محمد خليل الزروق
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=justify]تجاوزنا الإجراءات وكدنا نخرج من مطار دبي - وهو مطار كبير وفسيح وأنيق ومنظم - ولم نلتق بمندوب جائزة دبي للقرآن الكريم ، فقصدنا مكتبًا للمعلومات ، فلم تمر خمس دقائق حتى كان المندوب عندنا ، طلب إلينا الجلوس ، وبعد نحو عشر دقائق كان السائق في انتظارنا ، فحمَلَنا ومشاركين آخرين كان أحدهما - وهو من أفريقيا الوسطى - متعبًا من إقامته في مطار طرابلس ثلاثة أيام ، وزاد من همه أن حقيبته بقيت في مطار طرابلس .
[align=center]* * *[/align]
في الطريق يسترعي نظرك البنيان الشاهق ، والعمران الواسع ، ويلفت انتباهك قرب المطار من وسط المدينة ، حتى إن الطائرات تُرى غادية رائحة مع السيارات !
تستقبل الضيوف في الفندق لجنة تُعرِّف النزلاء بالمرافق والمواعيد . وكنا من أوائل الواصلين ، فلاحقتنا آلات التصوير التلفزيوني ، وعرَفنا من بعد أنها لقناة أمريكية متخصصة في الأشرطة الوثائقية تصور شريطًا عن الجائزة ، وقد كانت تتتبع المشاركين في ذهابهم ومجيئهم ، ومرتقاهم ونزولهم ، وخروجهم ودخولهم ، ومأكلهم مشربهم ، ومصلاهم ومنامهم . وكان الْمُخرج أمريكيًّا من أصل تركي ، ينطق بكلمات عربية قليلة ، ويقول : إن جده كان مسلمًا !
[align=center]* * *[/align]
تجربة فريدة أن تعيش في مجمع أغلب من فيه من أمهر الحفظة للقرآن الكريم ، فهم يتعارفون ويتآلفون على تباعد أجناسهم وبلدانهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم .
محمد فهمي المشارك من سيريلانكا هادئ الطبع ، خفيف الروح ، لا تفارق الابتسامة ثغره ، مصروفه الذي زوده إياه والده ستة دولارات ، وهي تساوي بعملتهم ستة آلاف روبية ، صرفها في دبي بنحو عشرين درهمًا ، وهو أقل من ثمانية دنانير ليبية ، وكان له نعل يتعبه ، وأراد أن يشتري نعلاً فلم يساعده المال الذي معه ، فاشترى له أحد الإخوة نعلاً بنحو ثلاثين درهمًا ، وهو يتمنَّع ويريد أن يشارك في ثمنه بالعشرين التي في يده .
[align=center]* * *[/align]
في دبي الحر شديد ، والرطوبة عالية ، ولذلك يعيش الناس في ثلاجات ، من محل الإقامة ، إلى السيارة ، إلى السوق ، إلى المسجد ، إلى محل العمل .
دُور وقصور ، ودروب وجسور ، وصروح وبروج ، وأنفاق وأسواق ، ومعارج ومَرَاق ، على أن الأمر كما قال المتنبي :
[align=center]ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسان[/align]
فلا تكاد تجد من يكلمك بالعربية ، من عامل الفندق ، أو سائق الأجرة ، أو بائع السوق، أو شرطي الشارع . لا أظن أنه يسمح بالعمل في دولة أوربية مثلاً لمن لا يعرف لغة أهل البلد !
[align=center]* * *[/align]
في المسابقات الدولية ينظر إلى المشارك الليبي على أنه أقوى منافس ، وينتظر قراءته كل المشاركين ، بل لجنة الحكم ، وهكذا كان في مسابقة دبي . وكان المشارك الليبي ضمن العشرة الأوائل تسع مرات ، وكان منها ضمن الثلاثة الأوائل ست مرات ، وكان منها في الترتيب الأول أربع مرات ، وهذا لم يكن لبلد من البلدان .
