أحمد الطعان
مستشار
بسم الله الرحمن الرحيم
دروس غزاوية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
( 1 )
يتحدث الكثيرون أن حرب غزة كشفت كثيراً من العمالة التي كانت متسترة بالوطنية أو السلام أو غير ذلك ، وأنا أستغرب ذلك لأن العمالات والخيانات مكشوفة منذ عقود وعقود عديدة ، وإذا كنا لم نكتشف ذلك إلى الآن فهذه مصيبة أخرى . مشكلتنا أننا ننسى فحرب لبنان ، وحروب الخليج العديدة ، ومن ثم غزو أفغانستان والعراق ، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية في أوسلوا ، ومسلسل التنازلات المستمر ، كل ذلك نسيناه ، إن مسلسل الخيانات والمؤامرات مكشوف ومفضوح ولا يحتاج إلى حرب غزة الحالية فقد مرت على هذه الأمة غزات وهزات .
الشيء الذي يمكن أن يقال هنا هو الخيانة سايقاً كانت بطريقة دبلوماسية أكثر، أما في هذه الأزمة فقد أصبح "اللعب على المكشوف " على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي . فلم يعد حسني باراك - لا بارك الله فيه - يشعر بالخجل وهو يظهر على الشاشة على أنه الحليف الأول لإسرائيل في هذه الحرب ، فهو يتحكم بمعبر رفح لمنع الإمدادات عن الفلسطينين ، بينما إسرائيل تستخدم أعنى ما لديها من أسلحة . كل البشر يطالبون بفتح معبر رفح - البشر فقط - لكن مبارك دمه بارد وثقيل ، ووجهه سميك ، وجلده صفيق فهو لا يرى دماء الأطفال، والأشلاء المنثورة في كل مكان ، وآهات وصرخات الأمهات ، وإذا رآها فهي لا تعني له شيئاً .
لقد كُتبت في هذا الرجل - إن كان رجلاً - في الصحف والمجلات والإنترنت آلاف الصفحات ولو قام قائم بجمعها وتبويبها لصنع خيراً ، وذلك لتكون سيرة ذاتية بحق لهذا الممسوخ لتكون لعنة التاريخ والأجيال والأمم لصيقة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن ماذا يضيره ذلك وهل تهمه صورته في التاريخ وهل يأبه لما ستتحدث به الأجيال المقبلة.
( 2 )
الحكام العرب يتوارثون فيروسات الخيانة والغدر ، ولقد حقنهم الاستعمار بلقاحات ضد الكرامة ، وضد الشهامة ، وضد النخوة ، فلا تؤثر فيهم المناظر المؤلمة ، ولا تجرح لهم إحساساً ، ولا تلامس لهم شعوراً ، ولعلهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بمشاهدة هذه المناظر ، إن منظر أشلاء الأطفال ودماؤهم وصرخاتهم وآهات النساء مقرفة بالنسبة لهم ، إنهم يعكفون على أفلامهم الإباحية وسهراتهم المجونية فهم في واد والشعب في واد آخر ،
إنهم كالدمى المتحركة ، شخصيات كرتونية تتحكم بها اليد الأمريكية والصهيونية على مبدأ إفعل ولا تفعل ، فنجد كل واحد منهم مشغول يكبح شعبه، وليس لديه أي وقت ليتفرغ لغزة ، وماله ولغزة إن عينه ساهرة على الكرسي ، وزبانيته مشغولة بالقمع والاعتقالات والتجويع والسلب والنهب، ولذلك من العبث أن ننتظر من هؤلاء شيئاً يخدم الأمة إن على المستوى القريب أو البعيد ، إن على المستوى الواقع أو الأمل . فإذ1 كان خمسة آلاف جريح وأكثر من ألف شهيد، وآلاف المشردين والمُعدمين لا تستحق منهم أن يجتمعوا ليتداولوا وليتحاوروا فماذا يُنتظر منهم إن اجتمعوا .
( 3 )
حين خرج الاستعمار تحت ضربات الشعوب العربية والإسلامية، واضطر أن يغادر بلادنا مهزوماً مدحوراً، فكر بطريقة أخرى للاستعمار، وبينما نحن كنا مشغولين بفرحة الاستقلال والتحرير كان الاستعمار قد أحكم خطة جديدة ليظل جاثماً على صدورنا فترة أطول دون أن نشعر ، ونجحت الخطة .
