ذكريات غانم قدوري الحمد.. (الحلقة السابعة)

إنضم
29/04/2005
المشاركات
158
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
العراق
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

[align=center]تَطْمِين
الخميس 11 تموز 1974م = 21 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

مضى أكثر من شهر ونصف وأنا أتابع المواد التي سنمتحن فيها وأشعر أني قد بذلت جهدا لا بأس به ، وفي الجانب الآخر أشعر أحياناً أني لم أُوَفِّ المادة حقها من الدرس .. وإزاء هذا الموقف تزدحم الأفكار وتضطرب ، وتتسلل الشكوك والهموم وكأن مسألة الامتحان مسألة حياة أو موت – أعوذ بالله – كنت أمس قد التقيت بالدكتور محمد سالم الجرح أستاذنا في مادة اللغة العبرية واللغات السامية وبدا له مني بعض القلق على نتيجة الامتحان ، ولكنه بالغ في طمأنتي على النتيجة وقال لا تفكر , أنا راضٍ عنك ، وقد أَفَضْتُ ذلك الرضا على غيري ، فاطْمَئِنَّ , ولكن لا يمكن أن أستسلم لمثل هذه الكلمات المعسولة بسرعة وسهولة ، ولكن أليس هو أحد الأساتذة الذين يقررون مصير امتحاننا , الحق أنني نلت إعجابه بالبحث الذي قدمته له عن الكتابة العربية وتأريخها , ويمكنني القول: بفضل الله إنني قد نلت رضا كل الأساتذة الذين يدرسوننا ، أولاً من خلال حضوري طيلة السنة , وثانياً بالبحوث التي قدمتها وكانت بمستوى مقبول ، ولكنهم لا يزالون في حذر من الصمت الذي ألازمه ويغلب عليَّ طبيعة لا تطبعاً ، حتى إن الدكتور بشر قد سألني أكثر من مرة بل أكد السؤال عما أفكر به من مشاكل أو أعانيه .. والحق أن كل مَن التقيت به حاول أن يطمئنني على الامتحان ، ولكني قلق منه ، وهذا القلق يلازمني هذه الأيام ، وعسى أن أنتهي من الامتحان لأرتاح من بعض ذلك القلق ، وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه ، فأنال به أجر العاملين .

[align=center]غداء في روكسي
الجمعة 12 تموز 1974م = 22 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

في الصباح انشغلت بقراءة كُتَيِّبٍ صغير لمحمد عوض محمد عن فن الترجمة ، لأن أحد البحوث الثمانية المقررة في مادة الدكتور بشر هو الترجمة , وقد قررت أن أدرس أربعة بحوث من الثمانية فقط ، إذ إن أربعة منها إنما هي دراسة كتب وأربعة خاصة بالموضوعات ، وقد أخبرنا الدكتور بشر أن سؤالاً يأتي عن الثمانية البحوث يتضمن فرعين الإجابة عن واحد , أحد الفرعين عن الكتب والآخر عن الموضوعات ، وعلى هذا قررت دراسة الموضوعات الأربعة: الترجمة , الأصوات عند سيبويه , النَّظْم عند عبد القاهر , الأصوات عند ابن يعيش ، وقبيل الظهر تركنا البيت أنا والأخ خليل , ذهبنا إلى مصر الجديدة حيث صلينا الجمعة في جامع جديد قرب منطقة روكسي ، وما كان لنا أن نذهب إلى هناك لولا أن الأخ أحمد الراوي كان قد دعانا , لتناول الغداء عندهم , وهو يسكن الآن قرب روكسي مع زوجته وطفليه حسن وصالح ووالده كاظم الراوي ، ولا شك في أننا خرجنا قليلا عن بعض الضيق الذي نحن فيه فكانت انطلاقة عبر العديد من الموضوعات رغم ضيق الوقت , وكان والد أحمد يحدثنا عن بعض من سني حياته العلمية الأولى ، وعدت إلى البيت بعد العصر وأنا أحاول أن أضع نفسي على الطريق بجدية أكثر وأن أتهيأ للأيام المقبلات بصورة أكثر عملية ، فلم يبق بيني وبين الامتحان إلا هذا الأسبوع الآتي ، فقد عانيت هذه الأشهر الطويلة من أجل أربعة أيام فقط ، سيتقرر خلالها مستقبلي هنا في مصر ، وقد أُعْلِنَ جدول الامتحانات ، وأول يوم من أيام الامتحان فيه هو السبت لمادة اللغة الانجليزية ، ثم يكون الأحد استراحة ، وبعدها ثلاثة امتحانات متوالية يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، لنكون قد أنهينا السنة بانتظار النتيجة .

[align=center]شراء أرض في بغداد
السبت 13 تموز 1974م = 23 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

وصلتني رسالة صباح اليوم من الأخ سفر , ورسائله لم تنقطع عني أسبوعاً واحداً , فهو يكتب لي رسالة كل أسبوع ، وكما يقول كل صباح يوم جمعة حين يكون في عطلته الأسبوعية , فجزاه الله خير الجزاء إذ إن رسائله تبعث في نفسي الطمأنينة والأمل ، إلا أن رسالة اليوم تحمل بعض الأخبار الهامة بالنسبة للأسرة ، من ذلك أن الأخ سالم قد التحق بالجندية من جديد ، ومعنى هذا أن مزيداً من الأتعاب تنتظره والأسرة كذلك ، جندي احتياط بسيط مرمي في أبي غريب ، وحر تموز الصاعق يكاد يزهق الأرواح ، ولا يدري أين ينتهي به المطاف, إن حياة الجندية من أذل ما يمكن أن تصل إليه المعاملة البشرية اليوم ، فقد عرفتها وذقت مرارتها , وأدعو الله ألا تطول مدة تجنيده ، وأن يحفظه الله من عدوات هذا الزمن , والخبر الآخر أن الأخ سفر قد اعتزم شراء قطعة أرض في بغداد في مدينة الشرطة الثانية (الخضراء) , وأرجو أن يجعلها الله خطوة مباركة إذ أن مستقبل عملنا وعمله كما يبدو سيكون إن شاء الله في بغداد , فلو ملكت الأسرة داراً في بغداد ليكون ملجأ من أتعاب التأجير , ولكن ثمن القطعة وحدها كما يقول أكثر من ألف دينار , مبلغ كبير , رغم أن راتب الأخ سفر جيد الآن إلا أن الأسرة لن توفر هذا المبلغ بسهولة ، وخصوصاً أنا الآن أقتنص كل فائض من الفلوس , ولكن معنى هذا أن هذه هي أول خطوة نحو اتجاه الأسرة بالانتقال إلى بغداد وهجر بلدتنا بيجي , عندما أنشأنا دارنا الجديدة التي نسكنها الآن في بيجي كانت هناك تساؤلات حول مدى استقرارنا في بيجي ، واقترح أناس أن نبني الدار في تكريت ، ولكن اليوم اتجهت الأنظار إلى بغداد ، والله المستعان .

