دعوة للاطلاع على كتاب (المعين على تدبر الكتاب المبين) للأستاذ مجد مكي

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,335
مستوى التفاعل
141
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
بسم الله الرحمن الرحيم

في إحدى ليالي رمضان من عام 1426هـ سعدتُ بصحبة أخي الكريم الدكتور يحيى بن عبدالله الشهري ومجاورته في مكة خلال العشر الأواخر من ذلك الشهر ، وكنا نصلي الجماعة في مسجد الشيخ عبدالودود مقبول حنيف بالعزيزية إذا لم نصل في المسجد الحرام ، وذات ليلة رأيته يسلم على رجل بعد الصلاة وأنا أنتظره بعيداً ، فلما لقيته قال : هل تعرف هذا الرجل الذي كان واقفاً معي ؟ قلت : لا .
قال : هذا الأستاذ مجد مكي . وهو من طلبة العلم ، وأخبرني الآن أنه انتهى من كتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم ودفع به للطباعة .
ومنذ ذلك الوقت وأنا أترقب صدور هذا التفسير . وقد سمعتُ بصدوره منذ عام 1427هـ لكنني لم أره إلا الأيام القريبة الماضية .
وقد صدر التفسير عن دار نور المكتبات للنشر والتوزيع بجدة - حي السلامة بجوار جامع الشعيبي هاتف 0096626838051 ، وطبعته الأولى بتاريخ 1427هـ .
وقد سماه مؤلفه :
المُعين على تدبر الكتاب المبين
بقلم
مجد بن أحمد مكي

648266765a1dd5.jpg

يقع الكتاب في 606 صفحات من القطع الكبير ، والتفسير مطبوع على حواشي المصحف الجانبية والسفلية بحيث لا يزيد كثيراً عن جوانب صفحات مصحف المدينة النبوية .
وقد استهل تفسيره بمقدمة تحدث فيها عن أهمية تدبر القرآن ، ومعناه في اللغة والاصطلاح ، ثم تحدث عن الحاجة المتجددة لتصنيف تفسير للقرآن الكريم يلائم أهل العصر ولغتهم وأفهامهم .
ثم نقل كلاماً للشيخ عبدالوهاب خلاف رحمه الله المتوفى سنة 1375هـ من مقالة له بعنوان (واجبنا في خدمة القرآن) أنقل لكم هنا الجزء الذي نقله :
قال عبدالوهاب خلاف رحمه الله :(فأول واجب علينا في خدمة القرآن : وضع تفسير سهل العبارة ، حسن الأسلوب ، يلائم أساليب عصرنا وثقافتنا ، يستبين منه المسلم معاني المفردات والمراد من الآيات ، ويسترشد إلى ما في الآية من هدى ورحمة ، ومن دروس وعبر، ليس فيه طول ممل ، ولا إيجاز مخل ، ولا نحو ولا إعراب ، ولا إسرائيليات ولا اختلافات ، وجملة وصف هذا التفسير : أنه تفسير يبين هداية القرآن ، ويجعل القارئ والسامع متصلاً بمعانيه والمراد منه ، لا مجرد مردد للصوت بألفاظه ، وهذا التفسير موجود ، ولكنه مفرق ومبثوث في التفاسير ، والواجب أن نستخلصه منها ، ونحسن الصياغة والترتيب . ولقد سُئل بعض العلماء : ما خير التفاسير ؟ فقال : خير التفاسير مبثوث في التفاسير . وكثير ما سئل الواحد منا عن خير تفسير تفهم منه الآيات بسهولة ، وبدون احتمال عناء في الإعراب ، والخلافيات والإسرائليات ، فلا نستطيع الجواب عن هذا السؤال .
إن التفاسير التي بين أيدينا قيمة ونافعة ، ولكن لا ينتفع بها إلا خاصة الخاصة ، ولهذا تعذر على أكثرية المتعلمين من المسلمين أن يتصلوا بمعاني القرآن الكريم ، وأن يتعرفوا على ما اشتمل عليه ، والمقصود الأول من القرآن : هداه ونوره وما جاء به )
. (1)

ثم أشار المؤلف الأستاذ مجد مكي إلى توجهه لكتابة التفسير، وأنه قد بدأه في عام 1422هـ باختصاره لتفسير الخازن وقدمه للطباعة حينها ، ثم تراجع بعد ذلك لما رأى أن هذا الاختصار (لا يحقق الغاية المرجوة التي أطمح إليها ، ولا سيما فيما يحتاج إليه القارئ المعاصر من معاني جديدة ، وترجيحات سديدة ، وتوجيهات مفيدة ، ولغة تناسب العصر) .
وذكر أنه كان أثناء عمله في الكتاب كان يتابع ما يصدره الشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني رحمه الله من تفسيره (معارج التفكر ودقائق التدبر) وأنه كان يراجعه فيما يكتبه ، ويعجب بمنهجه وبما فتح الله عليه من فهم عميق ، وتدبر دقيق لكتاب الله ، فدفعه ذلك إلى إعادة النظر فيما كتبه من التفسير مستفيداً مرحلة بعد مرحلة مما كان يكتبه في تفسيره الذي اصدره تباعاً وفق مراحل النزول حتى انتهى من التنزيل المكي . (2)
ثم أشار إلى محاولته السير على منهج الميداني في تفسيره فقال :(ونظراً لطول الكتاب ، وكثرة مباحثه ، وسعة موضوعاته أولاً ، ولاقتصاره على مرحلة التنزيل المكي ثانياً ، أحببت أن أقدم للقارئ المعاصر خلاصة وافية مركزة لما كتبه الشيخ في (تفسيره التدبري) ليكون معيناً لمن أراد التعمق في التدبر بالرجوع إلى تفسيره ، واستجلاء المعاني الدقيقة منه ، وقد التمست خطى الشيخ فيما كتبه في تدبر السور المدينة ، مستنيراً ببعض (قواعد التدبر الأمثل) ومستفيداً مما دونه في بعض كتبه الأخرى مثل (ظاهرة النفاق) و (فقه الدعوة) و ( أمثال القرآن) و (الأخلاق الإسلامية) ... وكلها تدور حول التفسير الموضوعي الذي يتابع مراحل النزول ، ويجمع الآيات في موضوع واحد بتناسق وترابط) .

ثم ذكر مصادره في التفسير وهي أهم كتب التفسير المتقدمة والمعاصرة من المطولات والمختصرات ، والفئة التي استهدفها بتفسيره ، وأهم القواعد والضوابط التي التزمها في تفسيره . ثم أعقب هذه المقدمة باثنتي عشرة فقرة عنونها بـ (من أجل قراءة مؤثرة للقرآن الكريم) . ثم شرع في التفسير .

وقد تصفحت تفسيره لبعض السور فأعجبني ، وأنصحك أخي العزيز بالاطلاع على هذا التفسير والاستفادة منه فأرجو أن يكون من أجود التفاسير المختصرة المعاصرة . جزى الله مؤلفه خيراً وبارك في علمه .



الرياض في 11/5/1429هـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر المقالة بتمامها في مجلة كنوز الفرقان العدد الأول من السنة الرابعة عام 1371 وقد أرفقت العدد كاملاً مع هذه المشاركة للاطلاع على المقالة ، وتقع في ص 9 - ص 15
(2) انظر : التعريف بكتاب (معارج التفكر ودقائق التدبر) للشيخ عبدالرحمن حبنكة رحمه الله .
 
في لقاء كريم مع أستاذي الحبيب الشيخ المربِّي مجد مكي - حفظه الله - في رحاب بيت الله الحرام بمكة المكرمة , أهداني نسخة من تفسيره ( المعين على تدبر الكتاب المبين ) وقد اطلعت على تفسيره , فوجدته صِيغ بلغةٍ بلاغيةٍ عالية , وعبارةٍ متينةٍ متناسقة , وأسلوبٍ سهلٍ ميسور , متسلسل العبارة , متناسق البنيان , جميل العَرض , يُمتِع القارئ ويُشِّوقه.. من غير تطويلٍ مُملّ , ولا اختصارٍ مُخلّ , وهو مع ذلك فيه نظراتٌ واجتهاداتٌ وآراءٌ , تدل على عمق فهمٍ , وسَدادِ رأيٍ , ونفاذِ بصيرةٍ.., قدَّم له بمقدمة ضافية رائعة , تعين قارئ القرآن على حُسن تأمّله وتدبّره ونظره للقرآن الكريم , بما ذكر له من قواعد وضوابط.. , ينطلق منها .
أسأل الله أن يجزي أستاذنا الشيخ مجد مكي خير الجزاء وأن ينفع ويرفع بتفسيره الإسلام والمسلمين , آمين .
 
