غانم قدوري الحمد
مستشار
[align=center]يوميات الرحلة إلى مصر
( الحلقة الرابعة )[/align]
[align=center]كيسنجر يعود إلى المنطقة
الأحد 13 كانون الثاني 1974م = 20 ذو الحجة 1393هـ[/align]
منذ أن قامت الحرب في 10 رمضان ، ويسمونها في مصر (حرب 6 أكتوبر) ، منذ ذلك الحين والعمل السياسي يعصف في الشرق الأوسط والوفود والزيارات والمحادثات تجري سراً وعلناً , وكان من بين شروط وقف القتال أن يتم تطبيق قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967 بمحادثات تجري بين الأطراف , وبدأت المحادثات وتم تبادل الأسرى على ضوء اتفاق النقاط الست الذي كان لكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الدور الفعال في إبرامه ، ثم بدأت محادثات الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس ، ولم تُجْدِ نفعاً ، وبعدها في 20/12/1973 بدأت محادثات جنيف وصاحَبَها ما صاحَبَها ، ولكنها أيضا وصلت إلى طريق مسدود في أول خطوة ، وهي محاولة الفصل بين القوات على جبهة سيناء بالأخص ، وهو الفصل الذي كان أحد البنود الستة , وحتى تمضي المسرحية إلى آخرها فإن كيسنجر يحاول أن يتدخل كل مرة لتحريك الشخوص على الخشبة بحيث تنسجم مع الخاتمة المنشودة ، فجاء منذ أيام إلى مصر وذهب إلى إسرائيل ، وصار يعود إلى مصر ويذهب إلى ما لا نهاية ، يحمل المشاريع والخرائط ويحاول أن يُقَرِّبَ وجهات النظر ليمضي بخطوات السلام قُدُماً على حد تعبيرات السوق الآن ، والصحف هنا في مصر تضع علامات استفهام على النتائج التي يمكن أن تسفر عنها هذه الحركة الضعيفة من المحادثات والتشكيك في ما يمكن أن تقدمه هذه المحادثات ، ولكن لم نعد نسمع صوت العراق منذ أن غادرتُ العراق ، وهو لا شك في أن حكومته الثورية لها رأي ، ولكن خارج محيط الدائرة التي تجري داخلها الأحداث الآن .
[align=center]سقوط المطر في القاهرة
الاثنين 14 كانون الثاني 1974م = 21 ذو الحجة 1393هـ[/align]
كنت أُمَنِّي نفسي أن أرى منظر المطر ينزل هنا في القاهرة , كنت في العراق في بيجي أطيل النظر في مثل تلك الأحوال التي تبعث في النفس هدوءاً وشعوراً لطيفاً وسعادة ، وكان قد سقط مطر قبل ثلاثة أسابيع ولكنه لا يَبُلُّ الماشين في العراء ، ويتكرر أن تغيم السماء ولكن لم يسقط المطر إلا يوم أمس ، فقد جلبت الريح الغربية أمطاراً لا بأس بكميتها وسقطت أمس واليوم أمطار هنا في القاهرة وعلى الوجه البحري في مصر كما ذُكِرَ في الصحف , وفرحت بذلك ! كنت في الشقة أنظر إلى تدافع الغيم في السماء ونزول القطرات متتابعة لتستقر على الأرض مؤتلفة , وشعرت لأول مرة أني في مدينة كبغداد , ولقد تذكرت الشتاء الذي قضيته في بغداد أو بعض الشتاء أيام الجندية ، وكيف كنا نعاني والفقراء من السير في الشوارع الموحلة ، والأمر هناك أهون مما نجد هنا اليوم ، فإن مجاري المياه الخاصة بتصريف مياه الأمطار معدومة في شوارع القاهرة ، ولهذا فقد غَدَّرَ الماء على الأرصفة بل غمر الشوارع أحياناً ، والأرض التي لا يغطيها الماء تغطيها مادة سوداء لزجة ، فالتراب عندما يبتل يكون طيناً ، وهو مع كل ما فيه من إزعاج فهو لطيف ، ولكن هذا الطين الذي يغطي الشوارع والأرصفة أسود كأنه مادة الفلانكوت(مادة قيرية لطلاء أسطح المباني) بسبب ما تراكم من عوادم السيارات على الأرض ، ويشقى الناس من السير في الشوارع وتشقى السيارات أيضاً به ، فإن جنباتها قد استحالت إلى لون أسود ، ولكن يقال إن هذا لا يتكرر إلا مرة أو مرتين في الشتاء .
[align=center]انقطاع الشغالة
الثلاثاء 15 كانون الثاني 1974م = 22 ذو الحجة 1393هـ[/align]
فجأة انقطعت الشغالة أم محمود عن المجيء ، ومنذ يوم الأحد ونحن نحاول أن نقوم بأمور البيت ، ولكن يبدو أنها لا تريد أن تستقيم إلا بشغالة , إن أم محمود قد تعلمت ما يحتاج إليه البيت العراقي أو ما يحتاج إليه العراقي من طعام ، وهناك عدة احتمالات لانقطاعها منها أن زوجها قد عاد من ليبيا وهي تريد أن تستقبله ، وهي أم لخمسة يسكنون في منطقة السيدة زينب , وكان زوجها قد ذهب إلى ليبيا للعمل , المهم أنها مأمونة الجانب ، والاحتمال الآخر أنها "غاضبة" لأن الأخ خليل تكلم عليها قبل يوم لكثرة ما ترتكبه من خربطة(أي أخطاء) , فقد ذهبت إلى السوق لتشتري الخضر وكانت قد أخذت جنيهاً , وعادت بالخضر وبقية الجنيه وحاولت أن أستفسر عن أسعار ما جلبت من مواد فإذا هي لا تدري بكم اشترت ! ذهبتْ إلى البقال وقالتْ له أريد كذا و أريد كذا وسلمته الجنيه وعادت بالباقي , والأخ خليل كان قد حذرها من قبل بألا تأخذ الأمور وكأنها لا تعنيها ، وهي ليست مسألة القروش القليلة التي يمكن أن تذهب وإنما مسألة عدم الاكتراث بالأمر , وكان الأخ خليل قد وجه لها كلمات قاسية ، وهي لم تفهم إلا القليل منها , ولكن يبدو أنها تأثرت من ذلك , ونحن الآن نفكر في الأمر ، ونعمل الأكل بأيدينا وننظف ونشتري ، وكل حاجة .
[align=center]منخفض جوي
الأربعاء 16 كانون الثاني 1974م = 23 ذو الحجة 1393هـ[/align]
عرفتُ أن الأمطار في مصر قليلة ، خاصة في القاهرة ، بل إنها نادرة ، وعلى هذا فالناس لم يأخذوا لحالات سقوط المطر ما يجب فعله ، منذ يومين ورشقات من المطر وزخات هادئة أحياناً تحاول أن تمسح مسحة الحزن عن وجه القاهرة , ولكن هذا الحزن نزل إلى الشوارع على شكل ماء أسود ثقيل يشبه النفط الأسود وأثقل ، وتحولت الشوارع إلى غدران من هذه المادة الكريهة ، ولم يعد الماشي في الشارع يستطيع أن ينجو من هذا القذر الذي فاق ما رأيته في بغداد في مثل هذه الحالات ، وأنأ أمس واليوم ماكث في البيت وأتطلع إلى الخارج من شرفة الشقة ومن صفحات الجريدة .. فقد ذُكِرَ في الصحف أن منخفضاً جوياً يرتكز على شرق البحر المتوسط وقبرص وأن مصر ستتأثر به , وفعلاً فقد توالى سقوط المطر منذ يومين ، وفي الصحف أنباء الأمطار الغزيرة التي سقطت في الإسكندرية والساحل الشمالي من مصر ، ويقال إننا من المحتمل ألا نرى بعد هذه الأيام سقوط أمطار على القاهرة إلا نادراً . الجو مع ذلك ليس بارداً برودة شديدة ، نعم قد مال نحو البرودة إلا أنه برد محتمل ... الملاحظ أن الناس هنا يخشون المطر , فهم الآن مثل الديكة المبللة , وقد ذكرت الصحف عن حوادث تسببت في قتل عدة أشخاص منها انهيارات وتصادم بين السيارات في الشوارع ، لأن المياه تحولت تحت عجلات السيارات إلى شيء كأنه الزيت يفقد فيه السائق السيطرة على قيادة السيارة أحياناً , كيف كان حال العراق في هذا المنخفض الجوي؟!
[align=center]اتفاقية فصل القوات
الجمعة 18 كانون الثاني 1974م = 25 ذو الحجة 1393هـ[/align]
لا زال كيسنجر منذ أن جاء إلى الشرق الأوسط في أوائل الأسبوع يروح ويغدو بين أسوان حيث يستشفي الرئيس محمد أنور السادات وبين تل أبيب , يمثل دور الوسيط لحل أو لوضع أولى الخطوات في طريق حل ما يسمونه أزمة الشرق الأوسط ، وهذه الخطوات تتمثل بالفصل بين القوات المتحاربة على قناة السويس , وقد تمخضت تلك المحادثات المكثفة المطولة بواسطة كيسنجر تمخضت عن توقيع اتفاقية الفصل بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية ، وتم التوقيع ظهر اليوم عند الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس ، وكان اللواء عبد الغني الجمصي رئيس أركان الجيش المصري ممثلاً عن مصر ، والجنرال دافيد اليعازر رئيس أركان جيش اليهود عن إسرائيل , وقد اختلف الناس هنا وهناك ، من العرب من يرى أن الاتفاقية ليس فيها تنازلات وإنها بداية نحو استرجاع الحقوق ! ومنهم من يرى أنها اعترفت بشرعية إسرائيل , وفي إسرائيل أيضاً هناك أحزاب المعارضة وكتلة تعلن احتجاجها وتحاول إقامة التظاهرات ، واللواء شارون يعتزل الخدمة في الجيش لأنه هو الذي قاد القوات الإسرائيلية عبر القناة غرباً ، والاتفاقية تقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية شرق القناة في عمق سيناء على بعد أربعين كيلو متراً أو أقل ، وستشغل قوات الطوارئ عشرة كيلو مترات بين الطرفين ويبقى الشريط الممتد شرق القناة من الشمال إلى الجنوب بيد المصريين ، ولكن يقال إن الاتفاقية تنص على تخفيض القوات ، والحق أن الاتفاقية تستقبل بحذر ولا يُدْرَى ما سيكشفه المستقبل ، وأُعْلِنَ أن أنور السادات سيطوف في بعض العواصم العربية .
[align=center]أخبار سارة
الأحد 20 كانون الثاني 1974م = 27 ذو الحجة 1393هـ[/align]
وصلتني اليوم رسالة من الأهل من الأخ سالم ، وهي تحمل إخباراً سارة خفق القلب لها ، ويكفي أنها من الأهل من هناك حيث يهفو القلب دائماً , الوالد والوالدة قد عادا من الحج – أمد الله بعمرهما مع صالح الأعمال – وخبر آخر وهو أن الأخ سالم قد رزق بولد قبل أيام ، وهو يريد أن يأخذ رأيي بالاسم ، وأنه سماه مبدئياً ( منظور) وإنني أعيش منذ أكثر من شهر مع ابن منظور صاحب لسان العرب ، فأضحى هذا الاسم عندي مألوفاً مع ما فيه من إخفاء النون , أيضاً وصلتني أمس رسالة من الأخ سفر وكان كل ما في الرسالتين جميل الوقع لا زلت استعيد قراءتهما وأتذكر حال الأهل ... وقد ورد في إحدى الرسالتين أن مطر العراق هذه السنة غزير جدا وأن الناس يتطلعون إلى سنة خصب وخير , وورد أن البرد في العراق يشتد ويشتد وأن الموجة التي اجتاحت الشرق الأوسط في الأسبوع الماضي قد كان للعراق منها نصيب كبير , هنا في القاهرة قد برد الجو في المساء برداً شديداً ( بقياس أهل مصر ) وذُكِرَ في الصحف أن البرد سيستمر عدة أيام بعد حدوث منخفض جوي آخر في شرق البحر الأبيض المتوسط , والحق أن البرد هنا لا يقاس على البرد في العراق , البرد هنا محتمل تلوذ بركن يحميك ، أو تلتف بفراش فيحميك ، درجة الحرارة الصغرى فوق الصفر دائماً ، بل هي لا تقل عن سبعة وثمانية ، والعظمى تقرب من العشرين إلا في الأيام القليلة الماضية فقد انخفضت قليلاً ، الآن الجو بارد ولكن الأمطار انقطعت والشوارع جفت.
[align=center]من آثار انقطاع الشغالة
الاثنين 21 كانون الثاني 1974م = 29 ذو الحجة 1393هـ[/align]
من الأسبوع الماضي ونحن لا نزال بدون شغالة , وقد بدأ ذلك يلقي ظلاله على جو البيت ، والأوساخ تتراكم هنا وهناك ، ووجبات الطعام أضحت قلقة , في الصباح كنت منزوياً أقرأ شيئاً وأفكر بالفطور ، وعمل الفطور لا يكلف أكثر من وضع الكتلي (البراد) على النار , كان الأخ خليل يسبقني في أكثر الأحيان إلى عمل الفطور ، فأقوم أنا بتنظيف الأواني , اليوم صباحاً كان هو يضع الكتلي على النار ودخلت المطبخ وإذا به ينفجر بالكلام على غير توقع مني ، لماذا لا تعمل لنا الفطور ، وإذا به جاد بكلامه ويمضي يقول: " لِگِيت لك واحد إيسويلك فطور " فَبُهِتُّ وأُسقط في يدي ، وكنت أحاول أن أخفف من هذه الضجة الفارغة لأنها لا ترتكز على شيء لأن عمل الفطور لا يكلفني شيء لا بل إن غسل (الكتلي) وأكواب الشاي أكثر صعوبة من عمل الفطور ، ولم آكل من الفطور إلا القليل و ارتميت جانباً وبدأت الأفكار تتداعى من قديم وجديد ، وكنت قد اعتدت أن انصرف للقراءة بعد الفطور ولكني لم أجد الهمة في نفسي ، وظللت حتى حملت نفسي على الخروج من البيت ، وذهبت إلى الجامعة ومنها إلى الكلية ، وقضيت بعض الأشغال ، وتناولت الغداء في مطعم ، وحضرت محاضرة اللغة الانكليزية وعدت إلى البيت مع الغروب بعد الساعة الخامسة ، ولكن بدأ يَقِرُّ في نفسي شيء, وعليه فقلت آكل شيئاً كوجبة العشاء وأكلت وعدت إلى البيت ، وحين أحضر الأخ خليل الطعام ودعاني قلت أنا لا آكل من طعام لا تصنعه يدي !! المهم أني حريص على عدم تعكير الجو ، ولكن كان ذلك رغماً عني.
[align=center]تفاهم
الثلاثاء 22 كانون الثاني 1974م = 29 ذو الحجة 1393هـ[/align]
بعد أزمة الأمس , جرى حوار حول الأمر ، وبدأ كل جانب يبدي تنازلاته ولو أن الأمر من مبدئه لا يمكن أن يكون محور مشكلة , وعادت بعد ذلك الأمور إلى مجراها الطبيعي تقريباً , لأن الشغالة اعتذرت عن المجيء بعد تحقق مجيء زوجها , وهذا مما سبب بعض المتاعب التي قد تخلف بعض الرواسب في النفوس تظهر أحياناً وتعكر الصفو كما ظهرت بالأمس , وجرى الاتفاق ضمناً على أن أقوم بتنظيف المواعين والأخ خليل يقوم بالطبخ لأنه يعرفه أكثر مني , ونتيجة لانقطاع الشغالة فإنني أقوم بغسل ملابسي بيدي حتى يجعل الله للأمر مخرجا , وقد وصينا الأخ مجاهد على شغالة عن طريق شغالتهم , ونحن بانتظار الأمر .