المشارك الليبي في الدورة الثالثة عشرة 1430=2009 صاحبنا الشيخ محمد علي الدالي ، ولد سنة 1409=1989 ، طالب في كلية طب الأسنان ، حفظ القرآن على صديقنا الشيخ فرج العبار ، ثم قرأ عليَّ وأجزته ( وحفظ الشيخ فرج على الشيخ بوراوي سالم ، والشيخ بوراوي على شيخنا الشيخ معتوق العَمَّاري ، أطال الله في العافية بقاءه ! ) ، له صوت عذب ، وملكة جيدة ، ونطق سلس ، وحروف صحيحة ، كان ترتيبه الأول في مسابقات على مستوى بنغازي رسمية وأهلية ، ثم الأول في مسابقة على مستوى ليبيا ، ثم الأول في مسابقة دولية بتونس ، ثم رشح لتمثيل ليبيا في مسابقة دبي .
كان التنافس شديدًا ، والقلق كبيرًا ، والحِمل النفسي ثقيلاً ، فلم يقرأ بكل ما في قدرته ، ولم يُخرج كل ما عنده ، لم يخطئ في الحفظ ، إلا أنه اشتبهت عليه كلمتان فقرأهما بحفص ، وهو يقرأ بقالون ، فنُبه في سؤالي الصباح ثلاث تنبيهات ، فجاء ضمن العشرة الأوائل في الترتيب الثامن من نحو ثمانين مشاركًا . وكان الاستعداد للمسابقة أني كنت أختبره كل يوم قبل موعد المسابقة بأكثر من شهر ، وكان يختم القرآن كل ثلاثة أيام ، ولكن كان هذا هو نصيبه هذه المرة .
وكنت حريصًا بين الحين والحين على تذكيره بأربعة معان : التعوذ بالله ، فاستحضار معناه على الحقيقة يفيد في إصابة المقروء ، واجتناب الخطأ ، والبراءة من التلعثم ، وتدبر المعنى ، وقد أمر الله به في بدء القراءة . والتوكل على الله ، فلم تكن الأسباب يومًا كافية في نيل المطلوب . والتقوى لله ، فإن تلاوة كلامه حق تلاوته لا تتيسر إلا لمن صفا قلبه ، وخلا من المنغصات والمكدرات . والتواضع له ، فهو المنعم على عبده باصطفائه لحفظ كتابه ، وتلاوة كلامه ، فإن كان قد أُعطي ما لم يعط غيره فليس ذلك إلا فضلاً من الله .
ومن مزايا هذه الدورة الثالثة عشرة للمسابقة أنهم كلفوا نفرًا من المتخصصين في العلوم النفسية لمساعدة المتسابقين في التخلص من القلق والتوتر اللذين يأخذانهم في مثل هذه المواقف ، وقد سُلطت عليهم الأضواء ، وعيون الحاضرين ، وآلات التصوير ، ومتابعة الملايين على الفضائيات ، وبعضهم يقف هذا الموقف أول مرة ، وبعضهم لم يخرج من بلده غير هذه المرة .
[align=center]* * *[/align]
زرت مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي ، وهو مركز للبحث العلمي في التراث العربي والإسلامي ، ودار لاقتناء المخطوطات وصيانتها ، ومكتبة كبيرة ، وكانوا نشروا لي عملي في كتاب الوقف والابتداء في كتاب الله لمحمد بن سَعْدان (161-231 هـ) سنة 2002 ، واختلفنا في شؤون تتعلق بهذا النشر ، ثم نشرتُ الكتاب مرة أخرى في مصر سنة 2009 ، وكتبت له مقدمة رأى بعض الناس أنها شديدة . والحق أن القوم استقبلوني بكل حفاوة ، ووجدت منهم كل إكرام ، وأخص بالذكر الدكتور محمد ياسر عمرو المدير العام ، والدكتور أنس صلاح الدين رئيس قسم العلاقات العامة ، والدكتور عز الدين بن زغيبة رئيس قسم الدراسات والنشر ، فحمَّلوني من هدايا الكتب ما نؤت بحمله ، وطاف بي الدكتور أنس على أقسام المركز معرِّفًا وشارحًا ، ولبوا كل ما طلبت ، وسمعت منهم القول اللين ، ورأيت الوجه الطلق .
