دقائق ولطائف

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
قال في التحرير والتنوير :إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ خَيِّرًا سَالِمًا مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَوَاطِرِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى صِفَةٍ مَلَكِيَّةٍ وَهُوَ مَعْنَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] ثُمَّ جَعَلَهُ أَطْوَارًا فَأَوَّلُهَا طَوْرُ تَعْلِيمِهِ النُّطْقَ وَوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْمَعْرِفَةِ وَبِهِ يَكُونُ التَّعْلِيمُ أَيْ يُعَلِّمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا مَا عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ فَكَانَ إِلْهَامُهُ اللُّغَةَ مَبْدَأَ حَرَكَةِ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ مَبْدَأٌ صَالِحٌ لِلْخَيْرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِهِ عَلَّمَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَرَى الشَّيْءَ فَيُسْرِعُ إِلَى قُرَنَائِهِ يُنَادِيهِمْ لِيَرَوْهُ مَعَهُ حِرْصًا عَلَى إِفَادَتِهِمْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَلِّمًا بِالطَّبْعِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى خَيْرِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ صَالِحٌ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِ النُّطْقِ فِي التَّمْوِيهِ وَالْكَذِبِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَمْرٍ كَلَّفَهُ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَمْتَثِلَهُ وَأَنْ يُخَالِفَهُ فَتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ مَبْدَأُ حَرَكَةِ نَفْسِهِ فِي الْحِرْصِ وَالِاسْتِئْثَارِ فَكَانَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ مَبْدَأَ طَوْرِ جَدِيدٍ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين:5] ، ثُمَّ هَدَاهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ فَصَارَ بِاتِّبَاعِهَا يَبْلُغُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى تَقْوِيمِهِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 6] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الطَّوْرِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَة: 38] الْآيَةَ.
 
قال العثيمين في سورة الواقعة :هذه السورة لو لم ينزل في القرآن إلا هي، لكانت كافية في الحث على فعل الخير وترك الشر، فقد ذكر الله تعالى في أولها يوم القيامة {إذا وقعت الواقعة } ثم قسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، ثم ذكر الله في آخرها حال الإنسان عند الموت، وقسم كل الناس إلى ثلاثة أقسام: مقربون، وأصحاب يمين، ومكذبون ضالون، وكذلك ذكر الله فيها ابتدأ الخلق في قوله: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والرزق من طعام وشراب وما يصلحهما فهي سورة متكاملة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتدبرها إذا قرأها، كما يتدبر سائر القرآن لكن هي اشتملت على معاني عظيمة والله الموفق.
 
قوله تعالى :{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}


قال في فتح القدير : ومن لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الطَّيِّبَاتِ لَا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً إِلَّا فِي الْجَنَّةِ .
 
قال تعالى في سورة الأنبياء :{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}


قال في التحرير والتنوير :هَذِهِ نَجَاةٌ ثَانِيَةٌ بَعْدَ نَجَاتِهِ مِنْ ضُرِّ النَّارِ، هِيَ نَجَاتُهُ مِنَ الْحُلُولِ بَيْنَ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَهُ كَافِرِينَ بِرَبِّهِ وَرَبِّهِمْ، وَهِيَ نَجَاةٌ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَتِلْكَ بِأَنْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بِلَادِ (الْكَلْدَانِ) إِلَى أَرْضِ (فِلَسْطِينَ) وَهِيَ بِلَادُ (كَنْعَانَ) .وَهِجْرَةُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ الدِّينِ. وَاسْتَصْحَبَ إِبْرَاهِيمُ مَعَهُ لُوطًا ابْنَ أَخِيهِ (هَارَانَ) لِأَنَّهُ آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ. وَكَانَتْ سَارَةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُمَا، وَقَدْ فُهِمَتْ مَعِيَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُهَاجِرُ إِلَّا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ.وَانْتَصَبَ لُوطاً عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ لَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ لُوطًا لَمْ يَكُنْ مُهَدَّدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ لِذَاتِهِ فَيَتَعَلَّقَ بِهِ فِعْلُ الْإِنْجَاءِ. وَضَمِنَ نَجَّيْناهُ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) .وَالْأَرْضُ: هِيَ أَرْضُ فِلَسْطِينَ. وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهُ بَارَكَهَا لِلْعَالَمِينَ، أَيْ لِلنَّاسِ، يَعْنِي السَّاكِنِينَ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا أَرْضَ خِصْبٍ وَرَخَاءِ عَيْشٍ وَأَرْضَ أَمْنٍ. وَوَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا.وَالْبَرَكَةُ: وَفْرَةُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 96] .
 