[align=center]مناقشة رسالة
الثلاثاء 29 كانون الثاني 1974م = 6 محرم 1394هـ[/align]
لاحظت لافتة معلقة مُعْلَناً فيها أن هناك مناقشة رسالة ستجري يوم 28/1/1974 أي يوم أمس مقدمة من السيد رفعت الفرنواني المعيد في كلية دار العلوم ، وهي في خصائص لغة الجبرتي التركيبية لينال بها درجة الماجستير في اللغة , كانت لجنة المناقشة تتكون من الدكتور كمال بشر مشرفاً على الرسالة ( وهو عميد الكلية الآن ) والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور خليل عساكر الأستاذ المصري المعروف ، وهو منتدب في جامعة الخرطوم ، وبدأ المناقشة الدكتور عساكر فَعَرَّى ذلك البنيان الذي شاده الفرنواني وطعن في الأسس التي استقى منها الفرنواني مادته عن لغة الجبرتي وخصائصها .. وبعد ذلك جاء دور الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ في قسم علم اللغة في دار العلوم ، وقد ركز على بعض المسائل الخاصة واللفتات الصغيرة من جوانب الرسالة بعد أن أعلن أن مناقشة الدكتور خليل عساكر قد أحرقت كل ملاحظاته .. ولكن هذا الرجل دائما يحاول أن يخدم الفكرة التي سيطرت في ذهنه وملكت عليه حواسه فهو لا يزال يعلنها كل حال ، وقد ناقش الطالب مناقشة حادة ونقده نقداً مراً حين عبر الطالب بأسلوب يمكن أن يفسر على أنه حط من أقدار العلماء المسلمين أو الإسلام وأنه يقابل الحضارة الغربية ، أي أن الإسلام يمثل الوجه الثاني الذي يقف ضد الحضارة وهو التخلف .. المهم أن الفرنواني حصل على الماجستير بدرجة ممتاز وما قَدَّمَتِ المناقشة في النتيجة ولا أخرت ، وأخذ الدرجة العليا ، ومر كل شيء بسلام .
[align=center]صباح رشيد شلال
الأربعاء 30 كانون الثاني 1974م = 7 محرم 1394هـ[/align]
منذ أن نزلت القاهرة مع الأخ خليل كان هو مشغولاً لمدة شهر أو أكثر بتتبع معاملة قبول لأحد معارفه صباح رشيد شلال (الأعظمي) , وهو ممن تخرج معه في بغداد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، ويريد أن يدرس هنا الماجستير , وكنت قد رأيته سابقاً عندما جئت إلى القاهرة في الصيف كان هو في نفس الطائرة التي وصلت بها هو والأستاذ محمد أمين الأعظمي الذي يدرس في جامعة الموصل , وهما قاصدان القاهرة للزيارة . وكان صباح بعد أن استقر به المقام هو وصاحبه في مدينة دبلن بأيرلندا للدراسة لم يطب له المقام ورجع إلى بغداد , وأرسل أوراقه مع الأخ خليل حيث بذل له فوق ما يمكن أن يبذل إنسان لنفسه ، فالأخ صباح متأخر في التقديم وليس لديه المعدل المطلوب ، المهم أن قبوله ظهر قبل أكثر من أسبوع ، وأرسل خليل برقية إليه يدعوه فيها للحضور , وفعلا قد وصل الأخ صباح يوم الاثنين الماضي ، ونزل معنا في البيت أنا وهو في غرفة واحدة ، إذ إن الغرفة التي أنزل فيها واسعة وفيها سريران , والأخ خليل يسكن في الغرفة الأخرى , يبدو أن صباح رجل هادئ الطبع خفيف الظل ، على كل حال هو متدين وكفى . وقد جلب لي معه من العراق من الأهل شاي وقلم حبر ومعجون حلاقة وأسنان ! قد أرسلها الأخ سالم من هناك ، ولا أدري كيف تم ذلك، وسَكَنُنَا ثلاثةً في الشقة لن يسبب على ما يبدو لنا أية مزعجات ، بل إنه سيخفف منها ويبعد شبح المصروفات الكثيرة .
[align=center]معرض الكتاب
الخميس 31 كانون الثاني 1974م = 8 محرم 1394هـ[/align]
قبل أن يفتح معرض القاهرة للكتاب الدولي أبوابه قامت حملة دعاية واسعة, وقد فتح المعرض أبوابه للجمهور يوم 27/1/1974 الجاري وكنت أفكر في شراء مجموعة من الكتب قد تعبت في التفتيش عنها في المكتبات أو أني لم أهتد إلى المكتبات التي توجد فيها، فكان هذا المعرض فرصة نادرة وجيدة للعثور على كتب ربما تكون ذات فائدة بالنسبة لي في مجال اختصاصي الجديد عليَّ , كان المعرض يضم مكتبات وشركات مصر والدول العربية وبعض الدول الأخرى , وقد ذهبت للمعرض قبل يومين وحاولت أن استكشف ما فيه من كتب ولم أشتر إلا القليل بانتظار العودة مرة أخرى , وذهبت مبكراً ولازلت أدور في جنبات المعرض ويداي تثقلان بما أشتري من الكتب حتى أصبحت لا أقوى على حمل ما اشتريته من كتب أكثرها في علم اللغة ، تشكل مجموعة قيمة , وبعضها في العقيدة والفكر الإسلامي , وخرجت وبدأت مشكلة المواصلات والحمد لله وصلت الشقة ، ولكن هناك من ذكرني بما سأعانيه من نقل هذه الكتب إلى العراق وهذا أمر لم يحن التفكير فيه .. لاحظت أن وزارة الإعلام العراقية قد فتحت لها جناحاً أيضاً ولكنه بائس ، خلاف المكتبات الأخرى التي تشرق بالكتب الجديدة , جناح الوزارة لا يحوي إلا كتباً بالية , كأنما جمعوها من أرصفة سوق السراي (سوق الكتب في بغداد) .
[align=center]مذكرات آخر الشهر[/align]
مشكلة يعانيها كل من ينزل في هذا البلد مغترباً , ليست هنا مطاعم يمكن أن يستغني الإنسان بها عن عمل الأكل في البيت ، مطاعمهم نوعان: أحدهما لأصحاب الغنى واليسار ، والآخر للفقراء وأصحاب الدخل المحدود ، ولا أتكبر على الفقراء ولكنه من لون واحد : فول ومَكَرُونَه وكشري ، مع فقدان النظافة أحياناً ، ولهذا فالإنسان مضطر إلى عمل الطعام في البيت , وهو لا يستطيع أن يقوم به بنفسه فلا بد من أحد يستعين به ، وهنا تظهر الحاجة إلى ما يسمى في مصر بالشغالة التي تقوم بأعباء البيت من تنظيف وغسيل إلى جانب الطعام .. ولكن متى سنجد الشغالة التي تأمنها على بيتك ومالك وعرضك ؟ لا شك في أن الفقر دافع إلى هذا النوع من العمل , على كل حال نجد أنفسنا مضطرين إلى الشغالة .. ومنذ أن نزلت مع الأخ خليل كانت تعمل عندنا ( أم محمود ) يعرفها الأخ خليل منذ السنة الماضية تَعَرَّفَ عليها بواسطة بعض الأخوة الذين كانوا يدرسون هنا ، ولكنها انقطعت عن العمل منذ 13 من الشهر المنقضي، ومكثنا من غير شغالة مما سبب لنا المزعجات ، وأخيراً وجدنا شغالة ولكنها لن تعمل أكثر من يوم أو يومين ، على ما يبدو ، فهي لا تعرف شيئاً ولا تريد أن تعرف ، وكنيتها ( أم توحه ، أي أم ضحى! ) .
[align=center]دعوة
الجمعة 1 شباط 1974م = 9 محرم 1394هـ[/align]
جرت العادة أن يدعو الصديق صديقه إلى وجبة غداء أو شاي أو نزهة , وقد كان الأخ الحاج توفيق رشيد الذي حضر إلى القاهرة في دورة تدريبية ويسكن الآن مع أخيه الأصغر مجيد الذي يعد رسالة الماجستير عن نظام الضرائب في العراق ، وكان قد دعانا إلى تناول الغداء في إحدى الجمع السابقة ، وفكرنا في رد الدعوة وانتظرنا مجيء شغالة ، ولكن يبدو أن ذلك سيطول ، ولهذا فقد دعوناه وأخاه اليوم ، وقام الأخ خليل بعمل الطعام : شوربة , شجر , ودجاج , أشياء مقبولة بل جيدة ، الحق أننا نكن للحاج توفيق كل ود واحترام ، فهو رجل مثقف ومسلم ويتكلم بأدب وعقل، ويعمل في سلك التعليم ، وهو في بعكس أخيه الأصغر مجيد ، الذي تجد عنده كل ما ينفر ، وهل هناك أشد من بذاءة اللسان ، إن لسان هذا الرجل حاد لا يخرج منه إلا ما يؤذي أو يخدش الحياء , ولا يسمعك إلا الكلام البذيء والقبيح ، في الجد وفي المزاح , وهو متزوج وزوجته الآن معه ، ولكنه لا يكف عن الكلام المفضوح المكشوف ، وإنني لألاحظ أن أخاه توفيق يغضي حياء من بعض حكاياته ، لا نرتاح لمجالسه ، ولكنا دعوناه مجاملة للحاج توفيق أيضاً ، وهو رغم ما يبدي من الميل لنا ولكني إن لم أكن أبغضه فإني لا أوده ، لسوء منطقه وكثرة هزله وعبثه!
[align=center]أثر العمل الإداري على العلم
السبت 2 شباط 1974م = 10 محرم 1394هـ[/align]
خرجتُ من البيت عجلا حتى أتمكن من حضور محاضرة الدكتور كمال محمد بشر في موعدها في الواحدة بعد الظهر ، وصلت الكلية في المنيرة ، وصليت الظهر صلاة خفيفة في مسجد الكلية الصغير ، كل ذلك حتى لا تضيع المحاضرة , وجاءت الواحدة ومرت ، وحضر عدد من الطلاب الذين يدرسون معي في فرع علم اللغة , ووقفنا نتطلع إلى انفراج الباب حتى ندخل نغترف من بحور العلم ، الدكتور بشر هو عميد الكلية ، ولا شك في أن هذا المنصب الإداري يستغرق وقتا طويلاً منه فهو لهذا كثيراً ما يعتذر عن المحاضرة , لا زلنا ننتظر وهمَّ البعض بالانصراف، وأخيراً وبعد الثانية دخلنا إلى مكتب سيادته ، وجلسنا كنا خمسة وجاءنا الدكتور يحاول أن يظهر تودده وتلطفه وراح يقلب ورقة عليها بعض العلامات .. دي سوسير ، بلومفيلد ، وفيرث (لغويون غربيون) . كان وكان، وتلخيص المنهج : وصفي وتأريخي ، وبين الحين والحين يقول : أنا أشرح هذه النقطة على شان الأخ العراقي ، وهو يقصدني , والحق أني لست محتاجاً كثيراً إلى مزيد شرح بعد أن حصلت على أوراق المحاضرات ، فأنا أقرأ ومهما تكن فإني سوف أفهمها ، وهو في شرحه يدور في فلك المحاضرات المكتوبة التي أجهد فكره عندما وضعها وهو يترجم من هنا وهناك من كتب اللغة الانجليزية ما يتعلق بالموضوع ، والموضوع مناهج البحث في اللغة ، وكان قد أعد المحاضرات منذ العام الدراسي 70 - 1971 في معهد البحوث والدراسات العربية ، وهو اليوم يسرد علينا ما بقي في ذهنه منها .
[align=center]محاضرة الدكتور عبد الصبور
الأحد 3 شباط 1974م = 11 محرم 1394هـ[/align]
كان ينتظرنا قبل الرابعة .. المحاضرة تبدأ في الساعة الرابعة , كان الدكتور عبد الصبور شاهين يحاول ألا يدع فرصة دون أن يستغلها ، أي أنه حريص على عدم تضييع محاضرة ، وجلسنا وبنفس عدد الأمس تقريباً , ولكن هذه المرة العيون مفتحة والآذان مرهفة تسمع ما يلقى ، حقاً قد تبين لي أن الدكتور عبد الصبور عالم بحق وهو مع ذلك مثال التواضع ، وإن كان أحياناً يذكر ما قام به من أبحاث ، ولكنه يحق له أن يفخر بها . هو الآن يدرسنا الأصوات الدولية في جدولين من الرموز ، وهو يحاول بكل الوسائل أن يبين لنا طريقة تكوُّن الأصوات حتى إنه يضحكنا في بعض الأحيان , ولعل تعلم الصوتية الدولية وإتقان الكتابة بها لن يستغرق وقتاً طويلاً ، وهو بذلك سيتحول إلى تدريسنا بعض موضوعات كتابه القراءات على ضوء علم اللغة الحديث ، وهو سفر جليل ، وله كتاب آخر سابق لهذا وهو تأريخ القرآن , ويبدو لي الدكتور شاهين مثالاً للرجل المسلم العامل الفاهم ، الحكمة ضالته ، فهو قد أتقن ما عند العرب وعرف ما عند الغرب ، وحاول أن يصل إلى الحقيقة من خلال ذلك ، فهو متقن للفرنسية لا بل قد ترجم عدة كتب منها ، ومنها بعض كتب مالك بن نبي ، وكتاب لهنري فليش ، وهو العربية الفصحى , وإني أفكر منذ زمن إذا أمد الله بالعمر ونجحت أن أسجل معه موضوع الماجستير .
[align=center]درس اللغة الإنگليزية
الاثنين 4 شباط 1974م = 12 محرم 1394هـ[/align]
لا أدري لماذا خصصوا ساعتين في الأسبوع للغة الإنگليزية ، لأول وهلة يشعر المرء أن هذه المادة تحتاج ما تحتاجه المواد الأخرى على الأقل ، فتلك وقتها ساعتان وهذه ساعتان , بل ربما ظن المرء أنها تحتاج إلى أكثر من ذلك ، على أساس أنها لغة أجنبية ، انتظرنا أستاذ المادة د. عبد العظيم درويش أسبوعاً وأسبوعين ، من بداية الدراسة ولم يحضر ، وأخيراً أخذ يحضر فإذا هو رجل في آخر العمر ، ضخم الجسم طويل ، علامات الشيخوخة بادية عليه ، المادة التي ندرسها مجموعة في محاضرات مطبوعة عن تاريخ العرب قبل وبعد الإسلام باللغة الإنكليزية في 45 صفحة ، وأخذنا ندرس في الأسبوع صفحة ، فإذا نحن لم ندرس إلى الآن إلا صفحة أو صفحتين ، يقرأ في الصفحة ويقف عند كل كلمة يعطي معناها، ونحن نسجل معاني الكلمات ، وتنتهي المحاضرة وأكثر الطلاب لا يحضرون ، ويكفي عند الأستاذ أن يحضر الطالب مرة واحدة ويسجل اسمه وبعد ذلك عليه السلام ، يبدو أن الأستاذ قد شعر أن هذه المادة طويلة 45 صفحة وتحتاج منه إلى جهد ، فإذا به يوماً ما يقول أريد أن أحدد المنهج ، تفضل! صاح الطلاب خَفِّفْ عنا يا دكتور المادة ( تِئِيلَة ) .. فإذا به يحدد ويعين صفحات لا تزيد عن (12) صفحة للدراسة وليتنا ننهيها ، و3 صفحات للترجمة سيعطينا ترجمتها ونحفظها بعد ذلك لنؤدي بها الامتحان ، ولو أني انصرفت يوماً واحداً لدراسة هـذا المنهج لكفى ، فوا أسفى على الوقت المُضَاع !