وأصل المركز كان مكتبة عامة أنشأها سنة 1991 السيد جمعة الماجد ، وجمع له الكتب المخطوطة والمطبوعة من أنحاء العالم ، ومنها نحو 70 مكتبة من المكتبات الخاصة ، منها مكتبة الأستاذ السيد أحمد صقر من مشايخ تحقيق الكتب العربية ، وبعض من مكتبة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العلامة - رحمهما الله ! - وبه عشرات الآلاف من المخطوطات المصورة والأصول .
وقد ولد السيد جمعة في دبي سنة 1359=1930 ، وعمل بالتجارة ، وهو من رواد العمل الخيري الأهلي في الخليج ، أسهم في إنشاء المدارس الخيرية ، وأنشأ كلية الدراسات الإسلامية والعربية سنة 1986 ، وهو عضو مؤسس لغرفة تجارة وصناعة دبي ، ونائب رئيس مجلس إدارة البنك المركزي لدولة الإمارات ، وعضو المجلس الأعلى لجامعة الإمارات ، وحاصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1999 .
[align=center]* * *[/align]
من حسنات جائزة دبي للقرآن الكريم تكريم شخصية إسلامية كل عام ، فكرم في الدورة الأولى الشيخ الشعراوي المفسر الأديب - رحمه الله - وفي الثانية الشيخ أبو الحسن الندْوي الداعية المفكر - رحمه الله - وفي الثالثة الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات - رحمه الله - وفي الرابعة الشيخ يوسف القرضاوي الإمام ، وفي الخامسة الدكتور علي عزت ديجوفيتش رئيس دولة البوسنة - رحمه الله - وفي السادسة الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي رئيس رابطة العالم الإسلامي ، كان ، وفي السابعة الجامع الأزهر ، وفي الثامنة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الفقيه المفكر ، وفي التاسعة الدكتور عبد الرحمن السديس إمام الحرم المكي ، وفي العاشرة الدكتور زغلول النجار الجيولوجي المهتم بالإعجاز العلمي للقرآن والسنة ، وفي الحادية عشرة الدكتور محمد علي الصابوني المفسر ، وفي الثانية عشرة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، وفي الثالثة عشرة الدكتور مراد هوفمن . وهو ألماني ولد سنة 1930 ، تخرج في كلية القانون من جامعة ميونخ ، ودرس القضاء في جامعة هارفرد ، وعمل مدير شؤون الدفاع في حلف الناتو ، ومدير المعلومات في المقر الرئيس للحلف في بروكسل ، وسفيرًا لألمانيا في الجزائر والمغرب ، وأسلم سنة 1980 ، ونشر 13 كتابًا في شؤون إسلامية ، ومقالات كثيرة ، وألقى مئات المحاضرات في أمريكا وأوربا والعالم الإسلامي .
[align=center]* * *[/align]
سعدت بلقاء الدكتور عبد الهادي حميتو من المغرب - وكان في لجنة الحكم هذه الدورة - وهو باحث في القراءات ، متخصص في رواية ورش ، كتب فيها كتابًا من سبعة مجلدات ، ذكر فيه كل شاردة وواردة ، وقاصية ودانية ، تتعلق بهذه الرواية ، حسن المحاضرة ، جم التواضع ، شاعر . وسعدت بلقاء الشيخ عبد العزيز فاضل العنزي من الكويت - وكان في لجنة الحكم أيضًا - باحث في القراءات ، جامع للقراءت العشر الصغرى ، قرأها على الشيخ عبد الرزاق بن علي إبراهيم موسى - رحمه الله ! - والشيخ عبد الرزاق عضو لجنة مصحف المدينة المنورة ، وأخبرني أنه شرع في قراءة الكبرى عليه وحالت وفاة الشيخ دون إتمامها .
