دروس في الوعظ والآداب والسلوك

ماهر الفحل

New member
إنضم
25/10/2005
المشاركات
450
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
[align=center]قطيعة الرحـم [/align]

احذر أخي المسلم قطيعةَ الرحم ؛ فإنَّ قطيعة الرحم ذنبٌ عظيمٌ وجرمٌ جسيم ، يفصم الروابط ، ويقطع الشواجر ، ويشيع العداوة والبغضاء ، ويفكك الأسر .

وقطيعة الرحم أمرٌ مزيل للألفة والمودة ، ومجلبٌ لمزيد من الهم والحزن والغم .

وهي من الأمور التي تفشت في مجتمعات المسلمين لا سيما في هذه الأزمان التي طغت فيها المادة ، وقل فيها التواصي والتزاور فكثير من الناس مقصرون في هذا الواجب وواقعون في معصية قطيعة الرحم ، وقد حذّرنا اللهُ من ذلك أشد التحذير بقوله : (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )) [ محمد : 22 ] ، والسبب في إهمال كثير من الناس لصلة أرحامهم هو الجهل بالدين ، وابتعاد الناس عن الهدي النبوي ، فكلما كان الشخص عارفاً بالله كان أخشى لله ، وصلة الرحم من خشية الله ، وقطيعته من معصية الله ، نسأل الله السلامة .
والواصل للأرحام له أجرٌ كبير ، والواصل هو الذي يصل قرابته سواء وصلوه أم قطعوه ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ليس الواصلُ بالمكافئ ، ولكنّ الواصلَ الذي إذا قطعت رحمه وَصَلَها ))(1) .

وصلة الأرحام تكون بزيارتهم وتفقدهم ، وتتبع أحوالهم في السراء والضراء ، وتكون الصلة بالمال وبالجاه ، وبمشاركتهم بأفراحهم وبمواساتهم بأتراحهم .
ومن صلة الرحم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قال تعالى : (( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )) [ الشعراء : 214 ] .

وللقطيعة أسباب تحمل عليها منها الجهل ؛ فإنَّ الجهل بفضيلة صلة الأرحام يفوت على المرء فضيلة ذلك ، وكذا الجهل بخطر القطيعة وعظمة إثم القاطع يحمل عليها . وكذلك من أسباب القطيعة : ضعف التقوى ، وقلة الوازع الديني فإذا ضعفت التقوى ، وَرَقَّ الدينُ لم يبال المرء بقطع ما أمر الله به أنْ يوصل ، ولعل من أكثر أسباب القطيعة الكبر ؛ فبعضهم يتكبر على أقاربه حينما يفيء اللهُ عليه بشيءٍ من عرض هذه الدنيا
الفانية ؛ فتوسوس نفس المتكبر أنَّه صاحب الحق ، وأنه أولى بأنْ يزار ويؤتى إليه . ولعل كثيراً من الناس يدفعهم إلى قطيعة الرحم الشح والبخل ، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً تجده يتهرب من أقاربه لا كبراً عليهم ، وإنما شحاً وبخلاً أنْ يبذل عليهم .

ومن أسباب القطيعة الاشتغال بالدنيا واللهث وراء حطامها ، فلا يجد المنهمك في جمع حطام الدنيا الوقت الكافي لصلة أقاربه .

وربما كان التحاسد والتنافر سبباً في كثير من الأرحام المقطوعة . ثم إنَّ الوشاية والإصغاء إليها تكون في كثير من الأحايين سبباً في قطيعة الرحم ؛ لأنَّ من الناس من دأبه وديدنه إفساد ذات البين فتجده يسعى بين الأحبة لإفساد ذات بينهم .

واحذر أخي المسلم من إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا )) [ النور : 19 ] .
قال ابن رجب : (( قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أنْ تستر العصاة ، فإنَّ ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب )) (2) فلهذا كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير ، وهما من خصال الفجار ؛ لأنَّ الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب ، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه ، فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس ، ليدخل عليه الضرر في الدنيا (3) .
واحذر أخي المسلم بإشاعتك الفاحشة أنْ يكون الحامل لك على هذا القوةَ والغلظةَ ومحبةَ إيذاء أخيك المؤمن ، وإدخال الضرر عليه ، وهذه الصفة القبيحة هي صفة إبليس الذي يزين لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران قال تعالى : (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )) [ فاطر : 6 ] .
ولما ركبَ ابن سيرين الدَّيْنُ وحُبس به قال : (( إني لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدين ، ما هو ؟ قلت لرجل من أربعين سنة : يا مفلس )) (4).




.............................. ......
(1) أخرجه : البخاري 8/7 ( 5991 ) ، وهو في الأدب المفرد ( 68 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) جامع العلوم والحكم 2/292 .
(3) الفرق بين النصيحة والتعيير 18-19 .

(4) أخرجه : أبو نعيم في الحلية 2/271 .
 
[align=center]أكل حقوق الآخرين [/align]
احذر أخي المسلم من أكل حق أخيك سواء كان بسرقة أو غصب أو عن طريق رشاً ( 1 ) أو غير ذلك ؛ فإنَّ الكسب الحرام يفسدُ العبادة ، ويخل بالطاعة ويكون مردوده على الصحة عكسياً . والكسب الحرام يفسد تربية الأبناء فتخرج تربيتهم معوجة ، فإنَّ الجسد الذي ينبت بالحرام ينبت على معصية الله ؛ لأنَّه نشأ من معصية الله ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولى به )) ( 2 ) .
فاحرص أخي المسلم كل الحرص على دخلك وكسبك ولو قَلّ ، وإياك إياك وحقوق الآخرين ، قف متأملاً قول الله تعالى : (( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُم )) [ هود :86 ].


[align=center]جميع المعاصي محاربة لله[/align]
ينبغي للعبد أنْ يعلم أنْ جميع المعاصي محاربةٌ لله ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة )) ( 3 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن ضارَّ أَضرَّ اللهُ به ، ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليه )) ( 4 ) .
فقوله : " من ضار " أي مسلماً بمعنى : أدخل على مسلم مضرة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق " أَضرَّ الله به " أي جازاه من جنس فعله ، وأدخل عليه المضرة ، ومن شاق مسلماً ، أي نازع مسلماً ظلماً وتعدياً " شقّ الله عليه " أي أنزل الله عليه المشقة جزاءً وفاقاً .
.............................. ...................

(1) جمع رشوة .
(2) جزء من حديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أخرجه معمر في جامعه ( 20719 ) ، ومن طريقه أحمد في مسنده 3/321 .
(3) أخرجه : مسلم 8/70 ( 2699 ) .
(4) حديث حسن أخرجه أحمد 3 / 453 من حديث أبي صرمة رضي الله عنه ، وللحديث طرق وشواهد انظر مسند أحمد 25/34 طبعة الرسالة .
 