وتتمثل الخطة في مقولة أحد قادة الاستعمار الفرنسي للجزائريين حين خرجت فرنسا من الجزائر: أيها الجزائريون تريدون الاستقلال حسناً ؟! تريدون منا الخروج حسناً ؟! سنخرج من الباب وندخل من النافذة .
وحين خرجت جحافل المستعمرين من بلادنا واحتفلنا بالجلاء والاستقلال حقق ذلك لدينا كثيراً من الرضا النفسي ، والشعور بالنصر ، فوضعت الشعوب سلاحها ، وما كان لها أن تضعه ، لأن عدو الداخل أشد خطرً وفتكاً من العدو الخارج ألم يقل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة الأحزاب : هل وضعتم السلاح ؟ قال : نعم قال جبريل : فإنا لم نضعه إذهب إلى هؤلاء وأشار إلى بني قريظة . فأوعز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . وكان عقاب بني قريظة قاسياً أزعج إخوانهم العلمانيين المعاصرين اليوم، ولطالما تباكوا عليهم وندبوا مصيبتهم ، ولكن عقاب بني قريظة كان مجدياً وناجحاً فقد خرس اليهود بعد ذلك قروناً طويلة ولم تقم لهم قائمة ، حتى استنعجتنا الأمم فتجرؤوا علينا اليوم .
لقد نجح الاستعمار إذن في إيجاد البديل " من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، مسوحهم مسوح الحملان، وقلوبهم قلوب الذئاب " . وأشعرنا عدونا بالاستقلال ، فرضينا نحن بذلك ، وقد حصل هو مصالح عديدة :
الأولى : أخرج جنوده عن ساحة الخطر وأعادهم إلى بلادهم .
والثانية : أوهمنا بالتحرر والاستقلال وأرضانا بالصورة الظاهرة لذلك، فوضعنا السلاح قانعين مطمئنين .
الثالثة : تصله مكاسبه وثرواته ، وحصته كاملة غير منقوصة، دون أن يقدم بإزائها خسارة تذكر ، مغانم بلا مغارم !! .
الرابعة : جعل بلادنا أسواقاً لمنتجاته وبضائعه ، وأفواهنا مستهلكة لمأكولاته ومشروباته .
الخامسة : جعل بلادنا دائماً متوترة ومتنافرة بسبب الانفصام الحاصل بين الحكام والمحكومين .
السادسة : وقد خضع هؤلاء الحكام خضوع الرقيق لسيده فهم مجرد ولاة ومنفذين ومطيعين ومخلصين لأسيادهم المستعمرين إلا أن أسماءهم فقط مختلفة فبدلاً من غورو وجورج وبطرس نجد حسني وعبد الله وزين العابدين .
( 4 )
ومن هنا لا بد من حمل السلاح من جديد لكي نتخلص من هؤلاء الذين يخدمون الاستعمار أكثر من الاستعمار المباشر نفسه ، إنهم يكبحون الشعوب باسم الوطنية أو القومية أو غير ذلك من الشعارات الجوفاء، إن ولاءهم كاملٌ لأعداء هذه الأمة، وهم حريصون كل الحرص على إزهاق روح التحرر فيها ، فلا يسمحون بأي بصيص من نور أو أمل للحرية أو النهضة ، وقد أعدّهم أسيادُهم الأوربيون لذلك إعداداً جيداً ثقافياً وتكتيكياً ومادياً فهم إذا كانوا متخلفين في كل شيء إلا أنهم متقدون في عدة فنون :
- فن المراوغة المكيافللية فهم يبتسمون على الشاشات، ويضربون شعوبهم في معتقلاتها بأيدي من حديد .
- وهم يتظاهرون بالقومية والوطنية ، وتُرفع لذلك الشعارات الطنانة، ولكنهم يبعثون بثروات الشعوب لأعداء هذه الأمة .
- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها ، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون ، ويبنون المساجد ، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك ، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها ، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد ، والجهل والمرض ، والجوع والقمع والكبت .
- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً ، ويلبسونهم ألبسة النخبة ، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية ، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة ، وجببهم العريضة ، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً . أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود ، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان ، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة ، واستفراغ الغصات المحزونة .
( 5 )
ولذلك فالحكام العرب اليوم هم مجرد ولاة وخدم ينفذون الأوامر بمجرد الإشارة ولا حاجة للتصريح ، وهم لا يفكرون بشعوبهم ، ولا يعيشون معهم، ولا يهمهم إن كنت هذه الشعوب جائعة أم جاهلة أم مُضطهدة ، أو لها مستقبل أو لها تاريخ ، لأن الهم الأكبر بالنسبة للحكام المتخاذلين - وأرى أن هذه الكلمة قليلة بحقهم لأنهم، لم يكونوا في أي يوم حريصين على مصالحها ومستقبلها - الهم الأكبر هو الحفاظ على الكرسي والكراسي الوريثة ، له ولذريته ولحاشيته وزبانيته المقربين .
ولذلك تجد أن الإبداع الوحيد في بلادنا العربية والذي يتميز به الحكام العرب عن بقية حكام العالم هو قدراتهم الفائقة في اختراع وسائل الكبت والتعذيب والترويع والاستبداد والتجهيل، ولو كانت هناك جوائز تُعطى لمثل هذا اللون من الإبداع فأعتقد أن حكامنا هم أحق الناس به .
ولا شك أن من لوازم هذه التميز هو قدراتهم النادرة على الخداع والتضليل والكذب، فيعكسون الصورة الجهنمية الحقيقية لهم إلى صورة فردوسية مزيفة، إنها في الحقيقة وصية مكيافللي لتلاميذه النخلصين ، "" يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه "" . ([1]) ويضيف الأستاذ مكيافللي "" ولكن على الحاكم في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد "" ( [2]) .
ولذلك نجد الحكام يحضرون المناسبات الدينية وإلى جوارهم أصحاب العمامات السلطانية يسبحون بحمدهم ويباركون جهودهم ، ويدعمون جبروتهم ، إن فلسفة مكيافللي وكتابه الأمير قد وجد صداه في حكامنا " الميامين " فقد حفظوه عن ظهر قلب، لأنه كتابهم المقدس ، وقد نفذوا تعاليمه بإحكام وأمانة .
( 6 )
ومن هنا فالحديث الدائر منذ زمن عن مشروعية الخروج على الحكام ، وهل هم كفرة أم مسلمين أم منافقين أم شياطين أم سعادين ؟! لا أرى أنه سار في الطريق الصحيح ، لأن حكامنا يجب الخروج عليهم حتى لو أقاموا الصلاة وأدو الزكاة وحجوا إلى بيت الله الحرام، لأن هذه المظاهر الدينية لا تشكل خطراً على مصالحهم، ولا مصالح أسيادهم، بل لعلها تعزز أهدافهم وغاياتهم حين تتحول إلى شكليات وحركات خالية من المضامين الجوهرية.
إن الحكام العملاء والمتآمرين على واقع الأمة ومستقبلها يجب الخروج عليهم، ورفع السيف في وجوههم، لأنهم خانوا أمتهم، وسرقوا خيراتها، ونهبوا ثرواتها ، ودمروا شعوبهم،، وحطموا مبدعيها ، وكبحوا طموحاتها ، وانحازو إلى أعدائها وتعاونوا معهم في القتل والتجويع والتجهيل والقمع والاضطهاد، لكي تظل الأمة ضعيفة خانعة مُستذَلّة لا تجد أي نافذة للنهوض والتقدم .
وكم هم مخطئون أولئك الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قَالَ : (( إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ )) قَالوا : يَا رَسُول اللهِ ، ألا نُقَاتِلهم ؟ قَالَ : (( لا ، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ )) رواه مسلم .