[align=center]* * *[/align]
لا تستطيع إلا أن تتبين العناية الكبيرة التي يوليها المسؤولون بهذه الجائزة ، من قِبَل كثرة الدول المشاركة ، وإكرام الضيوف ، وسخاء الإنفاق ، وجودة الإعداد ، وحسن النظام ، وسناء الجوائز ، والمتابعة الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة ، وتخصيص قناة فضائية للجائزة ، وجمال الإخراج التلفزيوني والديكور ، وتمثيل لجنة الحكم لبلدان مختلفة من المشرق والمغرب ، وقرب نظام تقويمها من الإنصاف والعدل .
كان المشاركون من أكثر من ثمانين بلدًا ، بعضهم من بلدان لم أسمع بها من قبل . سبحان الله ! ما هذا الكتاب المنتشر في قارات الدنيا الست ؟ يتعبد الناس بألفاظه وإن لم يفهموا معانيها ، ويتلوه ويحفظه الصغار والكبار ، والذكور والإناث ، والعرب والعجم ، والأغنياء والفقراء ، والمتعلمون وغير المتعلمين ، وأهل الحاضرة وأهل البادية ، وأهل الشرق وأهل الغرب ، وأهل الشمال وأهل الجنوب ، لا يملون تلاوته ، ولا يسأمون ترداده ، ويُبلون في تعلمه أعمارهم ، وزهرات شبابهم ، ويهبون له أبناءهم وبناتهم ، وينفقون في سبيله أغلى أموالهم ، وأنفس ما عندهم ؟ هل هناك كتاب في الدنيا يحفظه الملايين لا يسقطون منه كلمة ، ولا يخرمون منه حرفًا ، ولا ينقصون منه غنة ولا مدة ، ولا حركة ولا شدة ؟ أيجوز أن يكون هذا كتابًا بشريًّا ؟!
29 شوال 1430=17/10/2009[/align]
[align=justify]تجاوزنا الإجراءات وكدنا نخرج من مطار دبي - وهو مطار كبير وفسيح وأنيق ومنظم - ولم نلتق بمندوب جائزة دبي للقرآن الكريم ، فقصدنا مكتبًا للمعلومات ، فلم تمر خمس دقائق حتى كان المندوب عندنا ، طلب إلينا الجلوس ، وبعد نحو عشر دقائق كان السائق في انتظارنا ، فحمَلَنا ومشاركين آخرين كان أحدهما - وهو من أفريقيا الوسطى - متعبًا من إقامته في مطار طرابلس ثلاثة أيام ، وزاد من همه أن حقيبته بقيت في مطار طرابلس .
[align=center]* * *[/align]
في الطريق يسترعي نظرك البنيان الشاهق ، والعمران الواسع ، ويلفت انتباهك قرب المطار من وسط المدينة ، حتى إن الطائرات تُرى غادية رائحة مع السيارات !
تستقبل الضيوف في الفندق لجنة تُعرِّف النزلاء بالمرافق والمواعيد . وكنا من أوائل الواصلين ، فلاحقتنا آلات التصوير التلفزيوني ، وعرَفنا من بعد أنها لقناة أمريكية متخصصة في الأشرطة الوثائقية تصور شريطًا عن الجائزة ، وقد كانت تتتبع المشاركين في ذهابهم ومجيئهم ، ومرتقاهم ونزولهم ، وخروجهم ودخولهم ، ومأكلهم مشربهم ، ومصلاهم ومنامهم . وكان الْمُخرج أمريكيًّا من أصل تركي ، ينطق بكلمات عربية قليلة ، ويقول : إن جده كان مسلمًا !
[align=center]* * *[/align]
تجربة فريدة أن تعيش في مجمع أغلب من فيه من أمهر الحفظة للقرآن الكريم ، فهم يتعارفون ويتآلفون على تباعد أجناسهم وبلدانهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم .
محمد فهمي المشارك من سيريلانكا هادئ الطبع ، خفيف الروح ، لا تفارق الابتسامة ثغره ، مصروفه الذي زوده إياه والده ستة دولارات ، وهي تساوي بعملتهم ستة آلاف روبية ، صرفها في دبي بنحو عشرين درهمًا ، وهو أقل من ثمانية دنانير ليبية ، وكان له نعل يتعبه ، وأراد أن يشتري نعلاً فلم يساعده المال الذي معه ، فاشترى له أحد الإخوة نعلاً بنحو ثلاثين درهمًا ، وهو يتمنَّع ويريد أن يشارك في ثمنه بالعشرين التي في يده .
[align=center]* * *[/align]
في دبي الحر شديد ، والرطوبة عالية ، ولذلك يعيش الناس في ثلاجات ، من محل الإقامة ، إلى السيارة ، إلى السوق ، إلى المسجد ، إلى محل العمل .
دُور وقصور ، ودروب وجسور ، وصروح وبروج ، وأنفاق وأسواق ، ومعارج ومَرَاق ، على أن الأمر كما قال المتنبي :
[align=center]ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسان[/align]
فلا تكاد تجد من يكلمك بالعربية ، من عامل الفندق ، أو سائق الأجرة ، أو بائع السوق، أو شرطي الشارع . لا أظن أنه يسمح بالعمل في دولة أوربية مثلاً لمن لا يعرف لغة أهل البلد !
[align=center]* * *[/align]
في المسابقات الدولية ينظر إلى المشارك الليبي على أنه أقوى منافس ، وينتظر قراءته كل المشاركين ، بل لجنة الحكم ، وهكذا كان في مسابقة دبي . وكان المشارك الليبي ضمن العشرة الأوائل تسع مرات ، وكان منها ضمن الثلاثة الأوائل ست مرات ، وكان منها في الترتيب الأول أربع مرات ، وهذا لم يكن لبلد من البلدان .
المشارك الليبي في الدورة الثالثة عشرة 1430=2009 صاحبنا الشيخ محمد علي الدالي ، ولد سنة 1409=1989 ، طالب في كلية طب الأسنان ، حفظ القرآن على صديقنا الشيخ فرج العبار ، ثم قرأ عليَّ وأجزته ( وحفظ الشيخ فرج على الشيخ بوراوي سالم ، والشيخ بوراوي على شيخنا الشيخ معتوق العَمَّاري ، أطال الله في العافية بقاءه ! ) ، له صوت عذب ، وملكة جيدة ، ونطق سلس ، وحروف صحيحة ، كان ترتيبه الأول في مسابقات على مستوى بنغازي رسمية وأهلية ، ثم الأول في مسابقة على مستوى ليبيا ، ثم الأول في مسابقة دولية بتونس ، ثم رشح لتمثيل ليبيا في مسابقة دبي .
كان التنافس شديدًا ، والقلق كبيرًا ، والحِمل النفسي ثقيلاً ، فلم يقرأ بكل ما في قدرته ، ولم يُخرج كل ما عنده ، لم يخطئ في الحفظ ، إلا أنه اشتبهت عليه كلمتان فقرأهما بحفص ، وهو يقرأ بقالون ، فنُبه في سؤالي الصباح ثلاث تنبيهات ، فجاء ضمن العشرة الأوائل في الترتيب الثامن من نحو ثمانين مشاركًا . وكان الاستعداد للمسابقة أني كنت أختبره كل يوم قبل موعد المسابقة بأكثر من شهر ، وكان يختم القرآن كل ثلاثة أيام ، ولكن كان هذا هو نصيبه هذه المرة .