الغيـبة :
احذر أخي المسلم من الغيبة ، قال النووي في رياض الصالحين باب تحريم الغيبة : (( ينبغي لكل مكلف أنْ يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة ، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ، فالسنة الإمساك عنه ؛ لأنَّه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه ، وذلك كثير في العادة ، والسلامة لا يعدلها شيء ))(1) .
والغيبة خصلة ذميمة لا تصدر إلا عن نفس دنيئة ، وهي كما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( ذِكركَ أخاك بما
يكرهُ ))(2)، وهي محرمة بل هي كبيرة من الكبائر ، وقد ذمها الله سبحانه وتعالى بالقرآن العظيم فقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )) [ الحجرات : 12 ] ، ولا تقتصر على الكلام باللسان ، وإنما كل حركة أو إشارة أو إيماءة أو تمثيل أو كتابة في الصحف أو على
الإنترنت ، أو أي شيءٍ يفهم منه تنقص الطرف الآخر ؛ فكل ذلك حرام داخل في معنى الغيبة ، والإثم يزداد بحسب الملأ وكثرتهم الذين يذكر فيهم المغتاب (3).
واعلم أخي المسلم : أنَّ الغيبة خسارة كبيرة في حسنات العبد ؛ فالمغتاب يخسر حسناته ويعطيها رغماً عنه إلى من يغتابه ، وهي في نفس الوقت ربح للطرف الآخر ؛ حيث يحصل على حسنات تثقل كفته جاءته من حيث لا يدري ؛ لذا قال عبد الله بن المبارك - وهو أحد أمراء المؤمنين في الحديث - : (( لو كنت مغتاباً لاغتبت أمي فإنها أحق بحسناتي ))(4) .
تأمل أخي المسلم في قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما رواه عبد الرحمان بن أبي بكرة ، عن أبيه : أنه ذكر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره ، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ، قال : (( أي يوم هذا ؟ )) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : (( أليس يوم النحر ؟ )) قلنا : بلى ، قال : (( فأيُّ شهر هذا ؟ )) فسكتنا حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال : (( أليس بذي الحجة ؟ )) قلنا : بلى ، قال : (( فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب فإنَّ الشاهد عسى أنْ يبلغ مَن هو أوعى له منه ))(5) .
والذي يتأمل هذا الحديث يعلم حرمة الغيبة ، وأنَّها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في الحرم المكي .
ولنتدبر جميعاً قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حينما قال : (( لما عُرِجَ بي ، مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : مَن هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ))(6) فالمسلم الذي يحرص على نفسه يتأمل في هذا الحديث ليعلم أنَّ المغتابين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس ، وهي أظفار فاقت أظفار الوحوش الضارية ؛ ليزدادوا عذاباً جزاءً وفاقاً على أفعالهم القبيحة ، وأعمالهم السيئة .
ومن الغيبة : أنْ تذكر أخاك المسلم بأي شيء يكرهه حتى وإنْ لم تكن تقصد ذلك فقد صحّ أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد تعني قصيرة - فقال : (( لقد قُلْتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته )) قالت : وحكيتُ له إنساناً فقال : (( ما أحب أني حكيتُ إنساناً وأنَّ لي كذا وكذا ))(7).
والغيبة داءٌ فتّاكٌ ومِعْوَلٌ هدّام يفتك في بنيان المجتمع ، وهو أسرع إفساداً في المجتمع من الآكلة (8) في الجسد ، والغيبة تُعرِّض العلاقات للانهيار ، وتزعزع الثقة بين الناس وتغيّر الموازين وتقلع المحبة والألفة والنصرة من بين المؤمنين ، وتثبت جذور الشر والفساد بين الناس ، وقد بيّن الحسن البصري رحمه الله أجناس الغيبة وحدودها فقال : (( الغيبة ثلاثة أوجه ، كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة ، والإفك ، والبهتان ، فأما الغيبة : فهو أنْ تقول في أخيك ما هو فيه ، وأما الإفك فأنْ تقول فيه ما بلغك عنه ، وأما البهتان : فأنْ تقول فيه ما ليس فيه ))(9) .
ورُوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول : جاء الأسلميُّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنَّه أصاب امرأةً حراماً - أربع مرات - كل ذلك يُعرِضُ عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأقبل في الخامسة فقال : (( أَنِكْتَهَا ؟ )) قال : نعم قال : (( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها )) قال : نعم قال : (( كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ؟ )) قال : نعم قال :
(( فهل تدري ما الزنا ؟ )) قال : نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً قال : (( فما تريد بهذا القول ؟ )) قال : أريد أنْ تطهرني فأمر به فَرُجِم فسمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا الذي سَتر الله عليه فلم تَدَعْهُ نفسه حتى رُجِمَ رجمَ الكلب فسكت عنهما ، ثم سار ساعة حتى مَرَّ بجيفة حمار شائلٍ برجله فقال : (( أين فلان وفلان ؟ )) فقالا : نحن ذان يا رسول الله ، قال :
(( انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار )) فقالا : يا نبي الله ، مَنْ يأكل من هذا ؟ قال : (( فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ))(10) .
ومن أعظم ما ورد في الزجر عن الغيبة قوله تعالى :
(( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ))
[ الحجرات : 12 ] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : (( وقد ورد فيها ( يعني : الغيبة ) الزجر الأكبر ، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل :
(( أيحب أحدكم أنْ يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه )) ، أي : كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً ؛ فإنَّ عقوبته أشد من هذا ))(11) .
أخي المسلم الكريم ، لقد صوّرَ اللهُ الإنسانَ الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة فمثّله بمن يأكل لحم أخيه ميتاً ، ويكفي قبحاً أنْ يجلس الإنسان على جيفة أخيه المسلم يقطع من لحمه ويأكل .
والغيبة من كبائر الذنوب ، وهي محرمة بالإجماع قال القرطبي : (( لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر ، وأنَّ من اغتاب أحداً عليه أنْ يتوب إلى الله عز وجل ))(12) .
والغيبة مرض خطير ، وشر مستطير يفتك الأمة ويبث العداوة والبغضاء بين أفرادها ، وهذا المرض لا يكاد يسلم منه أحدٌ إلا من رحم الله .
ومرض الغيبة عضال ، كم أحدث من فتنة ، وكم أثار من ضغينة ، وكم فرّق بين أحبة وشتت بيوتاً .
والغيبة فاكهة أهل المجالس الخبيثة ، وغيبة أهل العلم والصلاح أشد قبحاً وأعظم ظلماً ؛ فلحومهم مسمومة ، وسنة الله في عقوبة منتقصيهم معلومة .
ولعل من أسباب الغيبة الحسد ، الذي يحصل لكثير من الذين ابتعدوا عن مراقبة الله ، فتجد كثيرين يغتابون آخرين حسداً من عند أنفسهم ؛ لأنَّ أخاهم حصل على ما لم يحصلوا عليه .
ومن أسباب الغيبة المجاملة والمداهنة على حساب
الدين ؛ فتجد الرجل يغتاب أخاه المسلم ؛ موافقة لجلسائه وأصحابه .
ومن أسباب الغيبة الكبر واستحقار الآخرين ؛ لأنَّه يثقل عليه أنْ يرتفع عليه غيره فيقدح بهم في المجالس ؛ لإلصاق العيب بهم ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( الكبر بطر الحق وغمط الناس )) (13).
ومن أسباب الغيبة السخرية والتنقص من الآخرين ، فإنَّ بعض الناس يغتاب إخوانه المسلمين عن طريق السخرية ، وغيرها من الأسباب والدسائس التي يوحيها الشيطان في صاحب الغيبة في قوالب شتى .
وللغيبة أضرار عظيمة على الفرد والمجتمع ، ومن أضرارها أنَّها تُعرِّض صاحبها للافتضاح ، فكلما فضحَ الإنسانُ غيرَه فإنَّ الله يفضحه ؛ إذ الجزاء من جنس العمل ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر مَن آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمينَ ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنَّه من يتَّبع عوراتهم يتبع اللهُ عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ))(14) .
ومن أضرار الغيبة أنها أذيةٌ لعباد الله تعالى ، ومن آذى عباد الله فقد توعده الله تعالى بعذاب شديد ، قال تعالى :
(( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (( [ الأحزاب : 58 ] .
ومن أضرار الغيبة أيضاً أنها من الظلم والاعتداء على الآخرين ، ومعلوم أنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة ، وأنَّ أثر الظلم سيءٌ ، وعاقبته عاقبةٌ وخيمةٌ قال تعالى : (( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ )) [ إبراهيم : 42 ] .
وفي الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إني حرّمتُ الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا ))(15) .
ومن أضرار الغيبة أنها توجب العذاب يوم القيامة ، فهي من المعاصي العظيمة ، ومقترفها يقع في حقين : حق الله ، وحق العبد ، وهو محاسَب على تقصيره بحق الله . فأما حق العبد فهو إما أنْ يتحلله في الدنيا ، أو يعطيه من حسناته أو يحمل من سيئاته إنْ لم يكن له حسنات يعطيه منها ، وهذا هو المفلس كما ورد في الحديث (16).
ومن أضرار الغيبة أنها سبب في تفكيك المجتمع ، وإثارة الفتن وجلب العداوة والبغضاء بين الناس .
وعلى المسلم إذا سمع غيبة المسلم أنْ يتقي الله ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويذب عن عرض أخيه المسلم ويمنع المغتاب من الغيبة ؛ فإنَّ المغتاب والسامع شريكان قال تعالى : ] إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ [الإسراء:36] وروي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ))(17) .
تدبر أخي المسلم ، أنا لو رأينا أحداً قائماً على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه ألسنا نقوم جميعاً ، وننكر
عليه ؟! بلى فلماذا لا ننكر على من يغتاب إخواننا المسلمين ، ونذب عن أعراضهم ؟
على كل مسلم أنْ يخاف الله تعالى ، وأنْ يعلم أنَّ الغيبة معصيةٌ لله ، وظلم على المغتاب فعلى كل مسلم أنْ يتجنب الكلام في أعراض الناس ، وأنْ يعرف أنه إن وجد عيباً في أخيه المسلم ؛ فإنَّ فيه عيوباً كثيرة .
فعليك أخي المسلم أنْ تراقب لسانك لتعرف هل أنت واقع في هذا الداء ، فإنْ كنت كذلك فاعلم أنَّ من أهم أسباب التخلص من الغيبة أنْ يحفظ الإنسان لسانه ، فمن أعظم أسباب السلامة حفظ اللسان ، ومن أعظم أبواب الوقاية الصمت في وقته .
ومن أهم أسباب التخلص من الغيبة أن يستشعر العبد أنَّه بهذه الغيبة يتعرض لسخط الله ومقته ، وأنَّ قوله وفعله مسجلٌ عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها ، وعلى المرء أنْ يستحضر دائماً أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال تعالى : (( مَا يَلفِظُ مِنْ قَولٍ إلاَّ لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ )) [ ق : 19 ] .
ومن أسباب الخلاص من الغيبة أنّ يستحضر المغتاب دائماً أنه يهدي غيره من حسناته ؛ لأنَّ الغيبة ظلم ، والظلم يقتص به يوم القيامة للمظلوم من الظالم وقد قال النَّبيُّ
صلى الله عليه وسلم : (( إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم ، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا ، أُذن لهم بدخول الجنة ، فوالذي نفس محمد بيده ، لأحدهم بمسكنه في الجنة ، أدل بمنـزله كان في الدنيا ))(18).
فعلى المرء المسلم أنْ يشتغل بإصلاح عيوب نفسه دون الكلام في عيوب الآخرين .

