ذكريات غانم قدوري الحمد.. (الحلقة الثالثة)

إنضم
29/04/2005
المشاركات
158
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
العراق
[align=center]الرحلة إلى مصر لدراسة الماجستير
الحلقة الثالثة
الالتحاق بقسم النحو(1)
الاثنين 10 كانون الأول 1973م = 16 ذو القعدة 1393هـ [/align]

بدأت الأمور تتضح ، أو بدأت أنا أنظر إليها بوضوح ، فالدراسة في الكلية قد اتضحت معالمها ثماني ساعات في الأسبوع فقط ، وبعد ذلك ما تحتاجه هذه الساعات من دراسة سواء في المكتبة أو البيت ، ومنذ أن نزلت القاهرة بدأت أرتب معلوماتي وأحاول القراءة ، وقد كان الدكتور أمين السيد جزاه الله عني خيراً قد سمح لي بأخذ نسخته من كتاب الاقتراح في أصول النحو للسيوطي إلى العراق لدراستها هناك وقرأتها هناك مرة ، وهو كتاب - لا شك - صعب ولكني في تلك المرة شعرت أني لم أعط الكتاب حقه فعدت هنا خلال الأيام الماضية أدرسه للمرة الثانية ، ودرست أيضاً محاضرات للدكتور أمين في موضوع العروض ، وهي دراسة ميسرة على حد تسميته لها بذلك . وأدرس كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف محاولاً الفراغ منه بأقرب وقت ، وإن كانت دراسة شكلية لكنها ستجعلني أتصور أبعاد وجوانب الكتاب خاصة نحن مقبلون على دراسة بعض مسائله وموضوعات أخرى تدور حول البصريين والكوفيين ... هناك مسألة تتعلق بالقراءة والكتب التي أقرأها فقد وجدت أني إذا رأيت كتاباً في مكتبة لبيع الكتب ويمكن أن أستفيد منه أندفع إلى شرائه غير مبال بالثمن ، ولكني بدأت أرتاب من هذه السياسة ، ويجب أن أضع حداً لذلك ، وإلا ذهبت قروشي بكتب ربما لا أقرأ إلا أقلها في الوقت الحاضر ، ولست أبغي فتح مكتبة هنا طبعاً ، ويكاد يقر في نفسي أنه يجب أن أقتصر في شراء الكتب على الضروري الذي يمس المحاضرات والدراسة والاستعانة بالمكتبات العامة والاستفادة منها أقصى درجات الاستفادة ، ومع ذلك فأنا إلى الآن اشتريت من الكتب القاموس المحيط ، وهو مهم ورفيق محبوب في أثناء الدراسة والقراءة يقفك على ما يشكل عليك فهمه أو استعماله واشتريت أيضاً شذا العَرْفِ ، وإن كنت أملك منه نسخة في العراق ، ولكني أريد أن أدرسه جيداً حتى أتصور الصرف من أوله ، واشتريت اليوم كتيباً متوسطاً لعباس حسن اسمه (اللغة والنحو بين القديم والحديث) ، وهو موضوعات متفرقة ، والمشكلة الباقية هي صعوبة الاستمرار على نمط الحياة الذي أخذت أعيشه في الشقة الجديدة.

[align=center]موضوعات الدراسة
الثلاثاء 11 كانون الأول 1973م = 17 ذو القعدة 1393هـ
[/align]
في الصباح ذهبت إلى مكتبة جامعة القاهرة ، ومكثت حتى الظهر في قاعة بطاقات الكتب ، وقد أعجبني هذا التنظيم في البطاقات ودقة التبويب في الظاهر على الأقل والاستفادة من الطرق الحديثة في الفهرسة وفتح البطاقات ، وقد حاولت أن أُدَوِّنَ في دفتر معي أرقام وأسماء عدة كتب خاصة بالنحو لعلي أستفيد منها يوماً ما ، ويبدو أن مكتبة الجامعة تحوي من الكتب باللغات الأجنبية أكثر مما تحويه من الكتب المكتوبة باللغة العربية ، كانت لدينا اليوم أربع ساعات من الدراسة حضرنا فيها ما يقارب ثلاث ساعات ، والرابعة ذهبت من أول الأمر ، كان المحاضر هو الدكتور أمين السيد ، وقد حاول أن يوضح أبعاد المنهج الذي سيستغرق هذه الساعات الأربع من كل أسبوع ، كان الدكتور عبد الحميد طِلِب قد وَضَّحَ لنا الموضوع الذي سيقوم بتدريسه لنا كل أسبوع ساعتين من كل سبت ويمكن تسميته (بين مدرستي الكوفة والبصرة في النحو) مسائل تتعلق بالخلاف وبالأصول التي عليها بنت كل مدرسة أسس نحوها ، ويبدو الدكتور أمين السيد أكثر تشدداً منه ، والدكتور طِلِب رئيس القسم ، قسم النحو الصرف ، ولا شك أن الغاية من المنهج الذي رسمه هو محاولة الاطلاع على أكبر قدر من المعرفة والجوانب الخاصة بمادة النحو ، الساعة الأولى من الساعات الأربع الخاصة بمحاضرة د. أمين ستخصص لقراءة الألفية حفظاً ، فقد قَدَّرَ أننا سندرس عشرين أسبوعاً فجعل لكل أسبوع خمسين بيتاً من الألفية ، وسماه (تسميع الألفية) ، وتخصص الساعة الثانية للدراسة في أحد كتب النحو القديمة وهذا الكتاب هو المقتضب ، إذ سندرس بعض موضوعاته ، والساعة الثالثة ستكون لدراسة أحد أساليب العربية : الشرط ، النفي ، الاستفهام .. دراسة موسعة وعميقة ، والساعة الرابعة ستخصص لموضوع البحوث التي سيقدمها الطلبة وتتم مناقشتها ودراسة موضوعاتها خلال هذه الساعة ، وهذه الساعات الأربع ربما ستكلف كل ساعة منها أربع ساعات من الدرس الخارجي حتى يمكن مواجهتها ، ويبدو أن الدراسة لن تكون من الصعوبة بحيث لا يمكن مواكبتها.

[align=center]ظهور اسمي في قسم علم اللغة
الأربعاء 12 كانون الأول 1973[/align]

ولإكمال ما بدأت به صباح أمس من تدوين أسماء الكتب التي يمكن أن أستفيد منها في دراسة النحو والموجودة في مكتبة الجامعة مكثت هناك حتى الظهر ، وذهبت من هناك إلى الكلية حيث اطلعت على نتيجة قرار مجلس الكلية الذي انعقد أمس في طلبات المتقدمين لدراسة الماجستير في الكلية من غير المصريين ، وقد رأيت اسمي مدرجاً في القائمة ، ولكن لدراسة علم اللغة (فقه اللغة) ، ويبدو لي أن الناحية المادية هي التي ستصرفني عن دراسة فقه اللغة إلى دراسة النحو ، ولكن عسى أن تُحِبُّوا شيئاً وهو شر لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، ومن هناك ذهبت للبحث عن كتاب المقتضب للمبرد فقد قررت أن أشتريه ، بعون الله ، وذلك مع أننا سندرس بعض فصوله فهو كتاب من أبرز كتب النحو يقف إلى جانب كتاب سيبويه ، والملاحظ في القاهرة أن المكتبات تتوزع في أنحاء متفرقة متباعدة من المدينة مما يزيد في إرهاق الباحث غير الخبير بأماكنها ، المهم أنني مررت على أكثر من مكتبة ولم أعثر عليه ، ووصلت ميدان العتبة ومن هناك ركبت بالأوتوبيس الجديد الذي يمنع الوقوف فيه فإذا هو نعمة عظيمة لمن استطاع أن يركب ويجد مكاناً فيه ، ولو استطاعت الحكومة توفير وتعميم هذه الطريقة إذن لارتاح الناس من مصيبة المواصلات .. الحمد لله فقد بدأت أشعر نسبياً بالراحة في السكن الجديد ، مع أني لا أزال أفكر في كل ليلة بما ستكون عليه المصروفات ولكن اتضح لي أن الفرق في المصروفات سيكون نسبياً لا يقارن بالراحة التي يمكن أن يجدها الإنسان مع دفع جنيهات معدودة ثمن ذلك ، المواصلات بالنسبة للمنطقة التي نسكنها متوفرة بصورة جيدة ، وإن كانت لا تخلو من الزحام ، هناك عدة أرقام(خطوط لسير الباصات) تذهب إلى ميدان التحرير ، وأستطيع أن أسير من هناك إلى الكلية في المنيرة لأصل خلال ربع ساعة ، أيضا هناك خطوط إلى ميدان العتبة وخطوط تصل إلى جامعة القاهرة وهو شيء مهم.

