
ولم ينتظر جواب الشيخ .. وقال:
أريد ابني لك بيتا ..
فابتسم شيخنا ..
وقال : جزاك الله خيرا
ولكنني مرتاح في هذا البيت وخيركم وصل يا أبا فيصل وهديتكم مقبولة ..
ولكن أعفني من ذلك ..
فألح عليه الملك وأصر ..
ولكن شيخنا أبى..
وقال له: وجودك في منزلي هو أبلغ إكرام ..
فقبل الملك منه ذلك وعرف أنه رجل زاهد ومهما حاول معه فسوف يعجزه
ولقد زار شيخنا في هذا المنزل البسيط الملك سعود والملك خالد والملك فهد رحمهم
الله جميعا..
قال لي الشيخ مرة : والله لقد مر علي زمان لا أملك الريال الواحد في جيبي!!
وبعد سنين ابتنى شيخنا بيتا آخر بعد أن وسع الله عليه ..
ونزله منذ عام 1409 للهجرة وبقي فيه حتى وفاته.. رحمه الله ورزقه القصور
في الفردوس الأعلى..
- من عادة الشيخ أن ينام على الأرض ..دون مراتب أو أسرّة..وذلك في كل أسفاره ... وكنت أفعل مثله واعتدت على ذلك..
فهو لا يطلب سوى وسائد يضعها تحت رأسه..
يخلع عمامته ثم يقوم بتمريرها على الأرض ثلاث مرات
ثم يقرأ أذكار النوم وينفث على يديه ويمسح بها على جسده كما هي السنة..
ثم يلف عمامته على وجهه ولا يخلع ثوبه..ويستلقي على يمينه ثم ينام..
2- الحرص على نفع الناس وتعليمهم:
- أذكر مرة في حج إحدى السنوات أن شيخنا لم يكن ينام خلال
أربع وعشرين ساعة سوى أربع ساعات تقريبا ..
ولقد كان يبلغ منه الجهد فينعس وينام وسماعة الهاتف في يده ..
فأقوم أنا أو أحد مرافقيه بغلق السماعة وفصل خط التلفون وترك الشيخ وحيدا ليستريح ، فيستيقظ ويقول أين الهاتف ؟؟
فنقول له : أجهدت نفسك ياشيخي نم قليلا..
فيقول : الناس محتاجة لمن يفتيها وأنا أنام؟؟
هات التلفون .. فيرغمنا على إحضاره ونحن نشفق عليه من التعب ..
- كنت معه مرة في العشر الآواخر من رمضان في مكة وكان لا ينام طوال الليل إلا أن يغفو قريبا من النصف ساعة إن وجد لها متسعا من الوقت قبل السحور..
ذات يوم لم أتمكن أنا و شيخنا من النوم نهارا بسبب شغل ما ، فأثقل ذلك
علينا جدا فكنت أذهب للمسجد للصلاة أو لقراءة القرءان أو لاستماع الدروس
فتغلبني عيني فأنام ولا استطيع القراءة أو الإصغاء ..
غير أن المشقة الأكبر هي على شيخنا رحمه الله فهو لا يجد فرصة ليستريح
لكثرة الناس والمحتاجين ..
فتحنا الأبواب للناس كما هو العادة في عصر ذلك اليوم وجلس الشيخ للناس
والمحتاجين وللفتاوى عبر الهاتف ..
ولا تسل عن حال شيخنا المسكين فقد كان يرفع سماعة الهاتف ويستمع لسؤال
السائل فينام وتسقط سماعة الهاتف من يده فيرفعها ويقول : أعد سؤالك فينام
ويكاد يسقط على وجهه دون أن يشعر..
وكان السائل يجلس بين يدي الشيخ فيكلمه والشيخ ينصت له ولكن النوم يغلبه
فينام ويبقى السائل حائرا ولا يدري ما يفعل حتى أغمز شيخنا فيستيقظ فيقول
: أين كنا؟؟
واستمر شيخنا في برنامجه حتى اليوم التالي وصمد للناس حتى بلغ به الإعياء
حدا لا يوصف..
وكانت القاصمة فجر اليوم التالي .. حيث أن الشيخ رحمه الله نام وهو يستمع
لقراءة الأسئلة وحوله الجمع الهائل من المستمعين والمقدر بالآلاف وكل يشهد
هذا الموقف وقد يذكره بعضكم !!
.. ولقد كان يتوقف أحيانا في الدرس فيغفو لثوان معدودة ثم يكمل حديثه في
موضوع مختلف .. حتى ظن بعض الجهال أن الشيخ خرف !