.............................. ..... ...
(1) رياض الصالحين : 543 . رياض الصالحين من الكتب المهمة جداً فيه جميع ما يحتاجه المسلم في عباداته وحياته اليومية ؛ فينبغي لكل مسلم أن يقرأ هذا الكتاب مراراً وتكراراً ، ويثقف عائلته بأحاديث هذا الكتاب ، ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة .
(2) أخرجه : مسلم 8/21 ( 2589 ) ( 70 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) المغتاب : اسم فاعل ومفعول يدل على الذي يقوم بغيبة الناس ، ويدل على الذي تقع عليه الغيبة .
(4) فيض القدير 3/166 للمناوي .
(5) أخرجه: البخاري 1/26 ( 67 )، ومسلم 5/108 ( 1679 ) ( 30 ) .
(6) أخرجه : أحمد 3/224، وأبو داود ( 4878 ) و( 4879 ) ، والضياء المقدسي في المختارة ( 2285 ) و( 2286 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
(7) أخرجه أبو داود (4875) .
(8) أي : السرطان نسأل الله السلامة والعافية .
(9) تفسير القرطبي 16 / 335 .
(10) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 737 ) ، وأبو داود
( 4428 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 7164 ) و( 7165 ) .
(11) تفسير ابن كثير : 1750 .
(12) تفسير القرطبي 16 / 337 .
(13) جزء من حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه مسلم في صحيحه 1/64 ( 91 ) ( 147 ) .
(14) حديث صحيح أخرجه: أحمد 4/420، وأبو داود (4880) ، وأبو يعلى ( 7424 ) من حديث أبي برزة الأسلمي .
(15) أخرجه : مسلم 8/16 ( 2577 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(16) روى مسلم في صحيحه 8/17 ( 2581 ) من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أتدرون ما المفلس ؟ )) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : (( إنَّ المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أنْ يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار )) .
(17) أخرجه : أحمد 6/449 و450 ، والترمذي ( 1931 ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: (( هذا حديث حسن )) .
(18) أخرجه : البخاري 3/167 ( 2440 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
 
[align=center]النميمة :[/align]احذر أخي المسلم من النميمة ، وهي نقل الكلام بين الناس لجهة الإفساد ؛ فيذهب إلى شخص ويقول : قال فيك فلان كذا وكذا ، من أجل الإفساد بينهما وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين .
وحقيقة النميمة : إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه .
والنمام : هو من يسعى في قطع الأرحام ، وقطع ما أمر الله به أنْ يوصل ، وهو من الذين يفسدون في الأرض قال تعالى : (( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) [ الشورى : 43 ] والنمام منهم .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ من شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه ))(1) والنمام منهم .
فاعلم أخي المسلم أنَّ النميمة من كبائر الذنوب ، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى : (( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ )) . [ القلم : 10 - 11 ] وهي من أسباب عذاب القبر وعذاب النار ، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل الجنَّة نمام ))(2) ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : (( إنَّهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، بلى إنَّه كبير : أما أحدهما ، فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ))(3) .
والنميمة أذىً للمؤمنين والمؤمنات ، وقد حرم الإسلام الأذى بشتى أنواعه ، ومنه النميمة . والنمام ذو وجهين ؛ لأنه يظهر لكل من الفريقين غير الوجه الذي يظهر به للطرف الآخر ، وصاحب الوجهين شر الناس يوم القيامة ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( تجدون الناس معادن ، خيارهم في الجاهلية ، خيارهم في الإسلام ، إذا فقهوا ، وتجدون خير الناس في هذا الشأن ، أشدهم كراهية له ، وتجدون شر الناس ، ذا الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ))(4).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النمام لا يدخل الجنة وأنه يعذب في قبره وقال : (( أَلا أُنبئكم ما العَضْهُ(5) ؟ هيَ النَمِيمَةُ القالةُ بين الناس ))(6) وكلُ من حُمِلَتْ إليه النميمةُ يجب عليه ستة أمور الأول : أن لا يُصدِّق النمامَ ؛ لأنه فاسق . والثاني : أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح له فعله ، والثالث : أنْ يبغضه في الله ، والرابع : أنْ لا تظن بأخيك الغائب السوء ، والخامس : أنْ لا يحملك ما حُكي على التجسس ، السادس : أنْ لا ترضى لنفسك ما نَهيتَ النمام عنه ولا تحكي نميمته .
فاحذر أخي المسلم من النميمة فإنَّها من أمراض النفوس ، وهي داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر ، ويفرق الأحبة ويقطع الأرحام .
قال الإمام الشافعي : (( إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه ، فإن ظهرت المصلحة تكلم ، وإن شك لم يتكلم حتى يظهر )) .
وينبغي على المسلم أنْ يسكت عن كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية .
ثم اعلم أخي المسلم أنَّ البهتان على البريء من أثقل الذنوب ، وويل لمن سعى بوشاية بريءٍ عند صاحب سلطان ونحوه فصدقه ، فربما جنى على بريءٍ بأمر يسوءه ، وهو منه براء .
وقد حرم الله عز وجل المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ، ورغب في الإصلاح بين المسلمين قال تعالى : (( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )) [ الأنفال : 1 ] . وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة )) (7).
وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضاً : (( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، ويقول خيراً وينمي خيراً )) (8).
أخي المسلم : اعلم أنَّ مَن نَمَّ إليك نَمَّ عليك ، والنمام ينبغي أنْ يُنصَحَ ويُرشَدَ ، وإلا فَيُترك ويُبغَض ولا يُوثَق بقوله ولا بصداقته ، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة .

.............................. .
(1) أخرجه : البخاري 8/20 ( 6054 ) ، ومسلم 8/21 ( 2591 ) ( 73 ) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه : البخاري 8/ 21 ( 6056 ) ، ومسلم 1/70 ( 105 ) ( 167 ) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، ولفظ البخاري : (( لا يدخل الجنَّة قتات )) .
(3) أخرجه : البخاري 1/65 ( 218 ) ، ومسلم 1/165 ( 292 ) ( 111 ) .
(4) أخرجه : البخاري 4/216 ( 3493 ) ومسلم 7/ 181 ( 2526 ) و 8/28 ( 2526 ) ( 100 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(5) العَضْهُ : كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكي البعض عن البعض . لسان العرب (قول)
(6) أخرجه : مسلم 8/28 ( 2606 ) ( 102 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(7) أخرجه : أحمد 6/444 ، وأبو داود ( 4919 ) ، والترمذي ( 2509 ) ، وابن حبان ( 5092 ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . وقال الترمذي : (( هذا حديث حسن صحيح )) .
(8) أخرجه : البخاري 3/240 ( 2692 ) ، ومسلم 8/28 ( 2605 ) من حديث أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط .
 
[align=center]الكـذب :[/align]ومن حرمة المسلم على المسلم أن لا تكذب عليه : والكذب آفةٌ سيئةٌ من آفات اللسان ، وهذه الآفة من أقبح الأمراض النفسية ، إذا لم يسارع صاحبها بالعلاج ، أودى به إلى النار ، وبئس القرار ، قال تعالى : (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون )) [ البقرة : 10 ] . والكذب من كبائر الذنوب وفيه أضرارٌ عظيمة ، ومن أضراره : إحداث الريبة عند الإنسان – والريبة هي التهمة والشك – والكذب محل تهمة وشك ، والكذب يجعل الإنسان يقع في خصلة من خصال المنافقين . والمنافقون في الدرك الأسفل من النار قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ))(1).
والكذب يمحق البركة بالبيع والشراء . والكذب يعدم الثقة بالناس ، ومن آثار الكذب قلب الحقائق ؛ لأنَّ الكذب يصور الحق باطلاً والباطل حقاً ، ولو لم يكن في الكذب سوى أنَّه يؤدي إلى النار لكفاه سوءاً ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنَّ الفجور يهدي إلى النار ، وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ))(2) .
وإذا وقع المؤمن في شيءٍ من هذه الصفة القبيحة
( الكذب ) فعليه أنْ يعمل على التخلص من هذه الصفة المذمومة عقلاً وشرعاً ، ومن ذلك أنْ يستحضر عظمة الله ويثق به ؛ لأنَّ كثيراً من الكذب سببه الخوف من أشياء وهمية يصورها الشيطان . وعلى المسلم أنْ يكون محسناً الظنَ بالله (3) ويعلم جازماً أنْ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (4) وبذلك يعلم أنَّ ما كُتِبَ له سيأتيه لا محالةَ وخاصة في أمور الدنيا .
.............................. ..... ............

(1) أخرجه : البخاري 1/15 ( 34 ) ، ومسلم 1/56 ( 58 )
(106) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2) أخرجه : البخاري 8/30 ( 6094 ) ، ومسلم 8/29
( 2607 ) ( 103 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(3) روى مسلم في صحيحه 8/165 ( 2877 ) من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن )) .
(4) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه )) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة
( 247 ) ، والضياء في المختارة ( 2197 ) .
 
[align=center]الحـقـد :[/align]ابتعد أخي المسلم كل الابتعاد عن الحقد ؛ فإنَّ الحقد صفةٌ ذميمةٌ ذمها الإسلام ، وهي صفة تذمها الفطرة السليمة ، والحقد : أنْ يلزم قلبك استثقال أخيك المسلم والبغضة إليه ، والنفار منه وأنْ يدوم ذلك ويبقى .
قال الدكتور مصطفى السباعي : (( لا تحقدْ على أحدٍ فالحقد ينال منك أكثر مما ينال من خصومك ويبعد عنك أصدقاءك كما يؤلّب عليك أعداءك ، ويكشف من مساوئك ما كان مستوراً ، وينقلك من زمرة العقلاء إلى حثالة السفهاء ، ويجعلك بقلب أسود ووجه مصفر ، وكبد حرّى )) .
ولا تحقد على المسلم حتى لو أساء إليك ، وإذا غلبتك نفسك فعليك بالعلاج ، وعلاج من أساء إليك أنْ تتمعن في قوله تعالى : (( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) [ آل عمران : 133 -134 ] .
وعن معاذ بن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : (( منْ كظم غيظاً وهو قادر على أنْ ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة ؛ حتى يخيّره منَ الحور العين ما
شاء ))(1) .
وقال النبي صلى الله عليه و سلم : (( ومن كظم غيظهُ ولو شاءَ أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه
رضىً )) (2).
ومن العلاج : أنْ تعتقد أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى ، وأنَّ هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وأنَّ هذا العبد ربما كان عند الله أفضل منك كما صح عن النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم أنَّه قال : (( رُبَّ أشعثَ أغبَر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ))(3) .
قد جعل الله المحبة الخالصة بين المسلمين من أوثق عرى المحبة في الله ، وقد وثّق الإسلام ذلك بوجوب المحافظة على مال المسلم وعرضه ونفسه ، بأنْ لا يصيبه المسلم بأذى ولا يمسه بسوء .
لكن بعض النفوس الخبيثة تبحر في أنهار آسنة لتتشفى في مَن أنعم الله عليهم ، ورزقهم من حطام هذه الدنيا الفانية ، وذلك بالحقد والحسد ليؤتي ذلك الحقد والحسد ثماراً خبيثةً من غيبة ونميمة وحنق واستهزاء . ومجتمعاتنا - وللأسف الشديد - تعُجّ في مثل هؤلاء ، ولو تدبروا كتاب الله جيداً لما وقعوا في ذلك ، قال تعالى : (( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إبراهِيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتيناهُمْ مُلكاً عَظِيماً )) [ النساء : 54 ] .
فتنبه دائماً أخي المسلم إلى الأضرار الكبيرة التي تنجم عن الحقد ، ومن تلك الأضرار : الحسد فأنت إذا حقدت على أخيك المسلم فلاشك أنَّك ستحسده على النِّعم التي أفاء الله بها عليه ، وأنَّك سَتُسَرُّ بالمصائب التي تصيب أخاك المسلم ، وهذا بلا
شك من صفات المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر قال تعالى : (( وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِم دَائِرةُ السَّوءِ )) [ التوبة : 98 ] وقال النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم : (( لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه )) (4)، ولعل الحقد يزداد عند بعضهم فيدفعه على التشمت بالآخرين .
ومن أضرار الحقد أيضاً أنَّه مدعاةٌ إلى الهجر والمقاطعة أو الإعراض عنه .
ومن أضراره أيضاً أنَّه يدفعك إلى أنْ تتكلم في أخيك المسلم بما لا يحل ، وقد يؤول بك ذلك إلى الكذب عليه أو غيبته وإفشاء سره وهتك ستره ، بل ربما دفعك ذلك إلى وشايته بما يؤول إلى قتله ، إلى غير ذلك من الأضرار التي تنجم عن الحقد ، كالاستهزاء به والسخرية منه ، وإيذاءه بالضرب ، أو أنْ تمنعه حقه من قضاء دَين أو صلة رحم أو رد مظلمة ، وكل ما ذُكِرَ من أضرار الحقد إنَّما هي معاصٍ يُحاسَب عليها العبدُ يوم القيامة ، ويجد ذلك مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسيكون حينذاك الندم ، لكن لا ينفع الندم .
.............................. ................
(1) أخرجه : أحمد 3/440 ، وأبو داود ( 4777 ) ، وابن ماجه ( 4186 ) ، والترمذي ( 2021 )
و( 2493 ) من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، وقال الترمذي : (( هذا حديث حسن غريب )) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج ( 36 ) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وحسن إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 906 ) .
(3) أخرجه : مسلم 8 / 36 ( 2622 ) ( 138 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه : البخاري 1 / 10 ( 13 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
 