[align=center]دعوة في مدينة نصر
الخميس 13 كانون الأول 1973م = 19 ذو القعدة 1393هـ[/align]

إن أوقات المحاضرات في ماجستير دار العلوم تتيح للإنسان فرصاً للدراسة الجادة كما أنها تتيح فرصاً للراحة .. اليوم لم تكن لدينا محاضرات ، ولم أذهب إلى المكتبة ، فقد زارنا منذ أول أمس الأخ جاسم والأخ حسن أبو أسامة ، وقد دعانا الأخ أبو أسامة إلى غداء عنده في بيته هو يَدْرُسُ في الأزهر ويسكن مع أهله في مدينة نصر(2) ، ذهبت أنا والأخ خليل إلى هناك قرب الساعة الواحدة فكان اللقاء ثميناً حقاً ، التقيت بعدد من الإخوة من العراق يدرسون في مصر ، كما تعرفت على عدد من الإخوة من فلسطين والأردن ، ولا أنسى ذلك الشيخ الأزهري الذي ظل يؤنس النفوس بأحاديثه إنه العالم الشيخ الدكتور عبد الغني وغاب عني ذكر اسمه كاملاً(3) .. كذلك أحد المدرسين في الأزهر .. وبعد ذلك عرجت مع الأخ خليل وشيخ مجاهد إلى بيت مساعد مسلم قريب الأخ خليل ، وهو يَدْرُسُ في كلية أصول الدين في الأزهر للحصول على الدكتوراه ، وصلينا المغرب عنده ، وهو يسكن في منطقة روكسي في شقة ذات غرفتين مع زوجته وابنيه ، ويؤجرها بثمانية وعشرين جنيها فقط ، أي بفارق عشرة جنيهات تقريباً عن إيجار شقتنا ، وإن كانت لا تقل عنها من حيث الأثاث ، قد يكون بعدها عن قلب القاهرة سبباً في ذلك ، على كل حال إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، وليس من السهل على الإنسان أن يستقر في دار ثم يحاول من جديد العودة إلى القلق والبحث ، وخاصة في ظروف مثل التي حدثت في الصفقة ، المهم والحمد لله أني قد وضعت رحلي واستتبت أموري ، وأرى أن الشقة مناسبة نوعاً ما من حيث المواصلات والراحة بداخلها لولا هدير السيارات الذي لا ينقطع . كنت قد ذهبت قبل أيام إلى المجمع الرسمي في ميدان التحرير ، واستفسرت عن شروط الإقامة ومع أن الإعلان المعلق على الجدار ينص على أن يكون التحويل بالسعر الرسمي عشرين جنيها إلا أن الموظف يقول يمكن عمل الإقامة بالسعر التشجيعي ، ويعني هذا أن الثلاثين ديناراً عراقياً تصبح (55) جنيهاً مصرياً تقريبا ، وهذا سعر مناسب.

[align=center]مكتبة مناسبة
السبت 15 كانون الأول 1973م = 21 ذو القعدة 1393هـ[/align]

خلال هذه الفترة بل منذ أن نزلت القاهرة أحاول أن أجد المكان المناسب للاعتكاف فيه للقراءة ، مع وجود المصادر فيه ، وكنت أبحث عن المكتبة المناسبة ، قبل أيام كنت أذهب إلى مكتبة جامعة القاهرة ودونت كل الكتب التي يمكن أن أستفيد منها ، وقد دلني الأخ مجاهد على مكتبة قريبة من الكلية وزوارها قليلون وهي هادئة والمصادر متوفرة فيها ، إنها مكتبة معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية ، في شارع القصر العيني ، صار لي يومان وأنا أنقب في بطاقات الكتب وأُدَوِّنُ كل كتاب له علاقة باللغة العربية ، إذ لا يمكن عمل شيء قبل الوقوف على الكتاب الذي يمكن الاستفادة منه . بعد الظهر ذهبت إلى الكلية حيث كانت لدينا محاضرة عند الدكتور عبد الحميد طِلِب في الخلاف بين البصريين والكوفيين ، كان أحدهم قد حَضَّرَ مسألة ألقاها ، قرأها ، وعَلَّقَ عليها الدكتور طِلِب ، وقال كل واحد يجب أن يحضر مسألته جيداً ويحاضر بها على زملائه ، وهو يستمع ثم يدلي بالقول الأخير ، وهي طريقة أسفت أن تكون مؤهلا في طريق الحصول على شهادة عالية ، الدكتور أمين السيد الذي له أربع ساعات في الأسبوع هو الآخر تقليدي المنهج إلا أنه يضفي من خلال استغلاله للوقت ومتابعة المادة يضفي حيوية على المحاضرة ، لا شك في أن هناك ما يضايق في موضوعاته مثل حفظ ألفية ابن مالك كل أسبوع خمسين بيتا ... وبدأت تقفز على البال عُقَدٌ وخواطرُ قديمة تجاه النحو والحب له والإشفاق على منهجه ، وبدأت أحدث نفسي عن الثمرة التي ستسفر عنها هذه الدراسة ، اليوم أعلنت أسماء الطلاب المقبولين في الدراسات العليا رسمياً في كلية دار العلوم ، وكان اسمي بينهم في قسم علم اللغة ، وأنا لم أحضر إلى الآن أي محاضرة من محاضرات علم اللغة بل أحضر محاضرات النحو على أساس أن رأيي قد استقر بالتحول إلى دراسة النحو ، ولكن القلق يساورني ، وهذه الفرصة التي لا يمكن الحصول عليها مرة أخرى ، فإن هي أفلتت وراحت جهودي ضحية دراسة مملة فقد ذهب الشباب والعمر ، ولكني أتجه إلى الله فهو الهادي إلى سواء السبيل.

[align=center]اختيار قسم علم اللغة
الأحد 16 كانون الأول 1973م = 22 ذو القعدة 1393هـ[/align]

ذهبت في الضحى إلى الكلية لأنهي قضية التردد في تحديد الفرع وكل قصدي كان أن أقدم طلباً لعميد الكلية أطلب فيه تحويلي إلى فرع النحو .. وكأن الدراسة في علم اللغة التي قُبِلْتُ فيها قد انتهت علاقتي بها ، وقابلت الدكتور أمين السيد وهو على علم بقصدي التحول إلى فرع النحو ، وقال لي في أثناء ذلك ماذا لو ظللت في قسم علم اللغة . وقد أيقظت كلمته هذه في نفسي أموراً حجبتها بعض الاعتبارات منها ربما أن النحو كان أسهل دراسة وأقصر مدة ، وهذا يعني أن الدراسة في علم اللغة ربما استمرت بعد السنة التمهيدية سنوات ثلاثا أو أقل أو أكثر ، وكانت هذه الأفكار تدور برأسي بعد ظهر هذا اليوم ، وأنا أفكر بالعودة إلى العراق في أقصر وقت ممكن محاولاً الاقتصاد بالنفقات ما استطعت ، ولكن رغبتي عظيمة في دراسات علم اللغة ، وقلت أحضر محاضرات علم اللغة لفترة لأرى ما يجري فيها .. وأخذت الجدول ، كانت في هذا اليوم محاضرة للدكتور عبد الصبور شاهين ، كان قد حاضر الطلاب قبل هذه المحاضرة ، ويبدو أنه قد وضح لهم بعض المنهج ، المهم هو اليوم شرح المنهج وما سندرس وعرض للموضوع وأثار مشاكل لغوية وحاول أن يضع خطوطاً عريضة للحل ، وإذا في كلامه شيء جديد نفقده في دراسة النحو ، وإذا به قد بذل جهوداً كبيرة وهو يضع أمامنا ثمرتها في دراسة في أقل من مئة صفحة ، وهي دراسة إحصائية لجذور الكلمات في لسان العرب وتاج العروس وما يمكن أن يقال على ضوء هذه الدراسة للمادة اللغوية بالاستعانة بالكمبيوتر ، وقرر مع ذلك دراسة جدول الأصوات الدولية ، وكلفنا بشبه بحث ، وهو أن يقرأ كل طالب ونحن إلى الآن ستة جزءاً من لسان العرب ويعمل جدولاً بكل ما قال عنه إنه لغة لقوم أو لثغة أو غير ذلك مما لا يستقيم مع الفصحى ، خرجت من المحاضرة وطويت الطلب الذي عزمت على تقديمه لتحويل الفرع ووقر في نفسي أن أبقى في قسم علم اللغة ، وأنا ناظر إلى ما يأتي به المستقبل.

