معاذ إحسان العتيبي
New member
- إنضم
- 23/09/2011
- المشاركات
- 17
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
أيا نفسُ طوبى لك فالمثوى بك؛ أيا نفسُ أجهشي بالبكاء فإنكَ عاشقة للهوى، مالكِ ولشدةِ عشقك فما أدري أأحسنتِ التصرفَ أم قد أسأتِ؟ يا نفسي قد حدثتني وأكثرتِ الحديثَ فإلامَ وعلاَّم؟
* إنَّ الهوى بحرٌ لن تستطلعَ بناظركَ آخره حتى تستطلْعه؛ فالآمالُ برَّاقـة، والأماني رقراقة، تستشفّ وتستجلب، تنتصرُ أو تستسلم، فالبشرى اسْمها إن هي ارتقت، والكبري وسْمها إن هي انتصرتْ.
وما النفسُ إلاَّ حيثُ يجعلها الفتى *** فإن أطمعتْ تاقتْ وإلاَّ تسلتِ
* ومن ذلك الهوى الذي لا منتهى له: رؤية أهل العلماء الأجلاء، ورجال أهل الدين الأخلاء، فذاك الهوى الذي يدومُ ما دامتِ السماوات والأرض وهو المعشوق الذي يسومُه أهل الأرض؛ فأنعم به من هوًى وعشقٍ.
وهذا المجلسُ يصفُ حالَ المجالسِ التي أعشقها، والتي تميلُ نفسي إليها، والتي أشتريها بأنفسِ الأثمانِ؛ فلا أرضى بالدنيَّة فيها لأنها "رأسُ مالي" وأصلُ "بقائي" وديمومةُ "أعمالي".
فبينما جلوسٌ إذ ألقى أحد الجلاَّسِ مسألةً أصوليةً فقهيةً ؛ فاستطلعَ كل واحدٍ منَّا أن يفيضَ من محفوظِ كنـزه، ومدفونِ فهمِهِ، فلما أجهشَتِ النفوسِ للإفاضةِ والإضاءةِ دخلَ داخلٌ ويكأننا بانتظاره...
فإذا بالحاضرين نظراتهم في (حدةٍ وإمعانٍ) من فجاءةِ الموقفِ، ويكأنه نورٌ أضاءَ بالمحلَّ فاستثبت، فلم يلبثْ واحد منَّا إلاَّ وقد بادرَ القيام وأسرع اللقيا، من صاحبُ هذا النور؟ أبحقٍ هو الشيخ (عبد الله بن جبرين)؟
أهذا الشيخُ الذي جاءتْ الفضائلُ فاستشرفتْ به، أهذا الشيخُ الذي لا يعرفُ وسمُ الهمَّة إلاَّ بذكره...
هذا العالمُ الجليلُ –واللَّه!- إن سمعتَ صوتَهُ احترت؛ أتخشع لرقَّة قولهِ؟ أو تصغي لنهلِ علمِهِ؟ إن سمعتَ صوتَه لا يُخالُ إليكَ إلاَّ ملكًا ينطقُ بفكيهِ أو جالسٌ بين كفيه؟ غير الذي كائنٌ عند كتفيه!
وقد قلتُ حينَ وفاةِ الشيخ الإمام في مقالةٍ أصلهُا للشيخ إحسان (أعَلَى مثل مشايخنا: ابن باز والألباني وابن عثيمين -والجبرين- نبكي؟ فلنبكِ على أنفسنا):
(أينما تراه تخفض عينيك ! ترى بالنظر إليه الزهد ! الورع ! التقوى ! الخشية ! هيبـة العلماء ! تراه وكأن سلفنا الماضي حاضر ! تراه وكأن خلفنا في هذا الزمن يضارع)؛ حاله:
أسرعَ الجالسونَ في السلامِ على الشيخِ كأنَّما هبوا من صيحةِ نذير، فقابلهم الشيخ بالحبِّ والحفاوةِ، والتعاملُ الأمثلِ بحالِ العلماء...فما ذلك عليهم بغريب!
ولكن..أدهشني موقفٌ رأيتُهُ بعينيَّ الناظرتين؛ موقفٌ تستجمعُ (التشبيهات) في وصفِهِ فلا تحسن، وتستكتبُ (الكنايات) في مدحِهِ فلا تسمِن، مرةً أصدِّق وأخرى أكذِّب؛ ما إخالُ الأبِ يبادرها بابنه! فكيف المعلِّم؟
كانَ هؤلاء الشبَّان يبادرون الشيخ بتقبيلِهِ في رأسه؛ والشيخُ صغيرُ الأُمَةِ كبيرُ الإمَّة يُقدَرُ عليه ولا يَقدِر؛ فالمحيِّ بالسلامِ يهوي برأسِهِ إلى سُفلٍ، والشيخ يبرِي بجسمه إلى علوٍ!
