ذكريات مسابقة دبي

إنضم
09/06/2009
المشاركات
94
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
بنغازي
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=justify]تجاوزنا الإجراءات وكدنا نخرج من مطار دبي - وهو مطار كبير وفسيح وأنيق ومنظم - ولم نلتق بمندوب جائزة دبي للقرآن الكريم ، فقصدنا مكتبًا للمعلومات ، فلم تمر خمس دقائق حتى كان المندوب عندنا ، طلب إلينا الجلوس ، وبعد نحو عشر دقائق كان السائق في انتظارنا ، فحمَلَنا ومشاركين آخرين كان أحدهما - وهو من أفريقيا الوسطى - متعبًا من إقامته في مطار طرابلس ثلاثة أيام ، وزاد من همه أن حقيبته بقيت في مطار طرابلس .
[align=center]* * *[/align]
في الطريق يسترعي نظرك البنيان الشاهق ، والعمران الواسع ، ويلفت انتباهك قرب المطار من وسط المدينة ، حتى إن الطائرات تُرى غادية رائحة مع السيارات !
تستقبل الضيوف في الفندق لجنة تُعرِّف النزلاء بالمرافق والمواعيد . وكنا من أوائل الواصلين ، فلاحقتنا آلات التصوير التلفزيوني ، وعرَفنا من بعد أنها لقناة أمريكية متخصصة في الأشرطة الوثائقية تصور شريطًا عن الجائزة ، وقد كانت تتتبع المشاركين في ذهابهم ومجيئهم ، ومرتقاهم ونزولهم ، وخروجهم ودخولهم ، ومأكلهم مشربهم ، ومصلاهم ومنامهم . وكان الْمُخرج أمريكيًّا من أصل تركي ، ينطق بكلمات عربية قليلة ، ويقول : إن جده كان مسلمًا !
[align=center]* * *[/align]
تجربة فريدة أن تعيش في مجمع أغلب من فيه من أمهر الحفظة للقرآن الكريم ، فهم يتعارفون ويتآلفون على تباعد أجناسهم وبلدانهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم .
محمد فهمي المشارك من سيريلانكا هادئ الطبع ، خفيف الروح ، لا تفارق الابتسامة ثغره ، مصروفه الذي زوده إياه والده ستة دولارات ، وهي تساوي بعملتهم ستة آلاف روبية ، صرفها في دبي بنحو عشرين درهمًا ، وهو أقل من ثمانية دنانير ليبية ، وكان له نعل يتعبه ، وأراد أن يشتري نعلاً فلم يساعده المال الذي معه ، فاشترى له أحد الإخوة نعلاً بنحو ثلاثين درهمًا ، وهو يتمنَّع ويريد أن يشارك في ثمنه بالعشرين التي في يده .
[align=center]* * *[/align]
في دبي الحر شديد ، والرطوبة عالية ، ولذلك يعيش الناس في ثلاجات ، من محل الإقامة ، إلى السيارة ، إلى السوق ، إلى المسجد ، إلى محل العمل .
دُور وقصور ، ودروب وجسور ، وصروح وبروج ، وأنفاق وأسواق ، ومعارج ومَرَاق ، على أن الأمر كما قال المتنبي :
[align=center]ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسان[/align]
فلا تكاد تجد من يكلمك بالعربية ، من عامل الفندق ، أو سائق الأجرة ، أو بائع السوق، أو شرطي الشارع . لا أظن أنه يسمح بالعمل في دولة أوربية مثلاً لمن لا يعرف لغة أهل البلد !
[align=center]* * *[/align]
في المسابقات الدولية ينظر إلى المشارك الليبي على أنه أقوى منافس ، وينتظر قراءته كل المشاركين ، بل لجنة الحكم ، وهكذا كان في مسابقة دبي . وكان المشارك الليبي ضمن العشرة الأوائل تسع مرات ، وكان منها ضمن الثلاثة الأوائل ست مرات ، وكان منها في الترتيب الأول أربع مرات ، وهذا لم يكن لبلد من البلدان .
المشارك الليبي في الدورة الثالثة عشرة 1430=2009 صاحبنا الشيخ محمد علي الدالي ، ولد سنة 1409=1989 ، طالب في كلية طب الأسنان ، حفظ القرآن على صديقنا الشيخ فرج العبار ، ثم قرأ عليَّ وأجزته ( وحفظ الشيخ فرج على الشيخ بوراوي سالم ، والشيخ بوراوي على شيخنا الشيخ معتوق العَمَّاري ، أطال الله في العافية بقاءه ! ) ، له صوت عذب ، وملكة جيدة ، ونطق سلس ، وحروف صحيحة ، كان ترتيبه الأول في مسابقات على مستوى بنغازي رسمية وأهلية ، ثم الأول في مسابقة على مستوى ليبيا ، ثم الأول في مسابقة دولية بتونس ، ثم رشح لتمثيل ليبيا في مسابقة دبي .