[align=center]محاضرة للشيخ سيد سابق
الأربعاء 6 شباط 1974م = 14 محرم 1394هـ[/align]
لفت نظري وأنا ذاهب إلى مكتبة جامعة القاهرة قبل أيام لافتة مكتوب عليها أن هناك محاضرة عن ( الإسلام سبيل التغيير ) يلقيها الأستاذ سيد سابق , وتوقفت أمامها ورددت قراءتها لأتأكد من الأمر ، فإذا هو كذلك ، والمكان في كلية الهندسة ، ورغبت كثيراً في حضور هذه المحاضرة والاستماع إلى سيد سابق والظفر برؤيته ، فإني قد قرأت له في عدة كتب ، وعرفته من خلالها ، وإن تلك القراءة تشدني إلى معرفته ، وقد رغب الإخوة خليل وصباح بالذهاب أيضاً ، وقد كان الموعد بعد ظهر اليوم في كلية الهندسة , حضرنا المحاضرة التي ألقاها سيد سابق بأسلوبه الذي عرفته من كتبه ويعجبك فيه وقاره وخفة روحه معا . وقد حضر المحاضرة عدد كبير ، وكان من ضمن هذا العدد أيضاً عدد من الطالبات الملتزمات بالزي الإسلامي أتم التزام ، وبعد ذلك خرجنا نمشي من كلية الهندسة وتجاوزنا كوبري الجامعة ، وصلينا العصر في جامع صلاح الدين الأيوبي على رأس الكوبري ( الجسر) من جهة الشرق ، ومن هناك ذهبنا لزيارة بعض المعارف د. صِدِّيق ثم إلى شيخ مجاهد ومن معه . وفي المساء عدنا إلى البيت في الإعلام ، بعد أن ظفرنا برؤية الأستاذ سيد سابق أحد الرواد الذين قادوا الجيل ..
[align=center]زيارة خامسة لمعرض الكتاب
الخميس 7 شباط 1974م = 15 محرم 1394هـ[/align]
كان هذا اليوم آخر يوم يفتح فيه معرض الكتاب في القاهرة أبوابه ، هكذا أُعْلِنَ ، ولكن يبدو أنه سيستمر غدا وبعد غد ، زرته قبل هذا اليوم أربع مرات ، ولكن بقي في نفسي شيء ولا زال في ذهني تعلق ببعض الكتب أود لو اشتريها . فقلت أغتنم الفرصة , فذهبت بعد الظهر بعد أن خرجت من محاضرة اللغة العبرية للدكتور محمد سالم الجرح ، ودخلت في القاعة الكبيرة التي تضم عدداً ضخماً من المكتبات . كان في ذاكرتي شراء قاموس المورد في اللغة العربية والانجليزية ، فقد اشتريت منذ أيام المورد القريب وهو صغير الحجم لا يفي بالحاجة , وهناك مكتبة دار العلم للملاين هي التي تبيع هذا السفر, وجئت فإذا الناس قد انخرطوا في سكة طويلة ، وهو بلغة أهل مصر ( طابور ) كطوابير السكر والشاي والرز التي نشهدها هنا في القاهرة أمام المجمعات الاستهلاكية ، وأخذت دوري تسجل وتدفع وتنتظر حينا حتى تصل النسخ بالسيارة ، بعد ذلك اشتريت بعض الكتيبات الصغيرة , وكنت أريد شراء بعض كتب الأطفال ، اشتريت سابقاً قصص الأنبياء للندوي ، ووجدت اليوم كتابين يشبهان المجلات بالألوان ولكنها لا تحوي لغواً وإنما هي تبسيط لمبادئ الإسلام وتقريب لها من أذهان الأطفال وتحبيبها إلى نفوسهم منذ نعومة الأظفار ، فاشتريت الكتابين على أمل العودة إلى الوطن وأقدمها هدية لمنى ورقية ( بنتي أخي صالح ) إن شاء الله .
[align=center]خطبة الشيخ محمد الغزالي
الجمعة 8 شباط 1974م = 16 محرم 1394هـ[/align]
زرت جامع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في مصر القديمة في القاهرة في الصيف عندما جئت للتقديم , وكان في وقتها قد بدأ التعمير فيه من جديد , وقد رغب الإخوة خليل وصباح أن نصلي الجمعة فيه , وركبنا بتكسي من قرب شقتنا إلى مصر القديمة " مدينة الفسطاط " التي نزلها المسلمون حين فتحوا مصر وأسسوا المدينة وجامعها , ودخلنا الجامع ولا تكاد تجد طريقك إلى مكان الصلاة لثورة التعمير والتجديد فيه والتي قطعت الآن شوطاً , هناك من جهة القبلة مكان صلاة وهو متسع رحب ، وعلى اليسار مصلى منعزل للنساء , وربما جدد هذا القسم أيضاً في المستقبل ، هذا المكان تتجلى فيه البساطة ، أعمدة الرخام المتشققة وجدران غير مزينة ، والأرض مفروشة بالحصران ، وكان عدد الناس الذين حضروا للصلاة كبيراً , إنه منظر يبعث في النفس رعدة حب وأمل , هذا العدد الهائل من المسلمين في هذا المكان فقط كم هناك من مساجد , عدد يقدر بالآلاف ، عدد لم أر مثله من قبل ، ولا شك أنه لعراقة المكان ( جامع عمرو ) فهو مصلى الصحابة في مصر , ثم خطيب الجامع الذي صار اسمه يجذب الناس أنه الشيخ محمد الغزالي الذي ملأت كتبه المكتبات والشوارع , كانت الخطبة قسمين : الأول شمل تفسير أوائل سورة آل عمران وما يتصل بذلك ، والآخر عن الغزو الثقافي للبلاد الإسلامية ووسائله المدعمة من قبل الاستعمار(1).
[align=center]برتقال!
الاثنين 18 شباط 1974م = 26 محرم 1394هـ[/align]
عادت الشغالة أم محمود للعمل بعد أن غابت شهراً كاملاً من 13/1 – 13/2 , ولاشك أنها ستخفف بعض المصاعب ، ويقل الوقت الذي يذهب هدراً وراء الأكل وتحضيره ، ولو أن الأمر عندي سواء حضور أم محمود وعدم حضورها ، ولكنا مجتمعين لا يمكن أن تسير أمورنا سيراً طبيعياً بدون شغالة ، كان قد زارنا الأخ مساعد ابن عم الأخ خليل عدت أنا إلى البيت حوالي الساعة الثانية بعد أن قضيت بعض الأشغال في معاملة الأخ جايد في الأزهر ، عدت متعباً ضجراً لكثرة ما استغرقت القضية مني من جهد ووقت ، وإن شارفت على النهاية إن شاء الله , وعندما عدت نظرت في داخل المطبخ كان يبدو أن كل شيء قد هُيِّئَ ، ووجدت الأخ مساعد في البيت ، وجلسنا ننتظر الأخ خليل وبعد حوالي ثلث ساعة من وصولي جاء الأخ خليل ، وفور مجيئه كان الأكل مهيئاً لأن الأخ مساعد ( مستعجل ) يريد أن يخرج , وبسرعة تم تناول الوجبة ، ولم يكن الأخ صباح موجوداً , وخرج الأخ مساعد , وبعد ذلك بفترة عبس الأخ خليل وضج وصاح بوجهي وكانت الشغالة قريبة أيضاً وقال : ( انتو اثنين ما گِدَرْتُو ٱتجيبون برتقال ) ولم أعلق أنا من جانبي , وأردف يقول : يعني لو آني لو مَحَّدْ يجيب ، لو مِتِتْ) فقلت:لا إن شاء الله ، ليش تموت ، فقال أحسن من هذه الحياة السخيفة !! كلام ليس له داع إلا أن الأخ خليل جعل الأمر مشكلة ، ولكن لأحتمل !
[align=center]انسحاب القوات
الخميس 21 شباط 1974م = 29 محرم 1394هـ[/align]
انتشرت التصريحات والصيحات ، فرح وحزن ، فقد تم انسحاب القوات الإسرائيلية التي تسللت غربي قناة السويس ، وكان قد تم الاتفاق بين مصر وإسرائيل على ما يسمى فصل القوات والذي بموجبه ستنسحب إسرائيل من غربي قناة السويس إلى الشرق بعمق عشرين كيلو متراً تقريباً ، تشغل عشرة منها قوات الطوارئ الدولية والعشرة الأخرى تبقى بيد القوات المصرية على أن تُخَفَّفَ الأسلحة من جانب الطرفين في المنطقة القريبة من الجبهة ، ويوصف انسحاب إسرائيل من غربي القناة بأنه انتصار ، كما وُصِفَت حرب أكتوبر ( كما يسميها المصريون ) بأنها انتصار ، إن إسرائيل عبرت حين أرادت العبور وانسحبت بعد أن حققت بعض ما كانت ترجوه من عبورها كورقة تساوم بها في المحادثات مع مصر فحققت إعادة أسراها ، لا أحد ينكر كون حرب رمضان قد جاءت بجديد لصالح العرب ، ولكن هذا الجديد أصغر مما يوصف ويروج له بل ما هو إلا خطوة نحو تثبيت وتأكيد وجود إسرائيل ، لا إزالة إسرائيل ( شعارات قبل 5 حزيران 1967 ) الآن المهمة تحرير الأرض التي احتلها إسرائيل في 1967 ، ثم لتعش بأمان بعد ذلك في ما اغتصبته من قبل ، وحتى الانسحاب الكامل يبدو أنه لن يتم ، أما في الجبهة السورية فلم يتم الفصل بين القوات لحد الآن ، والأنباء تؤكد أن كيسنجر سيقوم بجولة جديدة في الشرق الأوسط لتحقيق ذلك الفصل الذي ستقدم عليه سوريا باستحياء ، حرب أكتوبر أقنعت اليهود بالاكتفاء بما حققوه وأقنعت العرب باستحالة ما يطلبونه ، وتضيع القدس !
[align=center]مؤتمر رؤساء الدول الإسلامية
الجمعة 22 شباط 1974م = 30 محرم 1394هـ[/align]
ربما اتُّخِذَ الدين شعاراً للدعاية والتجارة والمساومة ، قل لي بربك في أي بلد يَحْكُمُ الإسلام أو يُحَكَّمُ ؟ في أي بلد يستطيع المسلم أن يجهر بكل أبعاد إيمانه؟ في أي بلد قُضِيَ على الرذيلة بأي شكل كانت ، وفي أي بلد حُمِلَ لواء الجهاد خفاقاً باسم الإسلام ؟ ليس من ذلك شيء ، إنما هم أفراد ، نعم هم كثيرون ولكنهم يجاهدون أفراداً ، والقوة والسلطة بيد أناس لبسوا مسوح الدين وقالوا لأولئك الذين يدعون إلى الله ورسوله علام تتعصبون ونحن الذين نحمي الإسلام ونحن الذين نجاهد ، إن أنتم إلا مفترون ! وهكذا يذهب الدعاة ضحية هذه السياسات المجرمة، واليوم عُقِدَ في لاهور في باكستان مؤتمر لرؤساء الدول الإسلامية – ندعو بكل قلوبنا أن يكون الإخلاص رائد هؤلاء المجتمعين – ولكن يبدو أنه لا يعدو عن كونه تظاهرة سياسية تؤدي دورها في خدمة غرض ما ، رئيس جمهورية يريد أن يجعل لنفسه في نفوس شعبه محبة أو احترام ، أو دولة تريد أن تظهر للدول الأخرى أنها معها في الضراء والسراء ، وأن يقال ويقال ، ولكن هل كان هذا كله في خدمة الإسلام ومن أجل تطبيق الإسلام ، هل قالوا تعالوا نطبق شريعة الله ، لا ، قالوا تعاون بين الدول الإسلامية في مجال الاقتصاد وإسناد سياسي – ولكن ما لهذه الدول من الإسلام إلا الاسم , ماذا نقول لو أن أمريكا دعت إلى تعاون باسم الإسلام أو روسيا ! المهم الأعمال وليس الأقوال .
[align=center]شرح المُفَصَّل
الخميس 28 شباط 1974م = 6 صفر 1394هـ[/align]
خرجت من البيت صباحاً عجلا , أريد الذهاب إلى المكتبة المركزية لجامعة القاهرة فقد عزمت على أن أنجز البحثين في أقرب وقت ، وهما : الأصوات عند ابن يعيش ، والأبجدية العربية ، ولا شك أن الأصوات عند ابن يعيش تحتاج مني أن أجلس في المكتبة وأقرأ ما يقرب من جزئين في شرح المفصل لأن هذا الكتاب نادر ولا يمكن أن يستعار ، ووصلت المكتبة وجلست أقرأ في الصفحة الأولى والثانية وأُدَوِّن ما يمكن أن أستفيد منه في هذا البحث الموجز , ولكني شعرت أن هذه القراءة تحتاج إلى ساعات كي أنجز قراءة القسم الذي يتضمن الدراسات الصوتية , فجأة قفزت في ذاكرتي فكرة شراء الكتاب ، فقمت من مكاني ولم أكتب سوى صفحتين وعزمت على شراء الكتاب ، واتجهت إلى العَتَبَة وما حولها أبحث في المكتبات عن هذا الكتاب ، ولم أجده هناك وذُكِرَ لي أني يمكن أن أجده قرب الأزهر , وذهبت إلى هناك وبحثت في المكتبات وعثرت على نسخة في مكتبة قرب الجامع الأزهر وتفحصتها ، إنها هي ولكن بكم الثمن يا عم؟ قال بدون معاملة: بـ ( 25 ) جنيهاً ، ماذا هذا ؟ إن الكتاب ثمين ولكن ثمنه في السوق لن يتجاوز الاثني عشر جنيهاً أو أكثر من ذلك بقليل ، ولكن بعض الناس يَسْتَغِلُّون الفرص فربما كانت هذه النسخة إحدى النسخ القلائل المعدودة المعروضة في السوق الآن ، ثم هم لا يَدَعُون الفرصة للحديث عن أزمة الورق وما جلبته من ارتفاع الأسعار ، واقتنعت بعدم إمكانية شرائه الآن ، وعدت إلى البيت بعد الظهر متعباً على أن أذهب إلى المكتبة مرة أخرى حتى أنجز البحث.(2)
[align=center]مذكرات آخر شهر شباط[/align]
حضرت يوم الأربعاء الماضي مناقشة الطالب أحمد نوري النعيمي (من مدينة كركوك) في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة لرسالته (السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية) للحصول على الماجستير ، وقد حصل على الماجستير بدرجة جيد جداً ، وكان في هذه المناقشة بعض الدروس والعبر , المهم أني التقيت بعبد المجيد رشيد هو الآخر يعد رسالة في الكلية للحصول على الماجستير ، سألني عن علمي بالتعيينات التي تجري في العراق ، وحثني على السفر للتعيين هناك ثم المجيء للامتحان ، عارضت الفكرة بقوة في ساعتها وقلت إن مثل هذه الدراسة المعلقة تصبح لعباً ، ومضى كل لسبيله ، ولكن فكرة الوظيفة وما سأجنيه منها من دنانير ، أخذت هذه الفكرة تجري في عروقي وفي دمي ، وكنت ليل الأربعاء أفكر في الموضوع هل بالإمكان أن أسافر فعلا وأحصل على وظيفة ، وبعد ذلك أجيء للامتحان ، مرة تُزَيَّنُ لي الفكرة وأخرى أخشى مخاطرها ، ومما يزيدني رغبة أن المناهج قد اتضحت والمحاضرات قد أخذتها ، ولم يبق إلا أن أذاكر المادة ثم أمتحن ، وسواء تم ذلك في العراق أم هنا . وبلغت قوة هذه الفكرة ذروتها ظهر الخميس ، ولكن مرة أخرى أخذت تتحدر إلي الشكوك في جدواها ، وقصة ( قد طاح قَعْبُ اللَّبَنِ) ترن في أذني ، أتحرم نفسك من هذه الفرصة وتطمع في الدنيا والوظيفة ؟ أتُخَيِّبُ أمل أهلك فيك حين بعثوك وافتدوا رحلتك بالنفيس والرخيص ؟! وأخيراً اسبعدت هذه الفكرة عن خاطري نهائياً ، وتوكلت على الله ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
[align=center]محاولة تحريك القضية
الجمعة 1 آذار 1974م = 7 صفر 1394هـ[/align]
بعد أن قامت معركة التحريك , وتحركت القضية , لا ينبغي لها أن تقف وأن تعود إلى ما كانت عليه قبل 6/10/1973 المهم أن تبقى القضية متحركة ذات طابع حركي سلبي أم ايجابي ، تم فصل قوات مصر وإسرائيل على قناة السويس , القوات الإسرائيلية غرب المضائق في سيناء لا تبعد أكثر من ثلاثين كيلو متراً من القناة ، وخَفَّضَتْ مصر قواتها المتمركزة شرق القناة وربما غربها , تم ذلك وكان للولايات المتحدة ممثلة بشخص وزير خارجيتها اليهودي كيسنجر دور فعال , واليوم المشكلة تكاد تتركز على جبهة الجولان , وهو ما لا يرضاه الرئيس السادات للقضية وما لا ترضاه أمريكا ، فحضر هذه الأيام كيسنجر إلى الشرق الأوسط كما يسميه الأوربيون دون ذكر فلسطين , حضر ليساهم في تحريك القضية كما ساهم في تحريكها على جبهة السويس ، حضر وتنقل بين دمشق وإسرائيل والقاهرة وهو بكل زياراته يحاول أن يُعَمِّقَ الوجود الأمريكي والمصالح الأمريكية في الأقطار العربية , وخاصة مصر التي قلبت ظهر المِجَنِّ لكل مبادئ سياستها القديمة وظهرت سياسة ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي , وما هو إلا محق للخطوات الاشتراكية التي أغرق بها جمال عبد الناصر مصر ، والاتجاه نحو الرأسمالية , سوريا خُذِلَتْ عندما تم فصل القوات على قناة السويس، وهى إن حاربت اليوم إنما تحارب وحدها .