3- مواقف في الحرم:
وصلنا إلى الحرم وبدأنا بطواف القدوم..وكان الشيخ يسرع في خطاه حتى يكاد أن يجري .. وهو ما يسمى الرمل.. وكنا نفعل مثل ما يفعله خلافا لكثير من الطائفين ..
لاحظنا أحد العاملين في تنظيم المعتمرين حول الكعبة ..
وهو رجل كبير في السن عليه عباءة مزررة باللون الذهبي..
مر بجواره الشيخ فلم يعرفه فنادى على الشيخ : إن ما تفعله بدعة وخلاف السنة..!!
فلم يلتفت إليه الشيخ ولم يرد عليه..
وحينما مر بجواره المرة التالية كرر عليه الكلام ..
حينها رد عليه الشيخ وهو يسير (والرجل يلهث خلفه ويمسك بمنكب الشيخ يريد إيقافه!!) قائلا : قد ثبت بالنص أن ذلك من السنة وروى له الحديث .. ثم دفع يده واستمر.. ثم قام الشيخ صالح الزامل وهمس في أذن الرجل وقال له : الشخص الذي تتكلم معه ، هو الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء!!
تأفف الرجل وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ،والله ما عرفت الشيخ ..
بعد انقضاء الأشواط الثلاثة التي يرمل فيها ، مشينا مشيا عاديا ولحق ذلك الرجل بنا واعتذر من الشيخ ..
لا يحب شيخنا أن يعرف نفسه لأحد فذلك ليس من شيمه ..
إلا إن رأى حاجة لذلك ..
من المواقف التي أذكرها جيدا ..
في سنة من السنوات كنت أسعى بين الصفا والمروة معه ...
وكان الشيخ بطبيعة الحال محرما ..وكثير من الناس لا يميز جيد ا حينما يكون محرما..فهو بخلاف الشكل المعتاد له..
مررنا بجوار رجل في الخمسينيات يحمل مصحفا في يده ويلبس نعلا في المسعى..
فاقترب شيخنا منه وقال له: لا ينبغي لك يا أخي أن تسير في المسعى بنعلك..
فالتفت للشيخ ولم يعرفه وأخذه طولا وعرضا وقال: هذا من السنة!!
فقال له الشيخ : نعم هذا من السنة حينما كان الصفا والمروة واديا مفروشا بالحصى والتراب.. أما الآن فهو مبلط ولو لبس الناس النعال مثلك لتأذى المصلون من ذلك ..
فقال الرجل : هذا أمر لا يعنيك وانصرف وترك الشيخ !!
فلحقه شيخنا وقال له : أريد أعرفك بنفسي ، أنا أخوك في الله محمد بن صالح العثيمين!!
فقال : هو أنت ؟؟
الشيخ؟؟
قال : نعم أنا !!
فانحنى الرجل وحمل نعله وقال : والله ياشيخ ما عرفتك سامحني!!
وقبل رأس الشيخ واعتذر منه ... وهي تحية تعورف أنها للعلماء!!
فقال الشيخ : سامحك الله يا أخي .. لو أنك عرفت الرجال بالحق خير من أن تعرف الحق بالرجال!!
ومن المواقف التي أذكرها جيدا .. أنه ذات مرة كان الشيخ خارجا من باب الصفا من الدور الثاني بعد صلاة العشاء .. فلمح عاملا سعوديا في البلدية يطارد امرأة تكرونية ممن يبعن أمام الحرم بعض الخردوات والزينة والنعال.. كانت تجري وتحمل متاعها الملفوف في قطعة قماش وتصيح وتولول.. والرجل يجري خلفها يريد الإمساك بها..
وكانت امرأة كبيرة في السن وهو شاب نشيط فلحقها على درج أحد البيوت فأمسك بمتاعها.. فأخذت تصيح وتترجاه وتبكي بصوت محزن يقطع الفؤاد ..
وهو لا يلتفت إليها ولا يرد عليها..
فرأيت الشيخ أحمر وجهه وامتلئ غضبا وتوجه لذلك الرجل ..
فأمسك به بشدة ونزع القماش من يده وألقاه في يد العجوز فطارت به واختفت عن ناظرنا..
وقال لذلك الشاب الذي صعق من الموقف ولم يتوقعه ويستعد له.. وكانت علامات الخوف والتعجب ظاهرة على ومحياه قال له: اذهب لمديرك وقل له إن ابن عثيمين قد أطلق تلك المرأة وسوف أتحمل المسئولية عن ذلك !!
أعتذر من الشيخ وقبل يده ورأسه وانصرف ...
وللحديث بقية في الحلقة القادمة إن شاء الله وفيها جوانب عن العلم وطلبه ودروس الشيخ ، والعبادة ، وإنكار المنكر، ومواقف متفرقة..