* ومعهودٌ أن الشيخ لا يستطيبُ لأحدٍ أن يقبَّل رأسه؛ ولكن لا حيلةَ للشيخ لمن طالَ عليه فقبَّل وأحبَّ الرأس!؛ حاله:
فالذي غرَّب العقلَ وغيَّبه: أن رفيقَ دربي (يحيـى) طويلُ القامة شديدُ الهامة، قد قبَّل رأسَ الشيخ من غير كللٍ ولا سآمة؛ وذلك لما وهبه الله من شدةٍ وطول، وهذا بعدَ مقاومَة الشيخ ألاَّ يفعلَ ذلك؛ فما كان منه –رحمه الله- إلاَّ أن تعلَّق بأكتافِ هذا الرجل وثابَ عليه وقبَّل رأسه! والشيخُ قد وهنَ منه العظمُ واشتعلَ الرأسُ شيبًا؛ ولكن مع حاله؛ فحالُهُ:
فاستعظمتُ وكبرتُ "الله أكبر" من هذا الصنيع؛ وما إخالي إلا أن الشيخ قال ذلك فهي السنة لمن صعدَ المكانَ العالي!
أحبتي في الله...
ما هذه الأخلاق التي حملتْ على "التواضعِ" و "احترام التلميذ" و "اتهام النفس بالتقصير" هذه المعاني وما تحملُه من طيَّات إنها والله لجليلة! وإنها وربي لأشبه بقول الإمام الشافعي رحمه الله: (أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه).
حينَ ذلكَ علمتُ معنى قول أبي يزيد البسطامي -إذ يحكي عن التواضع- قال: (هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالاً، ولا يرى في الخلق شرًا منه).
الله أكبر! ما أشبه الكرامَ بالكرام؛ وما أحسن الأقوال بالأفعال؛ قومٌ نذروا أنفسهم للـه جلَّ ذكره؛ إن ذكرتَهم ذكَّروكَ بالله؛ وإن غبتَ عنهم أنستَ بذكراهم؛ وحالهم:
تقوى الإلهِ ذخيرةٌ للموئِل *** والبرُّ خيرُ مطيةِ المتحمِّل
وحَالُهُم:
إذا نحنُ قلنا صدَّق القولَ فعلُنا *** وكمْ قائلٍ قولاً يكذِّبه الفعل!
* وهذا ما عهدتُهُ من الشيخ رحمه الله لا يقبل لبشرٍ أن يقبِّل رأسِهِ في حينِ زمانٍ: أهلُ العلم على ضربين:
1) مستطلبٌ؛ فذاكَ لم يعرفْ لمعنى التواضع نصيبًا، ولا عقِلَ أن [لكلِّ شيءٍ مطيةٌ، ومطيةُ العلمِ التواضع]، وعلامةُ طلبِهِ: أن تجدَ نفسَه قد جاءها غضضٌ من عدمِ صنيعِ ذلك.
2) متعفِّف؛ وهذا حال الأتقياءِ الأصفياءِ، والعجبُ من هؤلاء: أنهم يبادرونكَ الصَّنيعَ في هذا، فترى لسانكَ محجمًا عن وصفِ الحال، وترى قلبكَ مفزَعًا على الشيءِ المُحال، وكثيرٌ من هؤلاء من لا يقدِر على إحجامِ الغيـر فيستسلمُ لأيِّ أحد –وهذا معذورٌ، لأن كرههُ مانعُ الغُرور-.
زاويةٌ أخرى...
وأمرٌ آخرَ استعظمتُهُ كأنَّ الحال يحكي لنَا دروسًا سمعناها مرارًا وتكرارًا، إذ بي والشيخ على هيئةٍ رثةٍ وفي لباسٍ زهيدٍ تجمعُ ثيابُهُ الألوان كلها –وهذا مستقبحٌ في اللباس-؛ ولكنْ هؤلاءِ قومٌ عقِلوا معنى قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) فهنيئًا لنا بهم وهنيئًا لهم بأفعالهم.
يا من تشرف بالدنيا وطينتها *** ليس التشرف رفعَ الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم *** فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الله نعمته *** وذاك يصلح للدنيا وللدين
وقفةُ تأمل...