[align=center]تحويل مبلغ
الأحد 14 تموز 1974م = 24 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

وصلني إعلام من البنك قبل عدة أيام حول وصول المبلغ المحول لي من الأهل وهو ثاني مبلغ يحولونه لي , وكل مرة يحولون 200 دينارٍ ، وأنا الآن لدي من الفلوس ما يكفيني حتى موعد سفري ، إن كتب الله لي النجاح ، ومعنى ذلك أن هذا المبلغ فائض عن حاجتي الآن , فقلت لو أخرت استلامه حتى موعد سفري ثم أستلمه آنذاك بالباون الإسترليني وآخذه معي إلى العراق , ذهبت مساء أمس إلى البنك وحاولت أن أقنعهم بطلبي إلا أنهم لم يوافقوا , قالوا افتح حساباً جارياً ، ويتطلب ذلك مراجعات تأخذ يوماً أو يومين أو أكثر أتابع المعاملة في البنك ، وإني جد حريص على الوقت خاصة هذه الأيام ، أخيراً قررت سحب المبلغ بالجنيهات المصرية وكان هذه المرة 388 جنيها ، بينما كانت المئتان السابقتان حوالي 411 جنيها ، ذلك لأن سعر الدينار العراقي في ارتفاع وانخفاض ، ولكن كيف سأتصرف بهذا المبلغ إذا سافرت ، هل يمكن أن أحوله إلى عملة حرة أم أودعه في بنك لحين العودة بإذن الله , أم أودعه عند أحد الأصدقاء , ولكن لأترك التفكير في هذا الأمر الآن , حتى انتهاء الامتحان وظهور النتائج , فإنْ كتب الله لي النجاح كان أمر هذا المبلغ يسيراً أودعه أو أحوله ، وإن كانت الأخرى فكل شيء في مكانه ، وإني أحمد الله وأدعوه أن يحفظ الأهل على ما أبدوه من بذل وعطاء ، إذ إني لم أفكر يوماً بأمر الفلوس ، ذلك الأمر الذي يشغل بال الناس جميعاً ، فجزاهم الله خيراً على هذا البذل والعطاء .

[align=center]جليل رشيد فالح
الاثنين 15 تموز 1974م = 25 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

كانت مادة اللغة الانجليزية حصة اليوم من الدراسة ، وبدأت في الصباح أقرأ في الصفحات المعدودات التي تستغرقها هذه المادة ، ولكن كنت قبل أيام بل منذ يوم السبت على موعد مع أحد الإخوة من العراق اسمه جليل رشيد من خانقين عنده شهادة ماجستير في البلاغة العربية ، ويريد أن يسجل لدراسة الدكتوراه في إحدى جامعات القاهرة ، كان قد قَدَّمَ أوراقه منذ زمن إلى جامعة عين شمس ولكن طلبه لم تظهر له نتيجة ، أخيراً فكر بالتقديم إلى كلية دار العلوم رغم أن أوراقه لا تزال في جامعة عين شمس , ولما كنت أعرف الكلية وأعرف بعض أساتذتها فقد ذهبت معه قبيل الظهر إلى الكلية لاستطلاع الحالة والاستفسار عن الشروط ، وذهبنا إلى مسجل الكلية وبعدها إلى أستاذنا الدكتور أمين السيد لكي يعرفنا على رئيس قسم البلاغة .. وقد فوجئ الأخ جليل ( أبو مجاهد ) بالمعاملة الطيبة التي واجهونا بها في الكلية ، وما كان من الدكتور أمين السيد إلا أن يأخذنا إلى عميد الكلية الأستاذ الدكتور كمال بشر الذي رَحَّبَ هو الآخر بالضيف العراقي , ووعده خيراً وأن الأمر لا يحتاج إلا تقديم الأوراق ، وتأخذ طريقها الرسمي ، وقبل أن نغادر الكلية حاولنا مقابلة رئيس قسم البلاغة والنقد الأستاذ د. محمود ربيع ، وقد رَحَّبَ هو الآخر ، وتركنا الكلية بعد أن اطمأن الأخ جليل على قبوله بكلية دار العلوم ، هو حاصل على الماجستير من بغداد كان أستاذه المشرف الأول د. أحمد مطلوب ، ولما غادر إلى الكويت حاول بعض أساتذة القسم ممن كان على خلاف مع أحمد مطلوب الانتقام من تلميذه الأخ جليل ، فمنحوه الماجستير بتقدير جيد مما لا يتيح له إكمال الدراسة في العراق ، وكان بحثه في الماجستير في موضوع (البديع )(1).

[align=center]
9694b879aed1cbbd.jpg
[/align]
[align=center]طلبة الدكتوراه في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد
1982-1983م
في الأمام جالسين : جليل رشيد فالح وغانم قدوري
واقفين: د عبد القادر الهيتي (الآن في دولة عُمان) ، د.صالح ، د.عبد الإله الصايغ(في تونس) ،د.محمد البكاء ،د.سعيد جاسم الزبيدي( في دولة عُمان) ،د.محمد الزبيدي.[/align]


[align=center]احتفال في السفارة
الثلاثاء 16 تموز 1974م = 26 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

لم نعتد مثل تلك الأجواء الصاخبة الفاسدة , ولم نحاول مرة أن نجد أنفسنا في مثلها , ولكن كان حب الاستطلاع الدافع الوحيد الذي دفعنا إلى الذهاب إلى الاحتفال الذي أقامته السفارة العراقية بمناسبة ما يسمى بأعياد تموز ( ذكرى ثورتي 14 و 17 ) كانت قد وصلتنا بطاقة دعوة للأخ خليل ولي , وترددنا بالذهاب ، لكن كما ذكرت دفعنا حب الاستطلاع إلى الذهاب ، وصلينا المغرب في جامع ليس ببعيد عن السفارة ، وذهبنا بعد الصلاة ، كان السفير وأكابر موظفي السفارة قد وقفوا عند مدخل استقبال الضيوف هم وزوجاتهم ! يستقبلون المهنئين , ودخلنا وصافحنا , وأفضى بنا الطريق إلى حديقة السفارة ، التي تقع بين بيت السفير وبناية الملحقيات ، وإذا هي غاصة بجموع من الناس من مختلف الأشكال والألوان واللغات ، ويبدو أن السفارة دعت إلى حفلها سفراء الدول التي لها صداقة وعلاقة قوية بالعراق المقيمين في القاهرة ، فكان الأوربي إلى جانب الأفريقي والأسيوي ، ولا أدري إن كان هناك أمريكان ، وأكثر المدعوين قد حضروا مع زوجاتهم أو صديقاتهم , كان هناك عدد من العراقيين ممن يدرسون في القاهرة أو يعملون فيها ، كنا نبدو غرباء في هذا الحفل القذر , كان هناك خوانان من الطعام على جانبي الحديقة عليهما أصناف الأكل والحلوى ، وهذا مقبول ، ولكن البلوى في أولئك الذين يحملون أقداح الخمر يمرون بها على هذا الزحام يعب منها الفسقة حتى سَكِرَ المكان والهواء , وتذكرنا عندها ما يقال عن ارتفاع الأسعار في العراق والقتال الضاري الدائر في الشمال الذي يروح ضحيته خيرة الشباب !!! .

[align=center]الجندية من جديد
الأربعاء 17 تموز 1974م = 27 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

وصلتني رسالة اليوم من الأخ سالم , وكنت كلما وصلتني رسالة من الأهل أشعر بالقرب والأمل والغبطة ، ولكن هذه المرة جاءت رسالة الأخ سالم لتزيد من شجني وحزني , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , كنت أحدث الأخ سالم في رسائلي السابقة عن تحقيق رغبته في الدراسة ، وأطلب منه إكمال الأوراق المطلوبة كي أقدمها له في الوقت المناسب هنا ، حتى لا تفوته فرصة القبول على السنة الجديدة ، وكان كل مرة في رسائله يحدثني عن رغبته وعن محاولته إكمال الأوراق ، ولكن هذه المرة جاءت رسالته بغير تلك النغمة , وهي من أسلوبها تدل على مدى ضجر الأخ سالم وتضايقه من الواقع الذي أصبح فيه ، فهو ما كاد ينهي الدوام في مدرسته وتحل العطلة الصيفية حتى تم استدعاؤه للاحتياط ، ويقول في الرسالة إنه منذ بداية هذا الشهر حيران لا يدري ماذا يعمل ، فهو الآن جندي في بغداد أو قريباً منها يتدرب ويسترجع مأساة الجندية من جديد ، وهو ينتظر أن ينسبوه إلى وحدة عسكرية ولا يدري أين يكون نصيبه هل في الشمال أم في الجنوب ، ما هذه الأتعاب ومن أجل ماذا , وإذا كان نصيب الأخ سالم الآن من الجندية فقدان الراحة وفراق الأهل ، فإن هناك من يدفع حياته في الشمال بلا ثمن , منذ أن عادت الحركات العسكرية في الشمال منذ شهر آذار , ومنذ ذلك الحين أخذت الحكومة تدعو الاحتياط ، وتقذف بالجنود إلى أتون نار مشتعلة في الشمال ، ولكن ما للمدرسين وللجندية بعد أن خدموا مدتهم ما هذه الملاحقات المريرة ، وعلى كل حال فلا يُدْرَى خاتمة هذه المرارة التي يتجرع الأخ سالم مرارتها , اللهم فارحمنا، وهَوِّن عليه .

