دلالة النهي في الآية 43 من سورة النساء

علي سبيع

New member
إنضم
01/04/2015
المشاركات
280
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
59
الإقامة
مصر
بسم1


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا

والصلاة والسلام علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم أما بعد

قال تعالي{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا }من تفسير ابن كثير رحمه الله ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها -وهي المساجد-للجُنُب، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر
وقال الضَّحَّاكُ في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لم يعن بها سُكْرَ الخمر، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.​



والجمهور من أهل العلم علي النسخ من الآية أو التخصيص لزمن الحكم فيها إلا أن البعض الذي يسهل حصره قال بغير ذلك وربما رد النسخ بالكلية عن القرآن الكريم​



القائلون بالنسخ بأن مفهوم الآية جعل إباحة الخمر إباحة شرعية ورفع الإباحة الشرعية نسخ ومادامت الآيةفهم منها حلِّية الخمر في وقت دون وقت دل ذلك علي إباحتها وهذه الإباحة رفعت بقوله تعالي {فاجتنبوه}​


القائلون بعدم النسخ بأن الآية نهت عن قربان الخمر وقت الصلاة وكون الشيء ينهي عنه في وقت لايدل علي إباحته في وقت آخر فالإحتمال قائم في باقي الوقت والإحتمال لايأخذ منه حكما شرعيا.

.وبالنظر لدلالة النهي في الآية نجد أن النهي بعدم قربان الصلاة في حال السكر يعني إباحة الصلاة لمن يعي القول ولم يصل حد السكر قاله ابن عاشور رحمه الله وكثير من أهل العلم .وفي ذلك دليل علي إباحة شرب الخمر دون السكر وقتها.ومن طريق آخر قال الضحاك رحمه الله المقصود بالسكر سكر النوم انتهي. فالنهي عن قربان الصلاة علي حال السكر ليس نهيا عن غلبة النوم ولكن نهيا عن الصلاة في حال غلبة النوم كما أن النهي عن قربان الصلاة في حال الجنابة ليس نهيا عن الجنابة والعطف يؤكد ذلك والجمهور من أهل العلم علي أن السكر بسبب الخمر وهذا لم يغير في النهي شيئا فالنهي عن قربان الصلاة علي حال السكر ليس نهيا عن السكر فلم يتبقي إلا الإباحة الشرعية له وقال أهل العلم النهي إلي غاية دليل علي الإباحة بعدها والآية 93من سورة المائدة وسبب نزولها يؤيد ذلك.ومما تقدم تصبح الآية 90 من سورة المائدة ناسخة لبعض مدلولات الآية 43 من سورة النساء هذا والله أعلم .