قوله تعالى في سورة يونس { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }
قال في محاسن التأويل :
قال الرازي :
اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مطردة في القرآن . فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك ، فقال : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وعن موسى عليه السلام مثله فقال : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله : { أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [ النمل : 64 ] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية ، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وإنما أعطى الحواس ، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم . وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم ، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة . أما الأحوال الروحانية ، والمعارف الإلهية ، فإنها كمالات باقية أبد الآباد ، مصونة عن الكون والفساد .
فعلمنا أن الخلق تبع للهداية ، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية ، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده . والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق ، أو عن تحصيل معرفتها ، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب ، وأعلى السعادات ، وأنها ليست إلا منه تعالى . وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ، ولا في الإرشاد إلى الصدق ، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد ، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضاً ، وسفهاً صرفاً . فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال .
 
قال في مدارج السالكين :


فَصْلُ ................الْغُرْبَةِ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: بَابُ الْغُرْبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] .اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» .
 
قال في التحرير والتنوير :إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ خَيِّرًا سَالِمًا مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَوَاطِرِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى صِفَةٍ مَلَكِيَّةٍ وَهُوَ مَعْنَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] ثُمَّ جَعَلَهُ أَطْوَارًا فَأَوَّلُهَا طَوْرُ تَعْلِيمِهِ النُّطْقَ وَوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْمَعْرِفَةِ وَبِهِ يَكُونُ التَّعْلِيمُ أَيْ يُعَلِّمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا مَا عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ فَكَانَ إِلْهَامُهُ اللُّغَةَ مَبْدَأَ حَرَكَةِ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ وَهُوَ مَبْدَأٌ صَالِحٌ لِلْخَيْرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِهِ عَلَّمَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَرَى الشَّيْءَ فَيُسْرِعُ إِلَى قُرَنَائِهِ يُنَادِيهِمْ لِيَرَوْهُ مَعَهُ حِرْصًا عَلَى إِفَادَتِهِمْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَلِّمًا بِالطَّبْعِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى خَيْرِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ صَالِحٌ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِ النُّطْقِ فِي التَّمْوِيهِ وَالْكَذِبِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَمْرٍ كَلَّفَهُ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَمْتَثِلَهُ وَأَنْ يُخَالِفَهُ فَتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ مَبْدَأُ حَرَكَةِ نَفْسِهِ فِي الْحِرْصِ وَالِاسْتِئْثَارِ فَكَانَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ مَبْدَأَ طَوْرِ جَدِيدٍ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين:5] ، ثُمَّ هَدَاهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ فَصَارَ بِاتِّبَاعِهَا يَبْلُغُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى تَقْوِيمِهِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 6] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الطَّوْرِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَة: 38] الْآيَةَ.
 
قال في البرهان في علوم القرآن :{ مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح، وسورة الكهف بالتحميد؛ لأن التسبيح حيث جاء مقدَّم على التحميد، يقال: سبحان الله، والحمد لله }
 
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله-: اعلم أن السنة كلها تندرج في آية واحدة من بحره الزاخر، قوله تعالى:{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }[الحشر: 7] [أضواء البيان 1/ 5]
 
قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق :
وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَشْتَبِهَ الْليلُ بِالنَّهَارِ عَلَى أَعْمَى الْبَصَرِ، كَمَا يَشْتَبِهُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ عَلَى أَعْمَى الْبَصِيرَةِ.
 
قوله تعالى في سورة طه :{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) }
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ الْخَلْقِ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَوْلَا حَجْبُ الضَّلَالَاتِ وَالْهَوَى، وَأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِإِيقَاظِ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا أَهْلَ فَتْرَةٍ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 
قوله تعالى :{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
 
قوله تعالى :{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطْرَةِ الْعَقْلِ، لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ، وَتَجَرَّدَ مِنَ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ، أَوِ الْمُلْقَاةِ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِيهِمُ الضَّلَالَةُ، بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ:
مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: 15] وَلَعَلَّهُ أَرْجَعَ مُؤَاخَذَةَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى التَّوَاتُرِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ بِالتَّوْحِيدِ.
 