لأن إقامة الصلاة تعني : شيوع العدالة ، والأمانة والوحدة ، والاعتصام بحبل الله المتين ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، وتعزيز الأخلاق الفاضلة ، وكبح المفسدين ، وصدّ المعتدين ، وحراسة الثغور ، وحماية البلاد ، وتوثيق عرى الإيمان ، وعمارة الأرض بالخير، والعقل بالعلم، والمجتمع بالفضيلة، وليس المقصود بإقامة الصلاة هو شكلها الظاهر ، وحركاتها الرياضية، فهذه يفعلها المانفقون وغيرهم ما دام ذلك يعود عليهم ببعض المكاسب والمصالح، وقد يسأل هنا سائل أو يعترض معترض بأن السياق في نص الحديث يُفهم منه أن طاعة الحكام واجبة حتى وإن كانوا ظلمة وعصاة وفساقاً وغير ذلك ، وقد يستدل المعترض لذلك بحديث " "" تسمع و تطيع للأمير فإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع "" شعب الإيمان - البيهقي - (ج 6 / ص 62) . فأقول هنا لكل هؤلاء الذين يستخدمون الدين لإسكات الثائرين ، ويوظفون النصوص لكم الأفواه وتثبيط الهمم ، إن الإسلام برئ ومن هذا الفهم السقيم ، والتوظيف اللئيم، لأن مقصد الحديث هنا هو الحث على التضحية بالمصالح الشخصية والفردية، لأجل مصالح العامة الجماعية، وذلك حين يكون الحكام فساقاً ومنحرفين في سلوكهم الشخصي وذواتهم كأفراد ، فهذا لا يضيرنا ما داموا يقيمون الصلاة ، ويحكمون بالعدل ، ويقمعون الظلم ، ويدافعون عن مصالح الأمة ويسهرون على تحقيق أمنها، ويحرصون على خيرها وبرها، وتحقيق رسالتها في التقدم والحضارة والخيرية ، عندئذ ما لنا ولهم إذا كان فسقهم في داخل قصورهم فحسابهم عند ربهم .
كذلك بالنسبة لحديث وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ، فهو لمن يظلمه الحاكم بشكل شخصي وفردي لسبب من الأسباب ، أو لظنٍّ من الظنون ، أو لتوهمٍ أو وشاية ، ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر ويتجاوز ويتنازل عن حقه درءاً للفتنة العامة ، ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل المصلحة العامة ، وذلك حين تكون الأمة رخيّة هنيّة مزدهرة آمنة مطمئنة في عمومها ، وحكامها حراس أمناء لمصالحها ، وحماة أشداء لأمنها ودينها وحضارتها .
أما والأمة اليوم يُنكِّل بها حكامُها ، فالشعوب مضطهدة جائعة ، والمعتقلات غاصّة ممتلئة ، والخيرات منهوبة ، والثروات مسروقة ، وأعداؤنا يقاسموننا على رغيف الخبز ، وحفنة البرغل، والطاقات مهدرة بل مقموعة ، وأهل الفساد والانحراف يمرحون، وأهل الصلاح والهدى مُستذلّون، ودماء المسلمين تسيل في كل مكان ، وأشلاء أبنائهم ونسائهم تُدفن تحت أطنان من القنابل والدمار، أما والأمة كذلك : واقعٌ مظلم ، ومستقبلٌ مجهول ، وإبداعٌ مقتول ، وعقولٌ بائسة، وأرواحٌ يائسة ، فكيف لنا أن نسكت ؟!
على أصحاب العمائم السلطانية أن يخرسوا ويكفوا عن التصفيق والتمجيد ليحصلوا على بعض الفتات وكفاهم كذباً ونفاقاً وتحريفاً للدين فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي حرر العرب من ترهات الجاهلية والوثنية والذلة والاستكانة والفرقة ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور لا يشرّع للخنوع ، ولا ينصح بالخضوع للجبابرة والعتاة لأنه هو القائل صلى الله عليه وسلم : " وقد سُئل أيُّ الجِهادِ أفضلُ ؟ قَالَ : (( كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ )) رواه النسائي بإسناد صحيح . وللحديث بقية .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان
– كلية الشريعة – جامعة دمشق
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) : انظر لمكيافللي – الأمير ص 136 ، 159 ، 169 ، 94 ، 101 ، 103 ، 147 ، 148 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 29 والغرب والعالم – كافين رايلي ص 13 .
([2]) انظر : مكيافللي _ الأمير ص 147 ، 140 ، 149 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 30 .