 
عَنْ أَنَسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ ، وَهْيَ فِي بُطُونِهِم فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآيَةَ.رواه البخاري
جاء في أحكام القرآن للكيا هراسي :
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) الآية (43) :
اختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية.
فقال قائلون : هو السكران الذي لا يعلم حقيقته ، وهذا معتل من وجه : فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.
فقيل في ذلك : أراد به النهي عن التعرض للسكر ، إذا كان عليهم فرض الصلاة ، والنهي على أن عليهم أن يعيدوها ، وهذا بعيد من وجه ، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب ، ينافي دوامه ، وهذا حسن في إبطال هذا القول ، إلا أن يقال :
إن ذلك نهي عن السكر ، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر ، حالة وجوب الصلاة ، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية ، كأنه تعالى قال : «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» ، أي في حالة سكركم ، فلا وجه للتأويل.
الوجه الآخر : قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ {أي لم يصل به أو لم يذهب.} نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ، بل هو فاهم للخطاب ، وهذا بعيد ، فإنه إن كان كذلك ، فلا يكون منهيا عن فعل الصلاة ، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.
ومن أجل ذلك قال الحسن ، وقتادة ، في هذه الآية : فإنها منسوخة الحكم.
وعلى الجملة ، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي اللّه عنه : وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة ، فتقديره : لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى ، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق ، وتلويث المسجد ، ولذلك قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، يعني أن السكران ربما نزق { النزق : الطيش والخفة.} ، فتكلم بما لا يجوز له ، كما قال علي : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى.
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جماعة.
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول ، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به الصلاة ، ولذلك قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) والذي ذكرتم يعلم ذلك.
فيقال : هذا في ضرب المثل ، كالذي يقول للغضبان : اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول ، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به أيضا ، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله : إلا عابري سبيل ، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء ، فإنه يتيمم ويصلي ، فيتعين إضمار عدم الماء فيه ، وإذا عدم الماء في الحضر ، كان كذلك.
وأحسبه يقول : بنى على الغالب ، في أن الماء لا يعدم في الحضر ، فيقال : فالذي يتيمم ليس جنبا عندكم حتى يصلي صلوات التيمم ، وأحسبه يمنع هذا أيضا ويكابر ، فيقال له :
إن تيمم الجنب ، قد ذكره اللّه تعالى بعد هذا ، بل فصل فقال :
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) .
وكيف يذكر المسافر والسفر ، ثم يذكر بعده من غير فصل؟ وهذا واضح في بطلان قوله :
وأما إذا أراد التيمم ، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم ، فذكر المرض وذكر السفر ، وذكر المجيء من الغائط ، وعدم الماء مطلقا في أي موضع كان ، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر ها هنا ، ولم يذكر عدم الماء ، وهو الشرط لا السفر؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه ، ولأن اللّه تعالى قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، فأحال المنع على عدم العلم بالقول ، والسكران الطافح في سكره ، المغشى عليه ، تمتنع الصلاة ، عليه ، لأنه لا يعلم ما يقول ، بل لأنه محدث غير طاهر ، ولا ساجد ولا راكع ولا ناو ، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط ، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق ، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم ، لأن النائم لا يصلي ، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم ، ولا طهارة مع النوم.
وبالجملة ، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول ، فهو متوجه ها هنا فاعلم.
فإن قيل : سبب نزول هذه الآية ، ما روي عن علي رضي اللّه عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر ، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، فالتبس عليه فأنزل اللّه تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ).
والجواب : إنه إذن التبس عليه ، وتلا بداخل المسجد ، حتى تكلم بما لا يجوز ، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعا ، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد ، عرفوا أن كثيرا من السلف حملوا الآية على ما قلناه { يقصد الموضع } ، وإن كان منهم من خالف.
ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم ، لأن النائم لا يصلي ، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم ، ولا طهارة مع النوم.
جاء في أحكام القرآن للقاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق المالكي :
حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا جعفر بن برقان قال كتبَ إلينا عمرُ بن عبد العزيز:
أما بعدُ فإن اللهَ أنزلَ في الخمر آيات ثلاث - فقال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فشربها من شربها لما ذكر فيها من المنفعة ولأجل كتاب الله أن يُتبع ...
ثم أنزلَ اللهُ في الآية الثانية { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فشربها من شربها عند غير حضرة الصلاة واجتنبوها عند حضرة الصلاة .
ثم أنزلَ في الآية الثالثة التي فيها تحريمها فقال { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } ففي هذه الآية أحكم تحريمَها .
 
جاء في أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي الأشبيلي المالكي (المتوفى : 543هـ)
قَوْله تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } : وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ ، وَكَانَ الْإِثْمُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ } فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ .
مَا هَذَا الْإِثْمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا . الصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَوْله تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ .
وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ .
وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ .
وَأَمَّا اللَّذَّةُ : فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ .
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ : فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا .
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ .الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت ، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ { طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا .قَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ .قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } .
 