[align=center]المعين: التفسير الأحدث للقرآن
هذا مقال للدكتور صلاح الخالدي كتبه في صحيفة السبيل الأردنية[/align]تفاسير القرآن عديدة، قديمة وحديثة، مطولة ومختصرة، وصدق المفسر الزمخشري حيث يقول عن التفاسير في زمانه:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
وظهرت تفاسير عديدة في العصر الحديث، وعلى رأسها التفسير الرائد (في ظلال القرآن) للمفسر الرائد سيد قطب. وظهرت تفاسير مختصرة، طبع معظمها على هامش المصحف، وفي مقدمتها كتاب(كلمات القرآن: تفسير وبيان) للشيخ حسنين مخلوف رحمه الله، الذي هو لا يخرج عن كونه بيانا لمعاني كلمات القرآن، وتفسيرا (للجيب)، يمكن أن يضعه القارئ في جيبه...
ومعظم التفاسير المختصرة المعاصرة لا تخرج عن بيان معاني الكلمات القرآنية، ولا تقدم للقارئ المعنى العام للآية، بحجة أن معناها مفهوم.. وعندما كنت أسأل عن تفسير مختصر معاصر كنت أتحرج في الإحالة عليها والنصح بها، لأنها لا تقدم له علما تفسيريا مختصرا، وما زالت الحاجة إلى تفسير مفيد، لا يكتفي ببيان معاني كلمات القرآن، قائمة..
فجاء هذا التفسير الأحدث إصدارا: «المعين على تدبر الكتاب المبين» ليقوم بهذا الواجب..
أكرمني فضيلة الأخ الكريم الشيخ «مجد أحمد مكي» بزيارة كريمة، وأسعدني بمفاجأة سارة، عندما قدم لي هذا التفسير الجديد المفيد، الذي أعانه الله على إعداده ونشره.. والشيخ العالم الداعية «مجد مكي» من خيار علماء الشام، ومقيم في «جدة» وله نشاط علمي دعوي ملحوظ، في الخطابة والكتابة ومواقع الانترنت، فهو إمام وخطيب هناك، وأصدر عددا من الكتب..
راجعت تفسيره «المعين» وتصفحت صفحاته، التي زادت على ستمائة صفحة، وسجل كلامه في التفسير على هامش المصحف، فوجدته طيبا نافعا مفيدا إن شاء الله. وقدم تفسيره بمقدمة بين فيها أهمية تدبر القرآن، وضرورة كتابة تفسير ملائم لهذا العصر، والسبب الذي دفعه للقيام بهذا الواجب.. وأبدع حفظه الله في تقعيد أربع عشرة قاعدة مهمة، التزم بها في تقسيره، كما ألزم ببضعة ضوابط ضرورية في تفسيره.. وأبدع حفظه الله إبداعا ثالثا عندما أرشد القارئ إلى اثنتي عشرة وسيلة مهمة، تعينه على القراءة المؤثرة للقرآن، والتدبر النافع له. وختم العلامة مقدمته المهمة بجملة مؤثرة قال فيها: «لا تنس هذه القاعدة الصادقة: إن القرآن لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإن أعطيته بعضك فلن يعطيك شيئا».
وصدر هذا التفسير (المعين) عن دار نور المكتبات في جدة، ومؤسسة الريان في بيروت..
وأقولها شهادة صادقة إن شاء الله: إن تفسير «المعين على تدبر الكتاب المبين» هو أهم تفسير معاصر مختصر للقرآن، وإنه لا يستغني عنه أي مسلم - مهما كانت ثقافته وكان تخصصه- وإنه يقدم خلاصة نافعة لمعاني القرآن وحقائقه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين كل التفاسير المعاصرة المختصرة ..
أنصح كل مسلم معاصر بأن يستصحب معه هذا التفسير المعين وهو يتلو آيات القرآن يوميا، وأنصح المكتبات في الأردن باستيراد هذا التفسير، وأطلب من إخواننا وأخواتنا أن يدعو الله لمؤلفه العالم المفسر الشيخ مجد مكي، بأن يجزيه عن خدمة كتابه خير الجزاء...
 
مقدمة المعين على تدبُّر الكتاب المبين

مقدمة المعين على تدبُّر الكتاب المبين

[align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المعين على تدبُّر الكتاب المبين



الحمد لله الرحمن، علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، وصلاة الله وسلامه الأتمَّان الأكملان على نبيِّنا محمد الذي أنزل عليه الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيِّماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، ورضي الله عن آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإنَّ تدبُّر آيات الله في كتابه من أعظم العبادات، وأشرف الأعمال والطاعات.

وقد أنزل الله كتابه الكريم لنتدبَّر آياته، لا لنعرض عنه ونهجره، وبعد التدبُّر والفهم يكون التأثر والعمل بموجب العلم.

أهمية تدبُّر القرآن:

وتدبُّر القرآن أوْلى وأوَّل ما يًشمِّر له أصحاب الهمم العالية، إذ هو مفتاح سائر علوم الإسلام، ولا يحسن بطالب العلم أن يقدم عليها سواها.

قال ابن القيم ـ (ت: 751) رحمه الله تعالى ـ: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر في معاني آياته"([1]) .

التدبُّر في اللغة والاصطلاح:

والتدبُّر لغة: مأخوذ من مادة ( د ب ر ) وهي آخر الشيء وخلفه، يقال: دبَّر الأمر وتدبَّره: نظر في عاقبته. واستدبره: رأى في عاقبته مالم يَرَ في صدره. والتَّدبُّر في الأمر: التفكُّر فيه ([2]). قال العلامة الآلوسي: ( وأصْلُ التدبُّر: التأمُّل في أدْبار الأمور وعواقبها، ثمَّ استعمل في كلِّ تأمُّل سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سَوابِقِه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه ) ([3]).

والتدبُّر اصطلاحاً: هو تحديق ناظر القلب إلى معاني القرآن، وجمع الفكر على تأمُّله وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرَّد تلاوته بلا فهم ولا تدبُّر ([4]).

أو: هو التفكُّر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الألفاظ والكلمات والآيات والسور القرآنية ومراميها البعيدة ([5]).

ومن الكلمات التي بينها وبين التدبُّر تقارب وتداخل في المعاني: التفكُّر والتأمُّل.

والتفكُّر: تصرُّف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب ([6]). والتأمل: تدقيق النظر في الآيات بغرض الاتِّعاظ والتذكُّر.

فالتدبر يعني النظر العقليَّ إلى عواقب الأمور، أي أنه يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، والتفكُّر جولان الفكر في الأمر الذي تكون له صورة عقليَّة عن طريق الدليل، وأما التأمُّل فقد رُوعي فيه إدامة النظر والتثبُّت، ومن ثمَّ فلا تكون النظرة الواحدة تاملاً، وإن كان يمكن أن تكون من قبيل التفكُّر ([7]).

فهذه المعاني الثلاثة ـ وإن كانت متقاربة ـ إلا أنَّها ليست واحدةً، وإذا ذكر بعض أهل العلم أنها مترادفةٌ، فإنما يقصد فقط الترادف الجزئي الذي قد يُوجد في بعض الأحيان دون بعضها الآخر.

الآيات التي تؤكد على أهمية تدبر القرآن الكريم:

1ـ وفي التأكيد على أهمية التدبر أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة قوله في سورة ( ص ): {كتاب أنزلناه إليكَ مُبَارَكٌ ليدبَّروا آياتِهِ وليتذكَّر أولو الألباب [29]} فهذا الكتاب العظيم، قد أنزله الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مبارك لا تنضب فيوض معانيه، ولكن هذه المعاني الثرَّة لا ينتفع بها إلا الذين يتدبَّرون آياته، ويتذكَّرون معانيه ويتَّعظون به، وهذا التذكُّر المقصود لا يتحقق به إلا أصحاب العقول الحصيفة الدرَّاكة.