دروس غزاوية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
( 1 )
يتحدث الكثيرون أن حرب غزة كشفت كثيراً من العمالة التي كانت متسترة بالوطنية أو السلام أو غير ذلك ، وأنا أستغرب ذلك لأن العمالات والخيانات مكشوفة منذ عقود وعقود عديدة ، وإذا كنا لم نكتشف ذلك إلى الآن فهذه مصيبة أخرى . مشكلتنا أننا ننسى فحرب لبنان ، وحروب الخليج العديدة ، ومن ثم غزو أفغانستان والعراق ، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية في أوسلوا ، ومسلسل التنازلات المستمر ، كل ذلك نسيناه ، إن مسلسل الخيانات والمؤامرات مكشوف ومفضوح ولا يحتاج إلى حرب غزة الحالية فقد مرت على هذه الأمة غزات وهزات .
الشيء الذي يمكن أن يقال هنا هو الخيانة سايقاً كانت بطريقة دبلوماسية أكثر، أما في هذه الأزمة فقد أصبح "اللعب على المكشوف " على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي . فلم يعد حسني باراك - لا بارك الله فيه - يشعر بالخجل وهو يظهر على الشاشة على أنه الحليف الأول لإسرائيل في هذه الحرب ، فهو يتحكم بمعبر رفح لمنع الإمدادات عن الفلسطينين ، بينما إسرائيل تستخدم أعنى ما لديها من أسلحة . كل البشر يطالبون بفتح معبر رفح - البشر فقط - لكن مبارك دمه بارد وثقيل ، ووجهه سميك ، وجلده صفيق فهو لا يرى دماء الأطفال، والأشلاء المنثورة في كل مكان ، وآهات وصرخات الأمهات ، وإذا رآها فهي لا تعني له شيئاً .
لقد كُتبت في هذا الرجل - إن كان رجلاً - في الصحف والمجلات والإنترنت آلاف الصفحات ولو قام قائم بجمعها وتبويبها لصنع خيراً ، وذلك لتكون سيرة ذاتية بحق لهذا الممسوخ لتكون لعنة التاريخ والأجيال والأمم لصيقة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن ماذا يضيره ذلك وهل تهمه صورته في التاريخ وهل يأبه لما ستتحدث به الأجيال المقبلة.
( 2 )
الحكام العرب يتوارثون فيروسات الخيانة والغدر ، ولقد حقنهم الاستعمار بلقاحات ضد الكرامة ، وضد الشهامة ، وضد النخوة ، فلا تؤثر فيهم المناظر المؤلمة ، ولا تجرح لهم إحساساً ، ولا تلامس لهم شعوراً ، ولعلهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بمشاهدة هذه المناظر ، إن منظر أشلاء الأطفال ودماؤهم وصرخاتهم وآهات النساء مقرفة بالنسبة لهم ، إنهم يعكفون على أفلامهم الإباحية وسهراتهم المجونية فهم في واد والشعب في واد آخر ،
إنهم كالدمى المتحركة ، شخصيات كرتونية تتحكم بها اليد الأمريكية والصهيونية على مبدأ إفعل ولا تفعل ، فنجد كل واحد منهم مشغول يكبح شعبه، وليس لديه أي وقت ليتفرغ لغزة ، وماله ولغزة إن عينه ساهرة على الكرسي ، وزبانيته مشغولة بالقمع والاعتقالات والتجويع والسلب والنهب، ولذلك من العبث أن ننتظر من هؤلاء شيئاً يخدم الأمة إن على المستوى القريب أو البعيد ، إن على المستوى الواقع أو الأمل . فإذ1 كان خمسة آلاف جريح وأكثر من ألف شهيد، وآلاف المشردين والمُعدمين لا تستحق منهم أن يجتمعوا ليتداولوا وليتحاوروا فماذا يُنتظر منهم إن اجتمعوا .
( 3 )
حين خرج الاستعمار تحت ضربات الشعوب العربية والإسلامية، واضطر أن يغادر بلادنا مهزوماً مدحوراً، فكر بطريقة أخرى للاستعمار، وبينما نحن كنا مشغولين بفرحة الاستقلال والتحرير كان الاستعمار قد أحكم خطة جديدة ليظل جاثماً على صدورنا فترة أطول دون أن نشعر ، ونجحت الخطة .