[align=center]انشراح وارتياح
السبت 2 آذار 1974م = 8 صفر 1395هـ[/align]
قبل أن أحسم الموقف بانتسابي إلى قسم علم اللغة كنت في أشد حالات القلق لأني تصورت أن قسم علم اللغة من الصعوبة بمكان ، وأن المضي في هذا السبيل من الدراسة صعب ، وأنه علي أن أتحمل نتائج المغامرة ، وأنه يحتاج إلى لغة انكليزية ، والآن قد بان لي الأمر بالعكس ، نعم هو على المدى الطويل أكثر مشاكل من النحو ، ولا يزال الميدان يتسع للبحوث والدراسات التي تستنفد أعمار الرجال، ولكن دراستنا التي ندرسها الآن في السنة التمهيدية لا أظن أنها أصعب من الدراسة في قسم النحو بل ربما كانت دراسة النحو ، وخاصة أن الدكتور أمين السيد يدرسهم 4 ساعات ، أصعب من الدراسة هنا في قسم علم اللغة , وكنت أخشى مما يمكن أن يفاجئنا به الدكتور كمال محمد بشر من مادة ضخمة ، فإذا به يرمى إلينا محاضرات مطبوعة ( 70 صفحة ) منذ سنة 1970 في معهد الدراسات العربية ، وقام هو إلى الآن خلال المحاضرات بالتعليق على ما موجود في المحاضرات ولا يزيد ، وكأن الأمر قد انتهى , وربما أخذنا عنده صفحات محدودة في الانجليزية ، ومادة اللغة الانجليزية المشتركة بين كل الفروع ليس فيها ما يُعَلِّمُ أو يُقْلِقُ ، ودرس اللغة العبرية الذي يلقيه علينا الدكتور محمد سالم الجرح أقرب إلى السهولة ، ويبقى درس الدكتور عبد الصبور شاهين الذي سنستفيد منه إن شاء الله .
[align=center]البحث عن بعثة
الاثنين 10 آذار 1974م = 10 صفر 1394هـ[/align]
كنت قد مررت يوم الخميس الماضي بالملحقية الثقافية العراقية في القاهرة لأستطلع الأخبار الجديدة بعد أن سمعت أن هناك بعثات جديدة ، وأنه ربما تكون هناك منح ومساعدات للطلاب الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة , وجدت هناك إعلانا للبعثات لعام 1974-1975 فعلاً ، ولكن التقديم قد انتهى من يوم 26/2 والإعلان لم يصل إلا بعد 26/2/1974 , كان ضمن البعثات عدد من الدرجات للتخصص باللغة العبرية , للحصول على الماجستير والدكتوراه ، والمؤهلات المطلوبة : خريج الآداب فرع اللغة العربية أو العبرية أو لغات سامية , فكرت في الأمر وحَدَّثْتُ نفسي بمحاولة الاستفادة من الفرصة والتقديم فربما كان ذاك من نصيبي , وكانت في يوم الخميس لدينا محاضرة في اللغة العبرية للدكتور الجرح فعرضت عليه الأمر , على أن يعطيني تأييداً بإمكانية دراستي اللغة العبرية في دار العلوم بعد أن أختم السنة التمهيدية . وقد أبدى تفهماً كبيراً للموضوع ولكنه لا يمكن أن يعطيني هو ذلك التأييد إلى خارج مصر , وإنما كتب رسالة إلى عميد الكلية يُعْلِمُهُ فيها بطلبي ومحاولة تزويدي بمثل ذلك التأييد , وذهبت اليوم إلى عميد الكلية أستاذنا الدكتور كمال بشر , فرَحَّبَ هو الآخر وأعلم السيد عبد المجيد مسجل الكلية بعمل الكتاب ، وقد أخذته اليوم بعد الواحدة ظهراً ، ولم أستطع الذهاب إلى السفارة واكتفيت بتصديقه من الوافدين ، وذهبت اليوم إلى الملحقية الثقافية وأكملت تصديق الكتاب ، وقدمت طلباً أشرح فيه الأمر معنوناً إلى مدير البعثات بواسطة الملحق الثقافي ، أطلب فيه إتاحة الفرصة لي وقبولي في البعثة التي تخص اللغة العبرية . وقد قامت الملحقية بدورها بتحويل الطلب وكتاب التأييد إلى مديرية الملحقيات الثقافية في بغداد للنظر في الطلب والبت في الأمر.
الحق أنني كنت متردداً في الأقدام على هذه الخطوة أول الأمر , وليس الصعوبة المتوقعة للدراسة هي العامل الوحيد الذي يدفعني إلى التردد وإنما حرصي على التخصص في مجال اللغة العربية ثم إن العبرية لغة أعداء الإسلام من أول يومه ، ولكن هذا من جانب آخر يحفزني على دراستها . وهناك أمر هام يحدد وجهة نظري وهو الناحية المادية في الموضوع , إذ إن الحصول على البعثة معناه ، إن شاء الله , تحقق الحصول على ما أنفق منه للمعيشة ثم أجور السفر وربما الطبع والأمور الأخرى ، ثم المستقبل أيضا قد يكون أكثر ضماناً ، وقلت أُقَدِّمُ واترك الأمور ، وأنظر ماذا سيقدر الله لي منه .
[align=center]معرض القاهرة الدولي
الثلاثاء 12 آذار 1974م = 18 صفر 1394هـ[/align]
كنا نهيئ أنفسنا له من زمان مضى ، ونأمل أن نجد فيه بغيتنا وأن نشتري ما ينقصها من مواد غذائية وخاصة السمن والرز , إنه معرض القاهرة الدولي , فتح أبوابه قبل ثلاثة أيام ، ولكن لم يسمح للجمهور بالدخول إلا هذا اليوم ، وذهبت أنا والأخ صباح هذا اليوم ودخلنا مع أول الداخلين قبل أن يشتد الزحام ، وكانت أنظارنا موجهة إلى فرع العراق على أساس أننا سنجد بعض المواد الغذائية , ودرنا في المعرض هنا وهناك ووصلنا إلى فرع العراق , عرضوا فيه ما يمكن أن ينقل من منتجات الزيوت ومعمل الأدوية والزجاج والنسيج والصوف والجلود والكهربائيات ومثل هذه النواعم ، ولم نجد شيئاً مما كنا نود العثور عليه ، وسرنا بعد ذلك لنرى بقية الفروع فاستوقفنا طابور طويل , واستغربنا لأن الطوابير عادة نراها أمام المجمعات الاستهلاكية , وإذا بالناس يشترون الصابون والزيت من أحد فروع مصر في المعرض ، كان المعرض يضم أجنحة عدة دول وشركات ولكن كان لبعضها عرض رائع وخاصة الآلات ، مثل جناح ألمانيا الغربية فقد عُرِضَ من آلات النسيج شيء يثير الإعجاب ، إضافة إلى آلات زراعية حديثة وساحبات صغيرة ، وفي جناح الصين يروعك الخزف الصيني , وفي جناح دولة الإمارات العربية يروعك رجل واقف وعليه العقال والكوفية وأمامه امرأة ( منقبة) فإذا هما منسيان!
[align=center]بيان 11 آذار
الأربعاء 13 آذار 1974م = 19 صفر 1394هـ[/align]
لا زلت أذكر يوم الحادي عشر من شهر آذار سنة 1970 كنت يومها أدرس في الموصل في كلية الآداب في الصف الثالث , عندما حل المساء أُعْلِنَ أن رئيس الجمهورية سيذيع بياناً هاماً , كنت أسكن في القسم الداخلي في الفيصلية أنا والأخ صالح سليم الحمد في غرفة صغيرة في الدور الأخير من بناية القسم ، وأعلن رئيس الجمهورية البيان الذي سُمِّيَ يومها بيان 11 آذار الذي تم بموجبه إنهاء القتال في شمال العراق بين الأكراد والجيش العراقي , على أن تُنَفَّذَ بنود بيان 11 آذار تباعاً , واحتفل الناس وصخبوا وماجوا ورقص الطلبة الأكراد في القسم مع بعض الطلبة العرب من العراقيين ، ووزعوا الشكولاتة والمرطبات ، وبدأ الناس يذهبون إلى الشمال للتفسح ، وأعلنت الحكومة أنها ستعيد إعمار الشمال وكانت هناك مديرية أو وزارة خاصة بإعمار الشمال , واستبشر الناس لهذا الاتفاق وأمَّلُوا أن تكون الخاتمة خيراً , ومضت سنة وسنتان والهدوء يُخَيِّمُ على الشمال والإعمار يجري ، وعندما أُعْلِنَ الميثاق الوطني وبعدها إعلان الجبهة الوطنية التي ضمت الحزب الشيوعي وحزب البعث رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني الانضمام إلى الجبهة ، على أن الحوار استمر بين الأطراف ، وفي الصيف الماضي شنت صحيفة الثورة لسان حزب البعث حملة تقابلها صحيفة التآخي لسان الحزب الديمقراطي الكردستاني من الاتهامات ، كُلٌّ على الطرف الآخر ، وطُبِعَتْ مقالات الثورة في كتاب تحت عنوان: لكي يسود السلام وتتعزز الوحدة الوطنية , وما كان ذلك إلا هدماً للوحدة ، وكان آخر بنود بيان آذار أو أهم بنوده هو إعطاء الحكم الذاتي للأكراد , وكان آخر موعد لذلك هو 11 آذار الذي مر قبل أيام قليلة , وكانت الحكومة قد طرحت مشروع الحكم الذاتي منذ عدة أشهر للوصول إلى الصيغة المرضية ولكن الحزب الكردستاني كان دائماً له رأي متطرف , وشعر أن الحكومة تحاول أن تشق صفوف الحركة الكردية ، وقد استطاعت أن تضم الشيوعيين إلى جانب الحكومة . وفعلا أعلن الرئيس أحمد حسن البكر في يوم الحادي عشر من آذار 1974 كما أُعْلَنَ من قبل , أَعْلَنَ مشروع الحكم الذاتي ، وكان هذا الإعلان بداية شؤم , فقد رفضه الأكراد فوراً لأنه لا يحقق مطالبهم والتي منها ضم مدينتي كركوك وخانقين إلى إقليم كردستان, وأغلق الأكراد جريدتهم التآخي التي تصدر في بغداد ، وهددوا بسحب وزرائهم الأربعة من الحكومة ، ومن جانب آخر تناقلت الأنباء أخبار تجدد القتال في شمال العراق بين الأكراد والجيش ، ولا يُدْرَى ما ستصير إليه الأمور .
[align=center]الجمعة في مسجد الجمعية الخيرية
الجمعة 15 آذار 1974م = 21 صفر 1394هـ[/align]
حقا إن الجمعة بالنسبة للمسلم عيد , من الصباح ونحن نحسب لصلاة الجمعة حسابها , ونعد أنفسنا ونتساءل عن المكان الذي سنصلي فيه , وقبل أن يحين وقت الصلاة نخرج من الشقة إلى أحد المساجد القريبة ، صلينا أكثر من جمعة في جامع الزمالك ، وكذلك في مسجد أولاد علام ، قبل جمعتين صلينا في جامع الجمعية الخيرية في ميدان الجيزة ركبنا ( بالاوتوبيس ) رقم 800 ونزلنا في ميدان الجيزة حيث يوجد جامع متواضع ودخلنا فلم نسمع قارئ القرآن ، رغم أن وقت الصلاة قد قرب ، وبعد أن صلينا سنة تحية المسجد مر علينا شاب ودفع إلى كل واحد جزءاً من المصحف، فإذا هم يسيرون على هدي المروي من السنة أن المصلين كانوا يقرءون القرآن فرادى حتى حين وقت الصلاة , وصار العمل على أن يكون لصلاة الجمعة أذانان , الأذان الأول عند دخول الوقت ، ثم يصلي الناس سنة الجمعة قبل الصلاة ، وهي موضع خلاف بين الفقهاء ، ثم يكون الأذان الثاني بعد صعود الخطيب على المنبر , أما هذا الجامع فقد كان هناك أذان واحد بعد أن صعد الخطيب المنبر ، وخطب خطبة الجمعة دون أن يصلي أحد قبل الجمعة شيئاً ، أما اليوم فقد صلينا الجمعة في جامع المدينة المنورة جامع بسيط يقع خلف نادي الصيد لكن خطيبه الشاب الحاج إبراهيم يبعث في القلوب الخشوع.
[align=center]تسلم مبلغ
السبت 23 آذار 1974م = 29 صفر 1394هـ[/align]
ذهبت اليوم في الصباح إلى البنك الأهلي , ووقفت بالطابور وجاء دوري , وقدمت الكتاب الذي استلمته أمس بالبريد وقد تبين أن شيك التحويل قد وصل ، وظهرت لي فكرة وهي أن أبقي بعض المبلغ في البنك كوديعة ، لأنه أكثر مما احتاج إليه الآن , فخرجت من الطابور , ورحت أدور بين الموظفين في الطابق الأرضي والطابق الثاني ، واجتازت الساعة الثانية عشرة وضجرت , وحتى لو تم لي ما أريد فإني سأظل قلقاً لهذا التعليق , الذي يبدو أنه لن يفيدني كثيراً إذ إن المبلغ المحول قد صار بالجنيهات المصرية ( 411 ) ، أي أن ( 200 ) دينار عراقي قد تضاعفت ، وأخيراً رجعت عن فكرة الإيداع بعد أن تعقدت ومزقت الأوراق التي بدأت أكملها لفتح حساب , ووقفت مرة أخرى في الطابور لأطلب سحب المبلغ , ووصلت بعد الزحام ، ثم مرة أخرى زحام أمام شباك الخزينة ، وحين استلمت المبلغ أمسكت بالمحفظة التي بيدي وخرجت مسرعاً ، وأول ما عملت أخذت ( تكسي ) إلى البيت ، لأن وجودي في وسط الزحام يعرض الفلوس لخطر , وحمدت الله , إذ إني شعرت براحة ، وكأن قلق الأسبوع الماضي كان بعضه من تأخر وصول الفلوس ، إن المبلغ يكفيني على الأقل ثمانية شهـور ، إذا جعل الله في العمر فسحة إلى ذلك الوقت .
نشرت يوم الجمعة 21 صفر 1431هـ .
ـــــ الحواشي ــــــــــ :
(1) تذكرت وأنا أراجع هذه اليوميات كتاب (خطب الشيخ محمد الغزالي) ، فنظرت فيه فوجدت خطبة هذه الجمعة في الجزء الثاني ص(56 – 70) .
(2) اقتنيت نسخة من شرح المفصل لابن يعيش في 8/10/1977 ، بعد عودتي إلى العراق وحصولي على الماجستير ، وهي نسخة مصورة عن طبعة المنيرية ، والحمد لله.
الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)
( الحلقة الرابعة )[/align]
[align=center]كيسنجر يعود إلى المنطقة
الأحد 13 كانون الثاني 1974م = 20 ذو الحجة 1393هـ[/align]
منذ أن قامت الحرب في 10 رمضان ، ويسمونها في مصر (حرب 6 أكتوبر) ، منذ ذلك الحين والعمل السياسي يعصف في الشرق الأوسط والوفود والزيارات والمحادثات تجري سراً وعلناً , وكان من بين شروط وقف القتال أن يتم تطبيق قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967 بمحادثات تجري بين الأطراف , وبدأت المحادثات وتم تبادل الأسرى على ضوء اتفاق النقاط الست الذي كان لكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الدور الفعال في إبرامه ، ثم بدأت محادثات الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس ، ولم تُجْدِ نفعاً ، وبعدها في 20/12/1973 بدأت محادثات جنيف وصاحَبَها ما صاحَبَها ، ولكنها أيضا وصلت إلى طريق مسدود في أول خطوة ، وهي محاولة الفصل بين القوات على جبهة سيناء بالأخص ، وهو الفصل الذي كان أحد البنود الستة , وحتى تمضي المسرحية إلى آخرها فإن كيسنجر يحاول أن يتدخل كل مرة لتحريك الشخوص على الخشبة بحيث تنسجم مع الخاتمة المنشودة ، فجاء منذ أيام إلى مصر وذهب إلى إسرائيل ، وصار يعود إلى مصر ويذهب إلى ما لا نهاية ، يحمل المشاريع والخرائط ويحاول أن يُقَرِّبَ وجهات النظر ليمضي بخطوات السلام قُدُماً على حد تعبيرات السوق الآن ، والصحف هنا في مصر تضع علامات استفهام على النتائج التي يمكن أن تسفر عنها هذه الحركة الضعيفة من المحادثات والتشكيك في ما يمكن أن تقدمه هذه المحادثات ، ولكن لم نعد نسمع صوت العراق منذ أن غادرتُ العراق ، وهو لا شك في أن حكومته الثورية لها رأي ، ولكن خارج محيط الدائرة التي تجري داخلها الأحداث الآن .
[align=center]سقوط المطر في القاهرة
الاثنين 14 كانون الثاني 1974م = 21 ذو الحجة 1393هـ[/align]
كنت أُمَنِّي نفسي أن أرى منظر المطر ينزل هنا في القاهرة , كنت في العراق في بيجي أطيل النظر في مثل تلك الأحوال التي تبعث في النفس هدوءاً وشعوراً لطيفاً وسعادة ، وكان قد سقط مطر قبل ثلاثة أسابيع ولكنه لا يَبُلُّ الماشين في العراء ، ويتكرر أن تغيم السماء ولكن لم يسقط المطر إلا يوم أمس ، فقد جلبت الريح الغربية أمطاراً لا بأس بكميتها وسقطت أمس واليوم أمطار هنا في القاهرة وعلى الوجه البحري في مصر كما ذُكِرَ في الصحف , وفرحت بذلك ! كنت في الشقة أنظر إلى تدافع الغيم في السماء ونزول القطرات متتابعة لتستقر على الأرض مؤتلفة , وشعرت لأول مرة أني في مدينة كبغداد , ولقد تذكرت الشتاء الذي قضيته في بغداد أو بعض الشتاء أيام الجندية ، وكيف كنا نعاني والفقراء من السير في الشوارع الموحلة ، والأمر هناك أهون مما نجد هنا اليوم ، فإن مجاري المياه الخاصة بتصريف مياه الأمطار معدومة في شوارع القاهرة ، ولهذا فقد غَدَّرَ الماء على الأرصفة بل غمر الشوارع أحياناً ، والأرض التي لا يغطيها الماء تغطيها مادة سوداء لزجة ، فالتراب عندما يبتل يكون طيناً ، وهو مع كل ما فيه من إزعاج فهو لطيف ، ولكن هذا الطين الذي يغطي الشوارع والأرصفة أسود كأنه مادة الفلانكوت(مادة قيرية لطلاء أسطح المباني) بسبب ما تراكم من عوادم السيارات على الأرض ، ويشقى الناس من السير في الشوارع وتشقى السيارات أيضاً به ، فإن جنباتها قد استحالت إلى لون أسود ، ولكن يقال إن هذا لا يتكرر إلا مرة أو مرتين في الشتاء .
[align=center]انقطاع الشغالة
الثلاثاء 15 كانون الثاني 1974م = 22 ذو الحجة 1393هـ[/align]
فجأة انقطعت الشغالة أم محمود عن المجيء ، ومنذ يوم الأحد ونحن نحاول أن نقوم بأمور البيت ، ولكن يبدو أنها لا تريد أن تستقيم إلا بشغالة , إن أم محمود قد تعلمت ما يحتاج إليه البيت العراقي أو ما يحتاج إليه العراقي من طعام ، وهناك عدة احتمالات لانقطاعها منها أن زوجها قد عاد من ليبيا وهي تريد أن تستقبله ، وهي أم لخمسة يسكنون في منطقة السيدة زينب , وكان زوجها قد ذهب إلى ليبيا للعمل , المهم أنها مأمونة الجانب ، والاحتمال الآخر أنها "غاضبة" لأن الأخ خليل تكلم عليها قبل يوم لكثرة ما ترتكبه من خربطة(أي أخطاء) , فقد ذهبت إلى السوق لتشتري الخضر وكانت قد أخذت جنيهاً , وعادت بالخضر وبقية الجنيه وحاولت أن أستفسر عن أسعار ما جلبت من مواد فإذا هي لا تدري بكم اشترت ! ذهبتْ إلى البقال وقالتْ له أريد كذا و أريد كذا وسلمته الجنيه وعادت بالباقي , والأخ خليل كان قد حذرها من قبل بألا تأخذ الأمور وكأنها لا تعنيها ، وهي ليست مسألة القروش القليلة التي يمكن أن تذهب وإنما مسألة عدم الاكتراث بالأمر , وكان الأخ خليل قد وجه لها كلمات قاسية ، وهي لم تفهم إلا القليل منها , ولكن يبدو أنها تأثرت من ذلك , ونحن الآن نفكر في الأمر ، ونعمل الأكل بأيدينا وننظف ونشتري ، وكل حاجة .
[align=center]منخفض جوي
الأربعاء 16 كانون الثاني 1974م = 23 ذو الحجة 1393هـ[/align]
عرفتُ أن الأمطار في مصر قليلة ، خاصة في القاهرة ، بل إنها نادرة ، وعلى هذا فالناس لم يأخذوا لحالات سقوط المطر ما يجب فعله ، منذ يومين ورشقات من المطر وزخات هادئة أحياناً تحاول أن تمسح مسحة الحزن عن وجه القاهرة , ولكن هذا الحزن نزل إلى الشوارع على شكل ماء أسود ثقيل يشبه النفط الأسود وأثقل ، وتحولت الشوارع إلى غدران من هذه المادة الكريهة ، ولم يعد الماشي في الشارع يستطيع أن ينجو من هذا القذر الذي فاق ما رأيته في بغداد في مثل هذه الحالات ، وأنأ أمس واليوم ماكث في البيت وأتطلع إلى الخارج من شرفة الشقة ومن صفحات الجريدة .. فقد ذُكِرَ في الصحف أن منخفضاً جوياً يرتكز على شرق البحر المتوسط وقبرص وأن مصر ستتأثر به , وفعلاً فقد توالى سقوط المطر منذ يومين ، وفي الصحف أنباء الأمطار الغزيرة التي سقطت في الإسكندرية والساحل الشمالي من مصر ، ويقال إننا من المحتمل ألا نرى بعد هذه الأيام سقوط أمطار على القاهرة إلا نادراً . الجو مع ذلك ليس بارداً برودة شديدة ، نعم قد مال نحو البرودة إلا أنه برد محتمل ... الملاحظ أن الناس هنا يخشون المطر , فهم الآن مثل الديكة المبللة , وقد ذكرت الصحف عن حوادث تسببت في قتل عدة أشخاص منها انهيارات وتصادم بين السيارات في الشوارع ، لأن المياه تحولت تحت عجلات السيارات إلى شيء كأنه الزيت يفقد فيه السائق السيطرة على قيادة السيارة أحياناً , كيف كان حال العراق في هذا المنخفض الجوي؟!
[align=center]اتفاقية فصل القوات
الجمعة 18 كانون الثاني 1974م = 25 ذو الحجة 1393هـ[/align]
لا زال كيسنجر منذ أن جاء إلى الشرق الأوسط في أوائل الأسبوع يروح ويغدو بين أسوان حيث يستشفي الرئيس محمد أنور السادات وبين تل أبيب , يمثل دور الوسيط لحل أو لوضع أولى الخطوات في طريق حل ما يسمونه أزمة الشرق الأوسط ، وهذه الخطوات تتمثل بالفصل بين القوات المتحاربة على قناة السويس , وقد تمخضت تلك المحادثات المكثفة المطولة بواسطة كيسنجر تمخضت عن توقيع اتفاقية الفصل بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية ، وتم التوقيع ظهر اليوم عند الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس ، وكان اللواء عبد الغني الجمصي رئيس أركان الجيش المصري ممثلاً عن مصر ، والجنرال دافيد اليعازر رئيس أركان جيش اليهود عن إسرائيل , وقد اختلف الناس هنا وهناك ، من العرب من يرى أن الاتفاقية ليس فيها تنازلات وإنها بداية نحو استرجاع الحقوق ! ومنهم من يرى أنها اعترفت بشرعية إسرائيل , وفي إسرائيل أيضاً هناك أحزاب المعارضة وكتلة تعلن احتجاجها وتحاول إقامة التظاهرات ، واللواء شارون يعتزل الخدمة في الجيش لأنه هو الذي قاد القوات الإسرائيلية عبر القناة غرباً ، والاتفاقية تقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية شرق القناة في عمق سيناء على بعد أربعين كيلو متراً أو أقل ، وستشغل قوات الطوارئ عشرة كيلو مترات بين الطرفين ويبقى الشريط الممتد شرق القناة من الشمال إلى الجنوب بيد المصريين ، ولكن يقال إن الاتفاقية تنص على تخفيض القوات ، والحق أن الاتفاقية تستقبل بحذر ولا يُدْرَى ما سيكشفه المستقبل ، وأُعْلِنَ أن أنور السادات سيطوف في بعض العواصم العربية .
[align=center]أخبار سارة
الأحد 20 كانون الثاني 1974م = 27 ذو الحجة 1393هـ[/align]
وصلتني اليوم رسالة من الأهل من الأخ سالم ، وهي تحمل إخباراً سارة خفق القلب لها ، ويكفي أنها من الأهل من هناك حيث يهفو القلب دائماً , الوالد والوالدة قد عادا من الحج – أمد الله بعمرهما مع صالح الأعمال – وخبر آخر وهو أن الأخ سالم قد رزق بولد قبل أيام ، وهو يريد أن يأخذ رأيي بالاسم ، وأنه سماه مبدئياً ( منظور) وإنني أعيش منذ أكثر من شهر مع ابن منظور صاحب لسان العرب ، فأضحى هذا الاسم عندي مألوفاً مع ما فيه من إخفاء النون , أيضاً وصلتني أمس رسالة من الأخ سفر وكان كل ما في الرسالتين جميل الوقع لا زلت استعيد قراءتهما وأتذكر حال الأهل ... وقد ورد في إحدى الرسالتين أن مطر العراق هذه السنة غزير جدا وأن الناس يتطلعون إلى سنة خصب وخير , وورد أن البرد في العراق يشتد ويشتد وأن الموجة التي اجتاحت الشرق الأوسط في الأسبوع الماضي قد كان للعراق منها نصيب كبير , هنا في القاهرة قد برد الجو في المساء برداً شديداً ( بقياس أهل مصر ) وذُكِرَ في الصحف أن البرد سيستمر عدة أيام بعد حدوث منخفض جوي آخر في شرق البحر الأبيض المتوسط , والحق أن البرد هنا لا يقاس على البرد في العراق , البرد هنا محتمل تلوذ بركن يحميك ، أو تلتف بفراش فيحميك ، درجة الحرارة الصغرى فوق الصفر دائماً ، بل هي لا تقل عن سبعة وثمانية ، والعظمى تقرب من العشرين إلا في الأيام القليلة الماضية فقد انخفضت قليلاً ، الآن الجو بارد ولكن الأمطار انقطعت والشوارع جفت.
[align=center]من آثار انقطاع الشغالة
الاثنين 21 كانون الثاني 1974م = 29 ذو الحجة 1393هـ[/align]
من الأسبوع الماضي ونحن لا نزال بدون شغالة , وقد بدأ ذلك يلقي ظلاله على جو البيت ، والأوساخ تتراكم هنا وهناك ، ووجبات الطعام أضحت قلقة , في الصباح كنت منزوياً أقرأ شيئاً وأفكر بالفطور ، وعمل الفطور لا يكلف أكثر من وضع الكتلي (البراد) على النار , كان الأخ خليل يسبقني في أكثر الأحيان إلى عمل الفطور ، فأقوم أنا بتنظيف الأواني , اليوم صباحاً كان هو يضع الكتلي على النار ودخلت المطبخ وإذا به ينفجر بالكلام على غير توقع مني ، لماذا لا تعمل لنا الفطور ، وإذا به جاد بكلامه ويمضي يقول: " لِگِيت لك واحد إيسويلك فطور " فَبُهِتُّ وأُسقط في يدي ، وكنت أحاول أن أخفف من هذه الضجة الفارغة لأنها لا ترتكز على شيء لأن عمل الفطور لا يكلفني شيء لا بل إن غسل (الكتلي) وأكواب الشاي أكثر صعوبة من عمل الفطور ، ولم آكل من الفطور إلا القليل و ارتميت جانباً وبدأت الأفكار تتداعى من قديم وجديد ، وكنت قد اعتدت أن انصرف للقراءة بعد الفطور ولكني لم أجد الهمة في نفسي ، وظللت حتى حملت نفسي على الخروج من البيت ، وذهبت إلى الجامعة ومنها إلى الكلية ، وقضيت بعض الأشغال ، وتناولت الغداء في مطعم ، وحضرت محاضرة اللغة الانكليزية وعدت إلى البيت مع الغروب بعد الساعة الخامسة ، ولكن بدأ يَقِرُّ في نفسي شيء, وعليه فقلت آكل شيئاً كوجبة العشاء وأكلت وعدت إلى البيت ، وحين أحضر الأخ خليل الطعام ودعاني قلت أنا لا آكل من طعام لا تصنعه يدي !! المهم أني حريص على عدم تعكير الجو ، ولكن كان ذلك رغماً عني.
[align=center]تفاهم
الثلاثاء 22 كانون الثاني 1974م = 29 ذو الحجة 1393هـ[/align]
بعد أزمة الأمس , جرى حوار حول الأمر ، وبدأ كل جانب يبدي تنازلاته ولو أن الأمر من مبدئه لا يمكن أن يكون محور مشكلة , وعادت بعد ذلك الأمور إلى مجراها الطبيعي تقريباً , لأن الشغالة اعتذرت عن المجيء بعد تحقق مجيء زوجها , وهذا مما سبب بعض المتاعب التي قد تخلف بعض الرواسب في النفوس تظهر أحياناً وتعكر الصفو كما ظهرت بالأمس , وجرى الاتفاق ضمناً على أن أقوم بتنظيف المواعين والأخ خليل يقوم بالطبخ لأنه يعرفه أكثر مني , ونتيجة لانقطاع الشغالة فإنني أقوم بغسل ملابسي بيدي حتى يجعل الله للأمر مخرجا , وقد وصينا الأخ مجاهد على شغالة عن طريق شغالتهم , ونحن بانتظار الأمر .
