دعوى متهافتة

إنضم
08/02/2009
المشاركات
174
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
في إطار محاولات النصارى الساذجة في الطعن في القرآن – جاءني بعض طلاب الجامعة بمقال عنوانه "خرافة الإعجاز البلاغي في القرآن" يدعي فيه كاتبه : أنه لما كانت البلاغة هي " ما قلّ ودلّ " فإن قول العامة : "الدنيا سوق ، نصب وانفض ، ربح الرابحون وخسر الخاسرون" – حسب هذه القاعدة - أبلغ من الآية 24 في سورة يونس: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) إذ أن القرآن قد وصف الدنيا فيما يقرب من 40 كلمة ، وهو ما لم تعرفه ولا تقره البلاغة ، ويذهب الكاتب إلى أن القرآن لا يخلو من البلاغة ، ولكنه يحمل سقطات بلاغية أيضا كهذه .
ونرد على الكاتب بقولنا:
1/قولك (إن القرآن لا يخلو من البلاغة) يشير – وبصورة مباشرة - إلى أن القرآن حظه قليل في البلاغة ، وهو رأي غير مقبول ابتداء ؛ لأنه لا يمكن أن يقول به ذو عقل سليم ، ثم إنك – حسب ما يبدو لي - ليس لك معيار صحيح للبلاغة أصلا ، ولا شك أن البلاغة درجات متفاوتة ومراتب يعلو بعضها فوق بعض حتى تخرج عن طوق البشر وتعجز عنها قواهم وتتقاصر دونها قرائحهم ، وهذه الدرجة العليا في البلاغة التي ليس بعدها من درجة هي درجة القرآن ، وكلما علت هذه الدرجة خفيت على من لا قدم له في معرفة البلاغة مثلك ؛ ومعلوم أن دراسة الإعجاز والعكوف على صفة التحدي من شأنهما أن يوقفا على الفروق الجوهرية بين القرآن العظيم وبين غيره ، ولا شك أن لهذه الفروق أهمية كبرى ومكانة عظمى في هذا المضمار ؛ إذ لا يثبت الإعجاز نفسه إلا بثبوت هذه الفروق ، ومن المعلوم _ عند الأجيال المتعاقبة جميعا بعد نزول القرآن - أن هنالك فرقاً كبيراً وبونا شاسعاً بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه ، ولكن قل لي بربك هل سمعت بقضية النظم هذه ؟ فإن كنت قد سمعت فلماذا تضرب عنها صفحا وتميل إلى قواعد متوهمة لم يقل بها قبلك من أحد ، ثم إن هذه القاعدة المتوهمة نفسها والتي لا معنى لها هاهنا - لم تطبق عندك بشكل صحيح كما سيأتي .
2/ هذه الآية تحتاج إلى فكر ؛ ولذلك قال تعالى في آخرها :( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وخصّ بذلك أهل الفكر لأنهم أهل التمييز بين الأمور والفحص عن الحقائق التي تعرض في الفكر والعقل ، وكأنني بهذه الآية تعرّض بأمثالك ممن لا يتدبرون كلام الله ولا يتفكرون فيه جيدا
3/ من بلاغة الآية التشبيه والتمثيل الذي ورد فيها ، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة قيمتها مثل ماء اختلط به النبات ؛ أي شرب منه فتندى وحسن واخضر ؛ فأكل الناس من الحبوب والثمار والبقول وأكلت الأنعام من الكلأ والتبن والشعير ؛ حتى إذا أخذت الأرض كمال حسنها وازينت بالحبوب والثمار والأزهار و أيقن أهلها أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها - أتاها عذابنا أو أمرنا بهلاكها ليلا أو نهارا فجعلناها محصودة مقطوعة لا شيء فيها ؛ كأن لم تكن عامرة وفيها المنازل التي يعمرها الناس
4/ إن معنى هذه الآية يوجد في آية أخرى وهي : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) فلماذا لم تختر هذه الآية وهي 17 كلمة إن كنت موضوعيا في حكمك
5/ ذكرت أن البلاغة هي الألفاظ القليلة والمعاني الكثيرة استنادا على قول العرب : (خير الكلام ما قلّ ودلّ ) وهذا ما لم يقل به أحد ، فهلا جعلت البلاغة هي قول العرب : (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ليكون كل جماد أبلغ منك ، وهذه نتيجة منطقية أدت إليها مثل مقدمتك تلك
6/ الألفاظ القليلة مع المعاني الكثيرة تسمى في البلاغة بالإيجاز ، وهذا الإيجاز تحكمه مراعاة الحال ، ولأجل ذلك كان الإيجاز هو المناسبة بين الكلام والحال سواء قلّ هذا الكلام أو كثر ؛ ولهذا يقول الجاحظ : (الإيجاز لا يعني قلة عدد الحروف واللفظ ؛ فقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار فقد أوجز) ومما لا شك فيه أن الشأن كل الشأن في إصابة المقادير ووقوع الكلام موقعه الأنسب اللائق ، وهذه النقطة الجوهرية هي التي يكون بها الكلام مختلفاً باختلاف الحالات والمقامات ، ولاشك أن من أهم خصائص القرآن الأسلوبية أنه قد جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، وقد أفرد الجاحظ لهذا الموضوع الذي هو في غاية الأهمية كتاباً قال عنه : ( ولي كتاب جمعت فيه آيات من القرآن لتعرف بها فضل ما بين الإيجاز وبين الزوائد والفضول ؛ فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة).
7/ يقول سيد قطب في هذه الآية : (هذا هو الماء ينزل من السماء ، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر . وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج . وأهلها مزهوون بها ، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزينت ، وأنهم أصحاب الأمر فيها ، لا يغيرها عليهم مغير ، ولا ينازعهم فيها منازع وفي وسط هذا الخصب الممرع ، وفي نشوة هذا الفرح ، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن ، في ومضة ، وفي جملة ، وفي خطفة ؛ وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان . وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع . هذه هي لا أمن فيها ولا اطمئنان ولا ثبات فيها ولا استقرار ، ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار )
8/ إن آية الكهف التي ذكرنا سابقا تختلف طولا وتعبيرا عن هذه الآية ؛ لأن السياقين يختلفان كل الاختلاف ؛ فهذه الآية جاءت في سياق أن: الله لا يعجل للناس استعجالهم بالخير ؛ وأن الإنسان إذا مسه الضر لجأ إلى الله ؛ وإن أصابه الخير نسيه ؛ والنافع والضار هو الله ؛ لكن الناس يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعهم ؛ وأن الله هو الذي ينجيهم من أهوال البحر ؛ ثم أنهم يبغون في الأرض بعد نجاتهم ، ثم يذكر سرعة زوال الدنيا التي لا سلام ولا اطمئنان فيها ؛ وأنه يدعو إلى دار السلام ، وهو يعرض السياق واصفا دنيا البشر بصورة بطيئة ثم تعقبها السرعة . أما في الكهف فالمشاهد من أولها كلها سريعة خاطفة ؛ إذ جاء ذكر الدنيا بعد قصة صاحب الجنتين .. وفجأة ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار . ومن هيئة البطر والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار ، فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن: وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار . وهذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال ؛ فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض ، والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح . وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة ، ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء ( فاختلط ) فما أقصرها حياة ! وما أهونها ! فهل عرفت معنى البلاغة .
 
عودة
أعلى