وكنت حريصًا بين الحين والحين على تذكيره بأربعة معان : التعوذ بالله ، فاستحضار معناه على الحقيقة يفيد في إصابة المقروء ، واجتناب الخطأ ، والبراءة من التلعثم ، وتدبر المعنى ، وقد أمر الله به في بدء القراءة . والتوكل على الله ، فلم تكن الأسباب يومًا كافية في نيل المطلوب . والتقوى لله ، فإن تلاوة كلامه حق تلاوته لا تتيسر إلا لمن صفا قلبه ، وخلا من المنغصات والمكدرات . والتواضع له ، فهو المنعم على عبده باصطفائه لحفظ كتابه ، وتلاوة كلامه ، فإن كان قد أُعطي ما لم يعط غيره فليس ذلك إلا فضلاً من الله .
ومن مزايا هذه الدورة الثالثة عشرة للمسابقة أنهم كلفوا نفرًا من المتخصصين في العلوم النفسية لمساعدة المتسابقين في التخلص من القلق والتوتر اللذين يأخذانهم في مثل هذه المواقف ، وقد سُلطت عليهم الأضواء ، وعيون الحاضرين ، وآلات التصوير ، ومتابعة الملايين على الفضائيات ، وبعضهم يقف هذا الموقف أول مرة ، وبعضهم لم يخرج من بلده غير هذه المرة .
[align=center]* * *[/align]
زرت مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي ، وهو مركز للبحث العلمي في التراث العربي والإسلامي ، ودار لاقتناء المخطوطات وصيانتها ، ومكتبة كبيرة ، وكانوا نشروا لي عملي في كتاب الوقف والابتداء في كتاب الله لمحمد بن سَعْدان (161-231 هـ) سنة 2002 ، واختلفنا في شؤون تتعلق بهذا النشر ، ثم نشرتُ الكتاب مرة أخرى في مصر سنة 2009 ، وكتبت له مقدمة رأى بعض الناس أنها شديدة . والحق أن القوم استقبلوني بكل حفاوة ، ووجدت منهم كل إكرام ، وأخص بالذكر الدكتور محمد ياسر عمرو المدير العام ، والدكتور أنس صلاح الدين رئيس قسم العلاقات العامة ، والدكتور عز الدين بن زغيبة رئيس قسم الدراسات والنشر ، فحمَّلوني من هدايا الكتب ما نؤت بحمله ، وطاف بي الدكتور أنس على أقسام المركز معرِّفًا وشارحًا ، ولبوا كل ما طلبت ، وسمعت منهم القول اللين ، ورأيت الوجه الطلق .
وأصل المركز كان مكتبة عامة أنشأها سنة 1991 السيد جمعة الماجد ، وجمع له الكتب المخطوطة والمطبوعة من أنحاء العالم ، ومنها نحو 70 مكتبة من المكتبات الخاصة ، منها مكتبة الأستاذ السيد أحمد صقر من مشايخ تحقيق الكتب العربية ، وبعض من مكتبة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العلامة - رحمهما الله ! - وبه عشرات الآلاف من المخطوطات المصورة والأصول .
وقد ولد السيد جمعة في دبي سنة 1359=1930 ، وعمل بالتجارة ، وهو من رواد العمل الخيري الأهلي في الخليج ، أسهم في إنشاء المدارس الخيرية ، وأنشأ كلية الدراسات الإسلامية والعربية سنة 1986 ، وهو عضو مؤسس لغرفة تجارة وصناعة دبي ، ونائب رئيس مجلس إدارة البنك المركزي لدولة الإمارات ، وعضو المجلس الأعلى لجامعة الإمارات ، وحاصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1999 .