2ـ ثم أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة قوله في سورة ( المؤمنون ): {أفلم يَدَّبَّروا القَوْلَ أم جَاءَهُم مالم يَأِت آباءَهم الأولين [68]}.

وفي قوله تعالى: {أفلم يدبروا القول} ؟ تأنيب شديد للذين أعرضوا عن القرآن، وهجروه، ولا يعبأوا به ولا بما جاء فيه، فلم يدبَّروا القول الذي أنزله الله ليفهموا دلالاته، حتى يهتدوا بهديها، ويعملوا بما جاء فيها.

3ـ ثم أنزل الله على رسوله في المدينة قوله في سورة ( النساء ): {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً [82]}.

"لقد ورد هذا النص في معرض الحديث عن المنافقين، وهم الذين يتظاهرون بالإسلام، ويعلنون الطاعة، ويحضرون مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن قلوبهم غير مؤمنة، وأفكارهم منصرفة معرضة عن كل ما يبيِّن لهم.

هؤلاء قد وضع الله تعالى بين أيديهم ما يدلهم على الحق، ويهديهم سواء السبيل، ويقنعهم، لو أرادوا لأنفسهم النجاة، والسعادة الحقة الأبديَّة، قال تعالى: {أفلا يتدبَّرون القرآن} ولم يُواجههم بهذا الخطاب إعراضاً عنهم في مقابل إعراضهم عن تدبُّر كتابه، وتفهُّم آياته، وفي الاستفهام الإنكاري هذا تلويم لهم على ترك التدبُّر، لعلَّهم يثوبون إلى رُشدهم.

إن هذا التدبُّر الذي يقصد منه البحث عن الحقيقة، والمقرون بالإخلاص في الوصول إليها، سوف يكشف لذوي الاستعداد منهم أن هذا القرآن حقٌّ كلُّه، وأنه منزل من عند الله عز وجل، لأنه لو كان من عند غير الله لاشتمل على اختلاف كثير في الواقع والحقيقة" ([8]).

{أفلا يتدبرون القرآن} ؟! "نعم ! إنَّهم ولا شك ـ وكل أمثالهم منذ أربعة عشر قرناً، سواء كانوا من الكفار الصُّرحاء، أو من المنافقين ـ لا يتدبرون القرآن ! ولو تدبَّروه بعقول وقلوب مفتوحة لعلموا أنه من عند الله عز وجل، وأنه لا يمكن أن يكون من عند غير الله سبحانه !.

إن بشراً في الأرض كلها لا يتأتى أن يخرج كتاباً كهذا الكتاب المعجز على جميع المستويات، وفي جميع الإتجاهات، والذين يتعبرضون للتأليف هم أدرى بهذه الحقيقة، كما كان العرب العالمون بأسرار البلاغة أدرى بحقيقة الإعجاز البلاغي للقرآن.

الاختلاف أوسع من التناقض:

والآية تقرر أنه لو كان القرآن من عند غير الله ـ أي من صنع البشر ـ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وأول ما يرد على الذهن بشأن الاختلاف هو التناقض. وواضح أن القرآن لا يحتوي اختلافاً بهذا المعنى. ولكن الاختلاف في الحقيقة أوسع من التناقض. إنه يمكن أن يمتَّد إلى جميع المستويات بلا استثناء. وهنا يتبدَّى إعجاز القرآن على ذات المستوى الذي يتبدَّى به الإعجاز البلاغي بلا اختلاف.

وجه جديد من وجه إعجاز القرآن:

إن القرآن العظيم في المقام الأول كتاب تربية وتوجيه، وهو الذي أنشأ هذه الأمة التي وصفها خالقها هذا الوصف: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 100].

وهو ـ من هذه الوجهة ـ يتناول كل ميادين التربية الرئيسية في حياة "الإنسان" على مستوى واحد من توجيه الاهتمام، وعلى مستوى واحد من الإتقان والإحكام .. بلا اختلاف!.

ففي تربية الروح، وفي تربية العقل، وفي تربية الجسد .. وفي التربية السياسية والاجتماعية والأخلاق .. تجد ذات الدرجة من الإحكام، كما تجد وحدة التوجيه نحو إنشاء "الإنسان الصالح" على نَسَق لا مثيل له في منهج البشر التي تُعنى بجانب وتهمل جانباً آخر، وتركِّز على جانب على حساب جانب آخر.

والقرآن ينشيء مجتمعاً متوازناً من أفراد متوازنين، بلا اختلاف في التوجيه بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، لا مثيل له في كل ما يصنع البشر من نظم ومناهج، تبرز كيان الفرد لتُفتِّت تماسك المجتمع، أو تبرز كيان المجتمع لتسحق كيان الفرد.

والقرآن ينشيء فرداً وجماعة توازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وبين الدنيا والآخرة بلا اختلاف ! على نسق لا مثيل له في كل الحضارات التي تبرز عالم الجسد لتطمس عالم الروح، أو تبرز عالم الروح لتحتقر الجسد وتستقذره وتُذله.

وهكذا .. في أيِّ مجال وعلى أي مستوى تدبَّرت هذا القرآن وجدت أنه يحوي توجيهاً موحَّداً .. بلا اختلاف ! وعلى درجة معجزة في كلِّ جانب، ثم على درجة أشد إعجازاً في اجتماع كل الجوانب .. وبلا اختلاف فيما بين توجيه لجانب وتوجيه لجانب آخر..

وهذا الكتاب ما يملك أحد أن يتدبره دون أن يرى لوناً من الإعجاز فيه .. {ولو كان من عند غير الله لوجدوا في اختلافاً كثيراً}" ([9]).

الآية الرابعة والأخيرة نزولاً في الدعوة إلى التدبُّر:

ثم أنزل الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم في معرض الحديث عن المنافقين أيضاً قوله تعالى في سورة ( محمد ): {أفلا يَتَدَبَّرون القُرآن أم على قلوبٍ أقفالها [24]}.

فارتقى البيان بالمنافقين المعرضين عن تدبُّر القرآن من دعوتهم إلى التدبُّر، إلى توبيخهم على ترك التدبر، وتأنيبهم بأن قلوبهم مقفلة، فهي لا تسمح بدخول الهداية إليها.

عطاء القرآن المستمر:

والقرآن الكريم عطاؤه مستمر لا ينفذ، وبيانه متجدِّد لا ينقطع، ومعانيه كثيرة لا تنْضب، وقد اجتهد الكثير من العلماء في الدعوة والتذكير بضرورة تدبُّر هذا الكتاب المبين، وأكدوا لزوم ذلك وأهميته.

وقام كثير من المفسرين بهذه المهمة خير قيام، وما تفسيره إلا ثمرة للتأمُّل والتدبر، وقد اختلفت مناهج المفسرين في تفسيره، فمنهم من غلبت عليه النزعة الفكرية الجدليَّة، فتوسَّع توسُّعاً كبيراً في شرح الآيات المُتَّصلة بهذه المعاني، وغلبت على تفسيره هذه الظاهرة، ومنهم من غلبت عليه النَّزعة اللغوية والبلاغية، فتوسَّع توسُّعاً كبيراً في هذه النواحي، ومنهم من غلبت عليه النَّزعة الفقهية، فتوسَّع فيها، ومنهم من توسَّع في القصص والأخبار، ومن توسع في الأخلاق والمواعظ، ونحو ذلك. كذلك كان من المفسِّرين من أطال حتى أملّ، ومنهم من اختصر حتى أخلَّ، ومنهم من توسَّط بين هذا وذاك.

