دِينُ الْعَجَائِزِ أو مَذْهَبُ الْعَجَائِزِ

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
بسم الله الرحمن الرحيم .......
دِين الْعَجَائِزِ أو مَذْهَب الْعَجَائِزِ هي عبارة ترددت عن جماعة المتكلمين – فهم من تمنوا أن يموتوا على دين العجائز ....
جاء في الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - للإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير (775-840) رحمه الله ........
قال القرطبي في ((شرح مسلم)) ما لفظه: ((وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة وأمداد بعيدة, فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي, فقد حكى عنه الثّقات أنّه قال: ((لقد خلّيت أهل الإسلام وعلومهم, وركبت البحر الأعظم, وغصت في الذي نهوا عنه, كلّ ذلك رغبة في طلب الحقّ وهرباً من التّقليد, والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق, عليكم بدين العجائز, وأختم عاقبة أمري عند الرّحيل بكلمة الإخلاص, والويل لابن الجويني!)).
وكان يقول لأصحابه: ((يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام, فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به)).
وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي, فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أتعلمون أحداً أعلم منّي؟ قالوا: لا. قال: أفتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإنّي أوصيكم, أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أهل الحديث, فإنّي رأيت الحق معهم.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري, ثمّ عدت القهقري إلى مذهب المكتب.
قال القرطبي: وهذا الشّهرستاني صاحب ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله, فتمثّل بما قاله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كفّ حائر ... على ذقن أو قارعاً سنّ نادم
ثمّ قال: ((عليكم بدين العجائز, فإنّه أسنى الجوائز)). انتهى ما حكاه القرطبي.
 
جاء في قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني لعبد المحسن بن حَمَد العبَّاد:
وكان أبو محمد الجوينِي والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ صار إلى مذهب السَّلف، وألَّف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية .
هل صحيح أنَّ أكثرَ المسلمين في هذا العصر أشاعرة؟
الأشاعرة هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وهو علي بن إسماعيل المتوفى سنة (330هـ) رحمه الله، وقد مرَّ في العقيدة بثلاثة أطوار: كان على مذهب المعتزلة، ثم في طور بين الاعتزال والسُّنَّة، يثبت بعضَ الصفات ويؤوِّل أكثرها، ثمَّ انتهى أمره إلى اعتقاد ما كان عليه سلف الأمة؛ إذ أبان عن ذلك في كتابه الإبانة، الذي هو من آخر كتبه أو آخرها، فبيَّن أنَّه في الاعتقاد على ما كان عليه إمام أهل السُّنَّة، الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - وغيره من أهل السُّنَّة، وهو إثبات كلّ ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله * من الأسماء والصفات، على ما يليق بالله، من غير تكييف أو تمثيل، ومن غير تحريف أو تأويل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
متكلِّمون يَذمُّون علمَ الكلام ويُظهرون الحَيرة والنَّدم......
عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهي صافيةٌ نقيَّةٌ، واضحةٌ جليَّة، ليس فيها غموض ولا تعقيد، بخلاف غيرهم الذين عوَّلوا على العقول، وتأوَّلوا النقول، وبنَوا معتقداتهم على علم الكلام المذموم، الذي بيَّن أهلُه الذين ابتُلوا به ما فيه من أضرار، وندموا على ما حَصَلَ منهم من شغل الأوقات فيه من غير أن يظفروا بطائل، ولا أن يصلوا إلى حقٍّ، وفي نهاية أمرهم صاروا إلى الحيرة والنَّدَم، فمنهم من وُفِّق لتركه واتِّباع طريقة السَّلف، وجاء عنهم عيبُ علم الكلام وذمُّه.
فأبو حامد الغزالي - رحمه الله - من المتمكِّنين في علم الكلام، ومع ذلك
فقد جاء عنه ذمُّه، بل والمبالغة في ذمِّه، ولا يُنبئك مثلُ خبير، جاء ذلك عنه في كتابه إحياء علوم الدِّين، حيث بيَّن ضررَه وخطرَه، فقال : "أمَّا مضرَّته، فإثارةُ الشبهات وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مِمَّا يحصل في الابتداء، ورجوعُها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضررُه في الاعتقاد الحقِّ، وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصُّب الذي يثور من الجدل".
إلى أن قال: "وأمَّا منفعتُه، فقد يُظنُّ أنَّ فائدَتَه كشفُ الحقائق ومعرفتُها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعلَّ التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربَّما خطر ببالك أنَّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا، فاسمع هذا مِمَّن خَبَر الكلامَ ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلِّمين، وجاوز ذلك إلى التعمُّق في علوم أخر تناسبُ نوع الكلام، وتحقق أنَّ الطريقَ إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جليَّة تكاد تفهم قبل التعمُّق في صنعة الكلام".
وقد نقل شارحُ الطحاوية عنه هذا الكلام وغيرَه في ذمِّ علم الكلام .
وقال: "وكلامُ مثلِه في ذلك حجَّة بالغة".