كان التنافس شديدًا ، والقلق كبيرًا ، والحِمل النفسي ثقيلاً ، فلم يقرأ بكل ما في قدرته ، ولم يُخرج كل ما عنده ، لم يخطئ في الحفظ ، إلا أنه اشتبهت عليه كلمتان فقرأهما بحفص ، وهو يقرأ بقالون ، فنُبه في سؤالي الصباح ثلاث تنبيهات ، فجاء ضمن العشرة الأوائل في الترتيب الثامن من نحو ثمانين مشاركًا . وكان الاستعداد للمسابقة أني كنت أختبره كل يوم قبل موعد المسابقة بأكثر من شهر ، وكان يختم القرآن كل ثلاثة أيام ، ولكن كان هذا هو نصيبه هذه المرة .
وكنت حريصًا بين الحين والحين على تذكيره بأربعة معان : التعوذ بالله ، فاستحضار معناه على الحقيقة يفيد في إصابة المقروء ، واجتناب الخطأ ، والبراءة من التلعثم ، وتدبر المعنى ، وقد أمر الله به في بدء القراءة . والتوكل على الله ، فلم تكن الأسباب يومًا كافية في نيل المطلوب . والتقوى لله ، فإن تلاوة كلامه حق تلاوته لا تتيسر إلا لمن صفا قلبه ، وخلا من المنغصات والمكدرات . والتواضع له ، فهو المنعم على عبده باصطفائه لحفظ كتابه ، وتلاوة كلامه ، فإن كان قد أُعطي ما لم يعط غيره فليس ذلك إلا فضلاً من الله .
ومن مزايا هذه الدورة الثالثة عشرة للمسابقة أنهم كلفوا نفرًا من المتخصصين في العلوم النفسية لمساعدة المتسابقين في التخلص من القلق والتوتر اللذين يأخذانهم في مثل هذه المواقف ، وقد سُلطت عليهم الأضواء ، وعيون الحاضرين ، وآلات التصوير ، ومتابعة الملايين على الفضائيات ، وبعضهم يقف هذا الموقف أول مرة ، وبعضهم لم يخرج من بلده غير هذه المرة .
[align=center]* * *[/align]
زرت مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي ، وهو مركز للبحث العلمي في التراث العربي والإسلامي ، ودار لاقتناء المخطوطات وصيانتها ، ومكتبة كبيرة ، وكانوا نشروا لي عملي في كتاب الوقف والابتداء في كتاب الله لمحمد بن سَعْدان (161-231 هـ) سنة 2002 ، واختلفنا في شؤون تتعلق بهذا النشر ، ثم نشرتُ الكتاب مرة أخرى في مصر سنة 2009 ، وكتبت له مقدمة رأى بعض الناس أنها شديدة . والحق أن القوم استقبلوني بكل حفاوة ، ووجدت منهم كل إكرام ، وأخص بالذكر الدكتور محمد ياسر عمرو المدير العام ، والدكتور أنس صلاح الدين رئيس قسم العلاقات العامة ، والدكتور عز الدين بن زغيبة رئيس قسم الدراسات والنشر ، فحمَّلوني من هدايا الكتب ما نؤت بحمله ، وطاف بي الدكتور أنس على أقسام المركز معرِّفًا وشارحًا ، ولبوا كل ما طلبت ، وسمعت منهم القول اللين ، ورأيت الوجه الطلق .
وأصل المركز كان مكتبة عامة أنشأها سنة 1991 السيد جمعة الماجد ، وجمع له الكتب المخطوطة والمطبوعة من أنحاء العالم ، ومنها نحو 70 مكتبة من المكتبات الخاصة ، منها مكتبة الأستاذ السيد أحمد صقر من مشايخ تحقيق الكتب العربية ، وبعض من مكتبة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العلامة - رحمهما الله ! - وبه عشرات الآلاف من المخطوطات المصورة والأصول .
وقد ولد السيد جمعة في دبي سنة 1359=1930 ، وعمل بالتجارة ، وهو من رواد العمل الخيري الأهلي في الخليج ، أسهم في إنشاء المدارس الخيرية ، وأنشأ كلية الدراسات الإسلامية والعربية سنة 1986 ، وهو عضو مؤسس لغرفة تجارة وصناعة دبي ، ونائب رئيس مجلس إدارة البنك المركزي لدولة الإمارات ، وعضو المجلس الأعلى لجامعة الإمارات ، وحاصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1999 .
[align=center]* * *[/align]