الدعوة المتجدِّدة إلى كتابة تفسير ملائم لأهل العصر:

وهذه الجهود الموفَّقة في تفسير القرآن يسَّرت السبل للانتفاع به، والاستضاءة بنوره، غير أنَّ كلَّ زمان له مُقْتضيات، وكلَّ بيئة لها حاجات. يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف ـ (ت: 1375) رحمه الله تعالى ـ في مقال له بعنوان: "واجبنا في خدمة القرآن": "فأوَّل واجب علينا في خدمة القرآن وضع تفسير سهل العبارة، حسن الأسلوب، يلائم أساليب عصرنا وثقافتنا، يستبين منه المسلم معاني المفردات والمراد من الآيات، ويسترشد إلى ما في الآية من هُدىً ورحمة، ومن دروس وعبر، ليس فيه طول مُمل، ولا إيجاز مُخل، ولا نحو ولا إعراب، ولا إسرائيليات ولا اختلافات، وجملة وصف هذا التفسير: أنه تفسير يُبيِّن هداية القرآن، ويجعل القارئ والسامع متَّصلاً بمعانيه والمراد منه، لا مجرَّد مُردِّد للصوت بألفاظه، وهذا التفسير موجود، ولكنه مفرَّق ومبثوث في التفاسير، والواجب أن نستخلصه منها، ونُحسن الصياغة والترتيب. ولقد سُئل بعض العلماء: ما خير التفاسير ؟ فقال: خير التفاسير مبثوث في التفاسير. وكثير ما سُئل الواحد منا: عن خير تفسير تُفهم منه الآيات بسهولة وبدون احتمال عناء في الإعراب، والخلافيَّات والإسرائيليات، فلا نستطيع الجواب عن هذا السؤال.

إنَّ التفاسير التي بين أيدينا قيَّمة ونافعة، ولكن لا ينتفع بها إلا خاصَّة الخاصَّة، ولهذا تعذَّر على أكثريَّة المتعلِّمين من المسلمين أن يتَّصلوا بمعاني القرآن الكريم، وأن يتعرفوا على ما اشتمل عليه . والمقصود الأول من القرآن: هُداه ونوره وما جاء به " ([10]).

وقد اجتهد الكثير من العلماء والهيئات والمؤسَّسات العلمية في كتابه تفاسير تحقِّق هذا الهدف المنشود، وأبلى الكثير منهم في هذا الميدان أحسن البلاء، ووضعوا عدداً كثيراً من التفاسير النافعة الجامعة، وكلٌّ منهم ولي في تفسيره الوجهة التي رأى فيها خدمة لكتاب الله تعالى، وتقريبه للمسلمين.

توجُّهي لكتابة هذا التفسير:

ومن ثمَّ أردت أن أدلي بدلوي المتواضع في هذا المضمار، مستشعراً خطورة الدخول في هذا الميدان، وذلك خشية أن تقام علينا الحجَّة إن لم نقم بواجبنا نحو القرآن، ولشدَّة حاجتي من جهة ثانية لتدبُّر كتاب الله تعالى، وللأمل في أن أكون من أهل الله تعالى وخاصَّته، وأن ألحق بهذه القافلة المباركة التي خدمت كتاب الله تعالى عبر الأجيال، وأتشبَّه بهم، وأنضم إلى ركبهم، سائلاً المولى سبحانه الإخلاص والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق.

وهذا العمل الذي شرفني الله تعالى به، كان أمنيةً قديمة في نفسي، ورغبة حققها الله لي. وأكرمني بأن ألحقني في جملة خدمة كتابه الكريم .

وكثيراً ماكنت أساءل نفسي عند تلاوة آياته عن معنى كلمة، أو مرجع ضمير، أو دلالة جملة، وأرغب أن أقف على هذا المعنى بوضوح، ورأيت أنَّ الكثير ممن ساهموا بتفسير كتاب تعالى؛ لإعانة القارئ، اقتصروا على معاني بعض الكلمات، أو اكتفوا باختصار بعض العبارات.

وعلى كثرة ـ ما كُتب ـ في عصرنا هذا من تفاسير موجزة مختصرة ميسَّرة لا تخلو من ثغرة ونقص، كما هو شأن الأعمال البشريَّة، ولا أدَّعي لنفسي العصمة من الزلل، ولا السلامة من الخطأ، ولكنَّي سدَّدت وقاربت، وبذلت جهدي في تقديم المعاني الموجزة التي تُقرِّب المعنى، وتحقق الفهم للآيات بأيسر طريق، وأدق عبارة.

بداية العمل في هذا التفسير:

وقد بدأتُ هذا العمل في أول شروعي فيه بالاعتماد على تفسير الخازن ـ (ت: 741) " لباب التأويل"، وهو من أفضل التفاسير وأوضحها وأدقها عبارة، وصاحبه فقيه محدث، وتفسيره ـ مظلوم ـ بتُهمة الإكثار من الإسرائيليات، مع أنه يحذر من تلك الإسرائليات ويدافع عن عصمة الأنبياء، ويحرص على إيراد صحيح الروايات، وقد انتهيتُ من اختصاري في فترة وجيزة، وقدَّمت الكتاب للطباعة، وانتهيتُ من تصحيحه، ليكون عملي مُقَارباً لمن اختصر تفسير الطبري (ت: 310)، أو ابن كثير (ت: 774)، أو الشوكاني (ت: 1250)، أو القاسمي (ت: 1332) ... ممَّا هو منتشر بين أيدي الناس.

ولكنِّي رأيت اختصار تفسير الخازن ـ على نفعه ـ لا يُحقِّق الغاية المرجوَّة التي أطمح إليها، ولا سيما فيما يحتاج إليه القارئ المعاصر من معاني جديدة، وترجيحات سديدة، وتوجيهات مفيدة، ولغة تناسب العصر .

الإشادة بتفسير العلامة الميداني وصلتي به:

وكنتُ أتابع أثناء عملي في "التفسير" ما يصدره شيخنا العلامة الجليل عبدالرحمن حبنكة الميداني ـ (ت: 1425) رحمه الله تعالى ـ من تفسيره التدبُّري العميق "معارج التفكر ودقائق التدبر" وأراجعه فيما يكتب. وقد أُعجبت بمنهجه، وبما فتح الله عليه من فهم عميق، وتدبُّر دقيق لكتاب الله، فأخذت أعيد النظر فيما كتبت، مستفيداً مرحلةً بعد مرحلةٍ مما كان يكتبه في تفسيره الذي أصدره تباعاً وفق مراحل النزول، حتى انتهى من التنزيل المكي ([11]).

ولشيخنا رحمه الله تعالى منهج متميِّز في التدبُّر، أوضح ملامحه، وذكر قواعده في كتابه النفيس "قواعد التدبُّر الأمثل" الذي اشتمل على أربعين قاعدة. ويُعدُّ الشيخ ـ بحق ـ من روَّاد علم التدبُّر في عصرنا هذا، وذلك فضل الله سبحانه يُؤتيه من يشاء من عباده .

ونظراً لطول الكتاب، وكثرة مباحثه، وسعَةَ موضوعاته أولاً، ولاقتصاره على مرحلة التنزيل المكي ثانياً، أحببتُ أن أقدِّم للقارئ المعاصر خلاصة وافية مركَّزة لما كتبه الشيخ في "تفسيره التدبُّري" ليكون مُعيناً لمن أراد التعمُّق في التدبُّر بالرجوع إلى تفسيره، واستجلاء المعاني الدقيقة منه، وقد التمست خطى الشيخ فيما كتبه في تدبُّر السور المدنيَّة مستنيراً ببعض "قواعد التدبُّر الأمثل"، ومُستفيداً ممَّا دوَّنه في بعض كتبه الأخرى مثل: "ظاهرة النفاق"، و "فقه الدعوة"، و "أمثال القرآن"، و "الأخلاق الإسلامية" ... وكلها تدور حول التفسير الموضوعي الذي يتابع مراحل النزول، ويجمع الآيات في موضوع واحد بتناسق وترابط .

أهم مصادري في هذا التفسير:

ورجعتُ في تفسيري هذا إلى مصادر كثيرة أُخرى سوى ما ذكرت، على سبيل الاستئناس والاسترشاد، كالتسهيل لابن جُزي (ت: 741)، وتفسير النسفي (ت: 710)، وابن كثير (ت: 774) ،و" الجواهر الحسان في تفسير القرآن" للثعالبي (ت:876)، و" تفسير الجلالين": المحلى(ت:864) والسيوطي (ت:911)و" السراج المنير" للخطيب الشربيني(ت:977). ومن المعاصرين "صفوة البيان" للعلامة حسنين محمد مخلوف (ت: 1402) رحمه الله تعالى،و" المنتخب في تفسير القرآن" الذي أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، و" التفسير الميسر" الذي أصدره مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. واستفدت في تفسير السور المديَّنة، في الأجزاء العشرة الأولى ممَّا كتبه العلامة الفقيه المفسر محمد أبو زهرة (ت: 1394) في تفسيره النافع "زهرة التفاسير" إلى غير ذلك من المصادر المتنوعة الكثيرة، والقراءات المتعددة المستمرة المتَّصلة بكتاب الله عز وجل .