وتتمثل الخطة في مقولة أحد قادة الاستعمار الفرنسي للجزائريين حين خرجت فرنسا من الجزائر: أيها الجزائريون تريدون الاستقلال حسناً ؟! تريدون منا الخروج حسناً ؟! سنخرج من الباب وندخل من النافذة .
وحين خرجت جحافل المستعمرين من بلادنا واحتفلنا بالجلاء والاستقلال حقق ذلك لدينا كثيراً من الرضا النفسي ، والشعور بالنصر ، فوضعت الشعوب سلاحها ، وما كان لها أن تضعه ، لأن عدو الداخل أشد خطرً وفتكاً من العدو الخارج ألم يقل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة الأحزاب : هل وضعتم السلاح ؟ قال : نعم قال جبريل : فإنا لم نضعه إذهب إلى هؤلاء وأشار إلى بني قريظة . فأوعز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . وكان عقاب بني قريظة قاسياً أزعج إخوانهم العلمانيين المعاصرين اليوم، ولطالما تباكوا عليهم وندبوا مصيبتهم ، ولكن عقاب بني قريظة كان مجدياً وناجحاً فقد خرس اليهود بعد ذلك قروناً طويلة ولم تقم لهم قائمة ، حتى استنعجتنا الأمم فتجرؤوا علينا اليوم .
لقد نجح الاستعمار إذن في إيجاد البديل " من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، مسوحهم مسوح الحملان، وقلوبهم قلوب الذئاب " . وأشعرنا عدونا بالاستقلال ، فرضينا نحن بذلك ، وقد حصل هو مصالح عديدة :
الأولى : أخرج جنوده عن ساحة الخطر وأعادهم إلى بلادهم .
والثانية : أوهمنا بالتحرر والاستقلال وأرضانا بالصورة الظاهرة لذلك، فوضعنا السلاح قانعين مطمئنين .
الثالثة : تصله مكاسبه وثرواته ، وحصته كاملة غير منقوصة، دون أن يقدم بإزائها خسارة تذكر ، مغانم بلا مغارم !! .
الرابعة : جعل بلادنا أسواقاً لمنتجاته وبضائعه ، وأفواهنا مستهلكة لمأكولاته ومشروباته .
الخامسة : جعل بلادنا دائماً متوترة ومتنافرة بسبب الانفصام الحاصل بين الحكام والمحكومين .
السادسة : وقد خضع هؤلاء الحكام خضوع الرقيق لسيده فهم مجرد ولاة ومنفذين ومطيعين ومخلصين لأسيادهم المستعمرين إلا أن أسماءهم فقط مختلفة فبدلاً من غورو وجورج وبطرس نجد حسني وعبد الله وزين العابدين .
( 4 )
ومن هنا لا بد من حمل السلاح من جديد لكي نتخلص من هؤلاء الذين يخدمون الاستعمار أكثر من الاستعمار المباشر نفسه ، إنهم يكبحون الشعوب باسم الوطنية أو القومية أو غير ذلك من الشعارات الجوفاء، إن ولاءهم كاملٌ لأعداء هذه الأمة، وهم حريصون كل الحرص على إزهاق روح التحرر فيها ، فلا يسمحون بأي بصيص من نور أو أمل للحرية أو النهضة ، وقد أعدّهم أسيادُهم الأوربيون لذلك إعداداً جيداً ثقافياً وتكتيكياً ومادياً فهم إذا كانوا متخلفين في كل شيء إلا أنهم متقدون في عدة فنون :
- فن المراوغة المكيافللية فهم يبتسمون على الشاشات، ويضربون شعوبهم في معتقلاتها بأيدي من حديد .
- وهم يتظاهرون بالقومية والوطنية ، وتُرفع لذلك الشعارات الطنانة، ولكنهم يبعثون بثروات الشعوب لأعداء هذه الأمة .
- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها ، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون ، ويبنون المساجد ، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك ، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها ، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد ، والجهل والمرض ، والجوع والقمع والكبت .
- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً ، ويلبسونهم ألبسة النخبة ، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية ، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة ، وجببهم العريضة ، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً . أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود ، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان ، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة ، واستفراغ الغصات المحزونة .
( 5 )
ولذلك فالحكام العرب اليوم هم مجرد ولاة وخدم ينفذون الأوامر بمجرد الإشارة ولا حاجة للتصريح ، وهم لا يفكرون بشعوبهم ، ولا يعيشون معهم، ولا يهمهم إن كنت هذه الشعوب جائعة أم جاهلة أم مُضطهدة ، أو لها مستقبل أو لها تاريخ ، لأن الهم الأكبر بالنسبة للحكام المتخاذلين - وأرى أن هذه الكلمة قليلة بحقهم لأنهم، لم يكونوا في أي يوم حريصين على مصالحها ومستقبلها - الهم الأكبر هو الحفاظ على الكرسي والكراسي الوريثة ، له ولذريته ولحاشيته وزبانيته المقربين .
ولذلك تجد أن الإبداع الوحيد في بلادنا العربية والذي يتميز به الحكام العرب عن بقية حكام العالم هو قدراتهم الفائقة في اختراع وسائل الكبت والتعذيب والترويع والاستبداد والتجهيل، ولو كانت هناك جوائز تُعطى لمثل هذا اللون من الإبداع فأعتقد أن حكامنا هم أحق الناس به .
ولا شك أن من لوازم هذه التميز هو قدراتهم النادرة على الخداع والتضليل والكذب، فيعكسون الصورة الجهنمية الحقيقية لهم إلى صورة فردوسية مزيفة، إنها في الحقيقة وصية مكيافللي لتلاميذه النخلصين ، "" يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه "" . ([1]) ويضيف الأستاذ مكيافللي "" ولكن على الحاكم في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد "" ( [2]) .
ولذلك نجد الحكام يحضرون المناسبات الدينية وإلى جوارهم أصحاب العمامات السلطانية يسبحون بحمدهم ويباركون جهودهم ، ويدعمون جبروتهم ، إن فلسفة مكيافللي وكتابه الأمير قد وجد صداه في حكامنا " الميامين " فقد حفظوه عن ظهر قلب، لأنه كتابهم المقدس ، وقد نفذوا تعاليمه بإحكام وأمانة .
( 6 )
ومن هنا فالحديث الدائر منذ زمن عن مشروعية الخروج على الحكام ، وهل هم كفرة أم مسلمين أم منافقين أم شياطين أم سعادين ؟! لا أرى أنه سار في الطريق الصحيح ، لأن حكامنا يجب الخروج عليهم حتى لو أقاموا الصلاة وأدو الزكاة وحجوا إلى بيت الله الحرام، لأن هذه المظاهر الدينية لا تشكل خطراً على مصالحهم، ولا مصالح أسيادهم، بل لعلها تعزز أهدافهم وغاياتهم حين تتحول إلى شكليات وحركات خالية من المضامين الجوهرية.
إن الحكام العملاء والمتآمرين على واقع الأمة ومستقبلها يجب الخروج عليهم، ورفع السيف في وجوههم، لأنهم خانوا أمتهم، وسرقوا خيراتها، ونهبوا ثرواتها ، ودمروا شعوبهم،، وحطموا مبدعيها ، وكبحوا طموحاتها ، وانحازو إلى أعدائها وتعاونوا معهم في القتل والتجويع والتجهيل والقمع والاضطهاد، لكي تظل الأمة ضعيفة خانعة مُستذَلّة لا تجد أي نافذة للنهوض والتقدم .
وكم هم مخطئون أولئك الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قَالَ : (( إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ )) قَالوا : يَا رَسُول اللهِ ، ألا نُقَاتِلهم ؟ قَالَ : (( لا ، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ )) رواه مسلم .