من حسنات جائزة دبي للقرآن الكريم تكريم شخصية إسلامية كل عام ، فكرم في الدورة الأولى الشيخ الشعراوي المفسر الأديب - رحمه الله - وفي الثانية الشيخ أبو الحسن الندْوي الداعية المفكر - رحمه الله - وفي الثالثة الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات - رحمه الله - وفي الرابعة الشيخ يوسف القرضاوي الإمام ، وفي الخامسة الدكتور علي عزت ديجوفيتش رئيس دولة البوسنة - رحمه الله - وفي السادسة الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي رئيس رابطة العالم الإسلامي ، كان ، وفي السابعة الجامع الأزهر ، وفي الثامنة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الفقيه المفكر ، وفي التاسعة الدكتور عبد الرحمن السديس إمام الحرم المكي ، وفي العاشرة الدكتور زغلول النجار الجيولوجي المهتم بالإعجاز العلمي للقرآن والسنة ، وفي الحادية عشرة الدكتور محمد علي الصابوني المفسر ، وفي الثانية عشرة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، وفي الثالثة عشرة الدكتور مراد هوفمن . وهو ألماني ولد سنة 1930 ، تخرج في كلية القانون من جامعة ميونخ ، ودرس القضاء في جامعة هارفرد ، وعمل مدير شؤون الدفاع في حلف الناتو ، ومدير المعلومات في المقر الرئيس للحلف في بروكسل ، وسفيرًا لألمانيا في الجزائر والمغرب ، وأسلم سنة 1980 ، ونشر 13 كتابًا في شؤون إسلامية ، ومقالات كثيرة ، وألقى مئات المحاضرات في أمريكا وأوربا والعالم الإسلامي .
[align=center]* * *[/align]
سعدت بلقاء الدكتور عبد الهادي حميتو من المغرب - وكان في لجنة الحكم هذه الدورة - وهو باحث في القراءات ، متخصص في رواية ورش ، كتب فيها كتابًا من سبعة مجلدات ، ذكر فيه كل شاردة وواردة ، وقاصية ودانية ، تتعلق بهذه الرواية ، حسن المحاضرة ، جم التواضع ، شاعر . وسعدت بلقاء الشيخ عبد العزيز فاضل العنزي من الكويت - وكان في لجنة الحكم أيضًا - باحث في القراءات ، جامع للقراءت العشر الصغرى ، قرأها على الشيخ عبد الرزاق بن علي إبراهيم موسى - رحمه الله ! - والشيخ عبد الرزاق عضو لجنة مصحف المدينة المنورة ، وأخبرني أنه شرع في قراءة الكبرى عليه وحالت وفاة الشيخ دون إتمامها .
[align=center]* * *[/align]
لا تستطيع إلا أن تتبين العناية الكبيرة التي يوليها المسؤولون بهذه الجائزة ، من قِبَل كثرة الدول المشاركة ، وإكرام الضيوف ، وسخاء الإنفاق ، وجودة الإعداد ، وحسن النظام ، وسناء الجوائز ، والمتابعة الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة ، وتخصيص قناة فضائية للجائزة ، وجمال الإخراج التلفزيوني والديكور ، وتمثيل لجنة الحكم لبلدان مختلفة من المشرق والمغرب ، وقرب نظام تقويمها من الإنصاف والعدل .
كان المشاركون من أكثر من ثمانين بلدًا ، بعضهم من بلدان لم أسمع بها من قبل . سبحان الله ! ما هذا الكتاب المنتشر في قارات الدنيا الست ؟ يتعبد الناس بألفاظه وإن لم يفهموا معانيها ، ويتلوه ويحفظه الصغار والكبار ، والذكور والإناث ، والعرب والعجم ، والأغنياء والفقراء ، والمتعلمون وغير المتعلمين ، وأهل الحاضرة وأهل البادية ، وأهل الشرق وأهل الغرب ، وأهل الشمال وأهل الجنوب ، لا يملون تلاوته ، ولا يسأمون ترداده ، ويُبلون في تعلمه أعمارهم ، وزهرات شبابهم ، ويهبون له أبناءهم وبناتهم ، وينفقون في سبيله أغلى أموالهم ، وأنفس ما عندهم ؟ هل هناك كتاب في الدنيا يحفظه الملايين لا يسقطون منه كلمة ، ولا يخرمون منه حرفًا ، ولا ينقصون منه غنة ولا مدة ، ولا حركة ولا شدة ؟ أيجوز أن يكون هذا كتابًا بشريًّا ؟!
29 شوال 1430=17/10/2009[/align]
 