قوله تعالى :{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}

قال في التحرير والتنوير :
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ يُشْتَفَى بِهَا مِنَ الْأَدْوَاءِ وَالْآلَامِ وَرَدَ تَعْيِينُهَا فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فَشَمِلَتْهَا الْآيَةُ بِطَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنْ أَدْوَاءٍ مَوْصُوفَةٍ بَلْهُ الِاسْتِعَاذَةِ بِآيَاتٍ مِنْهُ مِنَ الضَّلَالِ كَثِيرَةٍ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِمَا،
 
قوله تعالى في سورة طه:{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ الْإِنْسَانَ مِنْ يَوْمِ نَشْأَتِهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي الْفِطْرَةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَم الَّتِي يكون فِي الفتر بَيْنَ الشَّرَائِعِ مُسْتَحِقٌّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ.
 
قوله تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ وَطَعَامَ الضِّيَافَةِ مِلْكٌ لِلْمُتَضَيِّفِ وَلَيْسَ مِلْكًا لِلْمَدْعُوِّينَ وَلَا لِلْأَضْيَافِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ خَاصَّةً وَلَمْ يَمْلِكُوهُ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ رَفْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ مَعَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَن سكُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِحَضْرَتِهِ إِذَا كَانَ تَعَدِّيًا عَلَى حَقٍّ لِذَاتِهِ لَا يَدُلُّ سُكُوتُهُ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْحَظْرُ أَوِ الْإِبَاحَةُ فِي مَثَلِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيءَ وَلِذَلِكَ جَزَمَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ من آذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّرَاحَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ مَرْتَبَةِ الْأَذَى وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ بَعْدَ تَوْقِيفِهِ عَلَى الْخَفِيِّ مِنْهُ وَعَدَمِ التَّوْبَةِ مِمَّا تُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي إِعْرَاض النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُؤَاخَذَةِ مَنْ آذَاهُ فِي حَيَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَسَامُحِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:فَاعْفُ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: 13] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمرَان: 159] . فَهَذَا مِلَاكُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيذَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءِ وَالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدَ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الذَّبَّ عَنْ حَقِّ رَسُوله وَكَفاهُ مؤونة الْمَضَضِ الدَّاعِي إِلَيْهِ حَيَاؤُهُ. وَقَدْ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يَحْفُ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ فِي تَضَاعِيفِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ «الشِّفَاءِ» .
فَإِنْ قُلْتَ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أنس أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ لِيَقُومَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ قعدوا يتحدثون، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْخُرُوجِ بَدَلًا مِنْ خُرُوجِهِ هُوَ. قُلْتُ: لِأَنَّ خُرُوجَهُ غَيْرُ صَرِيح فِي كَرَاهِيَة جُلُوسَهُمْ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ انْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ مِنْ وَاجِبِ الْأَلْمَعِيَّةِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَتَحَفَّزُوا لِلْخُرُوجِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عَنْهُمْ بِمُنَافٍ لِوَصْفِ حَيَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 
قوله تعالى في سورة ص:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}
قال في التحرير والتنوير :
وَأُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ ظَنَّهُمْ عِلْمٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ بَاسْمِ الظَّنِّ أَجْدَرُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الظَّنِّ يَقَعُ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِلْمِ الْمُشْبِهِ وَالْبَاطِلِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ قَوْلًا، وَأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ وَهُوَ الَّذِي نَحَاهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُوجِبَاتِ الرِّدَّةِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ.
 