[align=center]بعد أسبوع
الخميس 18 تموز 1974م = 28 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

بعد أسبوع ستنفرج الغمة قليلاً بإذن الله , فلم يبق بيني وبين الامتحان إلا يوم غد لأدخل في أيام الامتحان ، وما هو إلا أسبوع وينتهي الامتحان , السبت للغة الانجليزية , والأحد خالٍ من الامتحان ، والاثنين للدكتور بشر , والثلاثاء للدكتور عبد الصبور شاهين , والأربعاء للدكتور الجرح ، والخميس مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم إن شاء الله سيكون لي , لأتخفف من أتعاب الأيام القاسية وأخلد للراحة أياماً , وأدعو الله أن يوفقني في اجتياز هذا الامتحان ، وأن يجعله آخر امتحان لي في الدنيا , نعم لو أني اجتزت هذا الامتحان بنجاح فسيكون آخر امتحان لي وستنفتح لي الأبواب كي أدخل ميادين العلم من أين شئت , وأجد نفسي الآن أكثر استعداداً للامتحان , وأجدني أكثر تفاؤلاً من الأيام السابقات , فقد مضى أكثر من شهرين وأنا أدرس المحاضرات دراسة جادة حتى كدت أضجر وأَمَلَّ ، ولكن كلما قرب الامتحان ازداد الدافع للقراءة وقَوِيَ ، وهاأنذا أوشك أن أدخل الامتحان , ولكن هل يمكن أن أنسى هذه الأيام من التعب والقلق وفقدان نوم الظهيرة ؟ حتى لو نجحت ، وهذا أملي ، ما يكون لي أن أنسى هذه الأيام من العمل التي سأراها جميلة يوماً ما إن شاء الله ، وأما إذا تأخرت في الامتحان فمعنى ذلك أن المصيبة ستجدد وأن ذكرى هذه الأيام الثقيلة ستمتد وسأكون قد ذقت مرارة الفشل ، وخابت آمالي وآمال أحبتي ، ومن الله العون والتوفيق .

[align=center]انقضاء ساعات العسرة
الجمعة 19 تموز 1974م = 29 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

اليوم أقف على الشاطئ ، وغداً أبدأ ( العبور ) إن شاء الله ، ولكن كم تصورت أن المدة طويلة حتى أصل إلى الشاطئ ، فقد مرت عليَّ أيام كنت أتضايق جداً من الساعات المعدودات التي أقضيها أعمل في الكتب ، وكنت أتصور أن المدة ستطول بل ربما لن تنتهي ، ولكن سنة الله في الخلق تجري على نظام ثابت ، الزمن لا يقف إذا وقف الناس أو تمنوا ذلك ، ولا يَعْجَلُ إذا عَجِلَ الناس أو تَمَنَّوْا ذلك ، إننا نحن الذين نخلع على الزمن العجلة والوقوف ، الساعات التي نستعذبها نشعر أنها تمر سريعة ، والساعات التي نستصعبها نشعر معها أن فلك الكون قد توقف فهو لا يتحرك ، ولكن هذه هي مصيبة الإنسان حتى يأخذه الموت ، والسعيد السعيد من حسب للموت حسابه وعمل لما بعده ، بدأت أشعر الآن أني قضيت في حياتي الدنيا فترة قد صارت طويلة في نظري الآن (25 عاماً)(2) كم شاهدت من الأحداث والناس ، وكم عاصرت من الأمور التي استصعبتها ولكن مضت ، كنت صغيراً أعيش في البيت مع إخوتي وألعب مع أولاد الجيران ، وأذكر بعض ذكريات القرية ، واليوم قد باعدت بيننا الدنيا وغداً إذا شاء الله ومد في الأعمار سيكون البعد أكثر سيكون لكل واحد منا بيت وأولاد ، ونكون كما نجد بيتنا الآن وبيوت عمومتنا ، وهكذا يولد الأبناء في البيت لينفصلوا ثم يكوِّنوا بيوتاً تنفصل ، هكذا هي سنة الله في حياة الناس ، ولكن لا أسعد في ذلك كله من البيوت المسلمة.

[align=center]الامتحان الأول
السبت 20 تموز 1974م = 30 جمادى الآخرة 1394هـ[/align]

كان موعد الامتحان الساعة الثالثة بعد الظهر , ولا شك في أنها ساعة غير مناسبة ، حتى لو كان الفصل شتاء , فهي ساعة يميل الإنسان فيها دائماً إلى الهدوء قليلاً بعد أتعاب النهار لينشط من جديد في آخره , فإذا اجتمع إلى ذلك حر الصيف صار ذلك لا يطاق , وهذا ما حصل فعلاً اليوم , ففي الساعة الثالثة الحر على أشده ، خاصة أن درجة الحرارة هذه الأيام في ارتفاع ولا ريح ولا نسمة هواء , ولكن هذه المضايقات الجانبية لا تساوي شيئاً إلى جانب أمر الامتحان ذاته, كان الممتحنون هذا اليوم حوالي مئة من كل الأقسام ، إذ إن مادة اللغة الانجليزية مشتركة بين طلبة السنة التمهيدية للماجستير لكل الأقسام ، ومع أن الجميع في سن لا تقل عن خمس وعشرين سنة فإنهم جميعاً كانوا خائفين من الامتحان بلا استثناء ، والله أعلم , ودخلنا القاعة ووُزِّعَتِ الدفاتر وخفقت القلوب عندما رأت ورقة الأسئلة , واستلمت الورقة بهدوء وما أن قرأت ما فيها قراءة سريعة حتى تصبب من جبيني عرق الأتعاب الماضية ، وهدأت كثيراً رغم حرارة الجو فلم أجد في الورقة شيئاً لا أعرف جوابه ، ربما لا يكون الجواب صحيحاً مئة في المئة ، ولكن المهم أني أجبت وكأني أنقل من كتاب ، ولم تطل الإجابة أكثر من 35 دقيقة , وخرجت وأنا متفائل ، شاكراً لله حامداً له وحده .

[align=center]حرب في قبرص
الأحد 21 تموز 1974م = 1 رجب 1394هـ[/align]

منذ أن وعيت الأحداث التي تتقاذفها الأخبار كانت قبرص ومشكلتها من الأمور التي تتردد على الأسماع وتجري على الألسنة ، ولا تزال أخبار المشكلة تتجدد كل وقت مرة بين القبارصة الأتراك من جهة واليونان من جهة أخرى ، وأخرى بين مكاريوس وبين القبارصة اليونانيين المتطرفين الذين يريدون الوحدة مع اليونان ، وآخر الأخبار بل وفاتحة المشاكل كان يوم الاثنين الماضي عندما قام الحرس الوطني القبرصي الذي يتكون من أكثر من ألف من الجنود والضباط بانقلاب على مكاريوس واستولوا على السلطة ، وشكلوا حكومة وانهزم مكاريوس من الجزيرة وتسلل إلى انكلترا وراح إلى واشنطن ليقدم شكوى إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة لعلهم يعيدونه إلى عرشه ، واعْتُبِرَ هذا الانقلاب من تدبير اليونان ، وفي سنة 1960 كانت تركيا واليونان وانكلترا قد تعاهدت على ضمان استقلال قبرص ، وكان هذا الانقلاب إخلالاً بذلك التعهد ، وجرت محادثات سياسية في الأيام الأخيرة مكثفة ، وهددت تركيا بغزو الجزيرة حتى تعيد الأمور إلى نصابها إذا لم يتم إعادة الأوضاع إلى أحوالها ، وفعلاً فقد أعلن أن تركيا بدأت بغزو الجزيرة منذ صباح أمس ولا تزال الحرب قائمة بين القوات التركية وقوات اليونان القبارصة ولا تعرف نتيجة الغزو التركي إلى الآن ، ونحن ندعو لتركيا بالنصر لأنها أقرب إلى الحق ، والله ينصر من يشاء .