[align=center]دفع أجور الدراسة
الأربعاء 19 كانون الأول 1973م = 25 ذو القعدة 1393هـ[/align]

لم يبق علي من الأمور المهمة بعد الدراسة إلا أن أنجز الأمور المتعلقة بالإقامة ذلك لأن دخولي إلى مصر لم يكن إلا بصفة زيارة ، وعندي إذْنٌ بالإقامة لمدة شهر واحد ، وعلي أن أقوم بالحصول على إذن بالإقامة لمدة الدراسة ، ولكن ذلك مرتبط بما أُحَوِّلُهُ من عملة صعبة إلى العملة المصرية ، كل عشرين جنيهاً مصريا محولة يمكن أن أحصل بها على شهر إقامة ، طلبت من الكلية وثائق أو كتب تأييد لأتقدم بواحد منها إلى مديرية الجوازات والسفر والعمرة ، ولكنهم رفضوا ذلك حتى أسدد أجور الدراسة ، ووجدت نفسي مضطراً ، لأن التأخر في ذلك سيحرجني في وقت ما ، وعلى هذا فقد حملت بعض ما أملك من الدنانير والباونات الإسترلينية وقمت بتحويل ما يعادل خمسين جنيهاً بل زيادة اثنين ، كان ذلك مقابل خمسة وعشرين ديناراً عراقيا وثلاثين باوناً إسترلينياً ، إضافة إلى هذه الأجور الخمسين جنيها هناك ما يقرب من سبعة جنيهات رسوم تدفع في الكلية ، وهكذا فإن النقود تذهب من حيث لا أدري ، وهي جهود أناس يكدحون وأنا أقدمها هدايا هنا من غير نتيجة ظاهرة . سوى الأمل بالله ، ليس كل الطلاب الذين يدرسون في كليات القاهرة تفرض عليهم هذه الأجور أي ليس طلاب كل الدول من غير مصر ، فهناك دول غير العراق لا يؤخذ من طلابها أجور دراسة ، وإنما خُصَّ طلبة العراق وبعض الدول الأخرى بذلك لأمور قد تتعلق بالسياسة أو الاقتصاد ، ولا يتضرر من ذلك إلا الطالب ، وخصوصاً إذا كانت حاله كحالي : سفري وإقامتي وأجور دراستي وأكلي وشربي ونومي كلها بنقود أدفعها من غير عون من حكومة أو جهة سوى رحمة الله وما ييسره الأهل ، وإني أفكر إذا استقرت الأمور أن أبعث بوثيقة تأييد أني أدرس في دار العلوم معنونة إلى جامعة الوصل ، وأرفق بها طلباً فيه أن تقوم الجامعة بشمولي بمنحة أو تجعل لي مخصصات بعثة ، باعتباري المتخرج الأول في الكلية في سنة تخرجي ، وما أظنها تفعل ، ولكني آمل ذلك ، وأن أستفرغ كل الآمال التي أعلقها بالكلية أو الجامعة ، أكثر المتفوقين في الكليات بل حتى الذين هم في الخلف قد عُيِّنُوا وحصلوا على الزمالات أو الإجازات .

[align=center]بطاقات تهنئة بالعيد
الخميس 20 كانون الأول 1973م = 26 ذو القعدة 1393هـ[/align]

اقترب العيد ، ولكنني عن الأحباب بعيد ، وأخذتِ الأفكار تزدحم تتصور العيد هناك ، وتبعث في النفس الشوق إلى تلك الأيام المشرقة ، وما سيليها حين يعود الحجاج ويفرح الأهل والأصدقاء ، وإني هنا أتابع الوالد والوالدة في رحلتهم وأقدر أنهم وصلوا الآن إلى هذه المنطقة أو تلك ، وأنهم دخلوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم في يوم كذا سينتقلون إلى مكة المكرمة ، وأدعو الله تعالى أن يحفظهم وأعود فأراهم بخير ، وتذكرت أن الواجب يقتضي أن أرسل ببطاقات التهنئة إلى الأهل والأقارب والأصدقاء وفاء لهم وذكرى ، وخصوصاً أن أحداً لا يعرف عنواني هنا ، فقلت أرسل لهم أنا ، وفي ذلك بعض التسلية والاستئناس بالذكرى ، ولكن ظهرت مشكلة مادية ، وهي أني أحتاج إلى خمسين أو أكثر من البطاقات لكي أغطي كل الأسماء التي ترد في ذهني من الأصدقاء والأقارب الذين أريد أن أبعث لهم ، وعندما بدأت أبحث عن تلك البطاقات وجدت منها أنواعاً مختلفة ، منها المرتفع الثمن ومنها ما هو بقرش ، قلت المهم أن تكون ورقة تدل على أن شخصاً تذكر شخصاً ودعا له بالخير ، ولكني وجدتها صغيرة بحيث قد تبعث في النفس شكوكاً حول استصغار من أرسلت إليه ، على الأقل هو قد يظن ذلك ، ووجدت أن البطاقة المقبولة هي بعض المناظر الطبيعية من القاهرة ومصر، آثار ومناظر طبيعية ، ولكن الواحدة بخمسة قروش ، العشرين بجنيه ، حاولت ضغط الذين أرسل إليهم فكانوا ثلاثين ، فأرسلت للأهل ثلاثة واحدة لكل من الإخوة صالح وسفر وسالم ، وأرسلت لعدد من الأقارب .. والأصدقاء .. وهذه البطاقات تحتاج من الطوابع ما يقارب 60 قرشاً فكان ثمنها وأجرة إرسالها أكثر من جنيهين!

[align=center]من آثار الحروب
الجمعة 21 كانون الأول 1973م =27 ذو القعدة 1393هـ[/align]

انتظرت ارتفاع الشمس وحلول الضحى ، لينتشر الدفء في أوصال المدينة ، فينعكس على شقتنا التي كُتِبَ عليها ألا تعانق الشمس طول السنة ، خرجت أريد أن أصلي الجمعة في جامع عبد الرحمن الكواكبي ليس بعيدا عن منطقتنا (الإعلام) التي نسكن بجوارها نحن ، كنت قد مررت به في الصيف ، وهو أقرب إلى شقة مجيد رشيد وأخيه الحاج توفيق اللذين دعوانا لغداء عندهم اليوم ، وبينما أنا في طريقي إلى الجامع إذا بشارع مزدان بالعمران ، من جانب تصطف عنده بنايات عالية والجانب الآخر حدائق وتتخللها بنايات ، ومع ازدحام الشارع في وسطه إلا أنه كان هادئا إلا من همسات ما هي إلا همسات مجروحة جرحتها الحرب ، اقتربت أكثر فإذا بالحدائق والبنايات مستشفى أو مصح أو دار نقاهة قد خُصِّصَ لأولئك الذين أصيبوا في الحرب من جنود الجيش المصري وأفراده ، وهزني الموقف وقد قال العرب قديماً:( فما راءٍ كمن سمعا) ، فكل ما يمكن أن يُنْقَلَ عن الحرب وبطولاتها هو شيء صغير بالنسبة للمعاناة التي يتجرعها من ينخرطون في الحرب ، شباب ، كلهم شباب ، وهل تقذف الأمة في الحرب إلا الشباب ، هم ما بين مصاب في الرأس أو الساعد أو اليدين ، هذا قد ركب عربة صغيرة يحركها بيده ، بل أكثرهم يستعملون هذه العربات التي نراها مع الذين يفقدون القدرة على المشي ، شباب قد شوهتهم الحرب ، وكم هناك من شباب قد أكلتهم الحرب بلهيبها ، ثم تذهب كل تلك الدماء هدراً ، اليوم في مؤتمر جنيف الذي يسمونه مؤتمر السلام بعد أن توقفت الحرب على أمل تحقيق التسوية كانت الجهود تبذل لعقد هذا المؤتمر الذي سعت إليه مصر ولحقها الأردن ولكن سوريا استحيت وتأخرت تأمل الفرصة المناسبة ، ومهما جاءنا به مؤتمر جنيف الذي يرأسه أكبر المتحمسين لليهود كيسنجر اليهودي الأمريكي وغروميكو الشيوعي اليهودي السوفيتي ، مهما جاءنا به هذا المؤتمر من حلول مصطنعة للسلام فإن العرب والمسلمين لم ينسوا هذه الدماء التي ذهبت هدراً ، ولن ينسوها حتى تتحرر فلسطين ويُمَرَّغَ علم إسرائيل بالتراب ويقتل محاربو اليهود ويجلوا عن الديار ! ولا ندري ما يُخَبِّئُ المستقبل من أحداث .. بعد الظهر ذهبت مع الحاج توفيق والأخ خليل لزيارة المعرض الذي أقيم لعرض معدات الجيش الإسرائيلي التي غنمتها مصر في الحرب والذي يسمونه (معرض الغنائم) : دبابات ومدافع وعربات وسيارات ، وحطام طائرات وطائرات تجسس بدون طيار ، وألغام وقنابل لم تفجر وهي تبعث في النفس الهلع لما يمكن أن تحله من دمار إذا انفجرت ، ومعظمها صناعة أمريكية !