ولا يخفى عليك ـ أخي القارئ ـ دقَّة هذا العمل وصعوبته ومسؤوليته، وكنت أُعيد النظر في كل كلمة وجملة مرّات متعددات، وزاد مشقَّة هذا العمل الالتزام بمقدار معيَّن مُحدَّد في حاشية المصحف الشريف. فكنتُ في كثير من الأحيان أعدُّ الكلمات، وأقيس الصفحة، لتأتي الآيات في مكانها المحدَّد ولو كان المكان مُتَّسعاً لجرى القلم بيسر وسهولة.والله ـ سبحانه ـ وحده يعلم قدر ما بذلت من جهد ، فكم كتبت وشطبت! وكم أمعنت وفكرت! وكم تأملت ونظرت!. وكم قدمت وأخرت!.

لا يعرف البحث إلا من يكابده ولا الكتابة إلا من يعانيها.

المستفيدون من هذا التفسير:

واجتهدتُ أن يكون هذا التفسير مُخاطباً لعموم المثقفين، ولا سيما خرِّيجي الجامعات العلمية، محاولاً أن أُقرِّب إليهم الكثير من معاني الآيات الكريمة، لتكون خطوة نحو فهم عميق، وتدبُّر دقيق للكتاب الكريم.

وقد يجد المتخصِّصون من طلبة العلم الشرعيِّ في هذا التفسير ما يروق لهم، ويسّرهم مما وفقني الله سبحانه إلى كتابته واختياره.

ولكن لا بدَّ للاستفادة من هذا الكتاب من إعمال الفكر، ومعاودة النظر، وبذل الجهد، إذ لم يكن عملي مجرَّد اختصار وإعادة ترتيب، بل فيه من دقائق النظر، وبدائع الفِكر ما يدعو إلى بذل الجهد، لا الاقتصار على القراءة العابرة السطحيَّة.

اعتذار ورجاء:

ولا يخلو عملي ـ على ما بذلتُ من جهد ـ من قصورٍ، كيف وهو يحاول أن يسمو لتدبُّر كلام الله سبحانه وتعالى. وإذا كان الكاتب في مختف مجالات العلوم والتأليف، يزيزد وينقص، ويؤخر ويقدِّم، كما يقول : القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ـ (ت: 596) رحمه الله تعالى ـ فيما كتبه إلى نائبه في وزارة الكتابة الأديب الشهير العماد الأصفهاني ـ (ت: 597) رحمه الله تعالى ـ. كتب إليه يقول: "إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومٍ إلا قال في غدِّه: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جُملة البشر" ([12]).

فكيف إذا كانت الكتابة تتعلق بكلام الله وتدبُّره في وقتٍ معدود، ومكان محدود.

وأرجو أن يكون هذا العمل باكورة لأعمال أخرى تتعلَّق بكتاب الله عز وجل وعلومه،وأن يتقبَّل مني هذا الجهد، ويُثيبني عليه، ويكرمني بكرامته ورضوانه .

أهم القواعد التي التزمت بها في هذا التفسير:

وقد اجتهدت خلال كتابتي لهذا التفسير التدبُّري الموجز على الاهتداء بجملة قواعد هادية تعين على تدبر كلام الله سبحانه بطريقة مُثلى، وصورة فُضلى، ومن تلك القواعد التي اجتهدت في الالتزام بها، وإيرادها في هذا التفسير التدبير:

1- الاستفادة مما صحَّ من التفيسر المأثور، والنظر فيما ورد من أقوال المفسرين المعتمدين، واعتماد ما هو راجح.

2- النظر فيما ورد من أسباب النُّزول، مما صحَّ سنده مع مراعاة قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" ومراعاة دلالة السياق والقرائن التي تدلُّ على تخصيص العام.

3- اخترتُ من معاني الكلمات القرآنية المعنى المراد الذي يُلائم دلالة النصِّ القرآني بوجْهٍ عام، وكما هي في كلام العرب في عصر نزول القرآن، وابتعدتُ عن المعاني الاصطلاحية المتأخرة عن عصر التنزيل، مع النظر فيما قاله أهل التفسير في معنى الكلمة، للاهتداء إلى فهم المعنى المراد بتوفيق الله تعالى.

4- حمل النص على كل المعاني إذا كانت الكلمات أو الجمل القرآنية تدل على أكثر من معنى، وعدم قصر النصِّ على واحد منها دون غيره، تمشياً مع عطاء القرآن الثَّر، الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنضب معانيه.

5- تكامل النصوص القرآنيَّة، والتأسيس في كل نصٍّ منها مقدم على التأكيد، واستبعاد احتمال التكرير لمجرَّد التأكيد ما أمكن.

6- ملاحظة قواعد اللغة العربية، وتوجيه الآيات التي يُخالف إعرابها مقتضى الظاهر، والإشارة إلى الحكمة من ذلك من خلال التفسير، كما في تفسير الآية (177) من سورة البقرة، والآية (162) من سورة النساء، والآية (69) من سورة المائدة.

7- استجلاء الغرض الفكري من الوجوه البلاغيَّة التي اشتملت عليها نصوص القرآن، مع الإيجاز الشديد والاقتصاد في العبارة، والتنبيه على أغراض الاختلاف في أسلوب التعبير في النصوص القرآنية.

8- محاولة فهم الآية القرآنية وفق ترتيب نظمها.

9- بيان بعض ما يشتمل عليه النص القرآني من أوجه، وما يهدف إليه من أغراض تربوية وتعليمية.

10- عُنيت بخواتم الآيات ومراميها، وما تشتمل عليه من قضايا كليَّة ترتبط بما جاء قبلها بمضمون الآية.

11- اعتنيتُ بما جاء في الآيات القرآنية من قَسَم بذكر المناسبة بين المُقسم به والمقسم عليه، وبيان الغرض من القسم، والتنبيه على ما فيه من دلائل وعبر، وأوضحت الحكمة من القسم المسبوق بحرف النفي ( لا ) الوارد في القرآن في سبع سور بصيغة: ( لا أقسم ) في الواقعة (75 - 80)، والحاقة (38 - 43)، والمعارج (40 - 41)، والقيامة (1 - 4)، والتكوير (15 - 21)، والانشقاق (16 - 19)، والبلد (1 - 4).

12- ملاحظة العمق القرآني، والتنبيه إلى كثيرٍ من المعاني العميقة والدلالات الدقيقة التي لم يرد في النص ألفاظ صريحة تدل عليها دلالة واضحة، كالمحاذيف التي تحذف للإيجاز، ويقتضيها معنى النص، واللوازم الفكرية والكنايات البعيدة، وقد أمعنتُ النظر في استنباط المضامين الفكرية التي تستفاد من النَّص عن طريق اللزوم الفكري، أو الإشارات الضمنيَّة للكلام، بما فيها من تلويح، أو تلميح، أو تعريض، أو كناية، أو غير ذلك، إذ أنَّ الكثير من المعاني تُستفاد من النص لزوماً أو يقتضيها النصُّ اقتضاءً، كسؤال ذُكر جوابه بدون أن يُذكر، وجوابٍ ذكر سؤاله دون أن يذكر، واعتراض ردَّ النص عليه دون أن يُذكر في اللفظ، لكنه ملاحظٌ ذهناً، وتتمات يستدعيها اللزوم العقلي، وقد سكت النصُّ عنها، كما راعيتُ ظاهرة التضمين، وهو أن تذكر كلمة ذات معنى، وتُضمَّن مع معناها كلمة أخرى، ثم يبنى عليها كلامٌ على أساس معنى الكلمة الأخرى.