[align=center]الامتحان الثاني
الاثنين 22 تموز 1974م = 2 رجب 1394هـ[/align]

امتحان اليوم فتح لي أبواب الأمل واسعة , بعد تلك الرحلة التي يكاد يسودها اليأس والقنوط , اليوم كان الامتحان الثاني في مادة ( مناهج البحث في اللغة ) وأستاذ المادة هو الدكتور كمال بشر عميد الكلية , وهذه المادة من أهم المواد وأعقدها ، خاصة أن الأستاذ أضاف قبل الامتحان ثمانية بحوث على المذكرات المطبوعة ، وقد أثارت هذه البحوث مشكلة لم تكن يسيرة الحل , فليس هناك من الوقت ما يمكن فيه الاطلاع الكافي على موضوعات تلك البحوث ، ثم هي ليست يسيرة المنال , وقد كانت هذه البحوث عبارة عن دراسة أربعة كتب وأربعة موضوعات , وقال الأستاذ إنه سوف يختار من كل مجموعة سؤالاً , إضافة إلى سؤال من المذكرة , فركزت جهدي على مجموعة من البحوث ، وهي مجموعة الموضوعات ، وهي : الأصوات عند سيبويه , والأصوات عند ابن يعيش , والترجمة , والنَّظْمُ عند عبد القاهر , وهيأت نفسي لمواجهة السؤال الخاص بالموضوعات ، وفعلاً كانت اليوم الأسئلة ثلاثة واحد من المذكرة عن مناهج البحث في اللغة : الوصفي والتاريخي والمعياري , وسؤالان عن البحوث واحد عن الأصوات عند سيبويه ، والآخر عن كتاب الخصائص لابن جني ، وأجبت سؤال الأصوات عند سيبويه حسب الخطة ، وآمل بعون الله أن إجابتي هذا اليوم جيدة .

[align=center] سمعت أن اتفاقاً قد تم لوقف القتال في قبرص !
الامتحان الثالث
الثلاثاء 23 تموز 1974م = 3 رجب 1394هـ[/align]

إذا كان الامتحان اختباراً لمدى فهم الطالب فَعَلامَ هذا الإصرار على طول الأسئلة بحيث يجد الطالب نفسه مضطراً لأن يسرع في الكتابة حتى يمكنه أن يكتب شيئاً مما هو مطلوب خلال الساعات الثلاث من الامتحان , وهو مضطر أيضاً لأن يفقد العنصر التنظيمي والتفكير العلمي المتقن في الإجابة ، إذ ليس لديه من الوقت ما يمكنه من أن ينظم فيه أفكاره , كان امتحان اليوم في مادة الرموز الصوتية الدولية ومشكلة الهمزة في كتاب الدكتور عبد الصبور شاهين (القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث) أما الرموز الصوتية فقد استأثرت بسؤال واحد مكون من فرعين : الأول في إعطاء القيم الصوتية لخمسة رموز كان أحدها قد أخطأت في إجابته ، والشق الثاني في كتابة بيتين من الشعر كتابة صوتية , وأعتقد أن إجابتي تامة في هذا السؤال ما عدا الغلط في رمز واحد ، والسؤال الآخر خاص بمشكلة الهمزة : الهمز رمز وتأريخ وتأثير ، اكتب في ذلك على ضوء علم اللغة الحديث , والإجابة على هذا السؤال تتطلب كتابة كل المادة التي درسناها عن هذه المشكلة ، أي حوالي 110 صفحات , ولا يدري الطالب ما يأخذ منها وما يدع ، وقد حاولت أن أكتب طيلة الوقت ، أختار من كل موضوع زبدته التي أستطيع أن أجمعها بإيجاز , وآمل أن تكون إجابتي في هذه المادة تؤهلني لدرجة النجاح , وبهذا نكون قد أنهينا الامتحان في ثلاث مواد ، ولم يبق إلا يوم غد في مادة الدراسات اللغوية المقارنة ، وآمل أن ييسر الله اجتياز هذه العقبة بسلام .

[align=center]جولة في الأزهر(3)
السبت 27 تموز 1974م = 7 رجب 1394 هـ[/align]

بعد أن أنهيت الامتحان حاولت أن أستشعر بعض مظاهر الركون إلى الراحة وهدوء البال بعد أن أكون قد تحولت إلى مرحلة جديدة من العمل بإذن الله , وقد قضيت الخميس والجمعة في أمور غير جادة ولكنها ليست لاهية على كل حال ، كنت قد اتفقت مع الأخ الحاج جاسم منذ يوم الخميس على أن أخرج معه بسيارته لقضاء بعض الأشغال الخاصة به ، وبعض الأشغال التي كان قد كُلِّفَ بها من قبل بعض الأصدقاء ، في الصباح مررنا بجامعة الأزهر في منطقة الجامع الأزهر وبعد دورات في الأروقة غادرنا إلى كلية دار العلوم في جامعة الأزهر وتقع غرب مدينة نصر خلف إستاد ناصر الرياضي ، وهنا كان الأخ جاسم يبحث عن نتيجة قبول الأستاذ عباس أحد معارفه من كركوك في الدراسات العليا في الكلية , وانتظرنا حتى زوال الشمس ، ولكن الأستاذ المختص لم يحضر , وتحولنا من هناك إلى وزارة خارجية مصر لتصديق بعض الوثائق وبعد زحام ووقوف بالأبواب تبين أن الوثائق ناقصة ، المهم مضينا صباح هذا اليوم حتى ما بعد الظهيرة في رحلة على أساس أنها ترفيهية في الأصل ولكنها كانت شاقة ومتعبة، الشعور الذي بدأ يسيطر عليَّ هو اختيار موضوع لرسالة الماجستير والسفر بعد ذلك إلى الأهل , وهذان الأمران متوقفان على نتيجة الامتحان التي أكاد أكون متأكدا منها الآن ، والحمد لله .

[align=center]في بيت الدكتور الجرح
الأحد 28 تموز 1974م = 8 رجب 1394هـ[/align]

بدأت أفكر في الخطوة التالية التي يجب عليَّ أن أخطوها بعد انتهاء الامتحان ، وكأنه ليس لي أن أقضي أياماً من غير تفكير أو عمل , قلت لأذهب إلى الدكتور محمد سالم الجرح , كان ذلك عصر أمس , بيته قريب من مسكننا وقد كنت متردداً في تلك الزيارة ، ولكن حسن استقباله قد أبعد عني وحشة ذلك الشعور , كان هناك معنا في غرفة الضيوف مصري يعمل أستاذا للنقد في الأزهر ، ولم تمض إلا دقائق حتى انهال عليَّ الدكتور الجرح بسيل من شتائم المدح ! وعن قابليتي في الدراسة والفهم , وأثنى على إجابتي في الامتحان ، وقال إنها كانت أحسن ورقة بين الذين امتحنوا في مادته ، وعَرَّجَ على المواد الأخرى وطمأنني بأنه قد سأل كلاً من الدكتور بشر والدكتور عبد الصبور شاهين عن نتيجة امتحاني عندهم , فذكروا له أن إجابتي جيدة وأنها تبشر بخير , ومن هنا عرجت إلى رغبتي في أن أعمل معه في رسالة الماجستير فقلت: شرف لي أن أكون تلميذاً لك في رسالة الماجستير , فأجابني: يا أخي إن الشرف لي أن تكون تلميذاً لي , الحقيقة أنه أبدى من الانبساط والمجاملة ما بعث في نفسي الحياء و الأمل ، وبعد حديث أعربت له عن رغبتي في بيان رأيه في صلاحية موضوع المقطع في العربية لأن يكون موضوعاً لرسالة ماجستير , فأكد صلاحية الموضوع مرة أخرى , ووعدني أن ألتقي به يوم الجمعة القادم الساعة العاشرة صباحاً في بيتهم لمناقشة الموضوع .