أتأمَّل أحيانًا ؛ لماذا عليَّ –لطلبِ العُلا- أن أتواضع؟ فبعضُ التواضعِ: استنـزالٌ للرتبْ، وهذا تناقضٌ فكيف أطلبُ السفلَ لمصلحةِ العلا؟
أشبهُ ذلك ما يكونُ بالذي ارتقى جبلاً يرى المخلوقاتِ بحجمِ النملِ والنحل! والمخلوقاتُ ترى الذي في رأسِ الجبلِ أقلَّ منها حجمًا! إلاَّ أنَّ الفرق بين الحالين: أن الأول ينظرُ إلى دونٍ، والأخرى إلى فُوقٍ، وهذا لا يغيِّر من الوصفِ شيئًا، إنما يزيدُ الأمر شُنئًا.
ما أشبهَ (تواضع الأتقياء) بحالِ رسول الله صلى الله عليهِ وسلم الذي رسمَ للخلقِ معنى التواضعِ وأثره؛ فهو القائدُ الذي كانَ يحملُ الترابَ مع أصحابِهِ يومَ الخندقِ حتى يغبـرَّ بطنُه! وهو رئيس الدولةِ الذي يركبُ الحمارَ ويطوفُ به البلادَ بل يردفُ معه معاذ! وهو الزوجُ المنشغلُ بالعلمِ والتعليمِ يكونُ في خدمةِ أهلهِ [يَخصِفُ نَعلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوبَهُ، َيَعمَلُ في بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم في بَيتِهِ]، تواضعٌ لا يفارقُه حضرًا وَلا سفرًا، يعرفه مِنه الغرِيب كَمَا يعرِفه القَريبُ، ويَناله الضَّعِيف كما يَنَاله القويُّ، فاللهم أسبغْ علينا بالاهتداءِ بهديهِ والاقتداءِ بفعله.
فهو القائل عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وهو القائل عليه الصلاة والسلام (من تواضع لله رفعه الله)؛ فصلواتُ الله وسلامه عليه.
ما أشبهَ (تواضعُ الأتقياء) بحالِ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكرام الذينَ عقِلوا معنى التواضعِ وحسنِ الخلق؛ فهذا أبو هريرةَ رضي الله عنه إمام المحدِّثينَ ووالي المدينة يحملَ الحطبَ الثقيلَ ويمرُّ في طرقِ المدينةِ يقول: (أفسحوا للأمير، أفسحوا للأمير)! وهذا الإمام عليُّ بن أبي طالبٍ يحملُ التمرَ لعياله يتحاملُ عليهِ الرعيَّة أن دعْ ذلك لنا فيقول (أبو العيالِ أحقُّ أن يحمِل) وهو الذي قال (يا طالبَ العلم، إنّ العلم ذو فضائلَ كثيرة، فرأسُه التواضع) اهـ.
ثم أقبلَ أخي إلى الشيخِ وهو صغيرُ العمرِ جدًا؛ بينه وبين الشيخ أكثر من ستين سنة! ولكن التواضع لا ينظرُ إلى الأعمارِ والحجمِ والمقدار؛ فما كانَ منه –رحمه الله- إلاَّ أن سارعَ في تقبيلِ رأسهِ...وما ذاكَ إلاَّ تذكارًا لي بقولِ رجل لبَكر بن عبد الله: عَلِّمني التواضع؟
فقال: إذا رأيتَ مَن هو "أكبَرُ منك" فقُل: (سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت من هو "أصغرُ منك" فقُل: سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ، فأنا شرٌّ منه).
وحينَ أقبلتُ إلى الشيخ لأفعلَ ما فعله الأولون؛ وأحتذيَ بما حذاه السابقون؛ نظرَ إليَّ –رحمه الله- نظرةَ المشفقِ..
أيْ بنـيَّ, إياكها! فواللهِ لهيَ أشدُّ عليَّ من فقدٍ للولد! فكففتُ عنهُ واستجبتُ له إذ أمَرَ وطلبَ الامتِثال وإنما [الامتثال هو الأدب] .
فكانتْ ليلةً رائعةً عشتها بين كنفيِ الفراشِ من غير قصدٍ ولا ابتغاءٍ تتمتَّعُ ناظريَّ بعيان الشيخ –قدَّس الله روحه- فلمْ أبتغِ منهُ علمًا ولا قصدتُ بذلك خيرًا؛ سوى أني تعلمتُ معنى الأدب! ويا فرحةَ الأدب!
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ صورته *** والذنبُ للطرفِ لا للنجمِ في الصغر
فيا أيُّها المعلِّمُ غيركَ؛ هلاَّ كان ذا التواضع؛ فما أتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً؛ فالمتواضعُ من العلماء أكثرهم علمًا كما أنَّ الأماكنَ المنخفضةَ أكثرها ماءً فهل إياكَ منهم؟ ومالذي وقاكَ عنهم؟
ما أجملَ أن نسقيَ ورودًا ممَّا سقانَا إياه من سبَقنَا في الإسلام؛ فنسوقَ بالسُّوقةِ إلى أنفعِ الأسواق؛ ويلجأ العبادِ إلى ربكِ يومئذِ المساق.
