الحسن محمد ماديك
New member
دلالة الاسمين الله رب العالمين في الكتاب المنزل
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم } الله { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
• لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين به الطاعة والعصيان .
• أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين .
• أو لبيان أثر الإيمان والطاعة على المكلفين .
• أو لبيان أثر الكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا .
• أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة .
وإن اسم } رب العالمين { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
• ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه .
• أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر .
• أو لاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر .
ولهـذه القاعدة في الكتاب تقييد له دلالات عميقة كرزق الله الذي يقع على ما لا كسب للمخلوق فيه ورزق ربنا الذي يقع على ما اكتسبه المخلوق بجهده من تمام نعمة ربه عليه .
وإنما أسند الرزق إلى الله في الكتاب المنزل على ما لم يكتسبه المرزوق به بجهده كما في قوله :
• ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا { الطلاق 11
• زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب { البقرة 212
• يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب { النور 38
• ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله { الأعراف 50
ولا تخفى دلالته على نعيم أهل الجنة الذين أدخلوها بفضل الله .
وكما في قوله :
• وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا وشربوا من رزق الله { البقرة 60
• وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هـذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب { عمران 37
• وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها { الجاثية 5
• وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم { العنكبوت 60
وكان الماء الذي انفجر من الحجر لما ضربه موسى بعصاه هو والمنّ والسلوى الذي نزّل على بني إسرائيل مع موسى هما رزق الله بغير جهد منهم ولا كسب ، أمروا أن يأكلوا ويشربوا منه .
وكان ما يلقى إلى مريم من رزق وهي في المحراب هو رزق الله إياها من غير كسب منها ولا جهد .
وكان الماء الذي نزّله الله من السماء هو رزق الله الدواب والناس من غير جهد منهم ولا كسب .
وإنما وقع في الكتاب رزق ربنا على ما اكتسبه المكلف من تمام نعم ربه عليه كما في قوله :
• لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15
• قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا { هود 88
ويعني أن أهل سبإ كانوا يحرثون ويأكلون من الجنتين ويعني أن شعيبا كان قويا كاسبا يأكل من كسبه ولم يكن متسولا يسألهم رزقا .
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله } اعبدوا الله { وقوله } اتقوا الله { وقوله } وقوموا لله قانتين { البقرة 232 .
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله } فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له { العنكبوت 17 من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة ، وقوله } وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين { الذاريات 56 ـ 58 يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة ، وكما في قوله } خلق الله السماوات والأرض بالحق { العنكبوت 44 أي لأجل أن يعبد ويذكر فيهما .
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } ويزيد الله الذين اهتدوا هدى { مريم 76 وقوله } فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين { الفلاح 28 وقوله } هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين { يونس 22 فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين .
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم { البقرة 7 أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله } إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون { البقرة 159 فلعنة الله إنما كانت بسبب أن كانوا يكتمون ما جاء به النبيون من البينات والهدى في الكتاب ، وقوله } كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب { الأنفال 52 والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله } ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب { النور 39 وقوله } يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين { النور 25 .
وأما بيان الجزاء فكما في قوله } فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين { المائدة 85 وقوله } ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون { فصلت 28 .
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله } قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر { الإسراء 102 من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها وكما في قوله } قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم { فصلت 9 ـ 12 ، ولا يخفى أن عاقلا من العالمين لا يستطيع ادعاء مثل هذا .
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله } يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود { هود 76 من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط وكما في قوله } وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر { القمر 50 .
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله } ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله { الإسراء 66 وقوله } ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره { الزخرف 9 ـ 13 .
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله } ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون { الزخرف 13 ـ 14 ، وقوله } لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15 وقوله } يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم { البقرة21 ـ 21 .
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم ربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله } وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم { الأنبياء 83 ـ 84 .
إن قوله } باسم الله { حيث وقع في الكتاب فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له . وهكذا ركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله } وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها { هود 41 فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله } قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن { هود 40 فجرت بهم الفلك على الماء الطوفان وجرت بعدها كل سفينة على الماء والعادة أن تستقر عليه وتغرق فكان جريانها في البحر بما ينفع الناس إنما هو باسم الله الذي أوجب على من في السفينة وعلى الناس أن يستعينوا بالسفن وبمنافعها في طاعة الله وعبادته ، ولو قال نوح باسم ربي مجراها ومرساها لم تجر سفينة على البحر بعدها إلا لمثله ، إذ ما كان باسم ربنا هو الآية الخارقة المعجزة مع رسله من الملائكة والبشر .