[align=center]تَرَدُّد
الاثنين 29 تموز 1974م = 9 رجب 1394هـ[/align]

ذهبت إلى كلية دار العلوم ، بعد مروري بمكتبة معهد الدراسات العربية، لأستطلع بعض الأخبار عن الامتحان والنتائج ، قابلت الدكتور بشر , ولَمَّحَ لي بنتائج الامتحان ، بعد ذلك التقيت بأستاذي الدكتور أمين السيد وسألني عن إجابتي في الامتحان ، وقال لي لو تذهب إلى دار الكتب ، فقلت وما الذي أعمله ؟ قال تطلع على المخطوطات لعلك تجد مخطوطة تصلح أن يكون تحقيقها ودراستها موضوعاً لرسالة الماجستير , فذكرت له ما كان من اتفاق بيني وبين الدكتور الجرح , فَقَطَّبَ بين حاجبيه , فقال لي إن هذا موضوع يتعبك , وأنه يحتاج إلى دراسة واسعة في اللغة الانجليزية , ثم إن الدكتور الجرح ربما ذهب إلى السودان منتدباً أو مفتشاً ..! وأخبرني أن من الأفضل أن أسجل عند الدكتور بشر أو الدكتور عبد الصبور، وقد كان لهذا الحوار أثر بالغ في نفسي ، فقد تركني في دوامة من الأفكار ، هل أترك الدكتور الجرح الذي وعدني واطمأننت إلى أسلوبه في البحث والدراسة ، هل أترك موضوع المقطع .. وأي موضوع سأختار ؟ ومعنى هذا أنني أحتاج مزيداً من الوقت كي أختار موضوعاً وأتفق مع أستاذ جديد، وأنا قد حجزت للسفر بالطائرة إلى العراق يوم 19/8/1974 ، وأخيراً قلت لأنفذ الوعد الذي ضربه لي الدكتور الجرح , ولعلي أثير بعض الأسئلة عند الالتقاء به تلقي أضواء على المستقبل .

[align=center]موضوع المقطع في العربية
الثلاثاء 30 تموز 1974م = 10 رجب 1394هـ[/align]

يبدو عليَّ أني هذه الأيام مشغول بالإحاطة بموضوع المقطع , أحاول أن أكوِّن لي فكرة عن هذا الموضوع تتيح لي أن أضع خطة أولية وتصوراً عاماً يمكن أن أقدمه للدكتور الجرح عندما ألتقي به يوم الجمعة القادم حيث اتفقنا قبل يومين على ذلك ، ومع أني تقدمت خطوات في هذا الموضوع إلا أن سؤالاً لا يزال يلح عليَّ وهو ألا يوجد موضوع آخر ؟ ثم هل موضوع المقطع جدير بالدراسة ؟ هل هو سهل التناول وفير المصادر ، ولكني قد عشت مع هذا الموضوع منذ أشهر طويلة منذ أن درسه أحد الزملاء كبحث صغير قدمه في السنة التمهيدية ، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أطلع على كل مصدر عن هذا الموضوع ، وأحاول أن أقف على كل ظاهرة لغوية أحس أنها تتصل به ، وأنا اليوم قد وضعت خطة أولية للموضوع تتكون من ثلاثة فصول أو إن شئت قسمها أبواباً ، الفصل الأول: عن الصوامت والحركات ودورهما في بناء اللغة أو الكلام ، والفصل الثاني نظام المقاطع العربية وخصائصه ، والفصل الثالث عن أثر خصائص ذلك النظام على بناء اللغة سواء أثره في الكلمة أو العبارة ، وإذا ما وافق الدكتور الجرح على هذه الخطة بعد تعديلها – من غير شك – فإني سأجد نفسي مع هذا الموضوع أشد ارتباطاً مع مناهج البحث الحديثة والأفكار اللغوية الحديثة ، وسأجد نفسي أشد حاجة إلى اللغة الانجليزية بل حتى الفرنسية وسأجد نفسي أمام مشاكل وصعاب حقيقية ، والله المستعان .

[align=center]الملك فيصل في مصر
الأربعاء 31 تموز 1974م = 11 رجب 1394هـ
[/align]
خرجتُ عصر هذا اليوم مع الأخ خليل في سياحة قصيرة لزيارة بعض الأصدقاء فصار طريقنا من منطقة حدائق القبة فإذا الشوارع مزدانة بالإعلام (وأقواس النصر) مرفوعة تزينها قطع القماش المكتوبة بأنواع الشعارات ، وهناك على بوابة قصر القبة يرتفع علم مصر والسعودية كل ذلك بمناسبة زيارة فيصل ملك السعودية لمصر التي بدأت أمس , ولا تزال الصحف تتحدث عن الزيارة وعن بطلي العبور فيصل والسادات ، وكنت أستمع إلى إذاعة لندن وهي تذيع نشرة الإخبار فوصفت الاستقبال الذي حظي به الملك فيصل بأنه يشبه ذلك الاستقبال الذي حظي به نيكسون ، وكان نيكسون قد زار مصر في شهر حزيران الماضي ، وأقامت له الحكومة المصرية استقبالاً منقطع النظير ، شاركت فيه الحكومة والشعب ، حتى إن نيكسون نفسه قد بهت لذلك الاستقبال الذي استقبل به قبل مضي عام واحد على أمره بإقامة الجسر الجوي لإنقاذ إسرائيل عسكرياً وتزويدها بأفتك الأسلحة التي لا يزال شباب مصر يئن من جراحه في تلك الحرب بسببها ، المهم أن ذلك الاستقبال قد صار مضرب الأمثال ، واليوم يُسْتَقْبَلُ ملك السعودية في زيارته لمصر ذلك الاستقبال الذي اسْتُقْبِلَ به نيكسون رئيس الولايات المتحدة من قبل!

[align=center]مذكرات شهر تموز 1974م[/align]
حقيقة بدأت ترسخ في ذهني أو هي قد رسخت وراحت تعمق وجودها ، تلك هي أن الإنسان لا يمكن أن يهدأ أبداً أو أن يخلو ذهنه من شيء ، ولكن ماذا يكون هذا الشيء تلك هي المشكلة ، الناس يتحركون ويروحون ويجيئون ووراء كل حركة هدف ، ولكن قد يكون هذا الهدف عظيماً وقد يكون حقيراً ، ويبدو أن الناس الذين تَجُرُّ أقدامهم أهداف حقيرة لا يرضون أو لا يعترفون بهذا الواقع فهم يعيشون في خيال العظمة والجمال والفن ، يُضْفُونَ على حركاتهم صفة الشرعية والحق ، ولكن هل كل أولئك الذين يسيرون هذه المسيرة مخدوعون بهذه الخدعة ، إذا لم يكونوا مخدوعين - يا ترى – ما الذي يحملهم على السير في سبيل الشر ، وهنا مرة أخرى يظهر شيء بصورةٍ ما يدفعهم إلى أفعالهم أو يزينها لهم ، حقيقة إن داخل الإنسان شيء معقد قد لا يستطيع الإنسان نفسه أن يسبر أغواره ، فذلك الواقع مجهول حتى لصاحبه ، ولكن مع ذلك هناك حوار دائم بين الإنسان وواقعه وداخله ، وبعض الناس يغمضون أعينهم عما هم فيه ، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وصدق الله العظيم ، فهذه فلسفة أكثر الناس الآن ، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، ويزينون أعمالهم لأنفسهم بل يزين الشيطان لهم تلك الشرور فلا ينفك يوقع الناس فيها إلا من رحم الله.