قوله تعالى في سورة الحديد :{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}
قال في التحرير والتنوير :
وَتَشْبِيهُ عَرْضِ الْجَنَّةِ بِعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مَجْمُوعُ عَرْضَيْهِمَا لِقَصْدِ تَقْرِيبِ الْمُشَبَّهِ بِأَقْصَى مَا يَتَصَوَّرُهُ النَّاسُ فِي الِاتِّسَاعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْدِيدَ ذَلِكَ الْعَرْضِ وَلَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى يُقَالَ: فَمَاذَا بَقِيَ لِمَكَانِ جَهَنَّمَ.
وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسَابَقَاتِ إِلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ الْمُوجِبَةِ لِلْمَغْفِرَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَشَامِلٌ لِلْمُسَابَقَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ،
وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ إِكْثَارًا لِلْمَعَانِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَوْ يَعْلَمَ النَّاسُ مَا فِي الصَّفّ الأول لَا ستبقوا إِلَيْهِ أَوِ اسْتَهَمُوا إِلَيْهِ». وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ الْآنَ إِذْ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي قَوْلِهِ:كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ هُوَ السِّعَةُ لَا الْمِقْدَارُ وَلَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْيَوْمَ وَلَا عَدَمُهُ.
 
قوله تعالى في سورة الحاقة :{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}
قال في التحرير والتنوير :
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُبْقِي أَحَدًا يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَلَامًا يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّاس، وَأَنه يَجْعَل بِهَلَاكِهِ.
فَأَمَّا من يَدعِي النبوءة دُونَ ادِّعَاءِ قَوْلٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُهْلِكُهُ بَعْدَ حِينٍ كَمَا كَانَ فِي أَمْرِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الَّذِي ادّعى النبوءة بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلَمَةَ الْحَنَفِيِّ الَّذِي ادَّعَى النبوءة فِي الْيَمَامَةِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ يَنْسُبَانِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ إِهْلَاكُهُمَا بَعْدَ مُدَّةِ، وَمَثَلِهِمَا مَنِ ادَّعَوُا النُّبُوءَةَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلِ (بَابَكَ وَمَازِّيَارَ) .
 
قوله تعالى في سورة عبس :{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)}
قال في التحرير والتنوير :
وَالْإِقْبَارُ: تَهْيِئَةُ الْقَبْرِ، وَيُقَالُ: أَقْبَرَهُ أَيْضًا، إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ، وَيُقَالُ: قَبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا دَفَنَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّاسَ ذَوِي قُبُورٍ.
وَإِسْنَادُ الْإِقْبَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّاسَ الدَّفْنَ كَمَا فِي قِصَّةِ دَفْنِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ بِإِلْهَامِ تَقْلِيدِهِ لِفِعْلِ غُرَابٍ حَفَرَ لِغُرَابٍ آخَرَ مَيِّتٍ حُفْرَةً فَوَارَاهُ فِيهَا، فَأُسْنِدَ الْإِقْبَارُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَلْهَمَ النَّاسَ إِيَّاهُ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ فِي شَرَائِعِهِ مِنْ وُجُوبِ دَفْنِ الْمَيِّتِ.
وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي صِيغَةِ أَماتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ عَدُّوهَا قَاصِرَةً عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مِنَنًا عَلَى النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَتَسْوِيَتِهِمْ وَإِكْمَالِ قُوَاهُمْ أَحْيَاءً، وَإِكْرَامِهِمْ أَمْوَاتًا بِالدَّفْنِ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالشَّيْءِ اللَّقِيِّ يَجْتَنِبُ بَنُو جِنْسِهِ الْقُرْبَ مِنْهُ وَيُهِينُهُ الْتِقَامُ السِّبَاعِ وَتَمْزِيقُ مَخَالِبِ الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ، فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَماتَهُ هُوَ فِيمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ: فَأَقْبَرَهُ وَلَيْسَتِ الْإِمَاتَةُ وَحْدَهَا مِنَّةً.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ دَفْنِ أَمْوَاتِ النَّاسِ بِالْإِقْبَارِ دُونَ الْحَرْقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ مَجُوسُ الْهِنْدِ، وَدُونَ الْإِلْقَاءِ لِسِبَاعِ الطَّيْرِ فِي سَاحَاتٍ فِي الْجِبَالِ مَحُوطَةٍ بِجُدْرَانٍ دُونَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مَجُوسُ الْفُرْسِ وَكَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَوْتَى الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ فِي الْفَيَافِي إِذْ لَا يُوَارُونَهُمْ بِالتُّرَابِ .
وَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ شُهَدَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي قُبُورٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَوَارَى قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ.
 