وتواضعٌ في أخذِ الحديث...
* رؤي بعض العلماء وهو يكتب من فتى حديثاً، فقيل له: مثلك يكتب عن هذا؟ فقال: أما إني أحفظ له منه، ولكن أردت أن أذيقه كأس الرياسة؛ ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
وصدقَ القائل: (التواضع أوله توددٌ، وآخره سؤددٌ).
يا لها من حسنةٍ غطَّتْ عيوبًا..!
* دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟ فقلت: لا، فقال: (إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين). ثم أومأ إليه بالجلوس وقال لي: احفظه يا أبا عبد الله فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء.
وأنشدَ في هذا المعنى -الذي قاله يحيى- أحمد الواسطي:
واحذرْ من عدمِ التمييز..!
* وفرِّق –أيها الحبيب- بين التواضع والتكبر ؛ وبين التكبُّر والعزة ، وبين الصمت والسمتِ ، فالتواضعُ رقٌ للضعيف، وأخذ على لمسكين، والتكبر: جورٌ وبغيٌ وطغيانٌ وعجبٌ، والعزَّةِ: وضعُ النفسِ في موضعها، وإكرامها بمقامتها؛ والصمت: سكوتٌ محمودٌ أو مذموم! والسمتُ: صموتٌ بعلمٍ وحلمٍ وهيبة؛ وهو محمود.
* ومن ذلك كله: جعلوا التواضعَ رفعةً وكرامة ؛ والتكبُّر خزيٌ وندامة ، والعزة أنفة بسلامة ، والصمتُ كلٌّ بلا غرامة ، والسمتُ هيبةٌ وخفوتٌ بدلالة.
* وكنْ وسطًا في الأمورِ عدلاً فيها؛ فالتواضعُ للمتكبر مذلة؛ والتكبر على المتكبر تواضع؛ فالإفراط في الكبر يوجب البغضة، كما أن الإفراط في التواضع يوجب الذلة كما قال الثعالبي. وقيل: (من التواضع ما يضع).
- وجهلتْ طائفة فهم ذلك كله؛ فلم يميّزوا بين "التواضع والتكبر والعزة والسمت"؛ والحصيفُ من أوقعَ كل منهنَّ موقعها فدرى العاقبة وأحسن العمل؛ وما أحسنَ القائل:
"فنعم الباب التواضع، فطوبى لمن وفقه الله للتواضع" اهـ.
فـيا قريب العهد بالمخرج لمَ لا تتواضع؟
يقول أبو حاتم البستي: لا يمتنع من التواضع أحد؛ والتواضع يكسب السلامة ويورث الألفة، ويرفع الحقد ويذهب الصد، وثمرة التواضع المحبة كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته، "وكيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة وآخره يعود جيفة قذرة وهو بينهما يحمل العذرة" اهـ.
عليكمْ بالتواضُع، لا تزيدوا *** على فضلِ التواضُع من مزيدِ
والله الهادي...
* إنَّ الهوى بحرٌ لن تستطلعَ بناظركَ آخره حتى تستطلْعه؛ فالآمالُ برَّاقـة، والأماني رقراقة، تستشفّ وتستجلب، تنتصرُ أو تستسلم، فالبشرى اسْمها إن هي ارتقت، والكبري وسْمها إن هي انتصرتْ.
وما النفسُ إلاَّ حيثُ يجعلها الفتى *** فإن أطمعتْ تاقتْ وإلاَّ تسلتِ
* ومن ذلك الهوى الذي لا منتهى له: رؤية أهل العلماء الأجلاء، ورجال أهل الدين الأخلاء، فذاك الهوى الذي يدومُ ما دامتِ السماوات والأرض وهو المعشوق الذي يسومُه أهل الأرض؛ فأنعم به من هوًى وعشقٍ.
إن تسألوني عن تباريحِ الهوى *** فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخوه
أجمعني مجلسٌ مع ثلةٍ هم أحبُّ إلي من أهلي؛ لأني إذ أراهم يذكِّرونني بحقيقةِ نفسي أصادقة هي أم كاذبة؟ فإما عطفٌ في الكَلام، وإما وصفٌ للكِلام، وإما عطبٌ يصيرُ كالكُلام، ولكنْ يكفيني من رؤيتهم أني لا أقدرُ أن أعصي الله أمامهم؛ وإن عصيتُ أو أسأتُ استوقفوني وأعانوني، فنعمَ القومُ همُ.لا شيءَ في الدنيا أحبُّ لناظري *** من منظرِ الخلاَّن والأصحابِ
وهذا المجلسُ يصفُ حالَ المجالسِ التي أعشقها، والتي تميلُ نفسي إليها، والتي أشتريها بأنفسِ الأثمانِ؛ فلا أرضى بالدنيَّة فيها لأنها "رأسُ مالي" وأصلُ "بقائي" وديمومةُ "أعمالي".