[align=center]دراسة اللغة بين منهجين
الخميس 1 آب 1974م = 12 رجب 1394هـ[/align]

لقد وضعتني هذه السنة على مفترق طرق ، إما أن أتجه ذات اليمين وإما ذات الشمال ، وليس هنا من سبيل وسط ، دراسة اللغة تأخذ في الغرب مسلكاً متطوراً مدعوماً بالوسائل التجريبية والمعملية ، وتأخذ في المشرق العربي أسلوباً تقليدياً قديماً لم يستطع المحدثون أن يحركوا عجلة هذه الدراسة إلى الأمام شيئاً يذكر ، وهؤلاء الذين ذهبوا إلى الغرب من الطلبة العرب وخاصة من مصر لدراسة اللغة عادوا وهو يحملون ما درسوه هناك ، وإذا كتبوا شيئاً فهم يترجمون ويمسخون ما تعلموه هناك ولم يستطيعوا أن يدرسوا لغتنا إلى الآن دراسة لغوية عربية صحيحة تأخذ بمناهج البحث الحديث ولا تهمل القديم ، بل تؤسس عليه عملية البناء الجديدة . هؤلاء الذين ذهبوا إلى الغرب سواء إلى إنكلترا أم ألمانيا أو فرنسا أو أمريكا من الطلبة العرب معدودون بعدد الأصابع فهم في مصر لا يعجزك عدهم ، وفي العراق واحد أو اثنان ، وفي الشام كذلك ، أما المغرب العربي فأخباره لا تصلنا إلا قليلاً كما لا تصلهم أخبارنا إلا نادراً على ما يبدو ، والأزهر لم يقدم شيئاً إلى الآن يخدم اللغة العربية خدمة حقيقية في وقت تصطرع فيه المناهج والأفكار ، والطالب المبتدئ من أمثالي يقف على مفترق الطرق في حيرة ، أي طريق يسلك ؟ ولا شك في أن السهولة ليست هي مقياس الاختيار ، ولكني لن أحيد عن الهدف ، إن شاء الله ، وهو خدمة لغة القرآن الكريم.

[align=center]عودة إلى المقطع
السبت 3 آب 1974م = 14 رجب 1394هـ[/align]

التقيت أمس الدكتور محمد سالم الجرح في بيته ، وبحثت معه موضوع المقطع ، وقد بدا لي الأمر أكثر صعوبة لا من حيث المادة ولكن من حيث المنهج الذي يريد الدكتور أن يربطني به ، وهو التعمق بدراسة المقطع في اللهجات والحديث اليومي وكذلك في اللغة العربية الفصحى ، وقد أبديت تحفظي من ذلك ولكنه طمأنني على سهولة الأمر ويسره ، وأعطاني أمس أيضا مقالة بالانكليزية عن المقطع لكاتب أمريكي على أن أصورها ثم أرجعها إليه ، واتفقنا أن نلتقي مرة أخرى .
البحث في المصادر الأجنبية

[align=center]الأحد 4 آب 1974م = 15 رجب 1394هـ[/align]
قضيت هذا اليوم في مكتبة جامعة القاهرة في قسم اللغات الأجنبية أحاول أن أطلع على موضوع المقطع في بعض الكتب ، وخاصة كتب المكتبة البريطانية التي كانت قد نقلت إلى مكتبة جامعة القاهرة ، وقد حاولت تصوير بعض المقالات والموضوعات ، والحقيقة أني غير متفائل من قضية اللغة إذ إني أجد صعوبة في قراءة النص الانكليزي.

[align=center]البحث في المخطوطات
الاثنين 5 آب 1974م = 16 رجب 1394هـ [/align]

ذهبت اليوم إلى معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية واطلعت على الفهرست ، ودونت أسماء بعض المخطوطات ، وحاولت أن أقرأ بعضها , والحقيقة أن اهتمامي بدأ يتغير وبدا فيه ميل شديد الآن لدراسة اللغة في مصادرها القديمة سواء بعمل دراسة أو تحقيق كتاب ، وقد بدأت أقع في حيرة من أمري إذ إن صعوبة اختيار الموضوع وخطورته بدأت تقلقني كثيراً ، والله المستعان .

[align=center]مناقشة خطة البحث
الثلاثاء 6 آب 1974م = 17 رجب 1394هـ[/align]

التقيت الدكتور محمد سالم الجرح في الكلية ظهراً , لمناقشة خطة البحث , وقد أقرَّ الصورة الأخيرة للخطة , وأقرَّ أيضاً صيغة الطلب بتسجيل الموضوع , وحدثته عن إمكان تحقيق مخطوطة أو دراسة مخطوطة , فذكر أنه احتمال وارد وعرفته بمخطوطة كتاب شمس العلوم لنشوان الحميري ، فقال يمكن عمل دراسة جيدة عن المخطوطة ، ولكن بدت لي المخطوطة طويلة جداً ، إذ إنها تقع في حوالي ثمانية أجزاء ، واتفقنا على أن نلتقي يوم الأربعاء 14/8 على أن أكون قد التقيت بالدكتور عبدالصبور و الدكتور بشر وحدثتهما عن اختيار الموضوع.

[align=center]الدكتور أكرم ضياء العمري
الأربعاء 7 آب 1974م = 18 رجب 1394هـ[/align]

الأخ أكرم ضياء العمري كان قد نزل عندنا ضيفاً في البيت بعد أن سافرت أسرته قبل أيام , كان ينتظر يوم مناقشة رسالته للدكتوراه حول (موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد) ، وكان قد حصل على الماجستير من جامعة بغداد منذ سنين عديدة ، وقد أمضى ست سنوات في إعداد رسالته للدكتوراه , وتمت مساء هذا اليوم مناقشته في كلية الآداب بجامعة عين شمس ، وكانت لجنة المناقشة مؤلفة من الدكتور حسن حبشي مشرفاً ، والدكتور حسن محمود ، والدكتور عبد المنعم حسنين عضوين ، وقد أطرى الأساتذة جميعاً عمل الأخ أكرم إطراء يدل على مدى ما بذل من جهد في إعداد الرسالة وما قَدَّمَ فيها ، مما يدل على فهم واسع للتاريخ الإسلامي ومصادره الأولى ، وقد مُنِحَ بعد المناقشة شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى ، وحاول أحد الأساتذة أن يغطي على ضعفه في المناقشة بالتركيز على بعض الأمور الشكلية ، وعلى بعض جوانب الرسالة التي هي أصلاً ثانوية فيها ، ومع كل ذلك فقد جعل الله خاتمة عمله يسراً ، وكان قد حضر المناقشة جمع من إخوتنا من العراق وبعض الأصدقاء.

[align=center]
9694b879aed40aec.jpg
[/align]
[align=center]7/8/1974
صورة في مناقشة الدكتور أكرم ضياء العمري
ويظهر في نهاية الصورة : غانم قدوري ، وعبد المهيمن ، وخليل الحديثي ، وجاسم ، وسعد[/align]

[align=center]
9694b879aed59573.jpg

7/8/1974
صورة في مناقشة الدكتور أكرم ضياء العمري
ويظهر في الصورة من اليمين : جاسم ، والدكتور أكرم ، ومجاهد ، وخليل ، وغانم[/align]

[align=center]
9694b879aed3c0b4.jpg

الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري
صورة حديثة من الإنترنت[/align]

[align=center]حيرة متجددة
الخميس 8 آب 1974م = 19 رجب 1394هـ[/align]

الحمد لله , أنا الآن في حيرة حقيقية من أمر اختيار الموضوع , أمر الامتحان قد مضى ، وقد أصبحتُ شبه متأكد من نتيجته – ولله الحمد – كنت قد فكرت في دراسة المقطع وأنفقت جزءاً كبيراً من وقتي وتفكيري لهذا الموضوع قبل الامتحان وبعده , والتقيت أكثر من لقاء مع الدكتور محمد سالم الجرح وأقر خطة البحث بصورته الأخيرة , ولم يبق شيء إلا أن أودع الأوراق عند المسجل لتأخذ دورها وقت التسجيل في الشهر العاشر ، وقد سألت الدكتور الجرح عن إمكانية سفره خلال السنة القادمة ، فقال لا بأس بمناقشة الموضوع مع الأستاذ الدكتور عبد الصبور والدكتور بشر , ذهبت اليوم إلى بيت الدكتور عبد الصبور شاهين وحدثته عن الأمر , فقال إن موضوع المقطع لا يستحق أكثر من مقالة في مجلة ، وخابت الآمال ، وحدثته عن تحقيق مخطوطة فأيد ذلك بعد التحقق من صلاحيتها ، واقترح هو عليَّ موضوعاً ، وأنتظر الآن ماذا سيسفر عنه الغد .