قوله تعالى في سورة طه :{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}
قال ابن كثير رحمه الله :
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجة.وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: سَوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْق مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقه، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْق الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الخَلْق وَالرِّزْقِ وَالنِّكَاحِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الْأَعْلَى: 3] أَيْ: قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، أَيْ: كَتَب الْأَعْمَالَ وَالْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، ثُمَّ الْخَلَائِقُ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. يَقُولُ: رَبُّنَا الَّذِي خَلَقَ [الْخَلْقَ] وَقَدَّرَ القَدَر، وجَبَل الْخَلِيقَةَ عَلَى مَا أَرَادَ.
 
قوله تعالى في سورة طه :{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}
قال ابن كثير رحمه الله :
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجة.وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: سَوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْق مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقه، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْق الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الخَلْق وَالرِّزْقِ وَالنِّكَاحِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الْأَعْلَى: 3] أَيْ: قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، أَيْ: كَتَب الْأَعْمَالَ وَالْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، ثُمَّ الْخَلَائِقُ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. يَقُولُ: رَبُّنَا الَّذِي خَلَقَ [الْخَلْقَ] وَقَدَّرَ القَدَر، وجَبَل الْخَلِيقَةَ عَلَى مَا أَرَادَ.
 
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْجَوَابِ مَا أَخْصَرَهُ وَمَا أَجْمَعَهُ وَمَا أَبَيَنَهُ لِمَنْ أَلْقَى الذِّهْنَ وَنَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَكَانَ طَالبا للحق» .
 
قوله تعالى في سورة الشعراء :{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)}
قال ابن كثير رحمه الله :
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ، وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجُحُودِهِ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [الْقَصَصِ:38] ، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزُّخْرُفِ:54] ، وَكَانُوا يَجْحَدُونَ الصَّانِعَ -تَعَالَى -وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَهُمْ سِوَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزُّخْرُفِ:46] ، قَالَ لَهُ: ومَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرِي؟ هَكَذَا فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْخَلَفِ، حَتَّى قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49، 50] .
وَمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِمْ؛ أَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالصَّانِعِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ ، بَلْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا سأله عن رب العالمين: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ وَإِلَهُهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا، الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ النَّيِّرَاتِ، وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَمَا فِيهِ مِنْ بِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَجِبَالٍ وَأَشْجَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ وَالطُّيُورِ، وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ، الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ.
{إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمْ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ، وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ.
 
قال ابن كثير رحمه الله :
وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ وَالِائْتِمَارِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَامْتِثَالِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ -مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، فَتَحُوا الْقُلُوبَ وَالْأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُيُوشِ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْبَرْبَرِ والحبُوش وَأَصْنَافِ السُّودَانِ والقبْط، وَطَوَائِفِ بَنِي آدَمَ، قَهَرُوا الْجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ.
 
وفي تفسير ابن القيم :
قوله تعالى :{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }
متضمن لكنز من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه , وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه
.
 
قوله تعالى :{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
قال ابن كثير رحمه الله :
قَوْلُهُ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
وَشُكْرًا: مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالنِّيَّةِ، كَمَا قَالَ:
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي ثَلاثةً: ... يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا ...
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبلي : الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ لِلَّهِ شُكْرٌ. وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي قَالَ: الشُّكْرُ تَقْوَى اللَّهِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَهَذَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ كَانَ آلُ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَذَلِكَ قَائِمِينَ بِشُكْرِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ أَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صلاةُ داودَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. وَلَا يَفر إِذَا لَاقَى". وَقَوْلُهُ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ.
قال أبو السعود رحمه الله :
حكاية لما قيل لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل : الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ.
 
ولو كان الشكر كلاما فقط لكان ختام الآية .. وكثير.. بدلا من وقليل .
فالكلام ليس صعبا على كثير من الناس .
 
بارك الله فيك وفي طرحك الماتع وزادك من فضله وخزائن علمه .
 
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الْحَدِيدِ: 16، 17] .
قال ابن كثير رحمه الله :
فَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ يُلِينُ الْقُلُوبَ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ قَسْوَتِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ الْمُؤَمَّلُ الْمَسْؤُولُ أن يفعل بنا ذلك، إنه جَوَادٌ كَرِيمٌ.
 