[align=center]مناقشة رسالة
الثلاثاء 29 كانون الثاني 1974م = 6 محرم 1394هـ[/align]
لاحظت لافتة معلقة مُعْلَناً فيها أن هناك مناقشة رسالة ستجري يوم 28/1/1974 أي يوم أمس مقدمة من السيد رفعت الفرنواني المعيد في كلية دار العلوم ، وهي في خصائص لغة الجبرتي التركيبية لينال بها درجة الماجستير في اللغة , كانت لجنة المناقشة تتكون من الدكتور كمال بشر مشرفاً على الرسالة ( وهو عميد الكلية الآن ) والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور خليل عساكر الأستاذ المصري المعروف ، وهو منتدب في جامعة الخرطوم ، وبدأ المناقشة الدكتور عساكر فَعَرَّى ذلك البنيان الذي شاده الفرنواني وطعن في الأسس التي استقى منها الفرنواني مادته عن لغة الجبرتي وخصائصها .. وبعد ذلك جاء دور الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ في قسم علم اللغة في دار العلوم ، وقد ركز على بعض المسائل الخاصة واللفتات الصغيرة من جوانب الرسالة بعد أن أعلن أن مناقشة الدكتور خليل عساكر قد أحرقت كل ملاحظاته .. ولكن هذا الرجل دائما يحاول أن يخدم الفكرة التي سيطرت في ذهنه وملكت عليه حواسه فهو لا يزال يعلنها كل حال ، وقد ناقش الطالب مناقشة حادة ونقده نقداً مراً حين عبر الطالب بأسلوب يمكن أن يفسر على أنه حط من أقدار العلماء المسلمين أو الإسلام وأنه يقابل الحضارة الغربية ، أي أن الإسلام يمثل الوجه الثاني الذي يقف ضد الحضارة وهو التخلف .. المهم أن الفرنواني حصل على الماجستير بدرجة ممتاز وما قَدَّمَتِ المناقشة في النتيجة ولا أخرت ، وأخذ الدرجة العليا ، ومر كل شيء بسلام .
[align=center]صباح رشيد شلال
الأربعاء 30 كانون الثاني 1974م = 7 محرم 1394هـ[/align]
منذ أن نزلت القاهرة مع الأخ خليل كان هو مشغولاً لمدة شهر أو أكثر بتتبع معاملة قبول لأحد معارفه صباح رشيد شلال (الأعظمي) , وهو ممن تخرج معه في بغداد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، ويريد أن يدرس هنا الماجستير , وكنت قد رأيته سابقاً عندما جئت إلى القاهرة في الصيف كان هو في نفس الطائرة التي وصلت بها هو والأستاذ محمد أمين الأعظمي الذي يدرس في جامعة الموصل , وهما قاصدان القاهرة للزيارة . وكان صباح بعد أن استقر به المقام هو وصاحبه في مدينة دبلن بأيرلندا للدراسة لم يطب له المقام ورجع إلى بغداد , وأرسل أوراقه مع الأخ خليل حيث بذل له فوق ما يمكن أن يبذل إنسان لنفسه ، فالأخ صباح متأخر في التقديم وليس لديه المعدل المطلوب ، المهم أن قبوله ظهر قبل أكثر من أسبوع ، وأرسل خليل برقية إليه يدعوه فيها للحضور , وفعلا قد وصل الأخ صباح يوم الاثنين الماضي ، ونزل معنا في البيت أنا وهو في غرفة واحدة ، إذ إن الغرفة التي أنزل فيها واسعة وفيها سريران , والأخ خليل يسكن في الغرفة الأخرى , يبدو أن صباح رجل هادئ الطبع خفيف الظل ، على كل حال هو متدين وكفى . وقد جلب لي معه من العراق من الأهل شاي وقلم حبر ومعجون حلاقة وأسنان ! قد أرسلها الأخ سالم من هناك ، ولا أدري كيف تم ذلك، وسَكَنُنَا ثلاثةً في الشقة لن يسبب على ما يبدو لنا أية مزعجات ، بل إنه سيخفف منها ويبعد شبح المصروفات الكثيرة .
[align=center]معرض الكتاب
الخميس 31 كانون الثاني 1974م = 8 محرم 1394هـ[/align]
قبل أن يفتح معرض القاهرة للكتاب الدولي أبوابه قامت حملة دعاية واسعة, وقد فتح المعرض أبوابه للجمهور يوم 27/1/1974 الجاري وكنت أفكر في شراء مجموعة من الكتب قد تعبت في التفتيش عنها في المكتبات أو أني لم أهتد إلى المكتبات التي توجد فيها، فكان هذا المعرض فرصة نادرة وجيدة للعثور على كتب ربما تكون ذات فائدة بالنسبة لي في مجال اختصاصي الجديد عليَّ , كان المعرض يضم مكتبات وشركات مصر والدول العربية وبعض الدول الأخرى , وقد ذهبت للمعرض قبل يومين وحاولت أن استكشف ما فيه من كتب ولم أشتر إلا القليل بانتظار العودة مرة أخرى , وذهبت مبكراً ولازلت أدور في جنبات المعرض ويداي تثقلان بما أشتري من الكتب حتى أصبحت لا أقوى على حمل ما اشتريته من كتب أكثرها في علم اللغة ، تشكل مجموعة قيمة , وبعضها في العقيدة والفكر الإسلامي , وخرجت وبدأت مشكلة المواصلات والحمد لله وصلت الشقة ، ولكن هناك من ذكرني بما سأعانيه من نقل هذه الكتب إلى العراق وهذا أمر لم يحن التفكير فيه .. لاحظت أن وزارة الإعلام العراقية قد فتحت لها جناحاً أيضاً ولكنه بائس ، خلاف المكتبات الأخرى التي تشرق بالكتب الجديدة , جناح الوزارة لا يحوي إلا كتباً بالية , كأنما جمعوها من أرصفة سوق السراي (سوق الكتب في بغداد) .
[align=center]مذكرات آخر الشهر[/align]
مشكلة يعانيها كل من ينزل في هذا البلد مغترباً , ليست هنا مطاعم يمكن أن يستغني الإنسان بها عن عمل الأكل في البيت ، مطاعمهم نوعان: أحدهما لأصحاب الغنى واليسار ، والآخر للفقراء وأصحاب الدخل المحدود ، ولا أتكبر على الفقراء ولكنه من لون واحد : فول ومَكَرُونَه وكشري ، مع فقدان النظافة أحياناً ، ولهذا فالإنسان مضطر إلى عمل الطعام في البيت , وهو لا يستطيع أن يقوم به بنفسه فلا بد من أحد يستعين به ، وهنا تظهر الحاجة إلى ما يسمى في مصر بالشغالة التي تقوم بأعباء البيت من تنظيف وغسيل إلى جانب الطعام .. ولكن متى سنجد الشغالة التي تأمنها على بيتك ومالك وعرضك ؟ لا شك في أن الفقر دافع إلى هذا النوع من العمل , على كل حال نجد أنفسنا مضطرين إلى الشغالة .. ومنذ أن نزلت مع الأخ خليل كانت تعمل عندنا ( أم محمود ) يعرفها الأخ خليل منذ السنة الماضية تَعَرَّفَ عليها بواسطة بعض الأخوة الذين كانوا يدرسون هنا ، ولكنها انقطعت عن العمل منذ 13 من الشهر المنقضي، ومكثنا من غير شغالة مما سبب لنا المزعجات ، وأخيراً وجدنا شغالة ولكنها لن تعمل أكثر من يوم أو يومين ، على ما يبدو ، فهي لا تعرف شيئاً ولا تريد أن تعرف ، وكنيتها ( أم توحه ، أي أم ضحى! ) .
[align=center]دعوة
الجمعة 1 شباط 1974م = 9 محرم 1394هـ[/align]
جرت العادة أن يدعو الصديق صديقه إلى وجبة غداء أو شاي أو نزهة , وقد كان الأخ الحاج توفيق رشيد الذي حضر إلى القاهرة في دورة تدريبية ويسكن الآن مع أخيه الأصغر مجيد الذي يعد رسالة الماجستير عن نظام الضرائب في العراق ، وكان قد دعانا إلى تناول الغداء في إحدى الجمع السابقة ، وفكرنا في رد الدعوة وانتظرنا مجيء شغالة ، ولكن يبدو أن ذلك سيطول ، ولهذا فقد دعوناه وأخاه اليوم ، وقام الأخ خليل بعمل الطعام : شوربة , شجر , ودجاج , أشياء مقبولة بل جيدة ، الحق أننا نكن للحاج توفيق كل ود واحترام ، فهو رجل مثقف ومسلم ويتكلم بأدب وعقل، ويعمل في سلك التعليم ، وهو في بعكس أخيه الأصغر مجيد ، الذي تجد عنده كل ما ينفر ، وهل هناك أشد من بذاءة اللسان ، إن لسان هذا الرجل حاد لا يخرج منه إلا ما يؤذي أو يخدش الحياء , ولا يسمعك إلا الكلام البذيء والقبيح ، في الجد وفي المزاح , وهو متزوج وزوجته الآن معه ، ولكنه لا يكف عن الكلام المفضوح المكشوف ، وإنني لألاحظ أن أخاه توفيق يغضي حياء من بعض حكاياته ، لا نرتاح لمجالسه ، ولكنا دعوناه مجاملة للحاج توفيق أيضاً ، وهو رغم ما يبدي من الميل لنا ولكني إن لم أكن أبغضه فإني لا أوده ، لسوء منطقه وكثرة هزله وعبثه!
[align=center]أثر العمل الإداري على العلم
السبت 2 شباط 1974م = 10 محرم 1394هـ[/align]
خرجتُ من البيت عجلا حتى أتمكن من حضور محاضرة الدكتور كمال محمد بشر في موعدها في الواحدة بعد الظهر ، وصلت الكلية في المنيرة ، وصليت الظهر صلاة خفيفة في مسجد الكلية الصغير ، كل ذلك حتى لا تضيع المحاضرة , وجاءت الواحدة ومرت ، وحضر عدد من الطلاب الذين يدرسون معي في فرع علم اللغة , ووقفنا نتطلع إلى انفراج الباب حتى ندخل نغترف من بحور العلم ، الدكتور بشر هو عميد الكلية ، ولا شك في أن هذا المنصب الإداري يستغرق وقتا طويلاً منه فهو لهذا كثيراً ما يعتذر عن المحاضرة , لا زلنا ننتظر وهمَّ البعض بالانصراف، وأخيراً وبعد الثانية دخلنا إلى مكتب سيادته ، وجلسنا كنا خمسة وجاءنا الدكتور يحاول أن يظهر تودده وتلطفه وراح يقلب ورقة عليها بعض العلامات .. دي سوسير ، بلومفيلد ، وفيرث (لغويون غربيون) . كان وكان، وتلخيص المنهج : وصفي وتأريخي ، وبين الحين والحين يقول : أنا أشرح هذه النقطة على شان الأخ العراقي ، وهو يقصدني , والحق أني لست محتاجاً كثيراً إلى مزيد شرح بعد أن حصلت على أوراق المحاضرات ، فأنا أقرأ ومهما تكن فإني سوف أفهمها ، وهو في شرحه يدور في فلك المحاضرات المكتوبة التي أجهد فكره عندما وضعها وهو يترجم من هنا وهناك من كتب اللغة الانجليزية ما يتعلق بالموضوع ، والموضوع مناهج البحث في اللغة ، وكان قد أعد المحاضرات منذ العام الدراسي 70 - 1971 في معهد البحوث والدراسات العربية ، وهو اليوم يسرد علينا ما بقي في ذهنه منها .
[align=center]محاضرة الدكتور عبد الصبور
الأحد 3 شباط 1974م = 11 محرم 1394هـ[/align]
كان ينتظرنا قبل الرابعة .. المحاضرة تبدأ في الساعة الرابعة , كان الدكتور عبد الصبور شاهين يحاول ألا يدع فرصة دون أن يستغلها ، أي أنه حريص على عدم تضييع محاضرة ، وجلسنا وبنفس عدد الأمس تقريباً , ولكن هذه المرة العيون مفتحة والآذان مرهفة تسمع ما يلقى ، حقاً قد تبين لي أن الدكتور عبد الصبور عالم بحق وهو مع ذلك مثال التواضع ، وإن كان أحياناً يذكر ما قام به من أبحاث ، ولكنه يحق له أن يفخر بها . هو الآن يدرسنا الأصوات الدولية في جدولين من الرموز ، وهو يحاول بكل الوسائل أن يبين لنا طريقة تكوُّن الأصوات حتى إنه يضحكنا في بعض الأحيان , ولعل تعلم الصوتية الدولية وإتقان الكتابة بها لن يستغرق وقتاً طويلاً ، وهو بذلك سيتحول إلى تدريسنا بعض موضوعات كتابه القراءات على ضوء علم اللغة الحديث ، وهو سفر جليل ، وله كتاب آخر سابق لهذا وهو تأريخ القرآن , ويبدو لي الدكتور شاهين مثالاً للرجل المسلم العامل الفاهم ، الحكمة ضالته ، فهو قد أتقن ما عند العرب وعرف ما عند الغرب ، وحاول أن يصل إلى الحقيقة من خلال ذلك ، فهو متقن للفرنسية لا بل قد ترجم عدة كتب منها ، ومنها بعض كتب مالك بن نبي ، وكتاب لهنري فليش ، وهو العربية الفصحى , وإني أفكر منذ زمن إذا أمد الله بالعمر ونجحت أن أسجل معه موضوع الماجستير .
[align=center]درس اللغة الإنگليزية
الاثنين 4 شباط 1974م = 12 محرم 1394هـ[/align]
لا أدري لماذا خصصوا ساعتين في الأسبوع للغة الإنگليزية ، لأول وهلة يشعر المرء أن هذه المادة تحتاج ما تحتاجه المواد الأخرى على الأقل ، فتلك وقتها ساعتان وهذه ساعتان , بل ربما ظن المرء أنها تحتاج إلى أكثر من ذلك ، على أساس أنها لغة أجنبية ، انتظرنا أستاذ المادة د. عبد العظيم درويش أسبوعاً وأسبوعين ، من بداية الدراسة ولم يحضر ، وأخيراً أخذ يحضر فإذا هو رجل في آخر العمر ، ضخم الجسم طويل ، علامات الشيخوخة بادية عليه ، المادة التي ندرسها مجموعة في محاضرات مطبوعة عن تاريخ العرب قبل وبعد الإسلام باللغة الإنكليزية في 45 صفحة ، وأخذنا ندرس في الأسبوع صفحة ، فإذا نحن لم ندرس إلى الآن إلا صفحة أو صفحتين ، يقرأ في الصفحة ويقف عند كل كلمة يعطي معناها، ونحن نسجل معاني الكلمات ، وتنتهي المحاضرة وأكثر الطلاب لا يحضرون ، ويكفي عند الأستاذ أن يحضر الطالب مرة واحدة ويسجل اسمه وبعد ذلك عليه السلام ، يبدو أن الأستاذ قد شعر أن هذه المادة طويلة 45 صفحة وتحتاج منه إلى جهد ، فإذا به يوماً ما يقول أريد أن أحدد المنهج ، تفضل! صاح الطلاب خَفِّفْ عنا يا دكتور المادة ( تِئِيلَة ) .. فإذا به يحدد ويعين صفحات لا تزيد عن (12) صفحة للدراسة وليتنا ننهيها ، و3 صفحات للترجمة سيعطينا ترجمتها ونحفظها بعد ذلك لنؤدي بها الامتحان ، ولو أني انصرفت يوماً واحداً لدراسة هـذا المنهج لكفى ، فوا أسفى على الوقت المُضَاع !
