الأستاذ البهيجي:
ربما خفي علي ما بدا لك، والحق أقول لك أني لم أر طعنا في الصحابة؛ ولا أرى أن نفي العصمة عنهم من الطعن أو التنقيص. ثم إن الإنتصار للقرءان العظيم أولى من الدفاع عن أصحاب النبي وهذا من حيث التأصيل أي من الناحية النظرية أما في التطبيق فالدفاع عن الأصحاب وجه من أوجه الإنتصار لرسالة القرءان.
وتبقى مسألة الوهم والإيهام التي تحتاج إلى نظر ومناقشة، فأرى والله أعلم أن نبدأ بالرواية أولا وقبل كل شيء ثم الرواة بالترتيب ثم الأصحاب والآل آخرا؛ وليس العكس! وهناك أمثلة كثيرة وسأكتفي بآخر ما قرأت من كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل زينب أم المؤمنين عليها السلام في المسند الصحيح لمسلم (
عن عائشة أم المومنين قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا. قالت: فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق).
قال شيخ الإسلام والمسلمين في شرحه لهذه الرواية: (
معنى الحديث أنهن ظَنَنَّ أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية، وهي الجارحة، فكن يذرعن أيديهن بقصبة، فكانت سودة أطولهن جارحة، وكانت زينب أطولهن يدا في الصدقة وفعل الخير، فماتت زينب أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود. قال أهل اللغة: يقال: فلان طويل اليد، وطويل الباع، إذا كان سمحا جوادا، وضده قصير اليد والباع، وجد الأنامل. وفيه معجزة باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنقبة ظاهرة لزينب، ووقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ متعقد يُوهِمُ أن أسرعهن لحاقا سودة، وهذا الْوَهَمُ باطل بالإجماع).
والحديث المعقّد في صحيح البخاري هو (
عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟. قال: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد أنما كانت طول يدها الصدقة وكانت أسرعنا لحوقا به وكانت تحب الصدقة).
وقال شيخ الإسلام إبن حجر في شرحه لهذه الرواية: (
.. وقال ابن الجوزي: هذا الحديث غلط من بعض الرواة، والعجب من البخاري، كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق، ولا علم بفساد ذلك الخطابي، فإنه فسره، وقال: لحوق سودة به من أعلام النبوة. وكل ذلك وهم...).
قلتُ: أرى والله أعلم أن نبدأ بالرواية أولا وقبل كل شيء ثم الرواة بالترتيب ثم الأصحاب والآل آخرا.
1. الرواية توهم عندما لا تكون قطعية الدلالة، فتوهم "
أصحاب التعاليق"..
2.
العجب من البخاري.
3. (
غلط من بعض)
الرواة بالترتيب أي الطبقة الأقرب فالأقرب.
4.
فكن يذرعن أيديهن بقصبة /
فأخذوا قصبة يذرعونها.
فالأصحاب والآل هم آخر من نرمي بالوهم، وإذا توهموا شيئا، فغيرهم أولى بالوهم؛ فلا نتسرع إلى إثبات الوهم لهم إلا في الحالة التي لا نقدر فيها على إثبات الوهم لغيرهم أو للنص.
والآن سنأتي إلى توهم النسخ لنعالجه قليلا من الناحية المنطقية، وسنتجاوز الجانب النظري إلى ما هو عملي. إثبات
جواز النسخ مسألة لا تستحق كثيرا من العناء. إن الذي يهم هو
وقوع النسخ، وعليه إن لم يقع النسخ فإن جوازه (العقلي) قضية تتمع بالثبوت الذهني ليس إلا، وهذا مقبول في الفلسفة لا في الشرعيات.
دعنا نفترض أنه وقع لكن وقع مع وقوع الإختلاف في (تحديد) مواقع النسخ، وهنا يلزمك أن تصف المحق بالتحقيق وأن ترمي المبطل بالوهم إلا أن تثبت تحقق الإجماع حول موقع واحد من تلك المواقع، وحينها لكل مقام مقال وسنقيل الوهم لصالح توظيف الخطأ في الإجتهاد.