فبينما جلوسٌ إذ ألقى أحد الجلاَّسِ مسألةً أصوليةً فقهيةً ؛ فاستطلعَ كل واحدٍ منَّا أن يفيضَ من محفوظِ كنـزه، ومدفونِ فهمِهِ، فلما أجهشَتِ النفوسِ للإفاضةِ والإضاءةِ دخلَ داخلٌ ويكأننا بانتظاره...
من كان يحملُ في جوانحِه الضحى *** هانت عليه أشعّة المصباحِ
فإذا بالحاضرين نظراتهم في (حدةٍ وإمعانٍ) من فجاءةِ الموقفِ، ويكأنه نورٌ أضاءَ بالمحلَّ فاستثبت، فلم يلبثْ واحد منَّا إلاَّ وقد بادرَ القيام وأسرع اللقيا، من صاحبُ هذا النور؟ أبحقٍ هو الشيخ (عبد الله بن جبرين)؟
أهذا الشيخُ الذي جاءتْ الفضائلُ فاستشرفتْ به، أهذا الشيخُ الذي لا يعرفُ وسمُ الهمَّة إلاَّ بذكره...
ليتَ المدائح تستوفي مناقبَـهُ *** فما كليبٌ وأهل الأعصر الأُوَلِ
بل ليتَ الكواكب تدنو لي فأنظمها *** عقودَ مدح فما أرضى لكم كلِمي
هذا العالمُ الجليلُ –واللَّه!- إن سمعتَ صوتَهُ احترت؛ أتخشع لرقَّة قولهِ؟ أو تصغي لنهلِ علمِهِ؟ إن سمعتَ صوتَه لا يُخالُ إليكَ إلاَّ ملكًا ينطقُ بفكيهِ أو جالسٌ بين كفيه؟ غير الذي كائنٌ عند كتفيه!
وقد قلتُ حينَ وفاةِ الشيخ الإمام في مقالةٍ أصلهُا للشيخ إحسان (أعَلَى مثل مشايخنا: ابن باز والألباني وابن عثيمين -والجبرين- نبكي؟ فلنبكِ على أنفسنا):
(أينما تراه تخفض عينيك ! ترى بالنظر إليه الزهد ! الورع ! التقوى ! الخشية ! هيبـة العلماء ! تراه وكأن سلفنا الماضي حاضر ! تراه وكأن خلفنا في هذا الزمن يضارع)؛ حاله:
إني وإن كنت الأخير زمانه *** لآتٍ بما لمْ تستطِعْه الأوائل
أسرعَ الجالسونَ في السلامِ على الشيخِ كأنَّما هبوا من صيحةِ نذير، فقابلهم الشيخ بالحبِّ والحفاوةِ، والتعاملُ الأمثلِ بحالِ العلماء...فما ذلك عليهم بغريب!
لن ترجعَ الأنفسُ عن غيِّها *** حتَّى يُرى منها لها واعظُ
ولكن..أدهشني موقفٌ رأيتُهُ بعينيَّ الناظرتين؛ موقفٌ تستجمعُ (التشبيهات) في وصفِهِ فلا تحسن، وتستكتبُ (الكنايات) في مدحِهِ فلا تسمِن، مرةً أصدِّق وأخرى أكذِّب؛ ما إخالُ الأبِ يبادرها بابنه! فكيف المعلِّم؟
من علَّم النَّاسَ كانَ خيرَ أبٍ *** ذاكَ أبو الروحِ لا أبو النُّطفِ
كانَ هؤلاء الشبَّان يبادرون الشيخ بتقبيلِهِ في رأسه؛ والشيخُ صغيرُ الأُمَةِ كبيرُ الإمَّة يُقدَرُ عليه ولا يَقدِر؛ فالمحيِّ بالسلامِ يهوي برأسِهِ إلى سُفلٍ، والشيخ يبرِي بجسمه إلى علوٍ!