ثمَّ بيَّن شارح الطحاوية أنَّ السَّلفَ كرهوا علمَ الكلام وذمُّوه:
والسُّنَّة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعَّروا الطريقَ إلى تحصيلها، وأطالوا الكلامَ في إثباتها مع قلَّة نفعها، فهي لحمُ جَمل غثٍّ على رأس جبل وَعْر، لا سهلٌ فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقل، وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلاَّ التكلُّف والتطويل والتعقيد".
إلى أن قال: "ومن المحال أن لا يحصلَ الشِّفاءُ والهدى والعلمُ واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصلُ من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أنَّ يجعل ما قاله اللهُ ورسولُه هو الأصل، ويتدبَّر معناه ويعقله، ويعرف برهانَه ودليلَه، إمَّا العقلي، وإمَّا الخبري السَّمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيُقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يُوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُدَّ".
وقال أيضاً : "قال ابن رُشد الحفيد - وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم - في كتابه تهافت التهافت: (ومَن الذي قال في الإلَهيات شيئاً يعتدُّ به؟) ، وكذلك الآمدي - أفضل أهل زمانه - واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي - رحمه الله - انتهى آخرُ أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثمَّ أعرض عن تلك الطرق، وأقبلَ على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنَّفه في أقسام اللذات:
نِهايةُ إقدام العقول عِقالُ ... وغايةُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصلُ دنيانا أذَى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولةٍ ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد عَلَت شُرُفاتِها ... رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ
لقد تأمَّلتُ تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن، اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، ثم قال: "ومَن جرَّب مثلَ تجربَتِي، عرف مثل معرفتِي".
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاَّ الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها ... وسَيَّرتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلاَّ واضعاً كفَّ حائر ... على ذقن أو قارعاً سنَّ نادم
وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: "يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أنَّ الكلامَ يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به"، وقال عند موته: "لقد خضتُ البحرَ الخِضَمَّ، وخلَّيتُ أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلتُ في الذي نَهونِي عنه، والآن فإن لم يتداركنِي ربِّي برحمته، فالويل لابن الجوينِي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمِّي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور"، وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي - وكان من أجلِّ تلامذة فخر الدِّين الرازي - لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً فقال: (ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنتَ مُنشرح الصَّدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النِّعمة، لكنِّي - والله! - ما أدري ما أعتقد، - والله! - ما أدري ما أعتقد! - والله! - ما أدري ما أعتقد!) وبكى حتى أخضَل لحيته.
ولابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:
فيكَ يا أُغلوطة الفِكَر ... حارَ أمري وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقولُ فما ... ربحت إلاَّ أذى السفر
فلحى الله الأُلَى زعموا ... أنَّك المعروف بالنَّظر
كذبوا إنَّ الذي ذكروا ... خارجٌ عن قوة البشر
وقال الخونَجي عند موته: "ما عرفتُ مِمِّا حصَّلته شيئاً سوى أنَّ الممكن يفتقر إلى المرجِّح، ثم قال: الافتقار وصفٌ سلبِيٌّ، أموت وما عرفتُ شيئاً".
وقال آخر: "أضطجع على فراشي، وأضع الملحفةَ على وجهي، وأقابل بين حُجَج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجَّح عندي منها شيء".
إلى أن قال شارح الطحاوية: "وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيُقرُّ بما أقرُّوا به، ويُعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها ثمَّ تبيَّن له فسادُها، أو لم يتبيَّن له صحتُها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب - بِمنْزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب".
وكان أبو محمد الجوينِي والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ صار إلى مذهب السَّلف، وألَّف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.
 
جاء في كتاب : القائد إلى العقائد لعبد الرحمن المعلمي اليماني :
وقد أبلغ الله تبارك و تعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمق في الإلهيات بأن يسر لبعض أكابر النظار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قبيل موتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين ، فمنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري ، و أبوا المعالي ابن الجويني الملقب إمام الحرمين ، و تلميذه الغزالي ، و الفخر الرازي .
أما الأشعري أولاً كان معتزلياً ، ثم فارق المعتزلة و خالفهم في مسائل و بقي على التعمق ، ثم رجع أخيراً كما يظهر من كتابه ( الإبانة ) إلى مذهب أصحاب الحديث ، و كتابه ( الإبانة ) مشهور ، و قد طبع مراراً ، و الأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه .
وأما ابن الجويني فصح عنه انه قال في مرض موته : (( لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها ، و علومه الطاهرة ، و ركبت البحر الخضم ، و غصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها ، كل ذلك في طلب الحق و كنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، و الآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق ، (( عليكم بدين العجائز )) ، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز ، و تختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق ، و كلمة الإخلاص : لا إله إلا الله ، فالويل لأبن الجويني )) و قال : (( أشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف ، و أني أموت على ما يموت عجائز نيسابور )) . إلى غير ذلك مما جاء عنه و تجده في ترجمته من ( النبلاء ) للذهبي ، ( طبقات الشافعية ) لابن السبكي و غيرها .
فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتضح لك منه أمور :
الأول : حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز و بأنه مقتضٍ للنجاة .
الثاني : سقوط ثقته سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه و جزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتض لويل و الهلاك .