[align=center]محاضرة للشيخ سيد سابق
الأربعاء 6 شباط 1974م = 14 محرم 1394هـ[/align]
لفت نظري وأنا ذاهب إلى مكتبة جامعة القاهرة قبل أيام لافتة مكتوب عليها أن هناك محاضرة عن ( الإسلام سبيل التغيير ) يلقيها الأستاذ سيد سابق , وتوقفت أمامها ورددت قراءتها لأتأكد من الأمر ، فإذا هو كذلك ، والمكان في كلية الهندسة ، ورغبت كثيراً في حضور هذه المحاضرة والاستماع إلى سيد سابق والظفر برؤيته ، فإني قد قرأت له في عدة كتب ، وعرفته من خلالها ، وإن تلك القراءة تشدني إلى معرفته ، وقد رغب الإخوة خليل وصباح بالذهاب أيضاً ، وقد كان الموعد بعد ظهر اليوم في كلية الهندسة , حضرنا المحاضرة التي ألقاها سيد سابق بأسلوبه الذي عرفته من كتبه ويعجبك فيه وقاره وخفة روحه معا . وقد حضر المحاضرة عدد كبير ، وكان من ضمن هذا العدد أيضاً عدد من الطالبات الملتزمات بالزي الإسلامي أتم التزام ، وبعد ذلك خرجنا نمشي من كلية الهندسة وتجاوزنا كوبري الجامعة ، وصلينا العصر في جامع صلاح الدين الأيوبي على رأس الكوبري ( الجسر) من جهة الشرق ، ومن هناك ذهبنا لزيارة بعض المعارف د. صِدِّيق ثم إلى شيخ مجاهد ومن معه . وفي المساء عدنا إلى البيت في الإعلام ، بعد أن ظفرنا برؤية الأستاذ سيد سابق أحد الرواد الذين قادوا الجيل ..
[align=center]زيارة خامسة لمعرض الكتاب
الخميس 7 شباط 1974م = 15 محرم 1394هـ[/align]
كان هذا اليوم آخر يوم يفتح فيه معرض الكتاب في القاهرة أبوابه ، هكذا أُعْلِنَ ، ولكن يبدو أنه سيستمر غدا وبعد غد ، زرته قبل هذا اليوم أربع مرات ، ولكن بقي في نفسي شيء ولا زال في ذهني تعلق ببعض الكتب أود لو اشتريها . فقلت أغتنم الفرصة , فذهبت بعد الظهر بعد أن خرجت من محاضرة اللغة العبرية للدكتور محمد سالم الجرح ، ودخلت في القاعة الكبيرة التي تضم عدداً ضخماً من المكتبات . كان في ذاكرتي شراء قاموس المورد في اللغة العربية والانجليزية ، فقد اشتريت منذ أيام المورد القريب وهو صغير الحجم لا يفي بالحاجة , وهناك مكتبة دار العلم للملاين هي التي تبيع هذا السفر, وجئت فإذا الناس قد انخرطوا في سكة طويلة ، وهو بلغة أهل مصر ( طابور ) كطوابير السكر والشاي والرز التي نشهدها هنا في القاهرة أمام المجمعات الاستهلاكية ، وأخذت دوري تسجل وتدفع وتنتظر حينا حتى تصل النسخ بالسيارة ، بعد ذلك اشتريت بعض الكتيبات الصغيرة , وكنت أريد شراء بعض كتب الأطفال ، اشتريت سابقاً قصص الأنبياء للندوي ، ووجدت اليوم كتابين يشبهان المجلات بالألوان ولكنها لا تحوي لغواً وإنما هي تبسيط لمبادئ الإسلام وتقريب لها من أذهان الأطفال وتحبيبها إلى نفوسهم منذ نعومة الأظفار ، فاشتريت الكتابين على أمل العودة إلى الوطن وأقدمها هدية لمنى ورقية ( بنتي أخي صالح ) إن شاء الله .
[align=center]خطبة الشيخ محمد الغزالي
الجمعة 8 شباط 1974م = 16 محرم 1394هـ[/align]
زرت جامع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في مصر القديمة في القاهرة في الصيف عندما جئت للتقديم , وكان في وقتها قد بدأ التعمير فيه من جديد , وقد رغب الإخوة خليل وصباح أن نصلي الجمعة فيه , وركبنا بتكسي من قرب شقتنا إلى مصر القديمة " مدينة الفسطاط " التي نزلها المسلمون حين فتحوا مصر وأسسوا المدينة وجامعها , ودخلنا الجامع ولا تكاد تجد طريقك إلى مكان الصلاة لثورة التعمير والتجديد فيه والتي قطعت الآن شوطاً , هناك من جهة القبلة مكان صلاة وهو متسع رحب ، وعلى اليسار مصلى منعزل للنساء , وربما جدد هذا القسم أيضاً في المستقبل ، هذا المكان تتجلى فيه البساطة ، أعمدة الرخام المتشققة وجدران غير مزينة ، والأرض مفروشة بالحصران ، وكان عدد الناس الذين حضروا للصلاة كبيراً , إنه منظر يبعث في النفس رعدة حب وأمل , هذا العدد الهائل من المسلمين في هذا المكان فقط كم هناك من مساجد , عدد يقدر بالآلاف ، عدد لم أر مثله من قبل ، ولا شك أنه لعراقة المكان ( جامع عمرو ) فهو مصلى الصحابة في مصر , ثم خطيب الجامع الذي صار اسمه يجذب الناس أنه الشيخ محمد الغزالي الذي ملأت كتبه المكتبات والشوارع , كانت الخطبة قسمين : الأول شمل تفسير أوائل سورة آل عمران وما يتصل بذلك ، والآخر عن الغزو الثقافي للبلاد الإسلامية ووسائله المدعمة من قبل الاستعمار(1).
[align=center]برتقال!
الاثنين 18 شباط 1974م = 26 محرم 1394هـ[/align]
عادت الشغالة أم محمود للعمل بعد أن غابت شهراً كاملاً من 13/1 – 13/2 , ولاشك أنها ستخفف بعض المصاعب ، ويقل الوقت الذي يذهب هدراً وراء الأكل وتحضيره ، ولو أن الأمر عندي سواء حضور أم محمود وعدم حضورها ، ولكنا مجتمعين لا يمكن أن تسير أمورنا سيراً طبيعياً بدون شغالة ، كان قد زارنا الأخ مساعد ابن عم الأخ خليل عدت أنا إلى البيت حوالي الساعة الثانية بعد أن قضيت بعض الأشغال في معاملة الأخ جايد في الأزهر ، عدت متعباً ضجراً لكثرة ما استغرقت القضية مني من جهد ووقت ، وإن شارفت على النهاية إن شاء الله , وعندما عدت نظرت في داخل المطبخ كان يبدو أن كل شيء قد هُيِّئَ ، ووجدت الأخ مساعد في البيت ، وجلسنا ننتظر الأخ خليل وبعد حوالي ثلث ساعة من وصولي جاء الأخ خليل ، وفور مجيئه كان الأكل مهيئاً لأن الأخ مساعد ( مستعجل ) يريد أن يخرج , وبسرعة تم تناول الوجبة ، ولم يكن الأخ صباح موجوداً , وخرج الأخ مساعد , وبعد ذلك بفترة عبس الأخ خليل وضج وصاح بوجهي وكانت الشغالة قريبة أيضاً وقال : ( انتو اثنين ما گِدَرْتُو ٱتجيبون برتقال ) ولم أعلق أنا من جانبي , وأردف يقول : يعني لو آني لو مَحَّدْ يجيب ، لو مِتِتْ) فقلت:لا إن شاء الله ، ليش تموت ، فقال أحسن من هذه الحياة السخيفة !! كلام ليس له داع إلا أن الأخ خليل جعل الأمر مشكلة ، ولكن لأحتمل !
[align=center]انسحاب القوات
الخميس 21 شباط 1974م = 29 محرم 1394هـ[/align]
انتشرت التصريحات والصيحات ، فرح وحزن ، فقد تم انسحاب القوات الإسرائيلية التي تسللت غربي قناة السويس ، وكان قد تم الاتفاق بين مصر وإسرائيل على ما يسمى فصل القوات والذي بموجبه ستنسحب إسرائيل من غربي قناة السويس إلى الشرق بعمق عشرين كيلو متراً تقريباً ، تشغل عشرة منها قوات الطوارئ الدولية والعشرة الأخرى تبقى بيد القوات المصرية على أن تُخَفَّفَ الأسلحة من جانب الطرفين في المنطقة القريبة من الجبهة ، ويوصف انسحاب إسرائيل من غربي القناة بأنه انتصار ، كما وُصِفَت حرب أكتوبر ( كما يسميها المصريون ) بأنها انتصار ، إن إسرائيل عبرت حين أرادت العبور وانسحبت بعد أن حققت بعض ما كانت ترجوه من عبورها كورقة تساوم بها في المحادثات مع مصر فحققت إعادة أسراها ، لا أحد ينكر كون حرب رمضان قد جاءت بجديد لصالح العرب ، ولكن هذا الجديد أصغر مما يوصف ويروج له بل ما هو إلا خطوة نحو تثبيت وتأكيد وجود إسرائيل ، لا إزالة إسرائيل ( شعارات قبل 5 حزيران 1967 ) الآن المهمة تحرير الأرض التي احتلها إسرائيل في 1967 ، ثم لتعش بأمان بعد ذلك في ما اغتصبته من قبل ، وحتى الانسحاب الكامل يبدو أنه لن يتم ، أما في الجبهة السورية فلم يتم الفصل بين القوات لحد الآن ، والأنباء تؤكد أن كيسنجر سيقوم بجولة جديدة في الشرق الأوسط لتحقيق ذلك الفصل الذي ستقدم عليه سوريا باستحياء ، حرب أكتوبر أقنعت اليهود بالاكتفاء بما حققوه وأقنعت العرب باستحالة ما يطلبونه ، وتضيع القدس !
[align=center]مؤتمر رؤساء الدول الإسلامية
الجمعة 22 شباط 1974م = 30 محرم 1394هـ[/align]
ربما اتُّخِذَ الدين شعاراً للدعاية والتجارة والمساومة ، قل لي بربك في أي بلد يَحْكُمُ الإسلام أو يُحَكَّمُ ؟ في أي بلد يستطيع المسلم أن يجهر بكل أبعاد إيمانه؟ في أي بلد قُضِيَ على الرذيلة بأي شكل كانت ، وفي أي بلد حُمِلَ لواء الجهاد خفاقاً باسم الإسلام ؟ ليس من ذلك شيء ، إنما هم أفراد ، نعم هم كثيرون ولكنهم يجاهدون أفراداً ، والقوة والسلطة بيد أناس لبسوا مسوح الدين وقالوا لأولئك الذين يدعون إلى الله ورسوله علام تتعصبون ونحن الذين نحمي الإسلام ونحن الذين نجاهد ، إن أنتم إلا مفترون ! وهكذا يذهب الدعاة ضحية هذه السياسات المجرمة، واليوم عُقِدَ في لاهور في باكستان مؤتمر لرؤساء الدول الإسلامية – ندعو بكل قلوبنا أن يكون الإخلاص رائد هؤلاء المجتمعين – ولكن يبدو أنه لا يعدو عن كونه تظاهرة سياسية تؤدي دورها في خدمة غرض ما ، رئيس جمهورية يريد أن يجعل لنفسه في نفوس شعبه محبة أو احترام ، أو دولة تريد أن تظهر للدول الأخرى أنها معها في الضراء والسراء ، وأن يقال ويقال ، ولكن هل كان هذا كله في خدمة الإسلام ومن أجل تطبيق الإسلام ، هل قالوا تعالوا نطبق شريعة الله ، لا ، قالوا تعاون بين الدول الإسلامية في مجال الاقتصاد وإسناد سياسي – ولكن ما لهذه الدول من الإسلام إلا الاسم , ماذا نقول لو أن أمريكا دعت إلى تعاون باسم الإسلام أو روسيا ! المهم الأعمال وليس الأقوال .
[align=center]شرح المُفَصَّل
الخميس 28 شباط 1974م = 6 صفر 1394هـ[/align]
خرجت من البيت صباحاً عجلا , أريد الذهاب إلى المكتبة المركزية لجامعة القاهرة فقد عزمت على أن أنجز البحثين في أقرب وقت ، وهما : الأصوات عند ابن يعيش ، والأبجدية العربية ، ولا شك أن الأصوات عند ابن يعيش تحتاج مني أن أجلس في المكتبة وأقرأ ما يقرب من جزئين في شرح المفصل لأن هذا الكتاب نادر ولا يمكن أن يستعار ، ووصلت المكتبة وجلست أقرأ في الصفحة الأولى والثانية وأُدَوِّن ما يمكن أن أستفيد منه في هذا البحث الموجز , ولكني شعرت أن هذه القراءة تحتاج إلى ساعات كي أنجز قراءة القسم الذي يتضمن الدراسات الصوتية , فجأة قفزت في ذاكرتي فكرة شراء الكتاب ، فقمت من مكاني ولم أكتب سوى صفحتين وعزمت على شراء الكتاب ، واتجهت إلى العَتَبَة وما حولها أبحث في المكتبات عن هذا الكتاب ، ولم أجده هناك وذُكِرَ لي أني يمكن أن أجده قرب الأزهر , وذهبت إلى هناك وبحثت في المكتبات وعثرت على نسخة في مكتبة قرب الجامع الأزهر وتفحصتها ، إنها هي ولكن بكم الثمن يا عم؟ قال بدون معاملة: بـ ( 25 ) جنيهاً ، ماذا هذا ؟ إن الكتاب ثمين ولكن ثمنه في السوق لن يتجاوز الاثني عشر جنيهاً أو أكثر من ذلك بقليل ، ولكن بعض الناس يَسْتَغِلُّون الفرص فربما كانت هذه النسخة إحدى النسخ القلائل المعدودة المعروضة في السوق الآن ، ثم هم لا يَدَعُون الفرصة للحديث عن أزمة الورق وما جلبته من ارتفاع الأسعار ، واقتنعت بعدم إمكانية شرائه الآن ، وعدت إلى البيت بعد الظهر متعباً على أن أذهب إلى المكتبة مرة أخرى حتى أنجز البحث.(2)
[align=center]مذكرات آخر شهر شباط[/align]
حضرت يوم الأربعاء الماضي مناقشة الطالب أحمد نوري النعيمي (من مدينة كركوك) في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة لرسالته (السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية) للحصول على الماجستير ، وقد حصل على الماجستير بدرجة جيد جداً ، وكان في هذه المناقشة بعض الدروس والعبر , المهم أني التقيت بعبد المجيد رشيد هو الآخر يعد رسالة في الكلية للحصول على الماجستير ، سألني عن علمي بالتعيينات التي تجري في العراق ، وحثني على السفر للتعيين هناك ثم المجيء للامتحان ، عارضت الفكرة بقوة في ساعتها وقلت إن مثل هذه الدراسة المعلقة تصبح لعباً ، ومضى كل لسبيله ، ولكن فكرة الوظيفة وما سأجنيه منها من دنانير ، أخذت هذه الفكرة تجري في عروقي وفي دمي ، وكنت ليل الأربعاء أفكر في الموضوع هل بالإمكان أن أسافر فعلا وأحصل على وظيفة ، وبعد ذلك أجيء للامتحان ، مرة تُزَيَّنُ لي الفكرة وأخرى أخشى مخاطرها ، ومما يزيدني رغبة أن المناهج قد اتضحت والمحاضرات قد أخذتها ، ولم يبق إلا أن أذاكر المادة ثم أمتحن ، وسواء تم ذلك في العراق أم هنا . وبلغت قوة هذه الفكرة ذروتها ظهر الخميس ، ولكن مرة أخرى أخذت تتحدر إلي الشكوك في جدواها ، وقصة ( قد طاح قَعْبُ اللَّبَنِ) ترن في أذني ، أتحرم نفسك من هذه الفرصة وتطمع في الدنيا والوظيفة ؟ أتُخَيِّبُ أمل أهلك فيك حين بعثوك وافتدوا رحلتك بالنفيس والرخيص ؟! وأخيراً اسبعدت هذه الفكرة عن خاطري نهائياً ، وتوكلت على الله ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
[align=center]محاولة تحريك القضية
الجمعة 1 آذار 1974م = 7 صفر 1394هـ[/align]
بعد أن قامت معركة التحريك , وتحركت القضية , لا ينبغي لها أن تقف وأن تعود إلى ما كانت عليه قبل 6/10/1973 المهم أن تبقى القضية متحركة ذات طابع حركي سلبي أم ايجابي ، تم فصل قوات مصر وإسرائيل على قناة السويس , القوات الإسرائيلية غرب المضائق في سيناء لا تبعد أكثر من ثلاثين كيلو متراً من القناة ، وخَفَّضَتْ مصر قواتها المتمركزة شرق القناة وربما غربها , تم ذلك وكان للولايات المتحدة ممثلة بشخص وزير خارجيتها اليهودي كيسنجر دور فعال , واليوم المشكلة تكاد تتركز على جبهة الجولان , وهو ما لا يرضاه الرئيس السادات للقضية وما لا ترضاه أمريكا ، فحضر هذه الأيام كيسنجر إلى الشرق الأوسط كما يسميه الأوربيون دون ذكر فلسطين , حضر ليساهم في تحريك القضية كما ساهم في تحريكها على جبهة السويس ، حضر وتنقل بين دمشق وإسرائيل والقاهرة وهو بكل زياراته يحاول أن يُعَمِّقَ الوجود الأمريكي والمصالح الأمريكية في الأقطار العربية , وخاصة مصر التي قلبت ظهر المِجَنِّ لكل مبادئ سياستها القديمة وظهرت سياسة ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي , وما هو إلا محق للخطوات الاشتراكية التي أغرق بها جمال عبد الناصر مصر ، والاتجاه نحو الرأسمالية , سوريا خُذِلَتْ عندما تم فصل القوات على قناة السويس، وهى إن حاربت اليوم إنما تحارب وحدها .