13- النظر في توجيه الخطاب الرباني، فالنصوص المصدَّره بخطاب الناس ( يا أيها الناس ) تشتمل على معنى يضم الناس جميعاً وقد تكررت نداءات الله تعالى للناس سبع مرات في كتاب الله تعالى، والنصوص القرآنية المصدرة بخطاب المؤمنين ( يا أيها الذين آمنوا ) تشتمل على معان تخصُّ الذين أمنوا، وما يؤْمرون به، وما يُنهون، وما يُحذَّرون منه، وما يُوجَّهون له، وقد تكررت نداءات الله للذين آمنوا ( 89 ) مرة في كتاب الله، وخطاب الله عز وجل للرسول في القرآن شامل المؤمنين مالم يكن فيه دلالة صريحة على الخصوصية، وكذلك كلَّ تربيةٍ موجهةٍ للرسول صلى الله عليه وسلم هي موجَّهة تبعاً لأمته. وخطاب المفرد هو خطاب لكلِّ فرد يصلح للخطاب، وهو أسلوب من أساليب التعميم الذي هو بمثابة النصِّ على العموم وتأكيده.

14- التدبُّر في إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما يُسند إليه، إذ لا يشترط لصحة الإسناد أن يكون المسند إليه فاعلاً للشيء الذي تضمنه الفعل أو ما في معناه، أو موصوفاً به. ويقع كثيرٌ من مفسري الآيات القرآنية بأغاليط ناشئةٍ عن عدم ملاحظة العلاقات الإسنادية المختلفة، وعدم تدبر النصوص استهداءً بقرائنها السابقة واللاحقة. ومن هذه الأغاليط ما وقع به الجبريون لدى تفسير النصوص القرآنية المتعلقة بموضوع القضاء والقدر، تصوراً منهم أن إسناد الفعل أو ما في معناه إلى الـمُسْنَد إليه لا يُفهم منه إلا معنى القيام مباشرةً بالفعل. مع أن المسنَد إليه قد يكون هو الدال أو الداعي للقيام بما تضمنه الفعل، كما في الآية ( 61 ) من سورة الأنعام، والآية ( 85 ) من سورة طه، والآية ( 3 ) من سورة الإنسان.

كما ينسب إلى المسنَد إليه ما تضمنَّه الفعل أو ما في معناه إلى فاعله، أو من قام به. كقولنا: برَّأته إذا نسبته إلى البراءة، وذكرت أنه بريء. ومثل ذلك: صوَّبته، وخطَّأته ..

ومن الإسناد القرآني في حدود هذه العلاقة الكثير من الآيات كما في الآية ( 49 ) و ( 88 ) من سورة النساء، والآية ( 27 ) من سورة إبراهيم، إلى عشرات الآيات التي لا يفهم من إسنادها إلى الله عزَّ وجل أنه هو الـمُجبِر، مما يُسقط في المفاهيم الجبرية المفسدة لمعنى القضاء والقدر الذي دلت عليه النصوص الصريحة ([13]).

أهم الضوابط التي راعيتها في كتابة هذا التفسير التدبري:

كما راعيتُ أموراً أخرى سوى ما قدَّمته من قواعد منهجية التزمت بها، وهي أمورٌ تحقق الهدف من إصدار هذا التفسير وتقريبه للقارئ، من أهمها ما يأتي:

1- تفسير كل آية على حدة، وعدم إعادة ألفاظ النص القرآني في التفسير إلا نادراً.

2- الإشارة إلى رقم الآية في بداية تفسيرها.

3- تجنَّبت ذكر القراءات ومسائل النحو والإعراب.

4- التزمت رواية حفص عن عاصم، وهي الرواية التي طبعت معها المصحف الشريف.

5- حرصت على أن يكون التفسير بالقدر الذي تتَّسع له حاشية "مصحف المدينة النبوية المنورة".

6- سهولة البحث وتسهيل الفهم والتدبُّر، فكونه في مجلد واحد يساعد في الوقوف على معنى الآية أثناء التلاوة دون البحث في عدة مجلدات، وكذلك سهولة حمله واقتنائه.

7- واخترت أن يكون أسلوب كتابتي لهذا التفسير صالحاً لجميع القراء على اختلاف مستوياتهم الثقافية وَفق الأسلوب السهل الممتنع. فالعالم المتخصص في التفسير والعلوم الشرعية يجد فيه معاني جديدة يستفيدها، والمثقف الجامعي في العلوم المختلفة يجد فيه ما يحقق مقصده لفهم آيات كتاب الله المجيد، والمثقف المتوسط لا يجد في صعوبةً، تجعله يسأم من متابعة قراءته، لسهولة فهم كثير من معانيه، ودلالات عباراته، لأنني حرصت على كتابته بأسلوب عصريٍّ سهل ميسر واضح العبارة، وجيز لا يُخل ولا يُمل، حتى يكون قريباً من القارئ، ويكون كذلك صالحاً لترجمته إلى اللغات الأجنبيَّة ترجمةً دقيقةً صحيحة.

وبعد، فهذه بعض القواعد التي التزمتُ بها، والضوابط التي راعيتها، وقد تمَّ ـ بفضل الله وعونه ـ إنجاز هذا التفسير التدبُّري المعين، أسأل الله سبحانه أن يتقبله مني، ويجعله في ميزان حسناتي وأن يكون معيناً للقراء على تدبُّر كتابه الكريم ، وأن ينفعني بدعواتهم وإرشاداتهم. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



وكتبه

مـجـد مـكـي

الاثنين 26 من شوال 1426



من أجل قراءة مؤثِّرة للقرآن الكريم

أولاً: استحضر عظمة الكلام الذي تتلوه، وجلالة قدره، وعلو منزلته، وتهيَّأ لتلاوته بالوجل والخوف، والرجاء والفرح به، ولاحظ فضل الله سبحانه ولطفه في إيصال معاني كلامه إلى فهمك.

ثانياً: استحضر عَظَمَة المتكلِّم سبحانه وجلالته وهيبته، وأنَّ ما تتلوه ليس من كلام البشر، فإذا عظُم المتكلِّم في قلبك، وكبر في نفسك، أطلت الفكر في خطابه، وأنعمت تدبُّر كلامه، وجدَّدت تذكره عند كل مناسبةٍ تستدعي ذكره، لأن القرآن ذكْرٌ يجب علينا أن نفهمه أولاً، ونذكر مافيه دوماً.

ثالثاً: استعذ بالله عزَّ وجل من الشيطان الرجيم، واستحضر طلب العون من الله تعالى من كيد الشيطان، الذي يسعى جهده لصدِّك عن تلاوة كلام الله وتدبره، ويحول بينك وبين الانتفاع بالقرآن.

رابعاً: اقرأ قراءةً صحيحةً مُرتَّلة بتؤدة واطمئنان، ليكون ذلك أدنى إلى فهم المعاني، وليكن همك عرض المعاني على قلبك عسى أن تتأثَّر وتخشع، ولا يكن همك متى تختم السورة.

قال ابن مسعود ـ (ت:32) رضي الله عنه ـ ( لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقل، قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب ) ([14]).

وقال الحسن البصري ـ (ت:110) رحمه الله تعالى ـ: ( يا ابن آدم: كيف يرقُّ قلبك، وإنما همَّتك آخر السورة ).

خامساً: تدرَّج في التلاوة التأملية التدبُّرية ما بين خمس آيات إلى عشر آيات، لترسخ معاني الآيات في عقلك وقلبك، وتتحوَّل بعد الفهم إلى العمل بمقتضاها والتطبيق لها.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهنَّ، حتى يعرف معانيهنَّ، والعمل بهنَّ ) ([15]).

سادساً: كرّر القراءة للآية مراراً، وردِّدها لتقف على معانيها ومراميها.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يُردِّدها )، وهي: {إنْ تُعذِّبهم فإنَّهم عبادُك وإنْ تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} ([16]).

سابعاً: تجاوب مع الآيات التي تتلوها بفهمها وتدبُّر معانيها، وأورد ما يناسبها من الأدعية والأذكار، فإذا مررت بآية تسبيح سبِّح وكبِّر، وإذا مررت بآية دعاء واستغفار ادعُ واستغفر، وإن مررت بمرجوٍّ اسأل، وإن مررت بمخوف استعذ، وافعل ذلك بلسانك وقلبك.