* ومعهودٌ أن الشيخ لا يستطيبُ لأحدٍ أن يقبَّل رأسه؛ ولكن لا حيلةَ للشيخ لمن طالَ عليه فقبَّل وأحبَّ الرأس!؛ حاله:
فإنْ لا يكن جسمي طويلاً فإنني *** لهُ بالفِعال الصَّالحاتِ وصولُ
فالذي غرَّب العقلَ وغيَّبه: أن رفيقَ دربي (يحيـى) طويلُ القامة شديدُ الهامة، قد قبَّل رأسَ الشيخ من غير كللٍ ولا سآمة؛ وذلك لما وهبه الله من شدةٍ وطول، وهذا بعدَ مقاومَة الشيخ ألاَّ يفعلَ ذلك؛ فما كان منه –رحمه الله- إلاَّ أن تعلَّق بأكتافِ هذا الرجل وثابَ عليه وقبَّل رأسه! والشيخُ قد وهنَ منه العظمُ واشتعلَ الرأسُ شيبًا؛ ولكن مع حاله؛ فحالُهُ:
فلو كنتُ الحديد لكسَّروني *** ولكني أشدُّ من الحديدِ
فاستعظمتُ وكبرتُ "الله أكبر" من هذا الصنيع؛ وما إخالي إلا أن الشيخ قال ذلك فهي السنة لمن صعدَ المكانَ العالي!
كذلكَ أُدِّبتُ حتى صار من خُلُقي *** إنِّي وجدتُ ملاكَ الشِّيمةِ الأدبُ
أحبتي في الله...
ما هذه الأخلاق التي حملتْ على "التواضعِ" و "احترام التلميذ" و "اتهام النفس بالتقصير" هذه المعاني وما تحملُه من طيَّات إنها والله لجليلة! وإنها وربي لأشبه بقول الإمام الشافعي رحمه الله: (أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه).
حينَ ذلكَ علمتُ معنى قول أبي يزيد البسطامي -إذ يحكي عن التواضع- قال: (هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالاً، ولا يرى في الخلق شرًا منه).
الله أكبر! ما أشبه الكرامَ بالكرام؛ وما أحسن الأقوال بالأفعال؛ قومٌ نذروا أنفسهم للـه جلَّ ذكره؛ إن ذكرتَهم ذكَّروكَ بالله؛ وإن غبتَ عنهم أنستَ بذكراهم؛ وحالهم:
تقوى الإلهِ ذخيرةٌ للموئِل *** والبرُّ خيرُ مطيةِ المتحمِّل
وحَالُهُم:
إذا نحنُ قلنا صدَّق القولَ فعلُنا *** وكمْ قائلٍ قولاً يكذِّبه الفعل!
* وهذا ما عهدتُهُ من الشيخ رحمه الله لا يقبل لبشرٍ أن يقبِّل رأسِهِ في حينِ زمانٍ: أهلُ العلم على ضربين:
1) مستطلبٌ؛ فذاكَ لم يعرفْ لمعنى التواضع نصيبًا، ولا عقِلَ أن [لكلِّ شيءٍ مطيةٌ، ومطيةُ العلمِ التواضع]، وعلامةُ طلبِهِ: أن تجدَ نفسَه قد جاءها غضضٌ من عدمِ صنيعِ ذلك.
2) متعفِّف؛ وهذا حال الأتقياءِ الأصفياءِ، والعجبُ من هؤلاء: أنهم يبادرونكَ الصَّنيعَ في هذا، فترى لسانكَ محجمًا عن وصفِ الحال، وترى قلبكَ مفزَعًا على الشيءِ المُحال، وكثيرٌ من هؤلاء من لا يقدِر على إحجامِ الغيـر فيستسلمُ لأيِّ أحد –وهذا معذورٌ، لأن كرههُ مانعُ الغُرور-.
زاويةٌ أخرى...
وأمرٌ آخرَ استعظمتُهُ كأنَّ الحال يحكي لنَا دروسًا سمعناها مرارًا وتكرارًا، إذ بي والشيخ على هيئةٍ رثةٍ وفي لباسٍ زهيدٍ تجمعُ ثيابُهُ الألوان كلها –وهذا مستقبحٌ في اللباس-؛ ولكنْ هؤلاءِ قومٌ عقِلوا معنى قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) فهنيئًا لنا بهم وهنيئًا لهم بأفعالهم.
يا من تشرف بالدنيا وطينتها *** ليس التشرف رفعَ الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم *** فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الله نعمته *** وذاك يصلح للدنيا وللدين
وقفةُ تأمل...
أتأمَّل أحيانًا ؛ لماذا عليَّ –لطلبِ العُلا- أن أتواضع؟ فبعضُ التواضعِ: استنـزالٌ للرتبْ، وهذا تناقضٌ فكيف أطلبُ السفلَ لمصلحةِ العلا؟
............ *** وكفى بملتمسِ العلوِّ سفالا
أشبهُ ذلك ما يكونُ بالذي ارتقى جبلاً يرى المخلوقاتِ بحجمِ النملِ والنحل! والمخلوقاتُ ترى الذي في رأسِ الجبلِ أقلَّ منها حجمًا! إلاَّ أنَّ الفرق بين الحالين: أن الأول ينظرُ إلى دونٍ، والأخرى إلى فُوقٍ، وهذا لا يغيِّر من الوصفِ شيئًا، إنما يزيدُ الأمر شُنئًا.