[align=center]الحـسـد :[/align]حذارِ أخي المسلم الكريم من الحسد ، والحسد : هو تمني زوال النعمة عن صاحبها بغض النظر عن أنْ تكون هذه النعمة دينية أو دنيوية ، والحسد صفةٌ ذميمةٌ ذمها ديننا الحنيف ، وقد قال تعالى في ذم الحاسدين ، واستنكار فعلهم : (( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه )) [ النساء : 54 ] وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً ، ولا يحلُ لمسلم أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث ))(1) .
والحسد من نتائج الحقد ، والحقد من نتائج الغضب ، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . ومن سلّم الله قلبه من الحسد والغل على الآخرين فقد أُعطي خيراً عظيماً ، ومن أعظم الأحاديث في ذلك ما رواه الإمام أحمد (2) بسند صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال : كنَّا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة )) فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه ، قد تعلق نعليه في يده الشمال ، فلما كان الغد ، قال النبَّيُّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجلُ مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ، فلما قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيتُ(3) أبي ، فأقسمتُ أنْ لا أدخلَ عليه ثلاثاً ، فإنْ رأيتَ أنْ تؤويني إليك حتى تمضي ، فعلت . قال : نعم . قال أنس : وكان عبد الله يحدث أنَّه بات معه تلك الليالي الثلاث ، فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئاً ، غير أنَّه إذا تعارّ (4) من الليل ، وتقلّبَ على فراشه ذكر الله عز وجل ، وكبّر ، حتى يقوم لصلاة الفجر ، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً ، فلما مضتِ الثلاث ليالٍ ، وكدتُ أنْ أحقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجر ثَمَّ ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات :
(( يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة )) فطلعت َ أنت الثلاث مرارٍ ، فأردتُ أنْ آوي إليك ، لأنظرَ ما عملك ، فأقتدي به ، فلم أرَكَ تعملُ كثيرَ عملٍ ، فما الذي بلغ بك ما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هو إلا ما رأيتَ . قال : فلما ولّيتُ دعاني ، فقال : ما هو إلا ما رأيتَ ، غير أني لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه . فقال عبد الله : هذه التي بلغتْ بكَ ، وهي التي لا نطيق .

.............................. .......
(1) أخرجه : مسلم 8 / 10 ( 563 ) ( 30 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) في مسنده 3 / 166 .
(3) لاحيتُ : الملاحاة ، المباغضة والمنازعة .
(4) هب واستيقظ .
 
[align=center]الغـش :[/align]إياك أخي المسلم أن تغش أخاك المسلم فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( من غَشَّ فليس
مِنِّي ))(1) وللغش مظاهر ، ومن أعظم الغش غش الراعي لرعيته وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم :
(( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ))(2) وكذا غش القائد لجنده ، والرئيس لمرؤوسيه وصاحب العمل لعماله ، ورب الأسرة لأسرته وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ما من عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيةً يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة ))(3) .
ومن الغش : الغش التجاري الذي يتعدى فيه الغاش على مال الغير ، ولو كان شيئاً يسيراً ؛ ليحصل عليه بالحرام عن طريق الكذب ، والكتمان أو إخفاء عيوب السلعة أو البخس في الميزان . وكذلك من أخطر أنواع الغش الغش في العلم ؛ لأنَّ الغاش حينما يحصل على شهادة بالغش ، ربما يحصل على مال حرام بذلك ؛ لذا فإنَّ الغش في الامتحانات من أخطر الكوارث .
ومن أخطر أنواع الغش الغش بالقول كالإدلاء بالشهادات والأقوال والمعلومات أو القضاء وغيره بشكل مخالف للحقيقة ليوقع الضرر بالناس ظلماً وزوراً ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ، ثم قال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ))(4) .
ومن أعظم أنواع الغش لأخيك المسلم أنْ لا تأمره بالمعروف ، ولا تنهاه عن المنكر ، ولا تحثه على فعل الخير قال تعالى : (( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً )) [ الفرقان : 27-29 ] .
وقال تعالى : (( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ )) [ الزخرف :
67 ] وديننا الحنيف جاء لسعادة البشر في الدنيا والآخرة ؛ لذا حرّم الغش بجميع أنواعه لما فيه من الفساد والضرر بالعباد بظلم بعضهم لبعض ، وبإيجاد الشحناء بينهم أو بأكل أموالهم بالباطل ؛ لذلك أوجب الإسلام على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة ، وحذّر الإسلامُ من أسباب غضب الله ، وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش .

.............................. ....................
(1) أخرجه : مسلم 1/69 ( 102 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه : مسلم 6/8 ( 1829 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه .
(3) أخرجه : البخاري 9/80 ( 7150 ) و( 7151 ) ، ومسلم 1/88 ( 142 ) ( 229 ) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه .
(4) أخرجه : البخاري 3/225 ( 2654 ) و8/76 ( 6273 ) و( 6274 ) و9/17 ( 7919 ) ، ومسلم 1/64 ( 87 ) من حديث نفيع بن الحارث رضي الله عنه .
 