ثامناً: استوضح من معنى كلِّ آية ما يليق بها؛ إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عزَّ وجل، وذكر أفعاله، وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال المكذبين لهم، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( من أراد خبر الأوَّلين والآخرين، فليثوِّر القرآن، فإنَّ فيه خبر الأولين والآخرين ) ([17]) أي: ليُنقِّر عنه، ويفكِّر في معانيه وتفسيره.

تاسعاً: اجتنب موانع التدبُّر والفهم لمعاني القرآن، وهذه الموانع كثيرة، منها:

1- أن يكون الهمُّ مُنصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مَخَارجها، فيكون تأمُّلهم مَقصُوراً على مَخَارج الحروف، ويُثبِّطهم عن المهم، وهو الوصول إلى فهم المعاني. فمثل هؤلاء مثل من اشتغل بالوسائل، وأعرض عن المقاصد.

2- أن يكون مُقلِّداً لمذهبٍ سمعه بالتَّقليد وجَمَد عليه، ويثبت في نفسه التعصُّب له بمجرَّد الاتِّباع للمسموع من غير وصولٍ إليه ببصيرةٍ نيِّرةٍ، وبُرهان ساطع، فهذا شخصٌ قيَّدَهُ معتقده من أن يجاوزه، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن بَدَا له معنى من المعاني التي تُباين مسموعه حَمَلَ عليه شيطان التقليد حَملةً منكرة، وقال: كيف هذا يخطر ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟! فيرى أنَّ ذلك الذي فُتح له فهمٌ في ذلك المعنى الذي بَدَا له غُرور الشيطان، ويعدُّه من تلبيساته، فَيَتَباعدُ عنه، ويتحرَّز عن الوقوع في مثله.

3- أن يكون مُصِرّاً على ذنب، أو متَّصفاً بِكِبرٍ وعُجب ([18])، أو مُبتلىً في الجملة بهَوَىً في الدنيا يُطاع بما تميل إليه نفسه، فإنَّ ذلك سبب ظُلمة القلب وصدأه.

وكُلَّما كانت الشَّهوات أشدَّ تراكماً، وأكْثَرَ تَوَارداً، كانت معاني الكلام أشدَّ احتجاباً، وأكثر استِتاراً. وكلَّما خَفَّت عن القلب أثقالُ الدنيا، قَرُب تجلِّي المعنى فيه، فالقلب مثل المرآة المجلوَّة، والشَّهواتُ عليه مثل الصَّدأ على المرآة، ومعاني القرآن مثلُ الصُّورة التي تتراءى في المرآة. فما دام صدأ الشَّهوات عليها لا تتجلَّى الصُّور على حقيقتها.

وقد شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكُّر، فقال تعالى: {تبصرة وذكرى لكلٍّ عبد منيب} [ق: 8]، وقال تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} [غافر: 13]، وقال تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9]. والذي آثر غُرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب، فلذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب، ولا يُفتح له في تدبُّرها باب.

4- أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، فاعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن، إلا ما تناوله النقل عن بعض السَّلف. وأنَّ ما وراء ذلك تفسيرٌ بالرأي، وأنَّ من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار. فلا طريق لفهم القرآن وتدبُّره إلا بما نُقل عن هؤلاء الأئمة، فهذا أيضاً من الحُجُبِ المانعة عن فهم القلب للمعاني ([19]).

عاشراً: قدِّر نفسك أنك المقصود بكلِّ خطاب جاء في القرآن، فإن سمعت أمراً أو نهياً قدَّر أنك المنهيُّ والمأمور، وتبرأ من حولك وقوتك، ولا تلتفت إلى نفسك بعين الرِّضا والتزكية، فإذا تلوت آيات الوعد والمدح للصالحين، فلا تشهد نفسك عند ذلك، بل اشهد الموقنين والصِّديقين. وإذا تلوت آيات المقت وذم العصاة والمقصّرين شهدت نفسك هناك، وقدَّرت أنك المخاطب خوفاً وإشفاقاً.

حادي عشر: ترقَّ في تلاوة كلام الله بأن تقدِّر أنك تقرؤه على الله عز وجل واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليك، ومستمع منك، ويكون حالك: السؤال والتملُّق والتضرُّع والابتهال. ثم تترقَّى إلى درجة ثانية، وهي أن تشهد بقلبك، كأن الله عز وجل يُخاطبك بألفاظه، ويناجيك بإنعامه وإحسانه، فمقامك: الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. ثم تترقى إلى درجة ثالثة، وهي أن ترى في الكلام أوصاف المتكلِّم، فتكون مقصور الهم على المتكلِّم موقوف الفكر عليه كأنك تشاهده ([20]). "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

ثاني عشر: أحسن صُحبة كتاب الله عزَّ وجل بحمل رسالته، وتحقيق أهدافه ومقاصده، واعلم أنَّ هذا القرآن الحبيب لا يفتح كنوزه إلا لمن يعمل به، ويتحرَّك به حركةً عمليّةً واقعيّةً، ويتزوَّد بالزاد العلميِّ، الذي يملأ وقته، ويستولي على أحاسيسه ومشاعره.. أما الذي يقرأ القرآن ـ ولو على القراءات العشر ـ ويحفظ أجزاءهُ الثلاثين، ويُطالع معظم تفاسيره، ويبحث عن بيانه وأسلوبه وبلاغته، وهو (قاعدٌ) عن اهتماماته وحركته ودعوته، فإنَّه لا يمكن أن يتعرَّف على القرآن، ولا أن يُحسن صُحبته، ولا أن يتعامل معه !!.

فعليك أن تدعو النَّاس إلى القرآن، وتُربِّيهم عليه، وتعقد حلقات ودورات التلاوة والحفظ، والتدبُّر والفهم، ومجالس التَّزكية والتَّربية.. ولتواجه الأعداء بالقرآن، وتجاهدهم به، وتُحصِّن شباب الأمَّة بالقرآن.. وعليك أن تُعطي القرآن أفضل أوقاتك، وأبرك ساعاتك، وهي ما تكون وقت السحر لمناجاة الله، وبعد الفجر للتلاوة والحفظ والتدبُّر، وفي النهار للدعوة والتوجيه والتزكية.

ولا تنسى هذه القاعدة الصَّادقة: إنَّ القرآن لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعطَيْتَه كلك. فإن أعطيته بعضك لن يعطيك شيئاً. ومعنى أن تُعطي القرآن (كلك): أن تَقْصُر هدفك وغايتك عليه، وتُوجِّه همَّك واهتمامك له، وتملأ أوقاتك به، وتعيش مع القرآن في حياتك.







* * *


الحواشي السفلية
--------------------------------------------------------------------------------

([1]) مدارج السالكين 1: 475.

([2]) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 2: 324، ولسان العرب، لابن منظور 4: 237.

([3]) روح المعاني 5: 92.

([4]) مدارج السالكين، لابن القيم 1: 475.

([5]) قواعد التدبر الأمثل، للميداني ص 10.

([6]) التعريفات، للجرحاني ص 66.

([7]) لم يرد لفظ التأمل في القرآن الكريم صراحةً، ولكن أشارت إليه عديدٌ من الآيات التي تأمر بالنظر في خلق الله، والتثبُّت في رؤية عجائب الكون وآثار السابقين، وقد نعت آياتٌ كثيرةٌ على المشركين عدم تأملهم فيما تشاهده أعينهم من عجائب صنع الله، وقد اقترنت آيات كثيرة بالأفعال "يروا، ينظروا" بصيغة المضارع التي تدل على الاستمرار وإدامة الرؤية أو النَّظر.

([8]) قواعد التدبُّر الأمثل ص 10 - 11 وينظر فيه القاعدة الثالثة عشرة: حول أن القرآن لا اختلاف فيه ولا تناقض، وأنه لا تناقض بينه وبين الحقائق العلمية الثابتة بالوسائل الإنسانية ص 225 - 238.

([9]) دراسات قرآنية، للأستاذ محمد قطب ص 476 - 477.

([10]) مجلة "لواء الإسلام" العدد الرابع من السنة الخامسة (1370)، ومجلة "كنوز الفرقان" العدد الأول من السنة الرابعة (1371) .