بسم1
من تفسير الرازي رحمه الله قال: النهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول.انتهي كلامه

فهل يعقل أن تباح الخمر دون السكر مع الصلاة ثم تمنع بعدها؟
وهل يعقل أن تباح الخمر دون السكر قرب الصلاة ثم يكون الحكم مسكوتا عنه بعدها أسير الاحتمال؟
 
بسم1
نقطة هامة تستحق أن نقف عندها وهى قول من أنكر النسخ فى هذه المسألة وتحجج بأن الخمر حرام أصلا فى الشرائع الأخرى وأنها كانت تشرب على البراءة الأصلية ألم تهتك هذه البراءة بقوله تعالى{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؟وسبب هذه الاية مشهور، وهو من الأمثلة على فائدة معرفة الاسباب وانها معينة على معرفة المعنى وازالة الاشكال.
وهو فيما قال ابن عباس والبراء وأنس: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.
فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء لم ينص عليها بتحريم
حديث ابن عباس ؛ فيرويه ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه عن
سعيد بن جبير عنه قال :
نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا حتى إذا نهلوا ؛ عبث
بعضهم ببعض ، فلما صحوا ؛ جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته ،
فيقول : قد فعل بي هذا أخي- وكانوا إخوةً ليس بينهم ضغائن-! والله ! لو كان
بي رؤوفاً رحيماً ما فعل بي هذا ! فوقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز
وجل: " إنما الخمر والميسر" إلى قوله : "فهل أنتم منتهون" .
فقال ناس : هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وفلان قتل يوم
أحد؟! فأنزل الله : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح
فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات" .
أخرجه النسائي في «الكبرى» (11151) ، والحاكم (2/ 141- 142)، والبيهقي
(8/ 285- 288) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 56 ـ 57/12459) .
وصححه الحاكم ، وقال الذهبي في «تلخيصه» :
«قلت : على شرط مسلم» .
وقال الهيثمي (7/18) :
«رواه الطبراني ، ورجاله رجال (الصحيح)» .
قلت: وهو كما قالا ؛ لكن في ربيعة بن كلثوم بن جبر وأبيه كلام يسير لا
ينزل به حديثهما عن مرتبة الحسن . وصححه الحافظ في «الفتح ( السلسلة الصحيحة للألباني))» .
فالآية تحمل دليلا واضحا على أن الصحابة فهموا حلية الخمر قبل تحريمها والحديث يؤكد على ذلك
فهل ظل التحريم موصولا بتحريم؟
 
بسم1
وإذا قلنا بأن النص فى الحلية معدوم وأن فعل بعض الصحابة لشرب الخمر فى غير وقت الصلاة كان لعدم وجود نص واضح فى التحريم أيضا وكان فعلهم اجتهاديا ألم يرفع الله عنهم الجناح فى نص واضح لا يحتاج لتأويل فى قوله تعالى{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }ألم ينسخ رفع الجناح من بعدهم؟ بقوله تعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فتكون الخمر محرمة تحريما قطعيا فى كل الأوقات وعلى كل الناس من عهد الصحابة إلى يومنا هذا فيقع النسخ من هذه الجهة . وإلا يكون الجناح مرفوعا عند مشابهة الواقعة.
 
بسم1
فنحن أمام نص صريح فى تحريم الخمر تحريما لا هوادة فيه وآخر يرفع الجناح عمن طعم الخمر إذا اتقى وأحسن قبل تحريمه فى سياق واحد من الآية (90) إلى الآية (93 ) من سورة المائدة والتعارض يتضح عندما نقول هل يرفع الجناح الآن إذا شرب أهل التقى والإحسان الخمر فى غير وقت الصلاة؟ أم يتعارض مع التحريم القطعى؟فنجد أن التعارض ثابت ولا سبيل إلا وقوع النسخ على رفع الجناح عمن طعم الخمر قبل تحريمه بشكل قطعى فيكون الجناح لازما لمن تمس الخمر فاه على السواء للصالح والطالح بموجب القطع بالتحريم ولوقلنا بغير النسخ تكن الكارثة فى حالة التوفيق فالتحريم على عمومه فى الآية (90)ولا سبيل إلا التخصيص فى الآية (93)ولمن؟ لصفوة عباد الله برفع الحرج عنهم فى هذا المنكر لتكون سنة لمن احسن واتقى من بعدهم هل هذا يرضى الله ورسوله؟وقد حرم ربى الأثم تحريما صريحا وانظر قوله تعالى{قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} وقوله تعالى{قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} فيكون التناقض مرة أخرى ويستحيل الجمع بين التحريم القطعى فى الخمر ورفع الجناح عن أهل التقوى والإحسان إلا بنسخ الأخير.
هذا والله أعلم
 