الثالث : أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة و سلمن من الشك و الارتياب ، و لزمن الصراط ، و ثبتن على السبيل س، فرجى لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبه الإيمان ، و يؤيدهن بروح منه ، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهن ، و إذا كانت هذه حال العجائز ، فما عيى أن يكون حال العلماء السلفيين .
وأما الغزالي فكان يغلب عليه غريزتان :
الأولى : التوقان إلى تحصيل المعارف .
الثاني : شدة الحرص على حمل الناس على ما يراه نافعاً ، لكنه نشأ في عصر و قطر كان يسود فيها و لا سيما على علماء مذهبه و فرقته و خصوصاً أساتذته .
(وقال) السفارينى: وروى الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتاب العرش بسنده إلى أبي الحسن القيرواني قال: سمعت الأستاذ أبا المعالي الجوينى يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به وقال الفقيه أبو عبد الله الدسمى قال: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالى الجوينى نعوده في مرض موته فأقعد فقال لنا: أشهدوا أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها السلف الصالح وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور - يعني أنهن مؤمنات بالله عز وجل على فطرة الإسلام لم يدرين ما علم الكلام قال الحافظ الذهبي: وقد كان شيخنا الفتح القشيرى رحمه الله تعالى يقول:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستسبقتهم في المفاوز
وخضت بحاراً ليس بدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم المفاوز
ولججت في الأفكار ثم تراجع اختياري إلى استحسان دين العجائز .
وذكر المناوي في شرحه على الجامع الصغير ما نصه: وقال السمعاني في الذيل: سمعت أبا المعالي -يعني إمام الحرمين- يقول: قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم حلبت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق وهو يأمن التقليد، والآن رجعت من العمل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري على الحق وكلمة الإخلاص، وإلا فالويل لابن الجويني. انتهى بحروفه، ف رحمه الله ورضي عنه".
وقال ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية:
"وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق، وأقبل على أحاديث الرسول، فمات والبخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي.
قَالَ الْحَافِظ رَحمَه الله تَعَالَى : الْفَخر ابْن الْخَطِيب صَاحب التصانيف رَأس فِي الذكاء والعقليات وَلكنه عري من الْآثَار وَله تشكيكات على مسَائِل من اصول الدّين تورث حيرة- وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي لِسَان الْمِيزَان مثل مَا ذكرنَا عَن الذَّهَبِيّ فِي شَأْنه وَزَاد أَنه كَانَ يَقُول مَعَ تبحره فِي الْأُصُول من الْتزم دين الْعَجَائِز فَهُوَ الفائز وَكَانَ يعاب ايراد الشّبَه الشَّدِيدَة وَيقصر فِي حلهَا حَتَّى قَالَ بعض المغاربة يُورد الشُّبْهَة نَقْدا ويحلها نَسِيئَة.
 
جاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (المتوفى : 792هـ) :
وَتَجِدُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الْعَجَائِزِ، فَيُقِرُّ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ وَيُعْرِضُ عَنْ تِلْكَ الدَّقَائِقِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ، الَّتِي كَانَ يَقْطَعُ بِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهَا، أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّتُهَا، فَيَكُونُونَ فِي نِهَايَاتِهِمْ - إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْعَذَابِ - بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَعْرَابِ.
وَالدَّوَاءُ النَّافِعُ لِمِثْلِ هَذَا الْمَرَضِ، مَا كَانَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَقُولُهُ - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ -: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. تَوَسَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَبِّهِ بِرُبُوبِيَّةِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، إِذْ حَيَاةُ الْقَلْبِ بِالْهِدَايَةِ. وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ بِالْحَيَاةِ: فَجِبْرِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَمِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَإِسْرَافِيلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ وَعَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهَا. فَالتَّوَسُّلُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْعَظِيمَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِالْحَيَاةِ، لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
جاء في شرح العقيدة السفارينية للعثيمين :
انظروا الرازي من أساطينهم وكبرائهم وعلمائهم يقول : هذه المناهج والطرق ما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً لا تسمن ولا تغني من جوع ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن يعني طريقة تحكيم النصوص في هذا الباب ،
ثم ضرب مثلاً : أقرأ في الإثبات قول الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، فأؤمن بأنه على العرش استوى واقرأ : { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر 10 ) ، فأؤمن بأنه في العلو وأقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } فـ { ليس كمثله شيء } نفي للتمثيل و { ولا يحيطون به علما } نفي للتكييف ( ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ) ، ويقول بعضهم :
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال ،
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا .
هذا محصولٌ جيد ( قيل وقالوا ) والرسول نهى عن قيل وقالوا
هؤلاء ما استفادوا طول عمرهم قيل وقالوا وغاية دنياهم أذىً ووبال والعياذ بالله ،لأن غاية دنياهم نسأل الله العافية الشك والحيرة .
أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام ،لأنهم ليس لديهم عقيدة يبنون عليها معبودهم عز وجل لا يعرفونه إلا بوهمايتهم التي يدَّعونَها عقليات ، فلذلك إذا جاءت الساعة وجاء وقت الامتحان والمحك ضاعوا لم يجدوا حصيلة ،فكانوا أكثر الناس شكاً نسأل الله العافية ، حتى إن بعضهم يقول : ( هاأنا ذا أموت على عقيدة أمي ) أمه الأمية التي لا تعرف ،والآخر يقول : ( هاأنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور ) ، رجعوا إلى عقيدة العجائز لأنها فطرية ، وهم عقيدتهم نظريةٌ وهمية في الواقع ، فإذا نظرنا إلى هؤلاء وإلى مآلهم وإلى أحوالهم ،فهل يمكننا أن نقول : إنهم على حق وندع الأثر لنظرهم ؟ لا يمكن ، أبدًا ،كل إنسان عاقل لا يمكن أن يتولى مثل هؤلاء ويأخذ من أقوالهم ،لأنها أقوال فاسدة متناقضة ليس لها أساس لا من كتاب الله ولا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من أقوال السلف .
الغريب أن الناظم هذا يقول : ( أرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ) يعني إلى هذا الحد روحه مستوحشة من جسده لا تود أن تَقَرَّ فيه كأنما يتمنون الموت الآن ومفارقة الروح للجسد الذي هي في وحشةٍ منه ،
لأن الإنسان نسأل الله العافية والسلامة وأن يثبتنا وإياكم إذا لم يكن له عقيدة ضاع اللهم إلا أن يكون قلبه ميتاً لأن الذي قلبه ميت يكون حيوانياً لا يهتم بشيء أبداً - لكن الإنسان الذي عنده شيء في القلب إذا لم يكن له عقيدة فإنه يضيع ويهلك ويكون في قلقٍ دائم لا نهاية فتكون روحه في وحشةٍ من جسمه .
 
جاء في شرح العقيدة الطحاوية لسفر بن عبدالرحمن الحوالي :
أبو المعالي هو الذي تمنى عند موته أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور ، وكان من بلدة نيسابور .
صحيح أن عقيدة عجائز نيسابور خير، وأفضل من عقيدة أهل الكلام وأهل الحيرة والضلال والشك -عافانا الله وإياكم- من ذلك؛ لكن أليس هناك ما هو أفضل من دين العجائز، أو عقيدة العجائز؟
بلى عقيدة الراسخين في العلم، لماذا لا نتمنى أن نموت عَلَى عقيدة الراسخين في العلم؟ الذين قال قائلهم لو كشف لما ازددت يقيناً، وقال الآخر: لو أني رأيت الجنة والنَّار لما كَانَ إيماني بها أقوى من إيماني بها الآن، قيل: وكيف ذلك؟
قال لأني رأيتهما بعيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، ولو رأيتهما بعيني لربما زاغ بصري أو طغى، فسُبْحانَ اللَّه ما أعظم التمسك بالسنة، وما أبعده عن الشك والريب!
بل هو اليقين كله والطمأنينة كلها والخير كله؛ أما هَؤُلاءِ فتجد الحيرة والتخبط والتناقض، كما هو ظاهر في أقوالهم، ولو أننا نسترسل في حكاية أقوالهم وفي تفصيلها، لمللت وسئمت من كلام معقد لا طائل تحته، ولا دليل عليه -نسأل الله العافية- ولكن نحاول أن نشرح بقدر ما نفهم الفكرة في الجملة ونستوعبها.
وأبو المعالي الجويني هذا هو الملقب بإمام الحرمين وهو شيخ أبي حامد الغزالي ، من أسباب خطأ الجويني في أول حياته أنه كَانَ جاهلاً بعلم الحديث، ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ إنه لما ألف كتاباً كبيراً في مذهب الشافعية -لأنه كَانَ شافعي المذهب- لم يأت فيه بحديث صحيح إلا حديثاً واحداً.
وهذا الحديث عزاه للبخاري وليس فيه؛ لكن لو سُئل في علم الكلام، أولو قرأت كتاب الإرشاد ، وهو مطبوع، لوجدت أنه مطلع عَلَى علم الكلام، وعلى الأقوال وعلى هذه الفلسفات والأمور التي لا خير فيها، ولا ثمرة ترجى منها، ولهذا رجع الجويني في آخر الأمر إِلَى عقيدة السلف في الجملة، وذلك في الرسالة النظامية ، وإن كَانَ هو يظن أن السلف يفوضون المعنى، لكن يكفي أنه هدم المذهب الأشعري الذي كَانَ عليه هو وأصحابه، وهو التأويل.
وقَالَ: ""لما رأينا أن السلف والصحابة والتابعين ومن بعدهم مطبقون ومجمعون عَلَى عدم التأويل"" وهذه حقيقة، فلا يوجد أبداً في الصحابة ولا في التابعين مؤول عَلَى الإطلاق، قَالَ: ""وهم أزكى النَّاس وأعلم النَّاس وأحفظهم للدين"" هذا معنى كلامه، ""فلو كَانَ التأويل حقاً لسبقوا إليه ولكانوا أولى النَّاس به"" وهذا كلام صحيح.
فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- يعني: إذا قدر الله تَعَالَى وكتب لهم حسن الخاتمة قبل الموت وسلموا من الموت عَلَى هذه البدع يكونون - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب- بعد أن كانوا في حياتهم ينافسون أهل العلم وينتقدون أهل العلم كما كَانَ الرازي ينتقد البُخَارِيّ ومسلم وهما من هما في المكانة والثقة والتثبت، فهم الآن عند الموت يريدون أن يموتوا عَلَى دين العجائز، عَلَى دين أتباع أهل العلم من العجائز والصبيان والأعراب، حتى المعاصرين منهم المتعمقين في الكلام وأساتذة الكلام المتمرسين فيه في أرقى الجامعات التي تدرس علم الكلام يقولون: دين العجائز هو أصح الأديان! فإذا كَانَ دين العجائز أصح الأديان فلماذا تتعلمون علم الكلام؟! لكن المؤمنون الصادقون وعلماء السلف وأئمتهم عَلَى دين الراسخين في العلم الذين يكشفون الشبهات والذين يقيم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم الحجة عَلَى الناس، وأتباع أهل السنة من العجائز وغيرهم هم أفضل من أولئك، فكيف بأولئك العلماء الأجلاء الذين جعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في كل زمان فترة، مقيمين للحجة ينفون عن هذا الدين انتحال المغرضين وتأويل الجاهلين والمبطلين؟!
علماء الكلام يقولون: إن الدين دينان: دين التقليد وهذا ما عليه العوام ويدخلون فيهم العلماء المشتغلين بالحديث؛ لأنهم لم يشتغلوا بعلم الكلام فيقولون: هَؤُلاءِ مؤمنون عَلَى التقليد، ولدوا عَلَى الإسلام وتعلموا القُرْآن والسنة ولم ينقحوا الإيمان ولم يقووه بالدلائل العقلية!
والنوع الآخر إيمان علماءأهل الكلام الذي يقولون فيه: إنه إيمان راسخ، مبني عَلَى العلم، وعلى البرهان، والحجة والدليل. والواقع أن اعترافهم في آخر أعمارهم بأن دين العجائز أفضل مما هم عليه ينفي ذلك أي: أنه تقليد.
ومن رحمة الله تَعَالَى وحكمته أنه لم يُقِمِ الحجةَ علينا بالمعرفةِ الفطرية وحدها، وإلَّا لكانت كافية قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] فهذا الميثاق الفطري الذي أخذه الله - تعالى- من الذرية من ظهور بني آدم، هو فطرهم عَلَى الشهادة والإقرار له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية، فهو إذاً أمر موجود في النفوس؛ لكن من رحمة الله أنه لم يجعل ذلك مناط العقوبة، فيعاقبنا بناءً عَلَى العهد الذي أخذه منا، أو بناءً عَلَى الفطرة التي فطرنا عليها؛ بل بعث الله تَعَالَى الرسل رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وهذا من فضله تَعَالَى أنه لا يعاقب أحداً إلا بعد مجيء النذير وهو الرَّسُول أو القُرْآن أو الحق. فهذا من كمال عدل الله وحكمته.
وأصرح منه ما قاله كما بالسير: ((قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى عَنْهُ أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى "كلمة الحق"، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني)) {سير أعلام النبلاء- المنتظم لابن الجوزي }
 
جاء في نقض الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية " للمدعو سعيد فودة - والدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -
أما الفخر الرازي فقد ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه "ميزان الاعتدال" فقال : صاحب التصانيف رأس في الذكاء والعقليات ؛ لكنه عري عن الآثار , وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا, وله كتاب" السر المكتوم في مخاطبة النجوم" ، سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله .انظر كذلك "اللسان" .
وقال ابن كثير رحمه الله في ترجمته من "البداية والنهاية" : وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول : من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز..
وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله :قال محمد البادي يعني العربي يريد النبي صلى الله عليه وسلم نسبة إلى البادية , وقال محمد الرازي يعني نفسه , ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة .
قلت : ومن أقواله أنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص , ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلاً ."الصواعق المرسلة"
وهو القائل بتقديم العقل على النقل عند التعارض , قال : إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات ؛ فإما أن يجمع بينهما , وهو محال لأنه جمع بين النقيضين , وإما أن يردها جميعا, وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل؛ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل ؛ والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعا , فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول , وإما أن يفوض ."درء التعارض" .
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس :
عن أَحْمَد بْن سنان قَالَ كان الوليد بْن أبان الكرابيسي خالي فلما حضرته الوفاة قَالَ لبنيه تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني قالوا لا قَالَ فتتهمونني قالوا لا قَالَ فإني أوصيكم أتقبلون قالوا نعم قَالَ عليكم بما عَلَيْهِ أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم وكان أَبُو المعالي الجويني يَقُول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت فِي الذي نهوا عنه كل ذلك فِي طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عَن الكل إِلَى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فَإِن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت عَلَى دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني وكان يَقُول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي مَا بلغ مَا تشاغلت به وقال أَبُو الوفاء بْن عقيل لبعض أصحابه أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فَإِن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بَكْر وعمر فبئس مَا رأيت قَالَ وَقَدْ أفضى الكلام بأهله إِلَى الشكوك وكثير منهم إِلَى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين وأصل ذلك أنهم مَا قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس فِي قوة العقل إدراك مَا عند اللَّه من الحكمة التي أنفرد بِهَا ولا أخرج الباري من علمه لخلقه مَا علمه هو من حقائق الأمور قَالَ وَقَدْ بالغت فِي الأَوَّل طول عمري ثم عدت القهقري إِلَى مذهب الكتب وإنما قالوا إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إِلَى غاية التدقيق فِي النظر لم يشهدوا مَا ينفي العقل من التعليلات والتأويلات فوقفوا مَعَ مراسم الشرع وجنحوا عَن القول بالتعليل وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم.