وإِذا الشريفُ لم يتواضعْ *** للأخلاءِ فهو عينُ الوضيعِ
ما أشبهَ (تواضع الأتقياء) بحالِ رسول الله صلى الله عليهِ وسلم الذي رسمَ للخلقِ معنى التواضعِ وأثره؛ فهو القائدُ الذي كانَ يحملُ الترابَ مع أصحابِهِ يومَ الخندقِ حتى يغبـرَّ بطنُه! وهو رئيس الدولةِ الذي يركبُ الحمارَ ويطوفُ به البلادَ بل يردفُ معه معاذ! وهو الزوجُ المنشغلُ بالعلمِ والتعليمِ يكونُ في خدمةِ أهلهِ [يَخصِفُ نَعلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوبَهُ، َيَعمَلُ في بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم في بَيتِهِ]، تواضعٌ لا يفارقُه حضرًا وَلا سفرًا، يعرفه مِنه الغرِيب كَمَا يعرِفه القَريبُ، ويَناله الضَّعِيف كما يَنَاله القويُّ، فاللهم أسبغْ علينا بالاهتداءِ بهديهِ والاقتداءِ بفعله.
فهو القائل عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وهو القائل عليه الصلاة والسلام (من تواضع لله رفعه الله)؛ فصلواتُ الله وسلامه عليه.
ما أشبهَ (تواضعُ الأتقياء) بحالِ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكرام الذينَ عقِلوا معنى التواضعِ وحسنِ الخلق؛ فهذا أبو هريرةَ رضي الله عنه إمام المحدِّثينَ ووالي المدينة يحملَ الحطبَ الثقيلَ ويمرُّ في طرقِ المدينةِ يقول: (أفسحوا للأمير، أفسحوا للأمير)! وهذا الإمام عليُّ بن أبي طالبٍ يحملُ التمرَ لعياله يتحاملُ عليهِ الرعيَّة أن دعْ ذلك لنا فيقول (أبو العيالِ أحقُّ أن يحمِل) وهو الذي قال (يا طالبَ العلم، إنّ العلم ذو فضائلَ كثيرة، فرأسُه التواضع) اهـ.
ثم أقبلَ أخي إلى الشيخِ وهو صغيرُ العمرِ جدًا؛ بينه وبين الشيخ أكثر من ستين سنة! ولكن التواضع لا ينظرُ إلى الأعمارِ والحجمِ والمقدار؛ فما كانَ منه –رحمه الله- إلاَّ أن سارعَ في تقبيلِ رأسهِ...وما ذاكَ إلاَّ تذكارًا لي بقولِ رجل لبَكر بن عبد الله: عَلِّمني التواضع؟
فقال: إذا رأيتَ مَن هو "أكبَرُ منك" فقُل: (سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت من هو "أصغرُ منك" فقُل: سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ، فأنا شرٌّ منه).
وحينَ أقبلتُ إلى الشيخ لأفعلَ ما فعله الأولون؛ وأحتذيَ بما حذاه السابقون؛ نظرَ إليَّ –رحمه الله- نظرةَ المشفقِ..
أيْ بنـيَّ, إياكها! فواللهِ لهيَ أشدُّ عليَّ من فقدٍ للولد! فكففتُ عنهُ واستجبتُ له إذ أمَرَ وطلبَ الامتِثال وإنما [الامتثال هو الأدب] .
وَاضَعْ تكنْ كالبدرِ لاحَ لناظرٍ *** على صفحاتِ الماءِ وهو رَفيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو تَجَبُّراً *** على طبقاتِ الجَوِّ وهو وَضيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو تَجَبُّراً *** على طبقاتِ الجَوِّ وهو وَضيعُ
فكانتْ ليلةً رائعةً عشتها بين كنفيِ الفراشِ من غير قصدٍ ولا ابتغاءٍ تتمتَّعُ ناظريَّ بعيان الشيخ –قدَّس الله روحه- فلمْ أبتغِ منهُ علمًا ولا قصدتُ بذلك خيرًا؛ سوى أني تعلمتُ معنى الأدب! ويا فرحةَ الأدب!