قوله تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
قال في البحر المحيط :
وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. جَاءَ الْأَمْرُ أَوَّلًا بِاجْتِنَابِ الطَّرِيقِ الَّتِي لَا تُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الظَّنُّ ثُمَّ نَهَى ثَانِيًا عَنْ طَلَبِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَيَصِيرُ عِلْمًا بِقَوْلِهِ: وَلا تَجَسَّسُوا ثُمَّ نَهَى ثَالِثًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إِذَا عُلِمَ، فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ، ظَنٌّ فَعِلْمٌ بِالتَّجَسُّسِ فاغتياب .
 
قوله تعالى :{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}
قال في تفسير المنار :
وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ مُفْسِدُوا الْأُمَمِ وَمُهْلِكُوهَا . وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُوَرِ الْإِسْرَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَسَبَأٍ وَالزُّخْرُفِ وَالْوَاقِعَةِ ، وَيُؤَيِّدُ مَضْمُونَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ وَوَقَائِعُ التَّارِيخِ ، وَإِنَّ كُلَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي عَصْرِنَا فَمَثَارُهُ الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ وَاتِّبَاعُ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِتْرَافُ ، مِنْ فُسُوقٍ وَطُغْيَانٍ وَإِفْرَاطٍ وَإِسْرَافٍ .
عَلِمَ هَذَا الْمُهْتَدُونَ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ ، فَكَانُوا مَثَلًا صَالِحًا فِي الِاعْتِدَالِ فِي الْمَعِيشَةِ ، أَوْ تَغْلِيبِ جَانِبِ الْخُشُونَةِ وَالْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ ، عَلَى الْخُنُوثَةِ وَالْمُرُونَةِ وَالنِّعْمَةِ ، فَسَهُلَ لَهُمْ فَتْحُ الْأَمْصَارِ ، ثُمَّ أَضَاعَهَا مَنْ خَلَفَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ ، فَانْظُرْ كَيْفَ اهْتَدَى السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَبَيَانِ السُّنَّةِ لَهُ إِذْ خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَالْحِكْمَةِ . ثُمَّ كَيْفَ ضَلَّ الْخَلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَفَادُوا الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ وَالْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ بِهِ ؟
 
(فَإِنْ قِيلَ) : وَمَا تَفْعَلُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْآيَةَ ؟
(قُلْتُ) : إِنَّمَا كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ بِالْكَسْبِ وَسُنَنِ الْأَسْبَابِ ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَشْكُرُونَهَا لِلَّهِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهُ فَتَكُونُ إِرَادَتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي التَّمَتُّعِ بِهَا ، كَيْفَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : - {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }، - {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فَالْمُؤْمِنُ الشَّاكِرُ الصَّابِرُ تَزِيدُهُ النِّعَمُ شَوْقًا إِلَى اللهِ وَحُبًّا ، وَالشَّدَائِدُ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَقُرْبًا .
 
قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }
قال ابن كثير رحمه الله :
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ يَخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنِ النَّاسِ، فَيَنْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَيَقُومُ بِالطَّاعَاتِ، حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، بِأَنَّهُ لَهُ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، أَيْ: يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَيُجَازَى بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ"، فَذَكَرَ مِنْهُمْ: "رَجُلًا دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلًا تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" .
 
قوله تعالى :{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }
قال القرطبي رحمه الله :
(الصَّابِرِينَ) يَعْنِي عَنِ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: عَلَى الطَّاعَاتِ. (وَالصَّادِقِينَ) أَيْ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ (وَالْقانِتِينَ) الطَّائِعِينَ. (وَالْمُنْفِقِينَ) يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَفَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْوَالَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّاتِ.
قال في التحرير والتنوير :
وَقَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ الْآيَةَ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَوْ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَذَكَرَ هُنَا أُصُولَ فَضَائِلِ صِفَاتِ الْمُتَدَيِّنِينَ: وَهِيَ الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي. وَالصِّدْقُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الِاسْتِقَامَةِ وَبَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ. وَالْقُنُوتُ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْقَانُهَا وَهُوَ عِبَادَةٌ نَفْسِيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ.
وَالْإِنْفَاقُ وَهُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ أَوَدِ الْأُمَّةِ بِكِفَايَةِ حَاجِ الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْمَالُ شَقِيقُ النَّفْسِ. وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ، وَالسَّحَرُ سُدُسُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَدُّ إِخْلَاصًا، لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ هُدُوءِ النُّفُوسِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى اهْتِمَامِ صَاحِبِهِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، فَاخْتَارَ لَهُ هَؤُلَاءِ الصَّادِقُونَ آخِرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ وَقْتُ صَفَاءِ السَّرَائِرِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الشَّوَاغِلِ.
وَعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ، وَمَا بَعْدَهُ: سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ صِفَةً ثَانِيَةً، بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَمْ كَانَ ابْتِدَاءَ الصِّفَاتِ بَعْدَ الْبَيَانِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ طَرِيقَتَيْ تَعْدَادِ الصِّفَاتِ فِي الذِّكْرِ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَكُونُ، بِالْعَطْفِ وَبِدُونِهِ، مِثْلَ تَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ إِذْ لَيْسَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ بِمَقْصُورَةٍ عَلَى تَشْرِيكِ الذَّوَاتِ.
 