جاء في كتاب : معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول:
والتوحيد المقصود هو توحيد الكتاب والسنة، نعتقد ما تأمر النصوص، ونقف حيث تقف. ومحاولة ولوج العقائد عن طريق القياس ومناهج المتكلمين يجعل البصر يرتد حسيرا خاسئا ولن يجني إلا التحير، وعند الموت سيتمنى دين العجائز. "ومن تدبر القرآن وتصفح السنة والتاريخ علم يقينا أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين -الوحي والفطرة-، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما، والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من الحض على ذلك.
 
جاء في العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير (المتوفى: 840هـ):
واعلم أن اضطرابهم في ذلك مبني على الغفلة عن قاعدتين عظيمتين.
إحداهما: أن الله تعالى يعلم من كل نوع من أنواع المعلومات ما لا نعلمه، ومن أعظم تلك الأنواع وأجلِّها قدراً، وأدقِّها سراً، وألطفها نوع المعلومات من الحكم والمصالح والغايات الحميدة، بل متى فتح الله على بعض عباده من ذلك مثل سمِّ الخياط، أو وهب له منه قطرةً من بحار لم يستطع أحدٌ من الخلق الاطلاع على مكنون حكمته، ولا وسعت الطباع البشرية الصبر على التسليم لفضل معرفته، وكفى في ذلك عبرةً بقصة الخَضِر والكليم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، فإنها تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم في باب المصالح والحكم. ومن لم يُسَلِّمْ هذه القاعدة، يلزمه مساواة الخالق والمخلوق في معرفة المصالح وجميع دقائق الحكمة، وكيف يستوي ربُّ الأرباب والمخلوق من التراب.
وما أحسن ما قاله الفخر الرازي:
العلمُ للرحمن جلَّ جلاله ... وسِواه في جَهَلاتهِ يَتَغمْغَمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّه لا يعلمُ
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافَرْتُ واستبقيتُهم في المفاوزِ
وخُضْتُ بِحاراً ليس يُدْرَكُ قَعْرُها ... وسيَّرْتُ نفسي في فَسيح المَفاوِزِ
ولَجَّجْتُ في الأفكار ثم تراجع اخـ ... ـتياري إلى استحسان دين العجائزِ
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:
طلبتك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصل على برد اليقينِ
نوى قَذَفٍ وكمْ قد مات قَبْلِي ... بِحَسْرَتِهِ عليك من القرونِ
فهل بعد المماتِ بك اتِّصالٌ ... فأعلَمَ غامِضَ السِّرِّ المَصونِ
وأنشد الشهرستاني:
وقد طُفْتُ في تِلك المعاهد كُلِّها ... وسَيَّرْتُ طَرْفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلاَّ واضِعاً كفَّ حائِرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادِمِ
وكل هؤلاء من أمراء المعقول وفرسان المشكلات ، وقبلهم سألت عن ذلك ملائكة السماوات، كما جاء ذلك في محكم الآيات، وذلك من أعظم الحجج البينات.
ومما قلت في ذلك:
أقِلُّوا الجدال فما عندكم ... جميعاً من العلم إلاَّ القليلْ
وفي قصة الخَضِر المُرتَضى ... وموسى اعتبارٌ عَرِيضٌ طويلْ
وفيها لأهل النُّهى والرُّسوخ ... من العارفين عَزاءٌ جَميلْ
القاعدة الثانية: وهي المعتمدة أن هذه المسألة من المتشابه الذي أخبر الله جَلَّ جلاله أنه لا يعلم تأويله إلاَّ هو، وذم المبتغين لتأويله وقرنهم بمبتغي الفتنة .