[align=center]تنبيه لمحاسبة النفس [/align]


أخي المسلم هل حاولتَ أنْ تعد حسناتك وسيئاتك كما تعد دنانيرك ودراهمك ؟
هل خلوتَ بنفسك يوماً فحاسبتَها على ما بَدَرَ منها من التقصير والإهمال في جنب الله ؟
هل تأملتَ يوماً طاعتَك التي تقرّبتَ بها إلى بارئك مفتخراً بها فوجدت أكثرها مشوبة بالرياء والسمعة وحظوظ النفس ؟
اعلم أخي المسلم أنَّ محاسبة النفس أمرٌ لا بد منه ، فحاسبْ نفسَك الآن قبل أنْ تُحاسَبَ يوم القيامة ، وَزِنْ حسناتك بسيئاتك في الدنيا قبل أنْ تُوزَنَ يوم الآخرة يوم الحسرة والندامة ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه .
فعليك أخي المسلم أنْ تتصفح عملك في الليل ما صدر منك ذلك النهار ، فإنْ كان عملك محموداً أمضيته ثم تعمل فيما بعده بمثله ، وإنْ كان ما فعلته في ذلك النهار مذموماً فعليك أنْ تستغفر وتتوب وتستدركه ، وتنتهي عن مثله فيما يستقبل من الأيام .
ثم عليك أخي المسلم أنْ تتثبت دائماً في جميع الأحوال قبل الفعل والترك ، حتى يتبين لك ما تفعل ، فإنْ كان خيراً فاعمل وإنْ كان دون ذلك فاترك .
وتَبصّر دائماً بقوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ )) [ الأعراف : 201 ] .
ولمحاسبة النفس فوائد جمة ومنافع عدة ، منها : أنك تطّلع على عيوب نفسك ونقائصها ومثالبها ، ومن ثم تستطيع أنْ تضع الدواء على موضع الداء . وكذلك أنك بمحاسبتك لنفسك تتعرف على الله أكثر ، وتعلم عظيم فضله عليك . ثم إنَّ من أعظم ثمار المحاسبة التوبة والندم وتدارك ما فات من الأعمال الصالحة في زمن الإمكان ، وسيؤول ذلك إلى الاجتهاد في الطاعة وترك المعاصي ؛ حتى تسهل عليك المحاسبة في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون .
 
[align=center]الإشاعة [/align]

احذر أخي المسلم من الإشاعة ، والإشاعة : كل قضية أو عبارة نوعية أو موضوعية مقدمة للتصديق ، تتناقل من شخص إلى شخص ، عادةً بالكلمة المنطوقة ، وذلك دون أنْ تكون هناك معايير أكيدة للصدق (1). فالشائعات لها خطورتها في زعزعة أمن الناس واستقرارهم ، وهي تحدث الفوضى والبلبلة في أفكار الناس وتفقدهم توازنهم ، ولها أضرار كبيرة ، وفي أوقات الأزمات تكون أضرار الإشاعة أكبر ، والمرجفون الذين يحاولون زلزلة أوقات الناس في الغالب يستغلون الظروف غير الاعتيادية .
وخطر الإشاعات ظاهرٌ وبيّنٌ في كل زمان ومكان . وفي بغداد مدينة السلام – حرسها الله وأذهب عنها شرذمة الكافرين - ذهب أكثر من ألف شخص في ساعة واحدة نتيجة إشاعة من الإشاعات على جسر من الجسور(2) .
بل إنَّ خطر الإشاعة على أمن واستقرار الناس قد ظهر قديماً وبشكل واضح في قصة الإفك (3) في فجر الإسلام . فالإشاعة أخي المسلم لها تأثيرها على الروح المعنوية في إثارة الفتن والأحقاد بين الناس ، وهذه الفتن والأحقاد قد تؤول إلى جرائم . إذنْ فخطر الإشاعة يكمن في أنها تزيد من تفرُّق المسلمين ، وتوقد نار الشحناء والبغضاء بينهم ، فيجب الابتعاد عن هذا العمل ؛ لأنَّه مُبغَض عند الله تعالى ، قال تعالى : (( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )) [ النور : 15 ] فذكر سبحانه وتعالى أنَّ هذا الصنف من الناس يتلقى أعظم الأمور ، وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام ، فلسان يتلقى
عن آخر بلا تدبر ولا فحص ولا إمعان ، حتى لكأنَّ الأمر لا يمر على الآذان ولا تتملاه الرؤوس ، ولا تتدبره العقول ، فينطق اللسان بالإشاعة الباطلة من غير وعي ولا عقل ولا قلب . فعلى ناقل الإشاعة أنْ يتقي الله في نفسه ، ويراقبه في كل ما يقول ويفعل . وعليه أنْ يتذكر أنَّه مُحاسَب على كل كلمة يتكلم بها ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ، يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ))(4) ، وقال أيضاً :
(( إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ))(5) .
وقال تعالى : (( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً )) [ النساء : 83 ] . قال الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله عن هذه الآية الكريمة : (( هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنَّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين ، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أنْ يثبتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها ))(6) .

أما طرق دحض الإشاعة

فعليك تذكير الناقل للإشاعة بالله وتحذيره من مغبة القول بلا علم . وتذكير الناقل بالعاقبة المتحصلة إذا كانت الإشاعة كذباً . وعدم التعجل في تقبل الإشاعة دون استفهام أو اعتراض . وعدم ترديد الإشاعة ؛ لأنَّ في ذلك انتشاراً لها . وعليك اقتفاء سير الإشاعة وتتبع مسارها للوصول إلى مطلقيها ومحاسبتهم بما أباحه الله .
ثم عليك بإماتتها وبالإعراض عنها ، قال الإمام مسلم صاحب الصحيح : (( إذ الإعراض عن القول المطّرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله ، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجُهّال عليه ))(8) .

هذا وينبغي على الجميع حفظ الألسن عن اتهام البريء بما ليس فيه ؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى تلوث الذمم والأخلاق ، وليتذكر المسلم دائماً قوله صلى الله عليه وسلم : (( بحسب امرئ من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم ))(9) .


.......................................
(1) الإشاعة والحرب النفسية : 45 .
(2) هذا في عام 1426هـ على جسر الأئمة الذي يربط منطقة الأعظمية بمنطقة الكاظمية .
(3) راجع القصة في صحيح البخاري 6/127 ( 4750 ) ، وصحيح مسلم 8/112 ( 2770 ) ( 56 ) . وانظر : الرحيق المختوم : 245 – 247 .
(4) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6477 ) ، ومسلم 8/224 ( 2988 ) ( 50 ) من حديث أبي هريرة .
(5) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6478 ) من حديث أبي هريرة .
(6) تيسير الكريم الرحمان : 190 .
(7) صحيح مسلم 1/22 .
(8) أخرجه : مسلم 8/10 ( 2564 ) ( 32 ) من حديث أبي هريرة .
 
[align=center] وجوب حفظ اللسان [/align]

أخي المسلم الكريم اعلم أنَّ مَن حَفِظَ لِسَانَهُ قَلَّ خطأهُ ، وندر عثاره وكان أملك لزمام أمره وأجدر ألا يقع في محذور ، وقد بشر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من يضمن ذلك وضمن له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الجنة في قوله : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة )) وفي رواية أيضاً : (( من توكل لي ما بين رجليه ، وما بين لحييه توكلت له بالجنة )) (1) .
فعلى هذا ينبغي لكل مكلف أنْ يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة ، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ، فالسنةُ الإمساك عنه لأنَّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه ، وذلك يحصل كثيراً للكثير من الناس .

فالمسلم إذا استقام لسانه استقامت جوارحه ، وأما من أطلق عنان ذلك الأمر ، ودخل لسانه في معصية الله ، وخاض في أعراض الناس ؛ فإنَّ جوارحه ستعصي وتنتهك حرمات الله ، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( إذا أصبح ابن آدم ، فإنَّ الأعضاء كلها تُكفِّر(2) اللسان فتقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا )) (3) .

أخي المسلم الكريم ، تذكّر دائماً وقوفك عند الله وأنت عريان ، فلا تطلق لسانك ، وكن عليه رقيباً .
اللسان دليل على كمال عقل الإنسان أو نقصانه ، فمن أفلت لسانه دل على نقصان عقله فأكثر الناس كلاماً ولغواً هم أقلهم عقولاً ، تمعّن جيداً فالأمر جد خطير ؛ لأنَّه متعلق إما بدخول الجنة أو النار ، وهذا ما نرجوه ، وهو العمل على ما يدخل الجنة ، وتجنب ما يدخل النار . اللسان يدخل الإنسان الإسلام بكلمة ، ويخرج منه بكلمة ، ويدخل بذلك النار . تنبه دائماً أنَّ كل كلمة وكل لفظة مسجلة ، كم يجلس الإنسان في مجالس ، وفي أكثر المجالس يأتون بإنسان ميت ينهشون بلحمه يأكلون أخاهم ميتاً ، نعم من يغتاب أخاه المسلم كمن يأكل لحم أخيه ميتاً ، فالمسلم له حرمة ، وحرمته أعظم من حرمة الكعبة فقد روى ابن ماجه (4) من حديث عبد الله بن عمر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : (( ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأنْ نظن به إلا خيراً )) .

تذكّر أخي المسلم كم إنساناً تكلمتَ فيه ؟ وكم إنساناً طعنتَ فيه ؟ كل هؤلاء سوف يكونون خصماءك عند الله عز وجل ، نعم سيكونون خصماءك يوم القيامة ، فهذا أخوك المسلم تغتابه وتتكلم فيه وتطعن به ، ولا تظنه سيكون خصمك يوم القيامة ، أتظن أنَّ الله سيتركك ؟ لا : إنَّ الله لن يتركك ؛ لأنَّ الله أعدل العادلين ينصف المظلومين من الظالمين . فتنبه دائماً أنَّ الكلمة إذا خرجت فهي مكتوبة لك أو عليك ؛ فإياك وإياك أنْ تتكلم إلا وتفكر هل سيكتب لك أو عليك ؟ والسلامة لا يعدلها شيء فإنْ لم تعرف أنَّ ما تتكلم به خيراً أو شراً فعليك بالصمت ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( من صمت نجا ))(5) فانتبه دائماً للسانك قال تعالى : (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) [ الإسراء : 36 ] يقول عبد الله بن مسعود : (( والله الذي لا إله غيره ما من شيء أحوج إلى سجن من لسان )) (6) ، وهذا ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن كان يقول : (( قل خيراً تغنم ، أو اصمت تسلم قبل أن تندم )) (7) .
أخي المسلم الكريم ، تمعن في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله وانظر كيف أنه كان كثير الصمت ، فهذا نبينا الأعظم رسولٌ ونبيٌّ وكانت هذه صفته ، وكان الأعرابيُّ يدخل المسجد فلا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة كلامه ، ولا من جلسته ولا من مكانه ، وهذا دليل على مزيد تواضعه صلوات الله وسلامه عليه .
أخي المسلم الكريم ، تمعن في قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حينما قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) (8) هكذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنَّ الصمت والسلامة لا يعدلهما شيءٌ ، فأنت إذا تكلمت إما لك وإما عليك قال تعالى : (( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ )) [ الانفطار : 10 - 11 ] فاحرص دائماً أنْ تقول قولاً سديداً ؛ لأنَّه ليس هناك كلام يذهب سدىً فأنت تتكلم بكلام إما يسخط الله فيكتب عليك ، وإما من رضوان الله فيكتب لك .
فعليك دائماً أنْ تتنبه إلى لسانك حتى لا يوردك الموارد ، فهذا أبو بكر الصديق المبشر بالجنَّة ، وصاحب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالغار يشير إلى لسانه ويقول : (( هذا أوردني
الموارد )) (9) فإذا كان هذا حال لسان أبي بكر ، ذلك اللسان الذاكر الحامد المسبح ، الآمر بالمعروف ، الناهي عن المنكر ، الناصر لدين الله ، المصدِّق لرسول الله ، فما حال ألسنتنا ، نسأل الله السلامة .


............................
( ) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6474 ) و8/203 ( 6807 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه .
(2) تكفر : بتشديد الفاء المكسورة أي تتذلل وتتواضع له من قولهم : كفر اليهودي إذا خضع مطأطأ رأسه ، وانحنى لتعظيم صاحبه . تحفة الأحوذي 7/74-75
(3) أخرجه : ابن المبارك في الزهد ( 1012 ) ، والطيالسي ( 2209 ) ، وأحمد 3/95 ، والترمذي ( 2407 ) ، وأبو يعلى ( 1185 ) من حديث أبي سعيد الخدري .
(4) برقم ( 3932 ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/159 و177 ، والترمذي ( 2501 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه .
(6) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " ( 864 ) ، والطبراني ( 8744 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/134 .
(7) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " ( 1043 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/327 – 328 .
(8) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6475 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(9) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 287 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1093 ) .
 
[align=center]التخلق بالأخلاق الإسلامية :[/align]على كل مسلم ومسلمة أنْ يتخلقا بالأخلاق الإسلامية التي أمر الله بها عباده في القرآن الكريم وحث عليها النَّبيُّ الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنْ يستقيما عليها حتى يأتيهما الموت ، فالله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لطاعته وعبادته ، ووعدهم أحسن الجزاء إذا استقاموا عليها فوعدهم الله سبحانه وتعالى على التوفيق في الدنيا والإعانة على الخير ، ثم في الآخرة الجنة والفوز بالنعيم المقيم .

[align=center]التوبيخ والتعيير :[/align]واحذر أخي المسلم من التوبيخ والتعيير بالذنب ؛ فإنَّ ذلك مذموم ، وقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُثرّب الأمة الزانية مع أمره بجلدها ، فتجلد حداً ولا تعيّر بالذنب ولا توبّخ ؛ لذا فرّق أهلُ العلم بين النصيحة والتعيير ، ويقول الفضيل : (( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعيّر )) (: جامع العلوم والحكم 1/225 حديث ( 7 ) )
وهذا المعنى عظيم ، والفرق ظاهر بين النصيحة والتعيير ، وهو أنّ النصح يقترن
به الستر ، والتعيير يقترن به الإعلان ، وقد قيل : (( من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره )) .
 
السلام عليكم و رحمة الله
جزاك الله يا شيخنا الفاضل ، انا و الله احبك في الله ، كم ارتاح عندما اقرأ لك ، ادعو الله لك بالسداد و التوفيق و ان يغفر لك الله و لوالديك و لابنائك و لكل عائلتك و ان يحفظكم يا آل ماهر من كل سوء و ان يجعل مثواكم مثوى آل ياسر الفردوس ان شاء الله آمين آمين آمين يا رب العالمين
 
أخي الكريم ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أحبك الذي أحببتنا من أجله ، أسأل الله أن يحفظك ويرفع قدرك ويعلي شأنك .
 