بسم1
إن مشكلة عدم قبول النسخ فى الأحكام المستنبطة من القرآن الكريم ترجع إلى القول على الله عز وجل بالبداء وجاء فى القرآن مايرد تلك الفرية فى سورة الكهف بشكل واضح لا يحتاج إلى تأويل أو سفسطة قال تعالى{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}
فالآية تبين اعتراض موسى عليه السلام على فعل القتل الذي يعارض مالديه من حكم فى هذه المسألة وهو جلى فى {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} وبين العبد الصالح أن هذا الحكم صادر من عند الله عز وجل{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فالحكمان متعارضان والأخير نسخ الأول
وإن كانت الحالة مخصوصة جدا فإن ماتم كان مراعاة لمصلحة الوالدين فى المستقبل قال تعالى{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} وهذا يرد البداء على الله عز وجل ويثبت أن الله قد يبدل الحكم لمصلحة الناس فى المستقبل وليس من قبيل البداء فالأمر عندما يرجع إلى الله عز وجل لا يصح أن يكون الاعتراض منا فعندما علم موسى عليه السلام أن الأمر من الله سلم وحاول أن يكمل وكلما حكم عقله وعلمه وجد أنه اعترض على أمر أراده الله عز وجل لمصلحة لم يدركها فهل نستفيد من هذه القصة؟
 