[align=center]* * *[/align]
من حسنات جائزة دبي للقرآن الكريم تكريم شخصية إسلامية كل عام ، فكرم في الدورة الأولى الشيخ الشعراوي المفسر الأديب - رحمه الله - وفي الثانية الشيخ أبو الحسن الندْوي الداعية المفكر - رحمه الله - وفي الثالثة الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات - رحمه الله - وفي الرابعة الشيخ يوسف القرضاوي الإمام ، وفي الخامسة الدكتور علي عزت ديجوفيتش رئيس دولة البوسنة - رحمه الله - وفي السادسة الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي رئيس رابطة العالم الإسلامي ، كان ، وفي السابعة الجامع الأزهر ، وفي الثامنة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الفقيه المفكر ، وفي التاسعة الدكتور عبد الرحمن السديس إمام الحرم المكي ، وفي العاشرة الدكتور زغلول النجار الجيولوجي المهتم بالإعجاز العلمي للقرآن والسنة ، وفي الحادية عشرة الدكتور محمد علي الصابوني المفسر ، وفي الثانية عشرة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، وفي الثالثة عشرة الدكتور مراد هوفمن . وهو ألماني ولد سنة 1930 ، تخرج في كلية القانون من جامعة ميونخ ، ودرس القضاء في جامعة هارفرد ، وعمل مدير شؤون الدفاع في حلف الناتو ، ومدير المعلومات في المقر الرئيس للحلف في بروكسل ، وسفيرًا لألمانيا في الجزائر والمغرب ، وأسلم سنة 1980 ، ونشر 13 كتابًا في شؤون إسلامية ، ومقالات كثيرة ، وألقى مئات المحاضرات في أمريكا وأوربا والعالم الإسلامي .
[align=center]* * *[/align]
سعدت بلقاء الدكتور عبد الهادي حميتو من المغرب - وكان في لجنة الحكم هذه الدورة - وهو باحث في القراءات ، متخصص في رواية ورش ، كتب فيها كتابًا من سبعة مجلدات ، ذكر فيه كل شاردة وواردة ، وقاصية ودانية ، تتعلق بهذه الرواية ، حسن المحاضرة ، جم التواضع ، شاعر . وسعدت بلقاء الشيخ عبد العزيز فاضل العنزي من الكويت - وكان في لجنة الحكم أيضًا - باحث في القراءات ، جامع للقراءت العشر الصغرى ، قرأها على الشيخ عبد الرزاق بن علي إبراهيم موسى - رحمه الله ! - والشيخ عبد الرزاق عضو لجنة مصحف المدينة المنورة ، وأخبرني أنه شرع في قراءة الكبرى عليه وحالت وفاة الشيخ دون إتمامها .
[align=center]* * *[/align]
لا تستطيع إلا أن تتبين العناية الكبيرة التي يوليها المسؤولون بهذه الجائزة ، من قِبَل كثرة الدول المشاركة ، وإكرام الضيوف ، وسخاء الإنفاق ، وجودة الإعداد ، وحسن النظام ، وسناء الجوائز ، والمتابعة الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة ، وتخصيص قناة فضائية للجائزة ، وجمال الإخراج التلفزيوني والديكور ، وتمثيل لجنة الحكم لبلدان مختلفة من المشرق والمغرب ، وقرب نظام تقويمها من الإنصاف والعدل .
كان المشاركون من أكثر من ثمانين بلدًا ، بعضهم من بلدان لم أسمع بها من قبل . سبحان الله ! ما هذا الكتاب المنتشر في قارات الدنيا الست ؟ يتعبد الناس بألفاظه وإن لم يفهموا معانيها ، ويتلوه ويحفظه الصغار والكبار ، والذكور والإناث ، والعرب والعجم ، والأغنياء والفقراء ، والمتعلمون وغير المتعلمين ، وأهل الحاضرة وأهل البادية ، وأهل الشرق وأهل الغرب ، وأهل الشمال وأهل الجنوب ، لا يملون تلاوته ، ولا يسأمون ترداده ، ويُبلون في تعلمه أعمارهم ، وزهرات شبابهم ، ويهبون له أبناءهم وبناتهم ، وينفقون في سبيله أغلى أموالهم ، وأنفس ما عندهم ؟ هل هناك كتاب في الدنيا يحفظه الملايين لا يسقطون منه كلمة ، ولا يخرمون منه حرفًا ، ولا ينقصون منه غنة ولا مدة ، ولا حركة ولا شدة ؟ أيجوز أن يكون هذا كتابًا بشريًّا ؟!
29 شوال 1430=17/10/2009[/align]