السلام عليكم و ر حمة الله تعالى و بركاته
لا شك أن كلام الله تعالى محكم لا تناقض فيه البتة، فهو كتاب كما وصفه المتكلم به سبحانه" أحكمت آياته" و أنه " لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" و أنه " لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا"... وعليه فلا تناقض بين االصيغ التي ورد بها هذان الاتجهان في القرآن الكريم.
و قد بين العلماء رحمهم الله تعالى دلالة ذلك في كتبهم، و ممن وضح ذلك و بينه العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه الماتع "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب"، و لتعميم الفائدة أنقل كلامه تاما .
" قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية. أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة الرحمن في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وجمعهما في سورة سأل سائل في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب}, وجمع المشارق في سورة الصافات في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}.والجواب أن قوله هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} المراد به جنس المشرق والمغرب فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون, وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه: "وإنما معنى ذلك ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي تعده وكذلك غروبها", انتهى منه بلفظه. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني كشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما كما عليه الجمهور. وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما, وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب}أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم. وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها والعلم عند الله تعالى"اهــــ.
و أما وجه مناسبة كل صيغة للسورة التي ذكرت فيها، فقد وجدت جوابا للعلامة زكرياء الأنصاري رحمه الله تعالى في في كتابه"فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن"، خلاصته: أن المشرق خص بالجمع في سورة الصافات موافقة للمجموع أول السورة حيث افتتحت بقوله سبحانه " و الصافات" و هي صيغة جمع، و خصت سورة الرحمن بصيغة التثنية "رب المشرقين و رب المغربين" موافقة للتثنية في قوله تعالى " فبأي آلاء ربكما تكذبان" و قوله تعالى "يسجدان"، و وردت صيغة الجمع في سورة المعارج موافقة للجمع قبله و بعده، حيث قال تعالى:" كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)"-المعارج-، و في سورة المزمل وردت صيغة الإفراد، موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و ما بعده من إفراد ذكر الله تعالى، قال جل في علاه:" وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)" -المزمل-.
و هذا وجه حسن من العلامة الأنصاري في مناسبة كل صيغة لسورتها.
و الله أعلم و أحكم.