وهكذا لم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذكر اسم الله عليه كما في المائدة وثلاثة كل من الأنعام والحج .
إن حرف الأنعام } ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق { الأنعام 121 ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة ، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها فتجرد من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله ، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله .
إن الذي يقول " باسم الله " قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله } وكلوا واشربوا ولا تسرفوا { الأعراف 31 .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويطأ زوجته قد أطاع الله في قوله } وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين { النساء 24 فهي كلمة الله التي استحللنا بها فروج النساء .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويزني قد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلّفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنّه علي ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن .
إن قوله } باسم الله الرحمن الرحيم { ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها } إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين { النمل 30 ـ 31 أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في فقه المرحلية ، ويأتي لاحقا سبب ابتداء فاتحة الكتاب كالسور بـ } باسم الله الرحمن الرحيم { وسبب إيراد اسم الرحمة فيها وفي كتاب سليمان وإنما يتم المعنى في ما تقدم باسم الله إذ هو من تكليف الله عباده فهو مما يقدرون عليه ويستطيعونه ويسع كلا الطاعة والعصيان .
ولقد تضمن الكتاب الأمر بذكر الله بأسمائه الحسنى ودعائه بها ومنه } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { النور 36 ومن المثاني معه قوله } ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها { البقرة 114 ، ومنه ما تضمنت سورة الأعراف والإسراء وطه والحشر من الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى .
وأما فاتحة العلق } اقرأ باسم ربك الذي خلق { فلإظهار أن قراءة النبي الأمي r القرآن من أوله إلى آخره كما نزّله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر عليها أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه فكذلك قراءة النبي الأمي r القرآن لا يقدر على إيقاعها غير ربه .
وقد يحسب الجاهل ذلك مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي r اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه ولوقع فيه اختلاف كثير كما سأثبته إن شاء الله ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله .
إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد r رسول الله به وخاتم النبيين بلغ وحي الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله } بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين { يوسف 3 ومن المثاني معه قوله } وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان { الشورى 52 ، وهكذا كانت قراءة النبي الأمي r قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة ، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله } باسم الله الرحمن الرحيم { وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها .
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم } الله { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
• لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين به الطاعة والعصيان .
• أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين .
• أو لبيان أثر الإيمان والطاعة على المكلفين .
• أو لبيان أثر الكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا .
• أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة .
وإن اسم } رب العالمين { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
• ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه .
• أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر .
• أو لاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر .
ولهـذه القاعدة في الكتاب تقييد له دلالات عميقة كرزق الله الذي يقع على ما لا كسب للمخلوق فيه ورزق ربنا الذي يقع على ما اكتسبه المخلوق بجهده من تمام نعمة ربه عليه .
وإنما أسند الرزق إلى الله في الكتاب المنزل على ما لم يكتسبه المرزوق به بجهده كما في قوله :
• ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا { الطلاق 11
• زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب { البقرة 212
• يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب { النور 38
• ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله { الأعراف 50
ولا تخفى دلالته على نعيم أهل الجنة الذين أدخلوها بفضل الله .
وكما في قوله :
• وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا وشربوا من رزق الله { البقرة 60
• وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هـذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب { عمران 37
• وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها { الجاثية 5
• وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم { العنكبوت 60
وكان الماء الذي انفجر من الحجر لما ضربه موسى بعصاه هو والمنّ والسلوى الذي نزّل على بني إسرائيل مع موسى هما رزق الله بغير جهد منهم ولا كسب ، أمروا أن يأكلوا ويشربوا منه .
وكان ما يلقى إلى مريم من رزق وهي في المحراب هو رزق الله إياها من غير كسب منها ولا جهد .
وكان الماء الذي نزّله الله من السماء هو رزق الله الدواب والناس من غير جهد منهم ولا كسب .
وإنما وقع في الكتاب رزق ربنا على ما اكتسبه المكلف من تمام نعم ربه عليه كما في قوله :
• لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15
• قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا { هود 88
ويعني أن أهل سبإ كانوا يحرثون ويأكلون من الجنتين ويعني أن شعيبا كان قويا كاسبا يأكل من كسبه ولم يكن متسولا يسألهم رزقا .
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله } اعبدوا الله { وقوله } اتقوا الله { وقوله } وقوموا لله قانتين { البقرة 232 .