[align=center]بين قديم اللغة وجديدها
السبت 10 آب 1974م = 21 رجب 1394هـ[/align]

أحاول في هذه الأيام بإمكانياتي المحدودة بذل أقصى الجهود من أجل الوصول إلى موضوع يمكن أن أسجله ليكون موضوعاً لرسالة الماجستير , ( المقطع في العربية ) ذلك الموضوع الذي عايشني حتى في أيام الامتحان قد ودعته غير آسف , وبدأت أبحث عن موضوع جديد ، والصعوبة تكمن في أني لم تتح لي الفرصة لدراسة تاريخ البحوث اللغوية لعلماء العربية ، تلك البحوث التي فيها مجال واسع للدراسة , فقبل أن أجيء إلى القاهرة كان جل اهتمامي منصباً على النحو ، وقد حزت غير قليل من المعرفة فيه وفي رجاله , ولما التحقت للدراسة في قسم علم اللغة كانت المادة جديدة علي من جانبين : فالقديم في دراسة اللغة العربية لم أكن قد سبرت أغواره ، والجديد جديد لم أطلع عليه من قبل ، وقد شغلت طيلة هذه السنة بالأمور الجديدة التي لم يكن لها من الدراسات التطبيقية على العربية إلا اليسير , وعندما جئت لأختار الموضوع لم أكن متمكناً من الجديد في اللغة ، وكذلك لم أكن ملماً إلماماً كافياً بالقديم العربي المحض , وهنا كان مكمن الصعوبة التي يقتضي تجاوزها الانقطاع للدراسة المتأنية في أمهات المصادر اللغوية العربية مع عدم إهمال الدراسات الحديثة , ومن أين لي ذلك الوقت الذي يمكنني من مثل هذه المهمة , ومن هنا بدأت أتشبث ، وأظن أن هذا هو حال الكثيرين الذين عانوا من اختيار موضوع لدراسة علميه .

[align=center]الجاسوس على القاموس
الأحد 11 آب 1974م = 22 رجب 1394هـ[/align]

كان يدور في ذهني اختيار تحقيق مخطوطة لرسالة الماجستير ، وكنت قد ترددت إلى معهد المخطوطات أياماً عدة ، وتبين لي أن أغلب المخطوطات قد دُرِسَتْ وحُقِّقَتْ , وربما لو كان لديَّ متسع من الوقت لعثرت على بغيتي ، ولعل موظفي المعهد يحجبون بعض ذلك , حين يئست من العثور على مخطوطة مناسبة عدت إلى الموضوع الذي اختاره لي أو أشار به علي الدكتور عبد الصبور شاهين وهو ( دراسة مصادر الشدياق في الجاسوس على القاموس ) وطفقت أدرس الشدياق دراسة خفيفة لتكون عندي ( الخلفية ) الكافية التي تمكنني من المضي في الدراسة دون مزالق , وبدأت أقرأ في كتاب الجاسوس , وهو كتاب ضخم , قرأت أكثر المقدمة وقرأت بعض الفصول ، حاولت أن أدون بعض الأسماء والكتب التي ذكرها أحمد فارس في الكتاب ، دونت بعض الأفكار عن الكتاب والمؤلف , وأخيرا انتهيت إلى تساؤل محرج وهو هل أن دراسة المصادر فقط كافية لتغطية (رسالة علمية) ، ومرة أُسَوِّغُ الموضوع وأُضْفِي عليه بعض الأهلية ، وأخرى لا أرى فيه إلا إعادة ودراسة كتب وأشخاص قد دُرِسُوا من قبل , ومع ذلك فإني مضيت في الحصول على مزيد من المعلومات حول الموضوع من دراسة القاموس المحيط وما دار حوله من بحوث .

[align=center]التخلي عن الجاسوس
الاثنين 12 آب 1974م = 23 رجب 1394هت
[/align]
عندما زرت د. عبد الصبور قبل أيام أخبرني بأنه موجود في كلية دار العلوم يومياً ، ويمكنني أن ألتقي به حوالي الثانية بعد الظهر حين يكون عملهم على وشك الانتهاء في لجان متابعة الامتحان وتصحيح الدفاتر , قضيت فترة الضحى حتى الظهر في مكتبة معهد الدراسات العربية أقرأ في ( الجاسوس ) وأحاول أن ألتقط خلال هذه القراءة ملاحظات عن الكتاب , وكنت آمل أن ألتقي بالدكتور عبد الصبور بعد الظهر ، فمكثت في المكتبة حتى قاربت الساعة الثانية ، فذهبت إلى جامع ملاصق للكلية حيث أديت الصلاة ، وذهبت من هناك إلى الكلية ، وبعد أخذ ورد مع البواب سمح لي بالدخول ، وبعد بعض الوقت تمكنت من لقاء الدكتور عبد الصبور , فبدأت أعرض عليه ما توصلت إليه في موضوع الجاسوس ، وذكرت له أني ذهبت إلى كلية آداب القاهرة وعين شمس والأزهر ، ولم أجد ما يشير إلى أن الموضوع قد درس ، ولكنه لم يبد عناية كبيرة لما يدور في خاطري ، ولَمَّحْتُ له .. ثم صرحت له تصريحاً أني على وشك السفر وأحتاج إلى عونه في تسجيل الموضوع ، أو تهيئة الأوراق لوقت التسجيل ، ولكنه طلب مني أن أفكر في الموضوع أكثر وجمع معلومات أكثر ، وقال : لا يزال متسع من الوقت أمامك , سافرْ وارجعْ ( ورَبِّنَا إيوَفَّأَك ) ، وقال لي إنه مشغول الآن ، وانصرفَ كل لسبيله , ورثيت لحالي وانصرفت بتثاقل شديد!

[align=center]نصيحة من الدكتور بشر
الثلاثاء 13آب 1974م = 24 رجب 1394هـ[/align]

رغم خيبة الأمل التي أحسست بها أمس فقد كانت في نفسي رغبة لزيارة الدكتور كمال محمد بشر عميد الكلية ورئيس قسم علم اللغة لاستيضاح رأيه في بعض الموضوعات , ذهبت إلى الكلية قبل الظهر وكان العميد موجوداً في مكتبه ودخلت إليه , ورغم ترددي من لقائه فقد كان منشرح الصدر ولقيني بالبشر والترحاب , وطال معه حديثي أكثر من نصف ساعة ، وحدثته عن رغبتي في اختيار موضوع لرسالة الماجستير , ولكنه نصحني أن أتفرغ للقراءة في كتب اللغة حتى أخرج من خلال تلك القراءة بالموضوع المناسب , وذكرت له أني على أبواب السفر ولا آمن إن سافرت دون تسجيل موضوع أو تَرْكِ خطة أن تفوت مني فرصة التسجيل ، ولكنه وعدني أن أرسل إليه بأي موضوع يستقر عليه رأيي بعد تلك القراءة ، وسيقوم هو بترتيب أمور التسجيل ، اقتنعت نسبياً بفكرة الدكتور بشر ، وبدأت أحدث نفسي بالسفر في الموعد المحدد ، وهو يوم الاثنين الآتي ، وسوف أجلس عند الأهل وأبدأ الدراسة حتى يفتح الله عليَّ بموضوع يحظى بالقبول ، ولكني أقول أحياناً إنه من الأفضل لي أن أعود قبل نهاية الشهر العاشر حتى أتمكن من اللحاق بموعد التسجيل الأول لسنة 1974-1975 .