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ صورته *** والذنبُ للطرفِ لا للنجمِ في الصغر
فيا أيُّها المعلِّمُ غيركَ؛ هلاَّ كان ذا التواضع؛ فما أتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً؛ فالمتواضعُ من العلماء أكثرهم علمًا كما أنَّ الأماكنَ المنخفضةَ أكثرها ماءً فهل إياكَ منهم؟ ومالذي وقاكَ عنهم؟
ولا تمشِ فوقَ الأرضِ إلا تَواضُعاً *** فكم تحتَها قومٌ همُ منك أرفع
فإِن كنتَ في عزٍ وخيرٍ ومنعةٍ *** فكم ماتَ من قومٍ منك أمنعُ
فإِن كنتَ في عزٍ وخيرٍ ومنعةٍ *** فكم ماتَ من قومٍ منك أمنعُ
ما أجملَ أن نسقيَ ورودًا ممَّا سقانَا إياه من سبَقنَا في الإسلام؛ فنسوقَ بالسُّوقةِ إلى أنفعِ الأسواق؛ ويلجأ العبادِ إلى ربكِ يومئذِ المساق.
وتواضعٌ في أخذِ الحديث...
* رؤي بعض العلماء وهو يكتب من فتى حديثاً، فقيل له: مثلك يكتب عن هذا؟ فقال: أما إني أحفظ له منه، ولكن أردت أن أذيقه كأس الرياسة؛ ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
وصدقَ القائل: (التواضع أوله توددٌ، وآخره سؤددٌ).
يا لها من حسنةٍ غطَّتْ عيوبًا..!
* دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟ فقلت: لا، فقال: (إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين). ثم أومأ إليه بالجلوس وقال لي: احفظه يا أبا عبد الله فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء.
وأنشدَ في هذا المعنى -الذي قاله يحيى- أحمد الواسطي:
كم جاهلٍ متواضعٍ *** ستر التواضعُ جهله
ومميزٍ في علمِه ** هدمَ التكبرُ فضلَهُ
فدعِ التكبرَ ما حيـ *** ـيتَ ولا تصاحبْ أهلَهُ
فالكبر عيبٌ للفتى *** أبداً يقبح فعله
ومميزٍ في علمِه ** هدمَ التكبرُ فضلَهُ
فدعِ التكبرَ ما حيـ *** ـيتَ ولا تصاحبْ أهلَهُ
فالكبر عيبٌ للفتى *** أبداً يقبح فعله
واحذرْ من عدمِ التمييز..!
* وفرِّق –أيها الحبيب- بين التواضع والتكبر ؛ وبين التكبُّر والعزة ، وبين الصمت والسمتِ ، فالتواضعُ رقٌ للضعيف، وأخذ على لمسكين، والتكبر: جورٌ وبغيٌ وطغيانٌ وعجبٌ، والعزَّةِ: وضعُ النفسِ في موضعها، وإكرامها بمقامتها؛ والصمت: سكوتٌ محمودٌ أو مذموم! والسمتُ: صموتٌ بعلمٍ وحلمٍ وهيبة؛ وهو محمود.
* ومن ذلك كله: جعلوا التواضعَ رفعةً وكرامة ؛ والتكبُّر خزيٌ وندامة ، والعزة أنفة بسلامة ، والصمتُ كلٌّ بلا غرامة ، والسمتُ هيبةٌ وخفوتٌ بدلالة.
* وكنْ وسطًا في الأمورِ عدلاً فيها؛ فالتواضعُ للمتكبر مذلة؛ والتكبر على المتكبر تواضع؛ فالإفراط في الكبر يوجب البغضة، كما أن الإفراط في التواضع يوجب الذلة كما قال الثعالبي. وقيل: (من التواضع ما يضع).
- وجهلتْ طائفة فهم ذلك كله؛ فلم يميّزوا بين "التواضع والتكبر والعزة والسمت"؛ والحصيفُ من أوقعَ كل منهنَّ موقعها فدرى العاقبة وأحسن العمل؛ وما أحسنَ القائل:
ولا تكُ آنيًا حلوًا فتُحسَى *** ولا مرًّا فتنْشبَ في الحِلاقِ
* وأحكِمُ التوسع في مقالاتي هذه بمقالةِ الحكيم الترمذي إذ يقول:
"فنعم الباب التواضع، فطوبى لمن وفقه الله للتواضع" اهـ.
فـيا قريب العهد بالمخرج لمَ لا تتواضع؟
يقول أبو حاتم البستي: لا يمتنع من التواضع أحد؛ والتواضع يكسب السلامة ويورث الألفة، ويرفع الحقد ويذهب الصد، وثمرة التواضع المحبة كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته، "وكيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة وآخره يعود جيفة قذرة وهو بينهما يحمل العذرة" اهـ.
عليكمْ بالتواضُع، لا تزيدوا *** على فضلِ التواضُع من مزيدِ
والله الهادي...