[align=center]قلق من السكن
السبت 22 كانون الأول 1973م = 28 ذو القعدة 1393هـ
[/align]
هناك أمور قد تستطيع أن تقنع نفسك بصوابها أو بإمكانية احتمالها أو أنها خير من غيرها ، ولكن تظل أحياناً هذه القناعة عرضة للزعزعة ، أنا منذ أن سكنت في هذه الشقة مع الأخ خليل فإني قد تخوفت من نتائج هذا السكن ، أي أني كنت أخشى على المستقبل ومن المستقبل ، وحملت نفسي على الاقتناع بهذا السكن، ولكن كلما يمر يوم وأذهب إلى الكلية أو إلى المكتبة تتجدد المرارة والمشكلة ، وبدأت أسقط هذه البواعث على كل شيء ، محاولاً أن أقنع نفسي الانتقال من هذه الشقة ، فالمتاعب لا تحصى تخرج قبل ساعة وتصل بعد ساعة على الأقل ، وتصل البيت وأنت مُنْهَدُّ القوى لا تقوى على عمل شيء ، البعد عن الكلية والمكتبة ثم هذه الزيادة في النفقات ، أنا إلى اليوم أنفقت في الأمور العادية ما لا يقل عن سبعين جنيها مصرياً .. ولما ينقض الشهر ، وكنت قد عرفت رأي الأخ خليل في مكان السكن وطريقة المعيشة معه بعد أن سكنت معه ، ليس فيه شيء لا يرتاح إليه الإنسان إلا هذا الأمر وهو مهم بالنسبة لي ، منطقة هادئة جيدة لا يقال عنها إنها شعبية وهو أمر مهم ، إضافة إلى هذا فإن نفقات البيت ترتفع ارتفاعاً غير محتمل ، وعلى تقديري فهي لن تقل عن العشرين جنيهاً ، وعشرين للسكن وملحقاته من بَوَّاب إلى شغالة ، وعشرة جنيهات نفقات مواصلات ومتطلبات أخرى على الأقل ، فلن يقل المصروف الشهري إذن عن خمسين جنيهاً بل ربما يزيد إلى الستين ، ومالي ولهذا البذخ الذي لا يجلب منفعة ، كان اليوم وفي آخر الليل حديث مع الأخ خليل حول الموضوع وإمكانية التحول ، ولكنه دائما يضع هذه المقدمة : لا أسكن في المنيرة ، منطقة شعبية ، والأخ خليل لديه قدرة مالية أكثر مني ، فهو موظف مجاز دراسياً ، ويتقاضى راتبه كاملاً ، وأنا طالب أدرس على نفقتي الخاصة ، ومن ثم أسعى إلى ضغط النفقات ، ولذلك أجدني مقتنعاً بالسكن في المنيرة رغم ما فيها من مضايقات محتملة ، ولكن ذلك سيخلصني من مشاكل ويوفر لي وقتاً وجهوداً.

[align=center]مناقشة رسالة ماجستير
الأحد 23 كانون الأول 1973م = 29 ذو القعدة 1393هـ
[/align]
كأنني أدور في فراغ ليس له حدود ، ولكن الضجيج المتطاير شرره حولي يوقظني كل حين من سِنَةٍ تداعبني وأنا أسير ، حقا كنت عصر هذا اليوم أحمل هموماً ، وأنا في داخلي حزين ، لأسباب تناسيها خير من الاسترسال في نسجها ربما من الخيال ، تذكرت أن السيد ناطق صالح مطلوب كانت مناقشة رسالته قد تأجلت إلى هذا اليوم من الأحد الماضي ، وهو ممن أعرفه من أهل بيجي وكصديق وابن شيخنا صالح المطلوب ، قلت أحضرها وهو الذي أكد على ذلك من قبل ، وتم نصاب المناقشة حضر ثلاثة من الأساتذة الذين سيناقشون ، وإذا بالدكتور محمد عبد الهادي شعيرة أحدهم ، وهو ذلك الشيخ المنهك الذي ناقش محمد فضيل في الصيف ، وحضر الطالب ، وحضر المشاهدون بحدود العشرين أكثرهم من العراق ممن يدرس هنا أو يعمل ، كنت حريصاً على هذه الساعات التي ستذهب هدراً ولكنها لن تخلو من فائدة وبدأت الجلسة بكلمة رئيس اللجنة د. شعيرة وهو الذي لا يكاد يبين من الهرم ، وأخذ الطالب في عرض رسالته حتى انتهى ، وحصل على درجة الماجستير في التاريخ عقب المناقشة ولله الحمد ، وبارك الجميع له .

[align=center]ازدياد قناعتي بتغيير السكن
الاثنين 24 كانون الأول 1973م = 30 ذو القعدة 1393هـ[/align]

أصبح أمر استمراري في السكن مع الأخ خليل مشكوكاً فيه ، وأنا حريص على ذلك ، ولكن الظروف ومتطلبات الدراسة هي التي ستفصل الموقف، المصاعب الجمة التي أجابهها في الوصول إلى الكلية أو إلى المكتبة أخذت تضايقني كثيراً ، وعلى هذا صرت أحبذ السكن في مكان قريب من الكلية ، لاسيما أن مكتبة معهد الدراسات والبحوث العربية قريبة من الكلية جداً ، وهي غنية بالكتب اللغوية ، وهنا مسألة خطيرة أيضاً وهي ازدياد المصروفات ، سألني أمس عبد الستار العبدلي ، أحد الطلاب الذين درسوا في الموصل قسم التأريخ وهو يدرس الآن ماجستير سنة ثانية – سألني عن إيجار الشقة التي نسكنها فأخبرته فَبُهِتَ وتَسَمَّرَ وعَجِبَ ، هو وآخر يسكنون في مصر الجديدة في روكسي في شقة بخمسة عشر جنيهاً ، إلا أنها ليس فيها ثلاجة ولا سخان ، المهم أن المصروفات لن تقف عند حد كما يبدو ، وقد اقترحت على الأخ خليل أن ننتقل إلى مكان أقرب ، ولكنه رفض ذلك وكررت أمس الحديث عن الموضوع وإذا به هذه المرة يقول : بأنه ليس لديه مانع من خروجي من الشقة ، وأن أسكن في أي مكان أشاء ، على كل حال هو لديه رأي ولا يريد أن يتحول ، ولكن تبقى مسألة وهي أنني قد أصبحت شريكاً وطرفاً في تعاقد الإيجار ، وإذا ما خرجت أنا فسوف يصبح عبء الإيجار عليه كله ، وهذه مسألة أنا غير مرتاح منها ، وأخيراً بدأت أفكر بغض النظر عن كل الظروف في الطريقة التي أستطيع أن أعيش فيها قريباً من المكتبة والكلية ، مرة أقول أؤجر شقة في المنطقة ، ولكن لم أجد الشقة المناسبة حين بحثت أمس عن الشقة ، وربما وجدت شقة ولكنها ستكون مرتفعة الثمن ، أقول مرة أسكن في فندق وربما في نفس الفندق الذي كنت أنزل فيه من قبل ، ومهما كانت الطريقة فيبدو أني سأنتقل مع بداية الشهر وتُحَلُّ كافة الأمور ساعتها بأي أسلوب ، وأنا في خضم هذا التفكير وبعد أن عدت إلى البيت بعد الثامنة مساء إذا برسالة وصلت لي من الأهل وهي أول رسالة تشجعني على الثبات والإنفاق كيف ما أشاء وأنهم مستعدون لتلبية كافة الطلبات والرغبات ، وأنا لا شك أقدر ذلك من أول الأمر ولكن ما ينبغي لي أن أطلق العنان أو أضع نفسي في موضع الإسراف من غير ما ضرورة تدعو إلى ذلك.