[align=center]الـزنا [/align]

إنَّ من أعظم حُرم المسلم على المسلم العرض ، ومن ذلك الزنا ، وأنا لن أتكلم عن هذه الجريمة العظمى من بابها الواسع ، بل سأتكلم عنها من جانب أنها جريمة عظمى بحق أخيك المسلم .
ولو لم يكن في هذه الجريمة إلا تدنيس العرض والشرف ونزع شعار الطهر والعفاف والفضيلة لكفى هذه الجريمة سوءاً . ثم إنَّ صاحب هذه الجريمة يُكسَى ثوب المقت بين الناس . وجريمة الزنا تشتت القلب وتمرضه إن لم تُمِتْهُ ، وهذه الجريمة تفسد نظام البيت وتهز كيان الأسرة وتقطع العلاقة الزوجية ، ثم يتعرض الأولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه التشرد والانحراف والجريمة .
ثم إنَّ في هذه الجريمة ضياعاً للأنساب واختلاطها وتمليك الأموال لغير أصحابها عند التوارث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يخلط النسب حينما أراد رجل أنْ يطأ جارية ، وكانت حاملاً فقد روى الإمام مسلم في صحيحه (1) من حديث أبي الدرداء ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أنه أُتي بامرأة مجحٍ(2) على باب فسطاط فقال : (( لعله يريد أنْ يلمَّ بها ؟ )) فقالوا : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد هممتُ أنْ ألعنه لعناً يدخُلُ معه قبرَه ، كيف يورثه وهو لا يحلُ له ؟ كيف يستخدمُه وهو لا يحلُ له ؟ )) .
وإنَّ من أعظم الزنا وأشده الزنا بحليلة الجار قال ابن القيم : (( وأعظم أنواع الزنا أنْ يزني بحليلة جاره ، فإنَّ مفسدة الزنا تتضاعف ما ينتهكه من الحرمة ، فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها ؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه ، وتعليق نسب غيره عليه ، وغير ذلك من أنواع أذاه فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل ، فإنْ كان زوجها جاراً له انضاف إلى ذلك سوء الجوار )) (3) .
وقد ذكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من أكبر الكبائر : (( أنْ تزاني حليلة جارك )) (4).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه )) (5).
وكذلك إنَّ من أشد الزنا الزنا بنساء المجاهدين في سبيله ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم :
(( حرمةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى )) (6).

.....................................
(1) صحيح مسلم 4/160 ( 1441 ) ( 139 ) .
(2) هي الحامل التي قربت ولادتها .
(3) موارد الضمآن 5 / 108 ( 21 ) .
(4) أخرجه : البخاري 6/22 ( 4477 ) ، ومسلم 1/63 ( 86 ) ( 141 ) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(5) أخرجه : مسلم 1/49 ( 46 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(6) أخرجه : مسلم 6/42 ( 1897 ) ( 139 ) و43 ( 1897 ) ( 139 ) و( 140 ) من حديث بريدة ابن الحصيب رضي الله عنه .
 
صفات المؤمنين والمؤمنات :
تذكر أخي المسلم دائماً صفات المؤمنين حتى تتحلى بها ؛ فمما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) [ التوبة :71 ] .
فهذه هي صفات المؤمنين والمؤمنات ، وهذه هي أخلاقهم ، بعضهم أولياء بعض لا حقد ولا حسد ولا نميمة ، ولا غش ولا خداع ولا خيانة ولا تنابز بالألقاب ، ولا غير ذلك مما يؤذي المسلم أو المسلمة مما يسبب الشحناء والبغضاء والعداوة والفرقة . بل هم أولياء يتحابون في الله ويتناصحون بكل خير ، ولذلك هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما بينهم , وبهذا تصلح مجتمعاتهم وتستقيم أحوالهم .
 
[align=center]التحذير من أذية الجار :[/align]

واحذر أخي المسلم من أذية جارك فإنَّ للجار حقوقاً ، وقد وصى الله بالجار فقال في كتابه : (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )) [ النساء : 36 ] وصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه )) (1) .
وقال : (( يا أبا ذر ، إذا طبخت مرقة فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك )) (2) ، وقال : (( لا يمنع جارٌ جاره أنْ يغرز خشبة في جداره )) (3) .
وقال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت ))(4) .
وقد حذرنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أذية الجار ، فقال : (( والله لا يؤمنُ ، والله لا يؤمنُ ، والله لا يؤمن ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جارُه بوائقَه ))(5) .
مما تقدم يتبين لنا منـزلة الجار في نظر الإسلام وأنَّ ما نراه عند كثير من الناس الآن من الذين لا يهتمون بحق الجوار ، ولا يأمن جيرانهم شرورهم فتراهم دائماً في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق ، وإيذاء بالقول والفعل ، كل هذا مخالف لما جاء به القرآن والسنة الصحيحة ، وإنَّ ما نراه من ذلك موجبٌ لتفكك المسلمين ، وتباعد قلوبهم وإسقاط بعضهم حرمة بعض .
وعلى المسلم إذا ابتلي بجار سوء أنْ يصبر عليه ، فإنَّ صبره سيكون سبب خلاصه منه ، فقد جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له : (( اصبر )) ثم قال له في الثالثة أو الرابعة : (( اطرح متاعك )) في الطريق فطرحه فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك ؟ فيقول : آذاني جاري فيلعنون جاره حتى جاءه وقال له : (( رد متاعك إلى منْزلك فإني والله لا أعود )) (6) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصدق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال رسول الله : (( لا خير فيها ، وهي من أهل النار ، وقال : وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار من الأقط ولا تؤذي أحداً ، فقال رسول الله : هي من أهل الجنة ))(7) . مما تقدم من نصوص الكتاب والسنة نعلم كيف عني الإسلام بالجار عناية عظيمة ؛ إذ حث على الإحسان إليه بالقول والفعل وحرم أذاه بالقول والفعل ، وجعل الإحسان إليه ومنع الأذى عنه من خصال الإيمان ، ونفى الإيمان الكامل عن من لا يأمن جاره شَرّهُ ، وأخبر أنَّ خير الجيران عند الله خيرهم لجاره .

...............................
( ) أخرجه : البخاري 8/12 ( 6015 ) ، ومسلم 8/37 ( 2625 ) ( 141 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه .
(2) أخرجه : مسلم 8/37 ( 2625 ( م ) ) ( 142 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(3) أخرجه : البخاري 3/173 ( 2463 ) ، ومسلم 5/57 ( 1609 ) ( 136 ) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه ، وانظر بلا بد مسند الإمام الشافعي 3/224-225 ( 1494 ) مع تعليقي عليه .
(4) أخرجه : البخاري 8/39 ( 6136 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(5) أخرجه : البخاري 8/12 ( 6016 ) من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه .
(6) أخرجه : البخاري في الأدب المفرد ( 124 ) ، وأبو داود ( 5153 ) ، وابن حبان ( 520 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(7) أخرجه : أحمد 2/440 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 119 ) ، وابن حبان ( 5764 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
 
السلام عليكم و رحمة الله

جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل – وحفظك من كل سوء - اسمح لي بإضافة هذه الأحاديث عن الجار:

- وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة‏"‏ ‏(‏‏(‏متفق عليه‏)‏‏)‏‏.‏

- وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يمنع جار جاره ان يغرز خشبة في جداره‏"‏ ثم يقول أبو هريرة‏:‏ ما لي أراكم عنها معرضين ‏!‏ والله لأرمين بها بين أكتافكم‏.‏ ‏(‏‏(‏متفق عليه‏)‏‏)‏‏.‏

- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره‏"‏ ‏(‏‏(‏رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏)‏‏)‏‏.‏
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيراً ونفع بكم وستر عليكم
 
عودة
أعلى