ولقد ذكرت لك في المشاركة السابقة ما قاله الدكتور عبدالرحمن الشهري: "
موضوع إنكار النسخ بالكليَّة أو إنكار بعض مسائله من المسائل القديمة التي تعرَّض لها العلماء قديماً وحديثاً بالنقاش، وقد كتبت في ذلك بحوث خاصة". نستفيد أن الشيخ يعرف ما قيل قديما وحديثا في النسخ، ويعرف "البدع المضلة" حسب تعبيرك والشبهات (حول النسخ) حسب تعبيره، وأقوى دليل عنده في إثبات وقوع الناسخ والمنسوخ في القرءان الكريم ينطلق فيه من الآية المنسوخة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} والناسخة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة 240 و 234].
طبعا بحجة قال الجمهور، وهناك رواية في البخاري قد تؤكد قول الجمهور؛ لكن ما معنى قول الجمهور؟ نفترض عندنا قولين في تفسير آية ما: مفسر يقول بقول ثم يقلده العشرات أو المئات من المفسرين تقليدا حرفيا، أمام ثلاثة من المفسرين يقولون بالقول الثاني الذي توصلوا إليه من خلال مسالك متنوعة (تفسير القرءان بالقرءان، السياق، الروايات، اللغة، القراءات..)، فأي القولين هو قول الجمهور ؟ القول الثاني طبعا، لأن القول الأول مجرد إعادة في إنتاج نفس الكلام.
ومن ناحية أخرى ذكرت لك فيما سبق قاعدة منهجية أن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، فلنفترض الآن كل أهل التفسير يقولون بأن الآية 240 نسختها الآية 234 في سورة البقرة، ومفسر واحد بيّن كيف الجمع بين الآيتين. فما قيمة قول الجمهور؟ لا قيمة علمية له مقارنة بقول أهل التحقيق إلا أن تأتي ببديل أقوى وأحسن من تلك القاعدة، أو تبين أنه لم يفلح في الجمع.
هذا، وقد قال شيخ الإسلام إبن عبدالبر الأندلسي أن النسخ في تلك الآيتين قد اجتمع عليه: ولفظة "الإجماع" عنده مثل عبارة "ومذهب السلف" عند شيخ الإسلام إبن تيمية. عندما تبدأ في البحث والتنقيب، يظهر لك أنه لا إجماع ولا يحزنون. وحتى لا نستغرق في الكلام، راجع هذه المناقشة:
https://vb.tafsir.net/tafsir321/#.WJ3MpvLBYqJ
وأخيرا، الرواية في كتاب تفسير البقرة من صحيح البخاري: (
قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه) فرواية مبهمة ومشكلة، وتوهم بأشياء، ولا تصلح للإعتماد عليها في إثبات الناسخ والمنسوخ ولا لإثبات تصرف عثمان رضي الله عنه في تحقيق المصحف أو "المدونة الكبرى" كما يحلو لهم.
وقال شيخ الإسلام إبن حجر في شرحها: (
وكأن عبد الله بن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب، فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم والمتبع فيه التوقف، وله فوائد: منها ثواب التلاوة، والامتثال على أن من السلف من ذهب إلى أنها ليست منسوخة وإنما خص من الحول بعضه وبقي البعض وصية لها إن شاءت أقامت كما في الباب عن مجاهد، لكن الجمهور على خلافه).
نقرأ:
ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب، فلماذا لا نذهب إلى أصل الظن، ونقول: ظن أن فيه شيء إسمه ناسخ ومنسوخ في القرءان ؟ هذا إذا ثبت معنى النسخ هنا عند إبن الزبير رضي الله عنه. وما هي "
الآية الأخرى"؟ الرواة يحفظون الحوار هذا ولا يتذكرون الآية الأخرى؟ ونقرأ:
فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم والمتبع فيه التوقف، لكن ما علاقة التغيير بالنسخ؟ يُفترض مما نتوهمه من سؤال إبن الزير أن يكون الجواب في الحذف أو الإزالة أو الإسقاط لا "تغيير شيء من القرءان من مكانه". ونقرأ:
والامتثال على أن من السلف من ذهب إلى أنها ليست منسوخة؛ فأين ذهب الإتفاق المزعوم؟ ونقرأ:
الجمهور على خلافه، فأي جمهور وأين نجد قول جمهور السلف؟
للمزيد في مناقشة النص، راجع:
https://vb.tafsir.net/tafsir14884/#.WJ3UmPLBYqJ
فأفسح لك المجال لتحلل وتناقش، وشكرا.