[align=center]معاملة الإقامة
الأربعاء 26 كانون الأول 1973م = 30 ذو القعدة 1393هـ[/align]

حين عزمت على السفر إلى القاهرة كان لا بد من مروري على سفارة مصر في العراق ، وأخذ إذن مسبق بالدخول إلى الأراضي المصرية ، عندها كنت أريد أن أسافر بصفة زائر لعدم حصولي على القبول الرسمي وحصلت على إذن بالدخول والإقامة لمدة شهر ، ويسر الله ، وقد أوشك الشهر الآن أن ينتهي فلا بد إذن من عمل شيء ، حصلت أمس على تصديق من الكلية إلى مديرية السفر والجوازات المصرية ، ولا بد إلى جانب ذلك من تحويل عشرين جنيهاً مصرياَ بالسعر التشجيعي (كان قبل ذلك عشرة بالسعر الرسمي) عن كل شهر ، قبل أيام دفعت أجور الدراسة بالسعر الرسمي ، وبقي لدي من العملة الصعبة 90 باوناً استرلينياً ، وهي تسعة شيكات سياحية من فئة عشرة باونات ، وقد حولتها في بنك مصر فرع هلتون ، وصارت (120 جنيهاً مصرياً) أي إنني يمكن أن أحصل على إقامة لمدة ستة أشهر على أساس تحويل عشرين جنيهاً لكل شهر ، بعد هذا لا بد من الحصول على شهادة بالتحويل من بنك مصر المركزي معنوناً إلى مديرية الجوازات والسفر ، وبعد رواح ومجيء ودَفْعِ بعض القروش عن الدمغة(أي الطابع) حصلت على الوثيقة ، ولكن كانت الساعة قرب الواحدة والنصف ، وعلي أن أسير بعض الوقت من قرب العتبة إلى مجمع التحرير ، وصلت بعد الواحدة والنصف بقليل ودخلت على غرفة موظف الإقامة الخاصة بالبلاد العربية ، وكلمت أحدهم أني أريد عمل إقامة ، فما كان الجواب إلا أن قالوا : بُكْرَا الصبح ، وكأن عملهم قد انتهى من الساعة الثانية عشرة ، الظاهرة العامة التي بدت لى من خلال المراجعات المحدودة لبعض الدوائر الرسمية هنا أن الموظف قليل الالتزام بساعات العمل ، ويبدو أن المراقبة والمحاسبة ضعيفة ، وقد سمعت مثل هذا الشعور من آخرين ، وهناك ظاهرة أخرى تتصل بهذا وهي أنك إذا تعرقلت لك معاملة أو حاولت أن تسرع في انجاز معاملة فإن ذلك ممكن عن طريق ما ، إذا كنت تعرف صديقاً فإنه يتجاوز بك القانون ، وإذا فُقِدَ الصديق فإن القروش تعمل عملها ولكن هذه ناحية خطرة ، إذ أحياناً تسبب مشاكل ، ولكن لن تقاس بما يناله الموظف المرتشي في العراق(4).

[align=center]التخلي عن فكرة الانتقال
الخميس 27 كانون الأول 1973م = 3 ذو الحجة 1393هـ[/align]

لعلها كانت أخطر فكرة تلك التي راودتني خلال هذه الأيام وألحت علي كل الإلحاح وكادت أن تدفعني إلى متاهات ربما تكون نتائجها وخيمة على هدفي الذي جئت من العراق إلى هنا أسعى في سبيل الوصول إليه وتحقيقه ، فقد أخذتْ تراودني فكرة أن السكن غير ملائم وأنه يسبب لي مشاكل كثيرة ، وأني يجب أن أتحول إلى مكان أقرب ، وأخذتُ أُسْقِطُ كل ظاهرة سيئة على عدم صلاحية السكن، مرة أقول المواصلات ، أو لست أنا الذي أقول .. في داخلي شيء يقول إن المواصلات صعبة ، وإن المكان بعيد ، ومرة أخرى أقول إن المكان صاخب ، وثالثة أفكر أن سبب ارتفاع المصاريف هو السكن ، وظلت هذه الأفكار تختمر حتى أوشكت أن تسيطر على تصرفاتي ولم أعد أتجاهل هذا الذي يحدثني من داخلي ، وحدثت الأخ خليل حول الانتقال .. لكنه رفض ذلك وطلب مني ألا أفكر بمثل هذه الأفكار التي ستجر علي المتاعب ، ولكني كنت مُصِرّاً على أن هذا السكن سيؤثر في الوصول إلى الهدف الذي جئت أسعى إليه ، ونتيجة لإلحاحي قال إنه يمكنني الانتقال وحدي إذا وجدت من أسكن معه ... وأين أجده ، ولكنه ذكرني بأني شريك له في العقد والتأجير ، وكأن هذه الأمور أصبحت جانبية لدي وما علي إلا أن أفكر في الانتقال ، أعوذ بالله ، قلت لا يلزم أن أجد من أسكن معه ويمكن أن أسكن وحدي ، أؤجر شقة قريبة هادئة رخيصة وأعيش للدراسة ، وإذا لم تكن هناك شقة فالفندق قريب نظيف لطيف ! وأصبح كل شيء حسن رغم أنه غير ذلك في الواقع ، ودفعتني تلك الأفكار إلى أن أخطو في سبيل تحقيق ما توسوس به إلي نفسي ، ذهبت إلى فندق أنجلو سويس ، وأنا في داخل المصعد سمعت (المدام) بصوتها الصاعق الحاد يدوي في أرجاء الفندق ، وقابلت ذلك الوجه البغيض إليَّ (المعلمة زينب) جئت أسأل عن وجود غرفة فارغة .. موجودة ، ولكني لم أحجز قلت غداً أو بعد غد أمر ، وعرجت على المنطقة القريبة من المنيرة التي تقع فيها كلية دار العلوم وبدأت مرحلة التفتيش ، وتذكرت تلك الأيام التي قضيتها مع الأخ خليل ونحن نبحث عن السكن ، ولكني كنت أخطو هذه المرة وأقف وأشعر في داخلي ، بمرارة ولكن الصدى يدوي حولي أن امضِ ولا تجعل الوقت يذهب سدى ، وسألت بَوَّاباً عن وجود شقة في عمارته ، فاهتز ونادى على سيد طه .. وتذكرت سيد ذلك الذي لم ينقطع عن الكذب علينا وجاء طه .. أية خدمات (يا بيه) وفهم أني أبحث عن شقة وغرفه واحدة ، وأخذ يسرد على سمعي كلمات الاهتمام بالأمر ، وهو يقول : (في حته مختصرة) في ميدان سماه ، قلت:(أنا أريد قرب الكلية) .. قال: (آهو كده) الميدان قريب ، ومضينا وهو يحدثني أن العمارة جديدة ، وإذا بها وسط ضجيج عارم عمارة تسعة طوابق ، والشقة في الطابق التاسع في المجموعة الواقعة في وسط العمارة ، قلت ندخل نشوف الشقة فقد وصلنا ، ولم نصل إلى الشقة إلا بشق الأنفس ، وفَتَحَ الباب فاندفعت إلينا من داخل الشقة روائح كريهة قاتلة ، كاد يلفني الغثيان، أَسِرَّةٌ وفرش وأثاث آسن قديم وسخ ، وخرجت مسرعاً وتحطمت كل آمالي هناك ، وإذا السكن الجديد الذي كنت أبحث عنه صعب المنال ، ولكني غير مرتاح في داخلي .. مضيت والتقيت بالأخ مجاهد وفهم المشكلة التي تدور أحداثها في داخلي أكثر من أن تكون لها في الواقع قرار ، ولكنه ذكرني بأمور كثيرة وحدثني بعض الحديث اللين ، ولكن لم أجد في كل ذلك ما يشفي الغليل ، ومضيت وانقطعت ساعة في التفكير ، ماذا لو ظللت في مكاني مع الأخ خليل ونعم الزميل هو ، ونعم الرجل الملتزم هو ، شقة جيدة مواصلات سهلة في كل الجهات ، منطقة نظيفة ، وأخذت الأفكار تصطرع في داخلي وما سيترتب على انتقالي إذا تم من مشاكل بالنسبة لي ، وأخيراً شعرت أن سكني مع الأخ خليل في المكان الذي نسكنه الآن لن يعيق أو يبدد شيئا من جهودي، وعرفت وكأن ذلك للمرة الأولى أن لا بد من التضحية ببعض الوقت في كل الأحوال وأما مسألة المصروفات فإنها يبدو لن تزيد على الثلاثين دنياراً ، وها هم الأهل قد وعدوني بإرسال خمسين إن اقتضى الأمر .. كيف ستشعر إذا انتقلت ، كيف ستواجه الأمور وحيداً ، والأحداث التي لا تخطر على البال ، وهذا بلد لا يأمن المرء على نفسه من فتنه ، وانقلبتُ لهذا ولغيره بما لا أجد تعبيراً عنه انقلبت نهائياً ضد فكرة الانتقال إلى مكان آخر! والحمد لله.