[align=center]انشراح وارتياح
السبت 2 آذار 1974م = 8 صفر 1395هـ[/align]
قبل أن أحسم الموقف بانتسابي إلى قسم علم اللغة كنت في أشد حالات القلق لأني تصورت أن قسم علم اللغة من الصعوبة بمكان ، وأن المضي في هذا السبيل من الدراسة صعب ، وأنه علي أن أتحمل نتائج المغامرة ، وأنه يحتاج إلى لغة انكليزية ، والآن قد بان لي الأمر بالعكس ، نعم هو على المدى الطويل أكثر مشاكل من النحو ، ولا يزال الميدان يتسع للبحوث والدراسات التي تستنفد أعمار الرجال، ولكن دراستنا التي ندرسها الآن في السنة التمهيدية لا أظن أنها أصعب من الدراسة في قسم النحو بل ربما كانت دراسة النحو ، وخاصة أن الدكتور أمين السيد يدرسهم 4 ساعات ، أصعب من الدراسة هنا في قسم علم اللغة , وكنت أخشى مما يمكن أن يفاجئنا به الدكتور كمال محمد بشر من مادة ضخمة ، فإذا به يرمى إلينا محاضرات مطبوعة ( 70 صفحة ) منذ سنة 1970 في معهد الدراسات العربية ، وقام هو إلى الآن خلال المحاضرات بالتعليق على ما موجود في المحاضرات ولا يزيد ، وكأن الأمر قد انتهى , وربما أخذنا عنده صفحات محدودة في الانجليزية ، ومادة اللغة الانجليزية المشتركة بين كل الفروع ليس فيها ما يُعَلِّمُ أو يُقْلِقُ ، ودرس اللغة العبرية الذي يلقيه علينا الدكتور محمد سالم الجرح أقرب إلى السهولة ، ويبقى درس الدكتور عبد الصبور شاهين الذي سنستفيد منه إن شاء الله .
[align=center]البحث عن بعثة
الاثنين 10 آذار 1974م = 10 صفر 1394هـ[/align]
كنت قد مررت يوم الخميس الماضي بالملحقية الثقافية العراقية في القاهرة لأستطلع الأخبار الجديدة بعد أن سمعت أن هناك بعثات جديدة ، وأنه ربما تكون هناك منح ومساعدات للطلاب الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة , وجدت هناك إعلانا للبعثات لعام 1974-1975 فعلاً ، ولكن التقديم قد انتهى من يوم 26/2 والإعلان لم يصل إلا بعد 26/2/1974 , كان ضمن البعثات عدد من الدرجات للتخصص باللغة العبرية , للحصول على الماجستير والدكتوراه ، والمؤهلات المطلوبة : خريج الآداب فرع اللغة العربية أو العبرية أو لغات سامية , فكرت في الأمر وحَدَّثْتُ نفسي بمحاولة الاستفادة من الفرصة والتقديم فربما كان ذاك من نصيبي , وكانت في يوم الخميس لدينا محاضرة في اللغة العبرية للدكتور الجرح فعرضت عليه الأمر , على أن يعطيني تأييداً بإمكانية دراستي اللغة العبرية في دار العلوم بعد أن أختم السنة التمهيدية . وقد أبدى تفهماً كبيراً للموضوع ولكنه لا يمكن أن يعطيني هو ذلك التأييد إلى خارج مصر , وإنما كتب رسالة إلى عميد الكلية يُعْلِمُهُ فيها بطلبي ومحاولة تزويدي بمثل ذلك التأييد , وذهبت اليوم إلى عميد الكلية أستاذنا الدكتور كمال بشر , فرَحَّبَ هو الآخر وأعلم السيد عبد المجيد مسجل الكلية بعمل الكتاب ، وقد أخذته اليوم بعد الواحدة ظهراً ، ولم أستطع الذهاب إلى السفارة واكتفيت بتصديقه من الوافدين ، وذهبت اليوم إلى الملحقية الثقافية وأكملت تصديق الكتاب ، وقدمت طلباً أشرح فيه الأمر معنوناً إلى مدير البعثات بواسطة الملحق الثقافي ، أطلب فيه إتاحة الفرصة لي وقبولي في البعثة التي تخص اللغة العبرية . وقد قامت الملحقية بدورها بتحويل الطلب وكتاب التأييد إلى مديرية الملحقيات الثقافية في بغداد للنظر في الطلب والبت في الأمر.
الحق أنني كنت متردداً في الأقدام على هذه الخطوة أول الأمر , وليس الصعوبة المتوقعة للدراسة هي العامل الوحيد الذي يدفعني إلى التردد وإنما حرصي على التخصص في مجال اللغة العربية ثم إن العبرية لغة أعداء الإسلام من أول يومه ، ولكن هذا من جانب آخر يحفزني على دراستها . وهناك أمر هام يحدد وجهة نظري وهو الناحية المادية في الموضوع , إذ إن الحصول على البعثة معناه ، إن شاء الله , تحقق الحصول على ما أنفق منه للمعيشة ثم أجور السفر وربما الطبع والأمور الأخرى ، ثم المستقبل أيضا قد يكون أكثر ضماناً ، وقلت أُقَدِّمُ واترك الأمور ، وأنظر ماذا سيقدر الله لي منه .
[align=center]معرض القاهرة الدولي
الثلاثاء 12 آذار 1974م = 18 صفر 1394هـ[/align]
كنا نهيئ أنفسنا له من زمان مضى ، ونأمل أن نجد فيه بغيتنا وأن نشتري ما ينقصها من مواد غذائية وخاصة السمن والرز , إنه معرض القاهرة الدولي , فتح أبوابه قبل ثلاثة أيام ، ولكن لم يسمح للجمهور بالدخول إلا هذا اليوم ، وذهبت أنا والأخ صباح هذا اليوم ودخلنا مع أول الداخلين قبل أن يشتد الزحام ، وكانت أنظارنا موجهة إلى فرع العراق على أساس أننا سنجد بعض المواد الغذائية , ودرنا في المعرض هنا وهناك ووصلنا إلى فرع العراق , عرضوا فيه ما يمكن أن ينقل من منتجات الزيوت ومعمل الأدوية والزجاج والنسيج والصوف والجلود والكهربائيات ومثل هذه النواعم ، ولم نجد شيئاً مما كنا نود العثور عليه ، وسرنا بعد ذلك لنرى بقية الفروع فاستوقفنا طابور طويل , واستغربنا لأن الطوابير عادة نراها أمام المجمعات الاستهلاكية , وإذا بالناس يشترون الصابون والزيت من أحد فروع مصر في المعرض ، كان المعرض يضم أجنحة عدة دول وشركات ولكن كان لبعضها عرض رائع وخاصة الآلات ، مثل جناح ألمانيا الغربية فقد عُرِضَ من آلات النسيج شيء يثير الإعجاب ، إضافة إلى آلات زراعية حديثة وساحبات صغيرة ، وفي جناح الصين يروعك الخزف الصيني , وفي جناح دولة الإمارات العربية يروعك رجل واقف وعليه العقال والكوفية وأمامه امرأة ( منقبة) فإذا هما منسيان!
[align=center]بيان 11 آذار
الأربعاء 13 آذار 1974م = 19 صفر 1394هـ[/align]
لا زلت أذكر يوم الحادي عشر من شهر آذار سنة 1970 كنت يومها أدرس في الموصل في كلية الآداب في الصف الثالث , عندما حل المساء أُعْلِنَ أن رئيس الجمهورية سيذيع بياناً هاماً , كنت أسكن في القسم الداخلي في الفيصلية أنا والأخ صالح سليم الحمد في غرفة صغيرة في الدور الأخير من بناية القسم ، وأعلن رئيس الجمهورية البيان الذي سُمِّيَ يومها بيان 11 آذار الذي تم بموجبه إنهاء القتال في شمال العراق بين الأكراد والجيش العراقي , على أن تُنَفَّذَ بنود بيان 11 آذار تباعاً , واحتفل الناس وصخبوا وماجوا ورقص الطلبة الأكراد في القسم مع بعض الطلبة العرب من العراقيين ، ووزعوا الشكولاتة والمرطبات ، وبدأ الناس يذهبون إلى الشمال للتفسح ، وأعلنت الحكومة أنها ستعيد إعمار الشمال وكانت هناك مديرية أو وزارة خاصة بإعمار الشمال , واستبشر الناس لهذا الاتفاق وأمَّلُوا أن تكون الخاتمة خيراً , ومضت سنة وسنتان والهدوء يُخَيِّمُ على الشمال والإعمار يجري ، وعندما أُعْلِنَ الميثاق الوطني وبعدها إعلان الجبهة الوطنية التي ضمت الحزب الشيوعي وحزب البعث رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني الانضمام إلى الجبهة ، على أن الحوار استمر بين الأطراف ، وفي الصيف الماضي شنت صحيفة الثورة لسان حزب البعث حملة تقابلها صحيفة التآخي لسان الحزب الديمقراطي الكردستاني من الاتهامات ، كُلٌّ على الطرف الآخر ، وطُبِعَتْ مقالات الثورة في كتاب تحت عنوان: لكي يسود السلام وتتعزز الوحدة الوطنية , وما كان ذلك إلا هدماً للوحدة ، وكان آخر بنود بيان آذار أو أهم بنوده هو إعطاء الحكم الذاتي للأكراد , وكان آخر موعد لذلك هو 11 آذار الذي مر قبل أيام قليلة , وكانت الحكومة قد طرحت مشروع الحكم الذاتي منذ عدة أشهر للوصول إلى الصيغة المرضية ولكن الحزب الكردستاني كان دائماً له رأي متطرف , وشعر أن الحكومة تحاول أن تشق صفوف الحركة الكردية ، وقد استطاعت أن تضم الشيوعيين إلى جانب الحكومة . وفعلا أعلن الرئيس أحمد حسن البكر في يوم الحادي عشر من آذار 1974 كما أُعْلَنَ من قبل , أَعْلَنَ مشروع الحكم الذاتي ، وكان هذا الإعلان بداية شؤم , فقد رفضه الأكراد فوراً لأنه لا يحقق مطالبهم والتي منها ضم مدينتي كركوك وخانقين إلى إقليم كردستان, وأغلق الأكراد جريدتهم التآخي التي تصدر في بغداد ، وهددوا بسحب وزرائهم الأربعة من الحكومة ، ومن جانب آخر تناقلت الأنباء أخبار تجدد القتال في شمال العراق بين الأكراد والجيش ، ولا يُدْرَى ما ستصير إليه الأمور .
[align=center]الجمعة في مسجد الجمعية الخيرية
الجمعة 15 آذار 1974م = 21 صفر 1394هـ[/align]
حقا إن الجمعة بالنسبة للمسلم عيد , من الصباح ونحن نحسب لصلاة الجمعة حسابها , ونعد أنفسنا ونتساءل عن المكان الذي سنصلي فيه , وقبل أن يحين وقت الصلاة نخرج من الشقة إلى أحد المساجد القريبة ، صلينا أكثر من جمعة في جامع الزمالك ، وكذلك في مسجد أولاد علام ، قبل جمعتين صلينا في جامع الجمعية الخيرية في ميدان الجيزة ركبنا ( بالاوتوبيس ) رقم 800 ونزلنا في ميدان الجيزة حيث يوجد جامع متواضع ودخلنا فلم نسمع قارئ القرآن ، رغم أن وقت الصلاة قد قرب ، وبعد أن صلينا سنة تحية المسجد مر علينا شاب ودفع إلى كل واحد جزءاً من المصحف، فإذا هم يسيرون على هدي المروي من السنة أن المصلين كانوا يقرءون القرآن فرادى حتى حين وقت الصلاة , وصار العمل على أن يكون لصلاة الجمعة أذانان , الأذان الأول عند دخول الوقت ، ثم يصلي الناس سنة الجمعة قبل الصلاة ، وهي موضع خلاف بين الفقهاء ، ثم يكون الأذان الثاني بعد صعود الخطيب على المنبر , أما هذا الجامع فقد كان هناك أذان واحد بعد أن صعد الخطيب المنبر ، وخطب خطبة الجمعة دون أن يصلي أحد قبل الجمعة شيئاً ، أما اليوم فقد صلينا الجمعة في جامع المدينة المنورة جامع بسيط يقع خلف نادي الصيد لكن خطيبه الشاب الحاج إبراهيم يبعث في القلوب الخشوع.
[align=center]تسلم مبلغ
السبت 23 آذار 1974م = 29 صفر 1394هـ[/align]
ذهبت اليوم في الصباح إلى البنك الأهلي , ووقفت بالطابور وجاء دوري , وقدمت الكتاب الذي استلمته أمس بالبريد وقد تبين أن شيك التحويل قد وصل ، وظهرت لي فكرة وهي أن أبقي بعض المبلغ في البنك كوديعة ، لأنه أكثر مما احتاج إليه الآن , فخرجت من الطابور , ورحت أدور بين الموظفين في الطابق الأرضي والطابق الثاني ، واجتازت الساعة الثانية عشرة وضجرت , وحتى لو تم لي ما أريد فإني سأظل قلقاً لهذا التعليق , الذي يبدو أنه لن يفيدني كثيراً إذ إن المبلغ المحول قد صار بالجنيهات المصرية ( 411 ) ، أي أن ( 200 ) دينار عراقي قد تضاعفت ، وأخيراً رجعت عن فكرة الإيداع بعد أن تعقدت ومزقت الأوراق التي بدأت أكملها لفتح حساب , ووقفت مرة أخرى في الطابور لأطلب سحب المبلغ , ووصلت بعد الزحام ، ثم مرة أخرى زحام أمام شباك الخزينة ، وحين استلمت المبلغ أمسكت بالمحفظة التي بيدي وخرجت مسرعاً ، وأول ما عملت أخذت ( تكسي ) إلى البيت ، لأن وجودي في وسط الزحام يعرض الفلوس لخطر , وحمدت الله , إذ إني شعرت براحة ، وكأن قلق الأسبوع الماضي كان بعضه من تأخر وصول الفلوس ، إن المبلغ يكفيني على الأقل ثمانية شهـور ، إذا جعل الله في العمر فسحة إلى ذلك الوقت .
نشرت يوم الجمعة 21 صفر 1431هـ .
ـــــ الحواشي ــــــــــ :
(1) تذكرت وأنا أراجع هذه اليوميات كتاب (خطب الشيخ محمد الغزالي) ، فنظرت فيه فوجدت خطبة هذه الجمعة في الجزء الثاني ص(56 – 70) .
(2) اقتنيت نسخة من شرح المفصل لابن يعيش في 8/10/1977 ، بعد عودتي إلى العراق وحصولي على الماجستير ، وهي نسخة مصورة عن طبعة المنيرية ، والحمد لله.
الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)