[align=center]صراع بين فكرتين
الأربعاء 14 آب 1974م = 25 رجب 1394هـ[/align]

اليوم كان في نفسي صراع كالذي يحدث بين شخصين ، كنت أتحدث مع نفسي : هل أسافر في الموعد المحدد إن شاء الله ، أم أؤجل السفر إلى فترة أخرى ربما تطول ، حتى تتاح لي فرصة اختيار الموضوع وتسجيله , مرة أقول من الأحسن أن أسافر الآن وأمكث في العراق عند الأهل ، وأحاول أن أدرس ما يتاح لي من كتب اللغة حتى أصل إلى اختيار موضوع أو أكثر , ويمكنني في نهاية الشهر العاشر أن أعود إلى القاهرة لتسجيل الموضوع وأبدأ الدراسة ، ومرة أخرى أقول لنفسي ليس من المناسب السفر دون أن تتضح الأمور من نتيجة الامتحان إلى اختيار الموضوع ، فأقنع هنا بفكرة المكوث في القاهرة إلى أن تتم تلك الأمور ، ويمكنني أن أسافر بعدها لزيارة الأهل لمدة شهرين أو أقل أو أكثر ، وبقيت في ظل هذا الجو القاسي فعلاً , كان قاسياً ومؤذياً , ولا يقارن بأيام الامتحان , وإذا كنت قد ضجرت من أيام الامتحان فأنا الآن أشد ضجراً وحيرة ، متطلع إلى رحمة الله وتوفيقه ، كنت قد ربطت الكتب تَهَيُّؤاً للسفر ، وقبل النوم وقر في نفسي أن أمكث في القاهرة ، وقلت في نفسي لأترك حل رزم الكتب إلى صباح غد ، إن شاء الله ، لأبدأ العمل واترك موضوع السفر جانباً.

[align=center]شحن الكتب
الخميس 15 آب 1974م = 26 رجب 1394هـ[/align]

بلغ الصراع قمته صباح هذا اليوم , فبعد أن نمت ليلة مطمئنة استيقظت في الصباح وفي نفسي تساؤل حول سلامة القرار الذي اتخذته بعدم السفر , ونصحني الأخ خليل بالمضي بما عزمت عليه من السفر ، وارتكنت جانباً وأغرقت في التفكير وأي تفكير هو ؟ مزيج من العواطف والمشاعر المتدافعة ، وأخيرا وجدتني أُغَيِّرُ ملابسي ، وأحمل صناديق الكتب وأخرج ، فقد قررت السفر بعون الله ، كان عليَّ أن أذهب بالكتب إلى الرقابة في العتبة ، وبعدها إلى المطار حتى يتم شحنها قبل سفري ، لأن اصطحابها معي يكلفني كثيراً ، وصلت العتبة وعرضت الكتب على لجنة رقابة المطبوعات التي يمثلها موظف واحد لم يقرأ إلا عنوان كتاب واحد ، وبعد أن أمطرتُ ! حاشية الموظف بالقروش شُدَّتِ الصناديق وغادرت المكان حوالي العاشرة ووصلت المطار ، ودخلت مكتب الشحن وتم وزنها ، كان أجر شحنها أكثر من (12) جنيهاً ، وهنا بدأت المساومة ، فأحد زبانية المكتب قال لي : إذا أردت أخلص لك المعاملة ولكن كم تعطيني ، وبعد تدافع وجلبة ومشكلة كبيرة حدثت ، كدت أسحب الكتب ، وتمنيت لو أني أحرقتها قبل هذا ، وأخيراً عدت إلى السكن ومعي بعض الكتب ، بعد أن جمعوا أكثرها في صندوق واحد لإشكال حصل , وخرجت بعد الثانية من مكتب الشحن منهك القوى ، كارهاً لهذا البلد وما يجري فيه ، بعد أن دفعت ما لا يقل عن ثلاثة جنيهات ( رشوة ) !

[align=center]العودة إلى نشوان
الجمعة 16 آب 1974م = 27 رجب 1394هـ
[/align]
بات السفر قاب قوسين أو أدنى ، والمشكلة التي تشغل بالي هي مشكلة الموضوع الذي سأسجله للماجستير , وقد بدا لي الآن أن فرصة اختيار الموضوع قد أصبحت ضئيلة بعد دنو موعد السفر , وعدت أقلب الأوراق القديمة لعلي أقع على فكرة تمهد لي الطريق , كنت قد رأيت في معهد المخطوطات كتاباً ضخماً على شكل معجم لنشوان الحميري اسمه ( شمس العلوم ... ) وكان قد طُبِعَ من هذا الكتاب جزءان في ليدن ، والباقي لا يزال مخطوطاً ، وهناك عدة نسخ من الكتاب , حَدَّثْتُ نفسي يوماً بدراسة هذا الكتاب , دراسة فقط إذ إن تحقيقه يحتاج إلى سنوات عديدة , واستحسنت الفكرة إذ سيكون عندي ما أقدمه عند ابتداء موعد التسجيل , كان الأخ أكرم ضياء العمري معنا الآن في البيت فأطلعته على الموضوع فرآه حسناً , وحاولت عندها أن أضع مخططاً للبحث ، وهو لا شك غير جديد ، فإن مثل هذا البحث قد عُمِلَ على كتب أخرى , ولكن نشوانَ هذا لا يزال مجهولاً في ميدان الدراسات اللغوية ، وفي صباح هذا اليوم كنت على موعد مع الدكتور الجرح في بيته القريب منا ، فذهبت إليه وتحدثت معه عن الموضوع وهو يعرفه من وقت سابق ، وقد أعرب عن رضاه عنه ، فبدأ التفاؤل يأخذ سبيله إلى داخلي إذ إن الخروج من مرحلة اختيار الموضوع نعمة من الله .


نشرت هذه الحلقة يوم الجمعة 12/3/1431هـ .



ـــــــــــ الحواشي ـــــــــــــ
(1) لم يُقْبَلِ الأخ جليل في دار العلوم ، ودرس الدكتوراه في كلية الآداب بجامعة بغداد ، في الدورة التي قُبِلْتُ فيها سنة 1982 - 1983م ، واشتغل في جامعة الموصل عدة سنوات ، حتى وافاه الأجل هناك ، رحمه الله.
(2) عمري الآن وأنا أراجع طباعة هذه اليوميات ستون عاماً ، والحمد لله ، وأسأل الله حسن الخاتمة.
(3) بعد أن انتهيت من الامتحانات يوم الأربعاء الماضي سارعت إلى كتابة رسالة للأخ أبي عمر ، وقد شغلت في المذكرة ثلاث صفحات ، ومن ثم لم يتح لي الحديث عن انتهاء الامتحان حتى يوم السبت .


الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)
4- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الرابعة)
5- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الخامسة)
6- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السادسة)


 
ليس الخبر كالمعاينة...

أعيش مع هذه الحلقات كمن يسير وسطها ؛ لأني قريب عهد بشيء مما فيها من معمعة اختيار الموضوع ، وما يصاحبها من توتر وحيرة ، ومد وجزر...

عندما أتابع هذه الحلقات أجد فيها رفعاً للمعنويات...

عندما يمتزج الفكر بين الألم والأمل ، بين البدايات والنهايات ، بين الواقع والمأمول ، ونجد في هذا السبيل عالماً جليلاً أنواره مشرقة ، ويذكر لنا تجربته المحرقة...

إنها فعلاً تجربة عظيمة تعلمنا الكثير..

جزاكم الله عنا خير الجزاء شيخنا الجليل.

وتستمر المتابعة..
 
عودة
أعلى