لأن إقامة الصلاة تعني : شيوع العدالة ، والأمانة والوحدة ، والاعتصام بحبل الله المتين ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، وتعزيز الأخلاق الفاضلة ، وكبح المفسدين ، وصدّ المعتدين ، وحراسة الثغور ، وحماية البلاد ، وتوثيق عرى الإيمان ، وعمارة الأرض بالخير، والعقل بالعلم، والمجتمع بالفضيلة، وليس المقصود بإقامة الصلاة هو شكلها الظاهر ، وحركاتها الرياضية، فهذه يفعلها المانفقون وغيرهم ما دام ذلك يعود عليهم ببعض المكاسب والمصالح، وقد يسأل هنا سائل أو يعترض معترض بأن السياق في نص الحديث يُفهم منه أن طاعة الحكام واجبة حتى وإن كانوا ظلمة وعصاة وفساقاً وغير ذلك ، وقد يستدل المعترض لذلك بحديث " "" تسمع و تطيع للأمير فإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع "" شعب الإيمان - البيهقي - (ج 6 / ص 62) . فأقول هنا لكل هؤلاء الذين يستخدمون الدين لإسكات الثائرين ، ويوظفون النصوص لكم الأفواه وتثبيط الهمم ، إن الإسلام برئ ومن هذا الفهم السقيم ، والتوظيف اللئيم، لأن مقصد الحديث هنا هو الحث على التضحية بالمصالح الشخصية والفردية، لأجل مصالح العامة الجماعية، وذلك حين يكون الحكام فساقاً ومنحرفين في سلوكهم الشخصي وذواتهم كأفراد ، فهذا لا يضيرنا ما داموا يقيمون الصلاة ، ويحكمون بالعدل ، ويقمعون الظلم ، ويدافعون عن مصالح الأمة ويسهرون على تحقيق أمنها، ويحرصون على خيرها وبرها، وتحقيق رسالتها في التقدم والحضارة والخيرية ، عندئذ ما لنا ولهم إذا كان فسقهم في داخل قصورهم فحسابهم عند ربهم .
كذلك بالنسبة لحديث وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ، فهو لمن يظلمه الحاكم بشكل شخصي وفردي لسبب من الأسباب ، أو لظنٍّ من الظنون ، أو لتوهمٍ أو وشاية ، ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر ويتجاوز ويتنازل عن حقه درءاً للفتنة العامة ، ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل المصلحة العامة ، وذلك حين تكون الأمة رخيّة هنيّة مزدهرة آمنة مطمئنة في عمومها ، وحكامها حراس أمناء لمصالحها ، وحماة أشداء لأمنها ودينها وحضارتها .
أما والأمة اليوم يُنكِّل بها حكامُها ، فالشعوب مضطهدة جائعة ، والمعتقلات غاصّة ممتلئة ، والخيرات منهوبة ، والثروات مسروقة ، وأعداؤنا يقاسموننا على رغيف الخبز ، وحفنة البرغل، والطاقات مهدرة بل مقموعة ، وأهل الفساد والانحراف يمرحون، وأهل الصلاح والهدى مُستذلّون، ودماء المسلمين تسيل في كل مكان ، وأشلاء أبنائهم ونسائهم تُدفن تحت أطنان من القنابل والدمار، أما والأمة كذلك : واقعٌ مظلم ، ومستقبلٌ مجهول ، وإبداعٌ مقتول ، وعقولٌ بائسة، وأرواحٌ يائسة ، فكيف لنا أن نسكت ؟!
على أصحاب العمائم السلطانية أن يخرسوا ويكفوا عن التصفيق والتمجيد ليحصلوا على بعض الفتات وكفاهم كذباً ونفاقاً وتحريفاً للدين فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي حرر العرب من ترهات الجاهلية والوثنية والذلة والاستكانة والفرقة ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور لا يشرّع للخنوع ، ولا ينصح بالخضوع للجبابرة والعتاة لأنه هو القائل صلى الله عليه وسلم : " وقد سُئل أيُّ الجِهادِ أفضلُ ؟ قَالَ : (( كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ )) رواه النسائي بإسناد صحيح . وللحديث بقية .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان
– كلية الشريعة – جامعة دمشق
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) : انظر لمكيافللي – الأمير ص 136 ، 159 ، 169 ، 94 ، 101 ، 103 ، 147 ، 148 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 29 والغرب والعالم – كافين رايلي ص 13 .
([2]) انظر : مكيافللي _ الأمير ص 147 ، 140 ، 149 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 30 .