([11]) انتهى الشيخ من تفسير القسم المكي حسب النزول، وصدر في (15) مجلداً، ثم شرع بتدبُّر سورة البقرة من أول التنزيل المدني، وتكلَّم عن موضوع السورة، ودروسها، وحال الأجل دون تحقيق الأمل، وقد كتبت كلمات في التعريف بتفسيره التدبري في مجلة "هدى القرآن" التي تصدرها الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن في العدد الثاني، سنة (1425).، ثم صدر سنة(1427) عن دار القلم بدمشق بعنوان:"التعريف بكتاب معارج التفكُّر".

([12]) شرح الإحياء 1: 3 للإمام المرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى.

([13]) انظر هذه القاعدة المهمة في كتاب "قواعد التدبر الأمثل" القاعدة السابعة والثلاثون ص 665 - 681.

([14]) مصنف ابن أبي شيبة(30782)،ومختصر قيام الليل ، للمروزي، ص135،116.

([15]) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1: 80 (82)، والحاكم في "المستدرك" 1: 557.

([16]) رواه أحمد في "المسند" 5: 149 (21328)، والنسائي في "الكبرى" (1084)، وابن ماجه في "السنن" (1350) وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقد بوَّب الإمام أبو عُبيد القاسم بن سلام في كتابه "فضائل القرآن" باب ما يُستحبُّ لقارئ القرآن تكرار الآية، وتردادها، ثم ساق هذا الحديث، وأورد غيره من الأحاديث والآثار.

([17]) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف" (30641)، وابن المبارك في " الزهد" (814) ، والطبراني في "الكبير" برقم (8664)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7: 165 بلفظ: "من أراد العلم فَليثوِّر القرآن، فإن فيه علم الأوَّلين والآخرين" ثم قال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" برقم (1960). وقال مسروق بن الأجدع الكوفي (ت: 62): "من سرَّه أن يعلم علم الأوَّلين والآخرين، فليقرأ سورة الواقعة" كما في "سير أعلام النبلاء" 4: 68 للذهبي. وقال: "هذا ما قاله مسروقٌ على المبالغة، لِعظَمِ ما في السورة من جُمَل أمور الدارين، ومعنى قوله: فليقرأ الواقعة. أي: يقرؤها بتدبُّر وتفكُّر وحضور".

([18]) ودليل ذلك قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض بغير الحق} [الأعراف: 146] قال سفيان بن عيينة: "أنزع عنهم فهم القرآن" كما في تفسير الطبري 13: 112.

([19]) قال الغزاليُّ في "الإحياء" أيضاً 1: : "وليس معنى فهم القرآن: حفظُ تفسيره، فإنَّ في معاني القرآن مُتَّسعاً بالغاً ومجالاً رحْباً، لأرباب الفهم، وإنَّ المنقول من ظاهر التفسير ليس مُنتهى الإدراك فيه"، ثم وجَّه معنى النهي عن تفسير القرآن بالرأي بأنه يُنزَّل على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء غرض، وإليه مَيل من طبعه وهواه، فيتأوَّل القرآن على وَفْق رأيه وهواه، ليحتجَّ به على تصحيح غرضه، فيكون المراد بالرأي: الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح. والوجه الثاني: أن يُسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسَّماع والنَّقل، فيما يتعلَّق بغرائب القرآن، وما فيها من الألفاظ المبهمة والمجملة، والمُبدَله، وما فيها من الإيجاز والاختصار، والحذف والإضمار، والتقديم والتأخير، وغير ذلك. فَمن لم يُحكِم ظاهرَ التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرَّد فهم العربية كثُر غَلَطُهُ، ودَخَل في زُمْرة من يفسِّر القرآن بالرأي وهوى النفس". انتهى. وقد نقل هذا التوجيه لأحاديث النهي عن التفسير بالرأي ابن الأثير في "جامع الأصول" 2: 4، والقرطبي في مقدمة تفسيره ص 92 - 93 دون أن يعزواهُ إلى الغزالي.

([20]) الإحياء 1: 287، والبرهان 1: 452.[/align]
 
مع قرب حلول شهر رمضان الكريم ما أحسن الاستعداد له بترتيب الأعمال والبرامج النافعة والمثمرة والتي أولاها ما يخص كتاب الله الكريم.
وأنا أرشح هذا الكتاب ليكون صاحبا ورفيقا مع تلاوة كتاب الله هذا الشهر، فلهو حقا نِعم المعين على تدبر الكتاب المبين.
 
مع قرب حلول شهر رمضان الكريم ما أحسن الاستعداد له بترتيب الأعمال والبرامج النافعة والمثمرة والتي أولاها ما يخص كتاب الله الكريم.
وأنا أرشح هذا الكتاب ليكون صاحبا ورفيقا مع تلاوة كتاب الله هذا الشهر، فلهو حقا نِعم المعين على تدبر الكتاب المبين.

فكرة طيبة يا أبا إبراهيم وفقك الله ، ويكون هناك تقويم للكتاب من جوانبه المهمة :
- وضوح العبارة في التعبير عن المعنى .
- اختيار الأقوال .
- الوفاء بما اشترطه في مقدمته .
ونحو ذلك من جوانب الحكم على الكتاب ، ولو تفضل من يفعل ذلك بإفادتنا في الملتقى برأيه بعد رمضان لكان في ذلك نفع للجميع .
تقبل الله منا ومنكم وبلغنا شهر رمضان وأمتنا وجميع المسلمين في أحسن حال .
 
الفقير ممن أحسن إليه الأستاذ مجد فأهداه نسخة منه ، فاصطحبته في العام الماضي واستفاد منه !

ولا أقول قرأته كله أو اطلعت عليه أجمع ، بل كان الأمر لماما واشتماما ...

فحيث استشكلت أو توقفت عدت فقرأت فاستفدت ...

ولكن المشكلة بل المصيبة أني لم أسجل شيئا وهذا ما أنويه بل نويته فعلا وأسأل الله التوفيق !

- أحسب أن الأستاذ كان موفقا فيما رجعت إليه : في بعض ما يحتاج إلى تقدير وما يسمى في النحو محذوفا لكني كما قلت لم أسجل ..

- والمطلوب أعزائي تسجيل الجديد من المعاني ، والجديد من الصياغات والعبارات للمعاني ...

قد تكون بعض المعاني أو العبارات جديدة بالنسبة لي وتكون معلومة عند مشايخي فلابأس بالتسجيل والتنويه والتنبيه ...

تذكرت على سبيل المثال ( الهم في قصة يوسف عليه السلام : فسره بالهم بالضرب ، وهذا كان جديدا علي ، إذ الأذهان تنتقل إلى المعنى القريب دون غيره ، والتفسير وإن كان سبق إليه لكن بعثه وتجديده مطلوب )

- بقي أمر الملاحظات وهذا لا يخلو من عمل بشري نسعى جميعا إلى تحقيق الكمال له فنتحف الأستاذ بها من باب يكمل بعضنا بعضا .

ومما أراه وأرجو أن ينظر فيه وإليه :

- توثيق مصدر التفسير أو المعنى فمثلا إذا استفاد أو استل أو انتزع معنى من تفسير ما وليكن ( التحرير والتنوير ) فيذكر ذلك آخر الآية أو نهاية المعنى ، ولا يعني هذا بالضرورة أن يكون في كل آية بل في آيات معينة أو مشكلة ...

- هناك معان جديدة سطرها الأستاذ لم يسبق إليها نرجو منه إبرازها تحدثا بنعمة الله و تذكيرا بما تركه الأول للآخر وشحذا لهمة إخواننا للتدبر والعناية بكتاب الله الكريم ...

وعذرا للإطالة وأرجو ألا يكون ماكتبت مملا ...
 
يتبع :

- لعل بعض الإخوة الفضلاء يقارن بين :

1 - المعين والتفسير الميسر للمجمع في طبعتيه .

2 - المعين وما كتبه الدكتور عائض القرني .

3 - أخرى ...
 
الحمد لله رب العالمين
بدأت وزارة الأوقاف القطرية توزيع كتاب ( المعين على تدبر الكتاب المبين )
جزاهم الله خيرًا
 
عودة
أعلى