[align=center]لسان العرب
الاثنين 31 كانون الأول 1973م = 7 ذو الحجة 1393هـ[/align]

كنت أفكر بعدم شراء أي كتاب إلا ما كان ضرورياً تفرضه المحاضرات ، وفعلاً لم أشتر خلال الفترة الماضية من وجودي في مصر إلا كتباً معدودة بعدد الأصابع ، وحدث أن تقرر أن يقرأ كل طالب جزءاً من لسان العرب ، قلت أذهب إلى المكتبة العامة أقرأه هناك وأكتب ما هو مطلوب ، وذهبت مرتين وثلاثاً و أربع مرات ، ولكن لم أتجاوز الخمسين صفحة في الجزء المقرر علي ، وهو الثاني من طبعة بيروت ، حاولت الحصول عليه من صديق ، ولكن لم أجد ، وذكروا أنه غير مرتفع الثمن ، وحدثت نفسي بشرائه ، ودرت في مكتبات القاهرة التي عرفتها ، ولم أجد طبعة بيروت إنما كانت هناك طبعة بولاق عشرين جزءاً ، وهي لا تقل عن عشرين جنيها ، قلت لا أشتريه ، ظللت عدة أيام أفكر بالأمر ، هو ثروة مخزونة فلماذا لا أقتنيه وأستفيد منه في هذه الفترة ، فالذهاب إلى المكتبات للقراءة فيه سيكلفني وقتاً طويلاً ، ووقر في نفسي شراؤه ، ذهبت أمس إلى شارع عبد الخالق ثروت باشا حيث توجد عدة مكتبات ، وسألت عنه ، هناك طبعة مصورة عن طبعة بولاق ولكنها غير مجلدة ، أخيراً وجدت نسخة في مكتبة عالم الكتب مجلدة تجليداً جيداً ، عشرين جزءاً في عشرة مجلدات ، وطلب صاحب المكتبة فيها ثلاثين جنيهاً ، عشرين للكتاب وعشرة للتجليد ، وبعد رواح ومجيء تمت الصفقة بستة وعشرين جنيهاً .. وحملته إلى الشقة وأنا فرح مسرور(5) ، كنت قد اشتريت من دار المعارف تسعة كتب كلفت سبعة جنيهات تقريباً ، واشتريت مجموعة أخرى من معهد الدراسات العربية ، ولم تكلف أكثر من جنيهين وربع ، وهذه الكتب في علم اللغة الحديث والدراسات التي تخص القديم ، وسأحاول إن شاء الله الانقطاع في البيت عدا ما تتطلبه المحاضرات وبعض الروحات إلى المكتبة لمتابعة البحوث سأنقطع في البيت وأنصرف لقراءة أكبر قدر ممكن من هذه الكتب، حتى يمكنني أن أَبْنِيَ لي أساساً لا بأس به في علم اللغة الذي أكاد أكون طارئا عليه ويكون جديداً كل الجدة علي ، ومع كل ذلك فإن في البحوث الجيدة في هذا المجال لذة العلم الحقيقي فهو يخلو من تعقيدات النحو وتأويلاته غير المبررة والتي تعتمد على المنطق والجدل مما هو بعيد عن طبيعة اللغة والتي يناسبها الأسلوب الوصفي منهجاً لدرسها ، وعلى هذا فإن الكتب التي اشتريتها لم تكلفني خمسين جنيها إلى الآن ، وهو مبلغ غير قليل ، ولكن هذه الكتب ثروة علمية ستكون أساساً في ما سأقدم عليه إذا يسر الله لي في هذا المجال.

[align=center]آخر يوميات سنة 1973[/align]
وانتهت صفحة ، وانطوت بكل ما فيها من خدوش وألم وسرور ، آمال وأحلام ، انتهت وأنا قد أخذت في بداية هذا الطريق الذي يسره الله لعلي أبلغ نهايته أو أمضي فيه خطوات إذ لا نهاية للعلم . وأدعو الله تعالى أن يكتب لي أجر من طلب العلم في سبيله وفي خدمة لغة كتابه القرآن الكريم ، آمين !

[align=center]يوميات سنة 1974م
جمع النقيضين
الثلاثاء 1 كانون الأول 1974م = 8 ذو الحجة 1393هـ[/align]

في هذا البلد – القاهرة – قد احتفظ أفراد المجتمع بعاداتهم وتسامحوا مع عادات غيرهم , وقد حدث أن اتفق حلول عيد الأضحى للمسلمين مع رأس السنة الميلادية , ولا أدري ما موقف الحكومة هنا من اعتبار رأس السنة الميلادية عطلة كما فعل العراق منذ السنة الماضية ، فقد جعلت الحكومة العطلة واحدة اعتباراً من يوم غد , ولكن الظاهرة على المستوى الشعبي أن الناس يحتفلون برأس السنة الميلادية كما يحتفلون بالعيد , على واجهات المحلات التجارية عيد سعيد وعام سعيد , ولعل في هذا البلد من الازدواجية شيئاً كثيراً يكاد يكون الصبغة العامة والظاهرة البارزة ، والمسلمون متمسكون بالدين والقاهرة مركز لعلوم الإسلام ولا تزال الدراسات الإسلامية متقدمة ولا تزال المساجد تغص بالمصلين حتى لقد امتدت مساجدهم في الشوارع , وفي الجانب الآخر امتد الفساد في شوارعهم بعد أن أترعت مواخيرهم ، فإن الخمر وما يشبهه وإن اختلفت أسماؤه يشرب في الشوارع ويباع في المحلات العامة , وتشعر وكأنك في بلد غربي , وهذا التقليد الفاسد للعادات الغربية في الملابس والتصرفات كأنها صارت عريقة في هذا البلد ، ومن مظاهر ضعف الوازع الديني هنا هو هذا التساهل وغض الطرف عن الزي الذي تخرج به المرأة إلى الشارع , والاختلاط المحموم ، وظاهرة الانحراف الاجتماعي الذي يسمونه حضارة وثقافة من مراقص ومفاسد ، ومن المفارقات هنا أنه بقدر المساجد توجد كنائس ، وبقدر الكنائس توجد مراقص وسينمات .

[align=center]يوم عرفة
الأربعاء 2 كانون الثاني 1974م = 9 ذو القعدة 1393هـ[/align]

خفقت القلوب اليوم كما كانت تخفق كل عام في مثل هذا اليوم , هناك خفقت قلوب الواقفين على أرض عرفات في ذلك المكان الكريم الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام حين أدى حجة الوداع , فكانت وقفة عرفة في مثل هذا اليوم من شهر ذي الحجة من كل عام غاية حج المسلم " والحج عرفة " خفقت قلوب أولئك المتطلعين إلى السماء من ذلك الصعيد الطاهر , فخفقت قلوبهم بالحمد والتكبير والتهليل والتلبية وهم يستذكرون حياة الإسلام وجهاد النبي وصحبه من أجل أن ينتشر الإسلام وتسعد البشرية به , ونحن هنا في الأطراف المعمورة تخفق قلوب المسلمين وهم ينصتون للراديو وهو ينقل وقائع يوم عرفة : صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً في مسجد نمرة ، ثم وقوف الحجاج في عرفة ثم انسحابهم عند الغروب إلى مزدلفة والمشعر الحرام حيث يؤدون صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً , قلوبنا تخفق مع أولئك الذين سعدوا بهذا اليوم الكريم قرب البيت الحرام يؤدون شعائر الحج كما أداها النبي  والمسلمون منذ ما يزيد على ألف وثلاث مئة عام , قلوبنا تهفو إلى تلك الأماكن وعيوننا تدمع حزناً ألا نجد السبيل إلى هناك , هنا في القاهرة قضيت عصر هذا اليوم وأنا أنصت إلى الراديو ينقل وقائع يوم عرفة , كما كنت أنصت في الأعوام الماضية عندما كنت بين الأهل في العراق ، في بيجي كنا نتحلق حول الراديو ولعلهم اليوم فعلوا ما كنت أفعل معهم من قبل ، وخاصة أن لهم مع الواقفين في عرفة أحبة ، ولو أن كل من وقف على عرفة حبيب إلى نفس كل مسلم , ولكن ليس بعد الله ورسوله إلا الوالدان , اللهم فاغفر لي ولوالدي وإخواني وأخواتي وأقربائي والمسلمين آمين .