ذكريات ماتعة جميلة بارك الله فيكم يا أهل ليبيا .
 
رحلة ممتعة بارك الله فيكم أيها الشيخ الجليل ، وتقبل منكم .
وقد اطلعتُ للتو على خبر ذي صلة بهذا فأحببت نقله زادكم الله من فضله يا أهل ليبيا ونفع بكم .

[align=center]خُمس سكان ليبيا من حفظة القرآن
الاحد 27 ذو القعدة 1430 الموافق 15 نوفمبر 2009 [/align]


الإسلام اليوم/ صحف
أكد أمين عام جمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا أن مليون ليبي يشكلون خمُس السكان، هم من حفظة القرآن، كما نقل عنه الموقع الإلكتروني لصحيفة "ليبيا اليوم" المستقلة الأحد.

وقال محمد شريف "حفظة القرآن لا يقلون عن خمُس السكان، فالزوايا والكتاتيب خرجت أكثر من مليون حافظ للقرآن بخلاف أن غالبية الشعب الليبي يحفظون جزءًا كبيرًا من القرآن".

وأضاف أن ليبيا "اهتمت بحفظة القرآن وأن من يحفظ القرآن لا يمكن أن يقل عن خريج الجامعة بحيث يحصل على إجازة تضاهي إجازة الجامعة، كما أن لهم أولوية في الوظائف". وحصلت ليبيا على المركز الأول على 86 دولة سبع مرات في مسابقة دبي الدولية لحفظة القرآن التي تنظم كل سنة في رمضان.

وفي سنة 1994، أنشأت ليبيا جامعة إسلامية لتدريس الفقه والشريعة واللغة، اسمها الجامعة الأسمرية نسبة إلى عبد السلام الأسمري مؤسس أهم المراكز الإسلامية في ليبيا.


المصدر : الإسلام اليوم .
 
أحسنت ، أحسنَ الله إليك.
عَوَّدتنا على الجميل أخي الشيخ محمد.
مقال ماتع ، وأدبٌ ناصع ، زادك الله علما وأدبا.

حفظكم الله ورعاكم
عمار
 
ما شعرت بتعليقاتكم - أيها الإخوة الكرام - إلا منذ الساعة ، فاعذروني لابطاء شكري لكم على اطلاعكم ودعائكم وثنائكم ، فشكر الله لكم ، وحفظكم ، وزاد النفع بكم .
 
عودة
أعلى