قال أبو السعود رحمه الله :وتخصيصُ الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقربُ إلى الإجابة إذِ العبادة حينئذ أسبقُ والنفسُ أصفى والروح أجمعُ لا سيما للمتهجّدين ، وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كلَ منها وكمالهم فيها ، أو لتغايُر الموصوفين بها .
 
قوله تعالى :{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}
قال في التحرير والتنوير:
وَعَطْفُ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَفَادَ انْتِفَاءَ جَمِيعِ التَّكَلُّفِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّكَلُّفُ: مُعَالَجَةُ الْكُلْفَةِ، وَهِيَ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَالْتِزَامُهُ لِكَوْنِهِ يُحْرِجُهُ أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ مَا لَيْسَ بِسَهْلٍ، فَالْمُتَكَلِّفُ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يَدَّعِي عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ: «يَا أَيهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، أَيْ لَا مَشَقَّةَ فِي تَكَالِيفِهِ وَهُوَ مَعْنَى سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا اسْتِرْوَاحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ طبع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رَوْحِ شَرِيعَتِهِ تَنَاسُبًا لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى تَنْفِيذِ شَرْعِهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِي الْقِيَامِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ.
 
قوله تعالى :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
قال في التحرير والتنوير :
وَهَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا يَصْدُرُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا جَمِيعُ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ».. الْحَدِيثُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ لَهَا: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأَتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وَعُطِفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ على لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ بِالْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ.
وَالْمَعْنَى: وَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، أَيْ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ واقتحم نَهْيه.
 
قوله تعالى :{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}
قال في التحرير والتنوير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُوم رسَالَته.
 
قوله تعالى :{ َفلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
قال في فتح القدير :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَنْشِيطٌ لِلذَّاكِرِينَ لَهُ .
قال في محاسن التأويل :
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ } أي : الذاكرين الله بالتسبيح ، والإنابة ، والتوبة ، في بطن الحوت .{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : لكان بطنه قبراً له إلى يوم القيامة ؛ أي : لكن رحمناه بتسبيحه .
 
قال في مجموع الفتاوى :
فَأَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أَمَرَ فِي أَوَّلِهَا بِالْقِرَاءَةِ؛ وَفِي آخِرِهَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ؛ وَأَعْظَمُ الْأَفْعَالِ السُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ .
 
قال ابن حزم رحمه الله في الإحكام في أصول الأحكام:
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ وَتَبْيِينِهِ مِنَ الْغَيِّ وَمِمَّا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَفَّلْ تَعَالَى بِحِفْظِ دِمَائِنَا وَلَا بِحِفْظِ فُرُوجِنَا وَلَا بِحِفْظِ أَبْشَارِنَا وَأَمْوَالِنَا فِي الدُّنْيَا، بَلْ قَدَّرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: " «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» " وَبِقَوْلِهِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: " «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ".
 
قال الزركشي رحمه الله في البرهان :
ثَلَاثُ آيَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ الْأُولَى رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ - والثانية رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ - وَالثالثة رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ قوله: {إذ نسويكم برب العالمين} رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ - {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ -: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ .
 