قوله تعالى في سورة النحل :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}
قبل أن أعرضَ كلامَ أهلِ السنة من المُفسرين ,لنقف مع الآيات وقفةَ مُتدبر مُنصف ......
أولا : قبل هذه الآية يقولُ تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فدل على أن السياقَ كله مرتبطٌ بالقرآن العظيم .
ثانيا : بعد هاتين الآيتين يقول تعالى :{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} فالحديثُ عن القرآنِ لا مَحالة ...
ثالثا : قوله تعالى :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} لا يمكن حملُها أبدا على غير الآية الشرعية بدليل السباق والسياق واللحاق في الآيات .. وبدليل قوله تعالى :{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فالإنزال واضح في هذه الدلالة ... وبدليل :{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } فهل الافتراء يُطلق على تبديل الآية الحسية يا عُقلاء المسلمين ..!!
رابعا : في سورة البقرة :{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وفي النحل :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } فالآيتان دلالتهما واضحة في كون الناسخ والمنسوخ آية شرعية أولاً ..
وفي ختام الآيات يقول تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}
أليس هذا الختام أوضحَ دلالة على المعنى المُراد .
وإلينا جميعا ما تتابعت عليه تفاسير أهل العلم :
قال ابن عطية رحمه الله في محرره :
وقوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها ، لأن هذا كله يقع عليه التبديل ، يقولون : لو كان هذا من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد ، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا.
قال القرطبي رحمه الله :
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ: الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) يَعْنِي جِبْرِيلَ، نَزَلَ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ.
قال ابن كثير رحمه الله :
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ نَاسِخِهَا بِمَنْسُوخِهَا قَالُوا لِلرَّسُولِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أَيْ: كَذَّابٌ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أَيْ: رَفَعْنَاهَا وَأَثْبَتْنَا غَيْرَهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [الْبَقَرَةِ:106] .
فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَيْ: جِبْرِيلُ، {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وَجَعَلَهُ هَادِيًا [مُهْدِيًا] وَبِشَارَةٍ للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
قال في فتح القدير :
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ هَذَا شُرُوعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةٍ شِبْهُ كُفْرِيَّةٍ وَدَفْعِهَا، وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ: رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ، وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِأُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا.
قال في التحرير والتنوير :
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ» اه.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَدَّلْنا مُطْلَقُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَامَاتِ، أَوِ التَّغَايُرُ فِي الْمَعَانِي وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَقَامَاتِ مَعَ وُضُوحِ الْجَمْعِ بَين محاملها.
وَذُكِرَتْ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أَيْ تَبْدِيلُ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلَّذِينِ آمَنُوا إِذْ يَفْهَمُونَ مَحْمَلَ كل آيَة ويهدون بِذَلِكَ وَتَكُونُ آيَاتُ الْبُشْرَى بِشَارَةً لَهُمْ وَآيَاتُ الْإِنْذَارِ مَحْمُولَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ.
فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْحَقِّ إِيقَاظٌ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِ وَأَنَّهَا حَقٌّ.
وَفِي التَّعْلِيلِ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيتِ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى بَيَانٌ لِرُسُوخِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَدَادِ آرَائِهِمْ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ السَّامِي، وَأَنَّهُ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ.
قال أبو السعود رحمه الله :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة ، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر ، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون شيئاً أصلاً أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَماً بالغةً ، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِناداً .
{ قُلْ نَزَّلَهُ } أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية { رُوحُ القدس } يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية ، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل : حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه ، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة { مِن رَبّكَ } في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض { بالحق } أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً ، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم .
{ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً ، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار .
وختاما : أنا أعلم كما يعلمُ غيري أن هذا النقلَ للذين يؤمنون بآيات الله إعلاما ... ولغيرهم إعلانا وحجة عليهم ... مع أنني أعتقد أنهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة ..بل مرادُهم هو بقاء الموضوع في الهواء مُعلقا حتى حين ... وحينهم معروف .
فلو قام رجل وأنكر وجود المتنبي كشاعر أو أنكر وجود البطالمة كفترة من التاريخ القديم , لاستدعى من أراد أن ُيبرهن أولا- على هذه الحقيقة الحسَ البيئي وتتابع الأجيال على تناقل هذه الحقائق في الأمصار والأعصار .. فكيف ينكر رجلٌ له عقل أن المتنبي أو البطالمة أو بقية الحقائق التاريخية والجغرافية من الواقع؟
وبالمثل فكل جيل من أجيال المسلمين وُلدَ ومات على حقيقة وجود النسخ في كتابات كل العلماء في كل الأعصار والأمصار . ولم يخالف في هذا إلا من هو معروفٌ بالمخالفة كابن بحر !
فَمن هؤلاء ومَن يَتبعون ولمَن يَعملون ....؟!
ولنتبع كلامه عليه الصلاة والسلام « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».رواه مسلم
 
مساندة مني نقلا فقط ومن كلام العلماء الكرام أنقل هذا الكلام لتأكيد ما استدل به الأخ الكريم علي سبيع في موضوع سبب النزول في آية المائدة :::
جاء في لباب النقول في أسباب النزول وكتاب الإتقان للسيوطي :
زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَ هَذَا الْفَنِّ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ لَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا: الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ .
قَالَ الْوَّاحِدِيُّ: لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْآيَةَ دُونَ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ: بَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُوَرِّثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ مِمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَوَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ وَبَحَثُوا عَنْ عِلْمِهَا .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قَوْلُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ به تارة أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّبَبَ كَمَا تَقُولُ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا.
قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ نَزَلَ ابْتِدَاءً وَقِسْمٌ نَزَلَ عَقِبَ وَاقِعَةٍ أَوْ سُؤَالٍ .
قَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: إِذَا أَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ وَمَشَى عَلَى هَذَا ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ وَمَثَّلُوهُ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} .
وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ وَيَحْتَجَّانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية وَلَوْ عَلِمَا سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ: كَيْفَ بِمَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الِلَّهِ وَمَاتُوا وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَهِيَ رِجْسٌ؟ فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
 
عودة
أعلى