جاء في لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح (الدُّرَّة الْمُضِيَّةَ فِي عِقْدِ أَهْلِ الْفِرْقَةِ الْمَرْضِيَّةِ) لشمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ):
وَرَوَى الْإِمَامُ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْعَرْشِ) بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْقَيْرَوَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيَّ، يَقُولُ: يَا أَصْحَابَنَا، لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إِلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْتُ بِهِ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّسِيمِيُّ قَالَ: حَكَى لَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى الْإِمَامِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ نَعُودُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَأُقْعِدَ فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ قُلْتُهَا، أُخَالِفُ فِيهَا السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَأَنِّي أَمُوتُ عَلَى مَا يَمُوتُ عَلَيْهِ عَجَائِزُ نَيْسَابُورَ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: قُلْتُ: هَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ - يَعْنِي: أَنَّهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِاللَّهِ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَدْرِينَ مَا عِلْمُ الْكَلَامِ. قَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَجَاوَزْتُ حَدَّ الْأَكْثَرِينَ إِلَى الْعُلَى وَسَافَرْتُ وَاسْتَبْقَيْتُهُمْ فِي الْمَفَاوِزِ وَخُضْتُ بِحَارًا لَيْسَ يُدْرَكُ قَعْرُهَا وَسَيَّرْتُ نَفْسِي فِي فَسِيحِ الْمَفَاوِزِ وَلَجَّجْتُ فِي الْأَفْكَارِ ثُمَّ تَرَاجَعَ اخْـ ـتِيَارِي إِلَى اسْتِحْسَانِ دِينِ الْعَجَائِزِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَتِهِ الْحَمَوِيَّةِ: وَقَدْ أَخْبَرَ الْوَاقِفُ عَلَى نِهَايَاتِ إِقْدَامِ الْمُتَكَلِّمَةِ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ مَرَامِهِمْ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
وَقَوْلُ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمُرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ، وَتَرَكْتُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ، وَخُضْتُ فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِفُلَانٍ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَصْحَابُ الْكَلَامِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ثُمَّ إِذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَخَالِصِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ خَبَرٌ، وَلَمْ يَقَعُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَنْبَاءِ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ لُجِّيٍّ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قال الأوزاعي - رحمه الله -: "عليكَ بآثار مَن سلفَ وإنْ رفَضَكَ الناسُ، وإيَّاك ورأي الرِّجالِ وإنْ زخرفوه بالقول؛ فإنَّ الأمرَ ينجلي وأنتَ منه على طريقٍ مستقيمٍ". رواه البيهقي في "المدخل" وسنده صحيح.
وقالَ: "فاصبر نفسَك على السُّنَّة، وقِفْ حيثُ وقَفَ القوم، وقُلْ فيما قالوا، وكُفَّ عَمَّا كَفّوا عنه، واسْلُكْ سَبيلَ سَلَفِكَ الصالح؛ فإنَّهُ يَسَعُكَ ما وَسِعَهم".رواه قِوَام السنة إسماعيل بن الفضل في "الحجة" وسنده صحيح.
 
جاء في كتاب التحف فِي مَذَاهِب السّلف -للشوكاني (المتوفى: 1250هـ) :
اعْلَم أَن الْكَلَام فِي الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الصِّفَات قد طَالَتْ ذيوله وتشعبت أَطْرَافه وتباينت فِيهِ الْمذَاهب وتفاوتت فِيهِ الطرائق وتخالفت فِيهِ النَّحْل وَسبب هَذَا عدم وقُوف المنتسبين إِلَى الْعلم حَيْثُ أوقفهم الله ودخولهم فِي أَبْوَاب لم يَأْذَن الله لَهُم بِدُخُولِهَا ومحاولتهم لعلم شَيْء اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ حَتَّى تفَرقُوا فرقا وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابا وَكَانُوا فِي الْبِدَايَة ومحاولة الْوُصُول إِلَى مَا يتصورونه من الْعَامَّة مختلفي الْمَقَاصِد متبايني المطالب فطائفة وَهِي أخف هَذِه الطوائف المتكلفة علم مَا لم يكلفها الله سُبْحَانَهُ بعلمه إِثْمًا وأقلها عُقُوبَة وجرما وَهِي الَّتِي أَرَادَت الْوُصُول إِلَى الْحق وَالْوُقُوف على الصَّوَاب لَكِن سلكت فِي طَريقَة متوعرة وصعدت فِي الْكَشْف عَنهُ إِلَى عقبَة كؤود لَا يرجع من سلكها سالما فضلا أَن يظفر فِيهَا بمطلوب صَحِيح وَمَعَ هَذَا أصلوا أصولا ظنوها حَقًا فدفعوا بهَا آيَات قرآنية وَأَحَادِيث صَحِيحَة نبوية وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك الدّفع بشبه واهية وخيالات مختلة وَهَؤُلَاء طَائِفَتَانِ الطَّائِفَة الأولى وَهِي الطَّائِفَة الَّتِي غلت فِي التَّنْزِيه فوصلت إِلَى حد يقشعر
عِنْده الْجلد ويضطرب لَهُ الْقلب من تَعْطِيل الصِّفَات الثَّابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة ثبوتا أوضح من شمس النَّهَار وَأظْهر من فلق الصَّباح وظنوا هَذَا من صنيعهم مُوَافقا للحق مطابقا لما يُريدهُ الله سُبْحَانَهُ فضلوا الطَّرِيق الْمُسْتَقيم وأضلوا من رام سلوكها والطائفة الْأُخْرَى هِيَ غلت فِي إِثْبَات الْقُدْرَة غلوا بلغ إِلَى حد أَنه لَا تَأْثِير لغَيْرهَا وَلَا اعْتِبَار بِمَا سواهَا وأفضى ذَلِك إِلَى الْجَبْر الْمَحْض والقسر الْخَالِص فَلم يبْق لبعث الرُّسُل وإنزال الْكتب كثير فَائِدَة وَلَا يعود ذَلِك على عباده بعائدة وَجَاءُوا بتأويلات للآيات الْبَينَات ومحاولات لحجج الله الواضحات فَكَانُوا كالطائفة الأولى فِي الضلال والإضلال مَعَ أَن كلا المقصدين صَحِيح وَوجه كل مِنْهُمَا صبيح لَوْلَا مَا شانه من الغلو الْقَبِيح وَطَائِفَة توسطت ورامت الْجمع بَين الضَّب وَالنُّون وظنت أَنَّهَا وقفت بمَكَان بَين الإفراط والتفريط ثمَّ أخذت كل طَائِفَة من هَذِه الطوائف الثَّلَاث تجَادل وتناضل وَتحقّق وتدقق فِي زعمها وتجول على الْأُخْرَى وتصول بِمَا ظَفرت مِمَّا يُوَافق مَا ذهبت إِلَيْهِ وكل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ وَعند الله تلتقي الْخُصُوم وَمَعَ هَذَا فهم متفقون فِيمَا بَينهم على أَن طَرِيق السّلف أسلم وَلَكِن زَعَمُوا أَن طَرِيق الْخلف أعلم فَكَانَ غَايَة مَا ظفروا بِهِ من هَذِه الأعلمية لطريق الْخلف أَن تمنى محققوهم وأذكياؤهم فِي آخر أَمرهم دين الْعَجَائِز وَقَالُوا هَنِيئًا للعامة فَتدبر هَذِه الأعلمية الَّتِي حاصلها أَن يهنى من ظفر بهَا للجاهل الْجَهْل الْبَسِيط ويتمنى أَنه فِي عدادهم وَمِمَّنْ يدين بدينهم وَيَمْشي على طريقهم فَإِن هَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوت وَيدل بأوضح دلَالَة على أَن هَذِه الأعلمية الَّتِي طلبوها الْجَهْل خير مِنْهَا بِكَثِير فَمَا ظَنك بِعلم يقر صَاحبه على نَفسه أَن الْجَهْل خير مِنْهُ وَيَنْتَهِي عِنْد الْبلُوغ إِلَى غَايَته والوصول إِلَى نهايته أَن يكون جَاهِلا بِهِ عاطلا عَنهُ فَفِي هَذَا عِبْرَة للمعتبرين وَآيَة بَيِّنَة للناظرين فَهَلا عمِلُوا على جهل هَذِه المعارف الَّتِي دخلُوا فِيهَا بادئ بَدْء وسلموا من تبعاتها وأراحوا أنفسهم من تعبها وَقَالُوا كَمَا قَالَ الْقَائِل
أرى الْأَمر يُفْضِي إِلَى آخر ... يصير آخِره أَولا
وربحوا الخلوص من هَذَا التَّمَنِّي والسلامة من هَذِه التهنئة للعامة فَإِن الْعَاقِل لَا يتَمَنَّى رُتْبَة مثل رتبته أَو دونهَا وَلَا يهنى لمن هُوَ دونه أَو مثله وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا لمن رتبته أرفع من رتبته ومكانه أَعلَى من مَكَانَهُ فيا لله الْعجب من علم يكون الْجَهْل الْبَسِيط أَعلَى رُتْبَة مِنْهُ وَأفضل مقدارا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَهل سمع السامعون مثل هَذِه الغريبة أَو نقل الناقلون مَا يماثلها أَو يشابهها وَإِذا كَانَ حَال هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي قد عرفناك أخف هَذِه الطوائف تكلفا وأقلها تبعة فَمَا ظَنك بِمَا عداها من الطوائف التي قد ظهر فَسَاد مقاصدها وَتبين بطلَان مواردها ومصادرها كالطوائف الَّتِي أَرَادَت بالمظاهر الَّتِي تظاهرت بهَا كيد الْإِسْلَام وَأَهله وَالسَّعْي فِي التشكيك فِيهِ بإيراد الشّبَه وَتَقْرِير الْأُمُور المفضية إِلَى الْقدح فِي الدّين وتنفير أَهله عَنهُ وَعند هَذَا تعلم أَن
خير الْأُمُور السالفات على الْهدى ... وَشر الْأُمُور المحدثات الْبَدَائِع
وَأَن الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَلَا شُبْهَة هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ وَقد كَانُوا رَحِمهم الله وأرشدنا إِلَى الِاقْتِدَاء بهم والاهتداء بهديهم يَمرونَ أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا وَلَا يتكلفون علم مَا لَا يعلمُونَ وَلَا يتأولون وَهَذَا الْمَعْلُوم من أَقْوَالهم وأفعالهم والمتقرر من مذاهبهم لَا يشك فِيهِ شَاك وَلَا يُنكره مُنكر وَلَا يُجَادِل فِيهِ مجادل وَإِن نَزغ بَينهم نازغ أَو نجم فِي عصرهم ناجم أوضحُوا للنَّاس أمره وبينوا لَهُم أَنه على ضَلَالَة وصرحوا بذلك فِي المجامع والمحافل وحذروا النَّاس من بدعته كَمَا كَانَ مِنْهُم لما ظهر معبد الْجُهَنِيّ وَأَصْحَابه وَقَالُوا إِن الْأَمر أنف وبينوا ضلالته وَبطلَان مقَالَته للنَّاس فحذروه إِلَّا من ختم الله على قلبه وَجعل على بَصَره غشاوة.
 
بالطبع هناك عبارات مكررة - لكنها مقصودة - والله المستعان .
 
عودة
أعلى