قوله تعالى :{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ }
قال الحافظ ابن كثير :
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ} أَيْ: حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ: وَاحِدُهَا: زُلَم، وَقَدْ تَفْتَحُ الزَّايُ، فَيُقَالُ: زَلم، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ، عَلَى أَحَدِهَا مَكْتُوبٌ: "أَفْعَلُ" وَعَلَى الْآخَرِ: "لَا تَفْعَلْ" وَالثَّالِثُ "غُفْل لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى الْوَاحِدِ: "أَمَرَنِي رَبِّي" وَعَلَى الْآخَرِ: "نَهَانِي رَبِّي". وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا أَجَالَهَا فَطَلَعَ السَّهْمُ الْآمِرُ فَعَلَهُ، أَوِ النَّاهِي تَرَكَهُ، وَإِنْ طَلَعَ الْفَارِغُ أَعَادَ الِاسْتِقْسَامَ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَرَدَّدُوا فِي أُمُورِهِمْ أَنْ يَسْتَخِيرُوهُ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ، ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الخيَرَة فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: "إِذَا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْتَخِيركَ بعلمكَ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ مِنْ فَضْلك الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِر وَلَا أقْدِر، وتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم، وَأَنْتَ عَلام الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنَّ كنتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ -وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ-خَيْرًا لِي فِي دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أَمْرِي، فاقدُرْهُ لِي ويَسِّره لِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كنتَ تَعْلَمْهُ شَرًّا لِي فِي دِينِي ومَعاشي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاصْرِفْهُ عنِّي، واقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّني بِهِ".
 
قال السعدي رحمه الله في قوله تعالى :{ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}
فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.
 
وقال رحمه الله في قوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) }
وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين.
وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.
وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة، لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.
فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.
 
قال ابن حزم رحمه الله :
وَلَيْسَ الرُّشْدُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْغَيُّ إِلَّا مَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَهَذَا قَوْلُنَا:.
 
قال تعالى في سورة المؤمنون :{ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}
قال ابن كثير رحمه الله :
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ عَوْنٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَامَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلًا وَعَمَلًا وَدَلَالَةً وَنُصْحًا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْعِبَادِ خَيْرًا.
 
قوله تعالى : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
قال في التحرير والتنوير:
وَلَمَّا ذَكَرَ إِيثَارَهُمُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ عَلَى حُظُوظِ لَذَّاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ ذَكَرَ مَعَهُ إِيثَارَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا بِهِ نَوَالُ لَذَّاتٍ أُخْرَى وَهُوَ الْمَالُ إِذْ يُنْفِقُونَ مِنْهُ مَا لَوْ أَبْقَوْهُ لَكَانَ مَجْلَبَةَ رَاحَةٍ لَهُمْ فَقَالَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يَتَصَدَّقُونَ بِهِ وَلَوْ أَيْسَرَ أَغْنِيَاؤُهُمْ فُقَرَاءَهُمْ. ثُمَّ عَظَّمَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ إِذْ قَالَ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، أَيْ: لَا تَبْلُغُ نَفْسٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُعَرِفَةَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ،قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ نَفْسٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ.
فَإِنَّ مُدْرَكَاتِ الْعُقُولِ مُنْتَهِيَةٌ إِلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ مِنَ الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ، وَمَا تُدْرِكُهُ الْأَسْمَاعُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَقْوَالِ وَمَحَامِدِهَا وَمَحَاسِنِ النَّغَمَاتِ، وَإِلَى مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمُتَخَيَّلَاتُ مِنْ هَيْئَاتٍ يَرْكَبُهَا الْخَيَالُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا يَعْهَدُهُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ مِثْلَ الْأَنْهَارِ مِنْ عَسَلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ، وَمِثْلَ الْقُصُورِ وَالْقِبَابِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَمِثْلَ الْأَشْجَارِ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَالْأَزْهَارِ مِنْ يَاقُوتٍ، وَتُرَابٍ مِنْ مِسْكٍ وَعَنْبَرٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي جَانِبِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ وَلَا تَبْلُغُهُ صِفَاتُ الْوَاصِفِينَ لِأَنَّ مُنْتَهَى الصِّفَةِ مَحْصُورٌ فِيمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ دَلَالَاتُ اللُّغَاتِ مِمَّا يَخْطُرُ عَلَى قُلُوبِ الْبَشَرِ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي تَعْظِيمِ شَيْءٍ: هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
 
عودة
أعلى