[align=center]أول أيام العيد
الخميس 3 كانون الثاني 1974م = 10 ذو الحجة 1393هـ
[/align]
كان صباح اليوم بارد النسمات , لكن في الأعماق ما يبعث في أوصالنا دِفْءاً وحرارة , صليت والأخ خليل صلاة العيد في الجامع الذي يقع عند (كوبري الزمالك ) حيث غص الجامع بالمصلين وما أجمل التكبير والتهليل والدعاء وما أجمل اللغة التي يرددون بها ذلك , تشعر وأنت في داخل الجامع انه لم يبق أحدٌ إلا وقد حضر ، و تخرج وتشعر كأن أحداً لم يحضر ! وعدنا لحظات إلى البيت ثم بدأنا رحلة جديدة في الضحى , في كل هذه الانتقالات أتذكر الأهل وما كنا نفعله في مثل هذا الصباح من كل عام نخرج إلى الجامع فنحضر صلاة العيد ونعود إلى البيت لحظات ثم نخرج إلى أطراف المدينة لنلتقي الأقارب والأصدقاء , ونحن هنا نفعل الذي كنا نفعل , إذ نجد العيد فرصة لزيارة الأصدقاء والإخوة الذين تعرفنا عليهم هنا , ومن الأمور اللطيفة أني التقيت بشخص اسمه علي عبد الله صالح(6) من ألبو عجيل قرب تكريت ، وهو خريج كلية الزراعة ، قد حضر هنا للتدريب ولعله يسافر قريباً إلى إيطاليا لنفس الغرض , هو صديق الأخ سالم والأخ علي حميد وهو يذكرهم , وحين التقينا عرفني لأول وهلة.
عُدْتُ في المساء إلى البيت متعباً راضياً , وأطرقت أفكر أتذكر الوالد والوالدة وهم قد قضوا حجهم إذا شاء الله ، وسيعودون بعد أيام قريبة إلى بيجي بعد أن حققوا أمنية عظيمة طال ما تطلعوا إليها ويتطلع إليها كل مسلم ، الوالد كان يقول أول حجة ناقصة ! لأن الحاج لا يعرف الأماكن ولا يؤدي الشعائر كاملة فلا بد من حجة ثانية تامة غير ناقصة , ذكرت أيضاً الأهل هناك على طرف الصحراء في بيجي الأقارب في تكريت وبغداد , لعلهم قد فرحوا بالعيد واحتفلوا طاعة لله وعبادة لا بطراً ولا معصية .

[align=center]رُبَّ أخٍ
الجمعة 4 كانون الثاني 1964م = 11 ذو الحجة 1393هـ[/align]

إذا كان قد قيل سابقاً " رب أخ لك لم تلده أمك " فإنه أشد ما ينطبق على حال المسلم تجاه أخيه المسلم ، كيف لا والله ربنا سبحانه يقول : ﯜﯝ ﯞ لكن المهم أن يعيش المسلم هذه التجربة , تجربة الأخ المسلم الذي لم تلده أمه , أنا لم يمض لي هنا في القاهرة إلا شهر أو يزيد قليلاً , وجاء عيد الأضحى وكنت أشعر أني سأكون في هذا العيد وحيداً أو أني والأخ خليل سنكون وحيدين ، ولكن بدد كل تلك الأفكار وذلك الشعور حلول العيد بكل ما يحمل من ذكريات وأفراح وآمال وآلام يتطلع المسلمون إلى اندمال الجروح التي تسببها , وإذا أنا أعيش خلال اليوم والأمس شعوراً قريباً من الشعور الذي يمكن أن أحسه بين الأهل ، لا بل إن هذا الشعور تجربة جديدة فريدة جعلتني أحس بحق صدق ذلك القول بالنسبة للمسلم , وجعلني أفرح بوجود هذا الرابطة الأخوية بين المسلمين , من أوطان كثيرة ومن هذا البلد شباب لا تربطك بهم إلا رابطة هذا الدين والإخلاص لله ورسوله , تعيش معهم وتمنحهم قلبك لأنك تشعر أنهم يمنحونك كل حب وود وكل ما يمكن أن يمنحه بشر لأخيه لا لأجل مطمع أو غرض مادي يمكن أن يستفيدوه من وراء ذلك ولكن يدفعهم شعور المسلم تجاه أخيه المسلم وما يجب أن يكون عليه من حب لأخيه , إني لأعرف هنا في القاهرة بعض الأشخاص من العراق ولكن لم أكن حريصاً على الالتقاء بهم أو زيارتهم حتى في العيد , لأنهم لا يمكن أن يسمعوك إلا ما يؤذي ، أما هؤلاء فإنهم ينقلونك إلى معنى يهزك من أعماقك .

[align=center]زيارة
5 كانون الثاني 1974م = 12 ذو الحجة 1393هـ [/align]

كنت غير مندفع إلى زيارته ولكني كنت أجد في نفسي أحيانا ما يجعلني أفكر بزيارته , كان يسكن في شقة في عمارة صغيرة وحده , كنت قد مررت عليه في مساء أول أيام العيد فلم أجده , قلت أذهب إليه بعد الظهر هذا اليوم , فهو قد زارنا قبل العيد بيوم أو يومين لم يكن مكانه بعيداً عن الشقة التي نسكنها ، ورغم ذلك فقد ركبت إليه بـ ( بالأوتوبيس ) وصعدت السلم إلى الدور الرابع أو الخامس وأحسست ببعض التعب , وقفت أمام الباب لحظات قبل أن أضغط على مفتاح الجرس , وأحسست أن في البيت أحداً ضغطت على الجرس فهدأت فجأة الأصوات وانتظرت الجواب , ومرت فترة يبدو أنها قد طالت , وسمعت صوتاً ينبعث من خلف الباب: ( مِنُو هَاذْ ) , قلت : أنا فلان ، فإذا بالشباك الصغير في الباب ينفتح وكأنه يريد أن يتأكد من هذا الطارق , خفق قلبي لهذه المواقف وفتح الباب ، ولكني تسمرت في مكاني وأحسست أن أطرافي قد تخدرت كنت أود ألا أصافحه مد يده أخذ يدي وأنا صامت ، وسرت خطوات بعد تلك اللحظة التي رأيت عند فتح الباب ما ساءني فيها , وجلست قلقاً على مقعد في " الهول " وراح هو على ما يبدو يعالج الموقف , ولكن وجهه قد امتقع وأطرافه ترتعش ويحاول أن يغطي على الموقف بكلامه وثرثرته , أما أنا فلم أحاول الكلام أو التعليق , وبعد قليل مضيت لسبيلي وأنا أحدث نفسي عن هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون عن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالمعروف وهم يتعاطون المنكرات , مضيت وأنا أحدث نفسي أن إنساناً لا يصلي ولا يؤمن بالله وبكتابه حق الإيمان ليس جديراً بأن يجعل له في القلب أقل احترام بله الزيارة وإنفاق الوقت الثمين .

[align=center]قراءة في لسان العرب
الثلاثاء 8 كانون الثاني 1974م = 15 ذو الحجة 1393هـ[/align]

ذهبت صباح اليوم إلى مكتبة جامعة القاهرة وعملت على تدوين عدد من أسماء المصادر والكتب التي تبحث في علم اللغة , وعندما خرجت مررت بمكتبة في الدقي ورأيت فيها كتاباً بالإنجليزية مطبوعاً في مصر ، عنوانه أصوات اللغة الإنكليزية , وطلبت من صاحب المكتبة أن يريني إياه , وهو مطبوع بالآلة الكاتبة ومسحوب بالرونيو على ما يبدو ، وقد اشتريته على أمل دراسته وأن يكون بداية لي في قراءة بعض الكتب الإنجليزية في علم اللغة وإن كانت بداية صعبة (بـ 65 قرشاً ) , اليوم انتهت عطلة العيد التي امتدت منذ يوم الاثنين ، هنا عطلة العيد أسبوع كامل على ما يبدو ، تبدأ قبل العيد بيوم أو يومين وتنتهي بعده كذلك ، كنت طوال فترة العيد أقرأ في لسان العرب محاولاً إنجاز البحث الذي كلفنا به الدكتور عبد الصبور شاهين ، وهو قراءة جزء من لسان العرب وتدوين ما قال عنه إنه لغة أو لثغة ، أي ما خرج عن الفصحى من ظواهر لهجية وما إليها , وقد كان عليَّ قراءة الجزء الثاني من طبعة بيروت , أحاول أن أنجز هذا العبء لأتحول إلى غيره من البحوث والدروس ، والكتب التي اشتريتها قبل العيد لا تزال تنتظر ، وأنا أَعِدُ نفسي بأن أقرأها كلها ولكن يبدو أن ذلك لن يتم إلا بعد مضي فترة طويلة على الأقل ، إن لم تكن قراءة بعضها مستحيلة , على الأقل أقرأ ما هو ألصق باللغة منها , ولدي بحث في الأصوات ، عن الأصوات عند ابن يعيش ، أيضاً أحاول بعد إنهاء بحث اللسان إكماله ، مضيت إلى الآن في لسان العرب إلى الثلث تقريباً , ولكن هناك مشكلة ميدانية وهي أنه يصعب أحياناً تحديد الظاهرة بالضبط مما يسبب بعض الاضطراب ، والمهم أن أكمل تحديد الظواهر .

[align=center]صلاة الجمعة في مركز الإطفاء
الجمعة 11 كانون الثاني 1974م = 18 ذو الحجة 1393هـ
[/align]
حدث أن كنت وقت صلاة الجمعة في ميدان العتبة أو قريباً منه , وسمعت قارئ القرآن يرتل قريباً مني , وظننت أن البناية المجاورة لي هي مسجد حاولت أن أجد المدخل فخاب ظني حين وجدت أنها ليست مسجداً بل هي أبعد ما تكون عن هذه المباني .. وأسرعت خشية انقضاء الوقت وفجأة وجدت الحصر تمتد إلى الشارع وإذا هي صلاة الجمعة في مسجد صغير تابع أو ملحق بمركز الإطفاء العام في القاهرة في ميدان العتبة , المهم أن أؤدي الصلاة ، ودخلت فإذا بالمسجد كأنه في الميدان (ميدان قتال) رجال الإطفاء بملابسهم والسيارات الحمراء تصافح المصلين والمسجد يبدو قد أقيم في شقة في مستوى الأرض فهو يظهر عليه ذلك من تعدد شعبه ، وتذكرت قولاً عرفناه في تأريخ الحضارة الإسلامية أنه صار لكل مدرسة مسجد يناسبها ، وهنا في القاهرة يبدو أن لكل دائرة مسجداً يناسبها أيضاً ، والآن في العراق لا يمكن أن تجد أحداً يفكر في إنشاء مسجد في أكبر دائرة ، جلست وقارئ من أحد رجال الإطفاء يقرأ القرآن كأحسن ما تكون القراءة ، وأُذِّنَ الأذان الأول وامتلأ المسجد بالمصلين من رجال الإطفاء ومن الطارئين أمثالي , ووقف الخطيب ، وهناك أغلاط فقهيه كان يجب تلافيها ، ولكن يبدو أن قلة فقه هؤلاء العمال قد جعلتها تستقر , صعد الخطيب وأخذ كراساً مطبوعاً وفتح صفحة وراح صوته يدوي ، صوت جهوري بحيث غطى على أغلاطه اللغوية حتى في الآيات القرآنية , وهذه الطريقة في خطبة الجمعة يُضْرَبُ بها المثل , ثم والإمام يخطب حضر كبير الدائرة وهو بزيه العسكري برتبة مقدم ، فإذا القوم يرفعون أيديهم وهم جلوس يحيونه ويوسعون له في الصف الأول ، وجلس وراح يدردش فترة والإمام يخطب ، ومَن دردش فقد لَغَا ومَن لَغَا فلا صلاة له .. ظاهرة طيبة يُخْشَى عليها من الجهل .

[align=center]النبر في العربية
السبت 12 كانون الثاني 1974م = 19 ذو الحجة 1393هـ
[/align]
قبل أيام لاحظت لافتة معلقة في إحدى جنبات الكلية فيها إعلان عن مناقشة رسالة دكتوراه موضوعها النبر في العربية في العصر الحاضر ، تجري في كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر في قاعة العقاد ، وموعدها مساء هذا اليوم فقلت في نفسي أحضرها فموضوعها بعض ما ندرس ثم ما يمكن أن أستفيده للمستقبل من حضور مثل هذه المناقشة ، وبعد الغروب خرجت من البيت بحي الإعلام واضطررت إلى أخذ تكسي حتى لا يفوتني شيء , صليت المغرب في الجامع الأزهر ومضيت إلى كلية اللغة العربية التي تضمها بنايات جامعة الأزهر ، ودخلت الباب الرئيسي وكان هناك ما يسمى بالعسكري سألته عن قاعة العقاد فأشار إلى بناية مجاورة ودردش معها كلمات وفهمت أن القاعة في هذه البناية انحرفت يميناً ودخلت البناية فإذا هي في إحدى جنباتها قاعة كبيرة وفيها بعض الأفراد وهم على ما يبدو حضروا لمشاهدة مناقشة رسالة ودخلت ولم أشك أني قد ضللت الطريق ، فهذه أجهزة الصوت وهؤلاء المشاهدون والساعة تقترب من السادسة حيث سيدخل الطالب ومعه الأساتذة المناقشون ، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى أصبت بخيبة أمل حين دخل الطالب والأساتذة المناقشون ولم يكن أحدهم الدكتور كمال بشر عميد كلية دار العلوم ، وحاولت أن أجد لذلك تعليلاً بعد أن ظهر أن الرسالة في الفلسفة عن الغزالي قلت لعل صاحب النبر قد تأجلت مناقشة رسالته وبعد أن أنهى الطالب كلمته خرجت على استحياء وسألت بعض من هو واقف بالباب فإذا أنا قد دخلت في قاعة محمد عبده وأن قاعة العقاد في طريق آخر ، وأسرعت فوجدت القاعة غاصة والمناقشات على أشدها ، ولكن لم أمكث إلا القليل من الوقت ، ومَضَيْتُ.

نشرت هذه الحلقة يوم الجمعة 14/2/1431هـ


ــــــ الحواشي ـــــــــــ :
(1) تركت الدراسة في قسم علم اللغة في الأسبوع الأول من الدوام ، والتحقت في قسم النحو ، بناء على المناقشة التي جرت مع الدكتور أمين حول الموضوع ، لكن ذلك لم يدم طويلاً ، إذ إني رجعت إلى قسم علم اللغة بعد أيام قليلة .

(2) لم تسعفني الذاكرة الآن لمعرفة الأخ حسن أبو أسامة ، جزاه الله تعالى كل خير .

(3) يبدو أنه الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الخالق ، العالم الأزهري الأصولي ، صاحب كتاب حجية السنة ، وغيره ، وقد زرته لاحقاً في بيته ، وأفدت من مكتبته ، رحمه الله تعالى .

(4) كان ذلك في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، وتضاءلت محاسبة المرتشين حتى صارت ظاهرة شائعة في العراق ، بعد الاحتلال خاصة ، وصار الموظف النزيه في دوائر الدولة أقل من القليل .

(5) لا تزال هذه النسخة في مكتبتي ، وقد أفدت منها كثيراً ، والحمد لله.

(6) تجددت صلتي بالأخ علي أبو زياد بعد أن سكنت تكريت، بعد انتقالي إلى جامعة تكريت ، وهو يسكن تكريت أيضاً بعد تقاعده من الوظيفة في وزارة الزراعة ، وفقه الله .




حلقات سابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد ... (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
 
أشكر الشيخ الدكتور غانم قدوري الحمد على هذه الذكريات الماتعة النافعة جعلها الله في موازين حسناتك
 
إن هذه الذكريات جميلة حقاً ، وتحمل في طياتها الكثير من العبر والدروس ، ولقد سعدت بهذه الحلقات ، وأصبحت أنتظرها وأقرأها على ما في الوقت من ضيق، وأنا أثمن لك فضيلة الشيخ الموافقة على كتابتها، وأشكرك شكر من لا يجد ما يوفيك جزاء عملك إلا بالدعاء ، فأسأل الله تعالى أن ينفع بك وبها، وأن يجعلها في موازين حسناتك .
كما لا يفوتني أن أشكر كل من سعى لإخراج هذا الكنز المدفون ، وأسأل الله تعالى أن يبارك في جهودهم .
 
جزاكم الله خيرا يا سعادة الدكتور على ما تفضلت بسرده والحق أقول:
إن تسجيلكم للمواقف السياسية الدقيقة الحاسمة ليظهر اهتمامكم المبكر بقضايا الأمة التى مرت بها ، ويضعنا جميعا على المحك .
فللأسف قد نجد من المتعلمين من يعيش في واد والأمة وأخبارها في واد آخر
وقديما قالوا:" ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"

أفدت منكم دقة معرفة شرائح مصرية تكرر حتى يومنا هذا " بكره يا سيد " " لا مؤاخذه " " متقلقش " ...........................

سعدت أنكم من تلاميذ بحر العربية الذاخر أ.د. عبد الصبور شاهين

أسجل من خلالكم هذا التسامح التاريخي الذي ينقد وينقض كل فكر
مبني على الفرقة أو توهم العداوة بين شرائح المجتمع المصري أو افتعال الفتنة الطائفية فمنذ القدم " عام سعيد " كانت بجوال " عيد سعيد ".
تحياتي
 
عودة
أعلى