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله } فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له { العنكبوت 17 من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة ، وقوله } وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين { الذاريات 56 ـ 58 يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة ، وكما في قوله } خلق الله السماوات والأرض بالحق { العنكبوت 44 أي لأجل أن يعبد ويذكر فيهما .
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } ويزيد الله الذين اهتدوا هدى { مريم 76 وقوله } فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين { الفلاح 28 وقوله } هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين { يونس 22 فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين .
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم { البقرة 7 أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله } إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون { البقرة 159 فلعنة الله إنما كانت بسبب أن كانوا يكتمون ما جاء به النبيون من البينات والهدى في الكتاب ، وقوله } كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب { الأنفال 52 والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله } ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب { النور 39 وقوله } يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين { النور 25 .
وأما بيان الجزاء فكما في قوله } فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين { المائدة 85 وقوله } ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون { فصلت 28 .
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله } قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر { الإسراء 102 من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها وكما في قوله } قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم { فصلت 9 ـ 12 ، ولا يخفى أن عاقلا من العالمين لا يستطيع ادعاء مثل هذا .
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله } يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود { هود 76 من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط وكما في قوله } وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر { القمر 50 .
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله } ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله { الإسراء 66 وقوله } ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره { الزخرف 9 ـ 13 .
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله } ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون { الزخرف 13 ـ 14 ، وقوله } لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15 وقوله } يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم { البقرة21 ـ 21 .
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم ربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله } وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم { الأنبياء 83 ـ 84 .
إن قوله } باسم الله { حيث وقع في الكتاب فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له . وهكذا ركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله } وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها { هود 41 فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله } قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن { هود 40 فجرت بهم الفلك على الماء الطوفان وجرت بعدها كل سفينة على الماء والعادة أن تستقر عليه وتغرق فكان جريانها في البحر بما ينفع الناس إنما هو باسم الله الذي أوجب على من في السفينة وعلى الناس أن يستعينوا بالسفن وبمنافعها في طاعة الله وعبادته ، ولو قال نوح باسم ربي مجراها ومرساها لم تجر سفينة على البحر بعدها إلا لمثله ، إذ ما كان باسم ربنا هو الآية الخارقة المعجزة مع رسله من الملائكة والبشر .
وهكذا لم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذكر اسم الله عليه كما في المائدة وثلاثة كل من الأنعام والحج .
إن حرف الأنعام } ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق { الأنعام 121 ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة ، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها فتجرد من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله ، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله .
إن الذي يقول " باسم الله " قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله } وكلوا واشربوا ولا تسرفوا { الأعراف 31 .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويطأ زوجته قد أطاع الله في قوله } وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين { النساء 24 فهي كلمة الله التي استحللنا بها فروج النساء .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويزني قد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلّفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنّه علي ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن .
إن قوله } باسم الله الرحمن الرحيم { ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها } إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين { النمل 30 ـ 31 أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في فقه المرحلية ، ويأتي لاحقا سبب ابتداء فاتحة الكتاب كالسور بـ } باسم الله الرحمن الرحيم { وسبب إيراد اسم الرحمة فيها وفي كتاب سليمان وإنما يتم المعنى في ما تقدم باسم الله إذ هو من تكليف الله عباده فهو مما يقدرون عليه ويستطيعونه ويسع كلا الطاعة والعصيان .
ولقد تضمن الكتاب الأمر بذكر الله بأسمائه الحسنى ودعائه بها ومنه } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { النور 36 ومن المثاني معه قوله } ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها { البقرة 114 ، ومنه ما تضمنت سورة الأعراف والإسراء وطه والحشر من الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى .
وأما فاتحة العلق } اقرأ باسم ربك الذي خلق { فلإظهار أن قراءة النبي الأمي r القرآن من أوله إلى آخره كما نزّله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر عليها أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه فكذلك قراءة النبي الأمي r القرآن لا يقدر على إيقاعها غير ربه .
وقد يحسب الجاهل ذلك مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي r اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه ولوقع فيه اختلاف كثير كما سأثبته إن شاء الله ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله .
إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد r رسول الله به وخاتم النبيين بلغ وحي الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله } بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين { يوسف 3 ومن المثاني معه قوله } وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان { الشورى 52 ، وهكذا كانت قراءة النبي الأمي r قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة ، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله } باسم الله الرحمن الرحيم { وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها .