أحمد البريدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,318
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 36
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه دراسة مفصلة للمراد بقوله تعالى " :{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}(النساء: من الآية16) .
من المعلوم أن عقوبة الزنا في الشريعة الإسلامية جلد البكر مائة جلدة , وهل يغرب فيه خلاف بين أهل العلم , وأما المحصن فعقوبته الرجم وهل يجلد قبل ذلك كما هو مذهب الحنابلة أو لا يجلد كما هو مذهب الجمهور فيه خلاف ولكل أدلته ليس المراد هنا بحثها, وإنما هناك آية في كتاب الله تعالى وهي قوله تعالى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}(النساء: من الآية16) . قد اختلف فيه أهل العلم هل هي من الآيات المتعلقة بعقوبة الزنا أم لا , وإن كانت متعلقة فهل هي معمول بها أم لا , وهي في الواقع مشكلة من جهة ورودها بعد بعد قوله تعالى {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ }(النساء: من الآية15, وهذه الآية غير معمول فيها بالاتفاق , ودونك هذا البحث ففيه بيان هذه المسألة فأقول مستعيناً بالله .
اختلف المفسرون بهذه الاية على قولين :
القول الأول : أنّ المرادَ بها الزَّانِيَانِ ، فهي فاحشةِ الزِّنَا ، وعلى هذا جمهور المفسِّرينَ.
القول الثاني : أنّ المرادَ بها اللاَّئِطَانِ ، فهي في فاحشةِ اللِّوَاطِ (1 )،وهذا مَرْويٌّ عن مُجاهد ، وقالَ بهِ أبو مسلم الأصفهاني ، والنحاس ، وابن العربي (( 2).
والأقربُ هو القولُ الأول ؛ لأمرينِ :
الأمر الأول : القولُ الأولُ هو قولُ جمهـور المفسِّرينَ ، وعليه الأكثرُ ، وأمّا القولُ الثاني
فأشهرُ مَن قالَ بهِ : مُجاهد ، وأبو مسلم الأصفهاني .
فَمُجاهدُ رُوِيَ عنه مِن طريقين (3 ) :
الطريق الأول : طريقُ ابن أبي نجيح . والطريق الثاني : طريقُ ابن جُرَيْج .
وابنُ أبي نجيح وابنُ جُرَيْج ثِقَتَانِ ؛ إلاّ أنّهما لم يسمعا التفسيرَ مِن مُجاهدَ كما صَرَّحَ به غير واحدٍ مِن أهل العلم ( 4)، وأمّا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ فَيُصَحِّحُ طريقَ ابن أبي نجيح ؛ حيثُ قال :" وقول القائلِ : لا تصحُّ روايةُ ابن أبي نجيح عن مجاهد ، جوابهُ : أنّ تفسيرَ ابن أبي نجيح عن مجاهد مِن أصَحِّ التفاسير ؛ بلْ ليسَ بينَ أيدي أهل التفسير كتابٌ في التفسيرِ أصَحُّ مِن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد ".( 5)
قُلْتُ : وعلى فَرَضِ صحّةِ القولِ عن مجاهد بهذا الطريقِ فقد رُوِيَ عنه بهذا الطريقِ أيضًا ما يُوَافِقُ بهِ قولَ الجمهورِ ؛ حيثُ أشارَ إلى أنّ آيةَ {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} مَنسوخةٌ بآيةِ النور( 6)، وآية ُالنورِ إنّما تعرّضتْ للزِّنَا لا إلى اللِّوَاطِ ، وإذا استويا في الصِّحَةِ فقولهُ الموافقُ للجمهورِ مُقدَّمٌ على قولٍ انفردَ بهِ .
وأمّا أبو مسلم الأصفهاني فإنّما حَمَلَهُ على القولِ بأنّها في اللِّوَاطِ حتّى لا يَقَعَ فيها نَسْخٌ ، وهو مَبنيٌّ على مَذهبِهِ في عدم وقوع النسخِ شَرْعًا ؛ ولذا نجدهُ أيضًا جعلَ آيةَ) في السِّحَاقِيَّاتِ ( 7) ، وهذا القولُ لا شكَّ في بُطلانِهِ لمخالفتهِ الصريحةِ حديثَ عبادة بن الصامت t أنّ الرسولَ e قالَ :[خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ،قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سبيلاً ، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مائةٍ ونَفْيُ سَنَة ، والثَّيِّبُ
بالثَّيِّبِ جَلْدُ مائةٍ والرَّجْمُ ](8 ) .
وأمّا النَّحَّاسُ وابنُ العربي فدليلهم هو لَفْظُ {اللَّذَانِ } مُثَنَّى ( الذي ) فهو لفظٌ مُذَّكَّر فاقتضى الرجالَ خاصّةً ، مع تَقَدُّمِ حُكْمِ النساءِ في الآيةِ التي قبلها .
والجوابُ عنه : أنّ المرادَ بذلكَ الزَّانِي والزَّانِيَة ، فإنّهُ قد أَفْرَدَ ذِكْرَ النساءِ في الآيةِ التي قبلها ثم جمعهما جميعًا في هذه الآيةِ بلفظِ التذكيرِ تَغليبًا .(9 )
الأمر الثاني : أنّه لَمْ يتقدّم لِلَّوَاطِ ذِكْرٌ في الآيةِ ، ولَمْ يُصَرَّح بِـهِ في الآية ، وأمّـا تذكيرُ {اللَّذَانِ } فهو مِن بابِ التغليبِ كما تقدّم .
وإذا تقرَّرَ أنّها في فاحشةِ الزِّنا ، فقد اختلفَ المفسِّرُونَ :هل هي تابعةٌ للآيةِ السابقةِ أم هي حُكْمٌ مُستقلّ ؟ على قولينِ :
القول الأول : أنّها تابعةٌ للآيةِ السابقةِ لها ، فآيةُ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } المقصـودُ بها الثَّيِّبُ ، وآيةُ {اللَّذَانِ } المقصودُ بها البِكْرُ .
إلاّ أنّ هذا القولَ يَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ بن الصامتِ t المتقدِّمُ ؛ إذْ ذَكَرَ حكمَ الثيبِ والبكرِ ، ولَمْ يكتفِ بذكرِ الثيبِ ، كما يدلُّ عليه هذا القولُ .
فالحبسُ حتّى الموتِ في آيةِ : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} غيرُ مَعْمُـولٍ بهِ بالاتّفاقِ
( 10)، سواء قلنا إنّه مَنسوخٌ كما هو مَذهبُ بعض أهلِ العلم ( 11)، أو أنّه لا يُسمَّى نَسْخًا وإنّما هو تخصيصٌ ؛ لأنّ الحكمَ الأولَ جعلَ الله له غايةً وهو الموتُ أو صُدُور تشريعٍ جديد في شَأْنِ الزانيةِ ثم وقعَ بيانُ الغايةِ بعد ذلكَ كما هو مَذهبُ طائفةٍ مِن أهلِ العلم .( 12)
القول الثاني : أنّها حُكْمٌ مُستقلّ ، ثم اختلفوا : هل هو باقٍ أم مَنسوخ ؟ على قولين :
القول الأول : أنّه مَنسوخٌ ، واخْتُلِفَ في ناسخهِ كما اخْتُلِفَ في ناسـخِ آيـةِ : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، وزادَ بعضهم : أنّها مَنسوخـةٌ بآيةِ :{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، ومعنى هذا القولِ أنّ آيةَ الأذى هي الأُولَى نُزولاً ثم نُسِخَ بالإمساكِ ولكن التلاوةَ أخَّرَت وقدّمَت .( 13)
قُلْتُ : وهذا إنْ صَـحَّ فهو يدلُّ على أنّ عقوبةَ الزِّنا قد مَرَّتْ في الإسلامِ بمراحلَ كمراحلِ تحريم الخمر ، وهي :
المرحلةُ الأولى : الأذى ، وتدلُّ عليها آيةُ :{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}فتكـون أَوّل الآياتِ نُزولاً .
المرحلة الثانية : الحبْسُ حتّى الموتِ ، وتدلّ عليها آيةُ{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}.
المرحلة الثالثة : الجَلْدُ للبِكْرِ والرَّجْمُ للثَّيِّبِ ، وتدلُّ عليها آيةُ النورِ وحديثُ عبـادةَ بن الصامت .
القول الثاني : أنّها مُحْكَمةٌ ، وأنّ الأذى باقٍ لَمْ يُنْسَخْ ، ورجّحهُ القرطبيُّ)( 14)؛ إذْ لا تَعارُضَ بينَ إيذائِهمَا وإقامةِ الحدِّ عليهما بلْ إنّ الحدَّ مِن إيذائِهمَا ، ويشهدُ له قوله تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النور: من الآية2) فإنّ التشهيرَ بهما مِن إيذائِهمَا .
وخُلاصةُ ما تقدّم ؛ والعلمُ عندَ الله :
1 – أنّ كِلا الآيتينِ هُمَا في فاحشةِ الزِّنَا .
2 - أنّ آيةَ{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ }إمّا أنْ تكونَ مَنسوخةً بآيةِ{وَاللاَّتِي} ، وهذا إنْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ نُزولِهَا ، أو أنّها مُحْكَمَةٌ على ما تقدّمَ تقريره .
3 – الجمعُ بينَ النصوصِ إنْ أمْكَنَ أَوْلَى مِن القولِ بالنسخِ .
هذا ما اجتهدتهُ في بيانِ هذه الآيةِ ، فإنْ كانَ صوابًا فمن الله وحده ، وإنْ كانَ خطأً فمن نفسي والشيطان ؛ وأستغفر الله منه .
[align=left]كتبه : أحمد بن محمد البريدي[/align]
[line] حواشي سفلية
( 1 ) انظر : أحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 458 ) .
( 2) أحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 458 ) .
( 3 ) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 295 ) .
( 4 ) مِنهم : يحي بن سعيد القطّان ، وابن حبّان . انظر : تهذيب التهذيب ( 3 / 284 ) ، جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي صـ ( 218 ) .
( 5) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 17 / 409 ) .
( 6) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 297 ) .
( 7) انظر : تفسير أبي السعود ( 1 / 155 ) .
( 8) الحديث رواه مسلم في كتاب : الحدود / باب : حَدُّ الزِّنَى ( 2 / 1316 ) برقم ( 1690 ) .
( 9 ) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 295 ) ، أحكام القرآن ( 1 / 465 ) .
( 10 ) قال ابن عطية :" وأجمعَ العلماءُ على أنّ هاتينِ الآيتين مَنسوختان " ( تفسير ابن عطية 4 / 48 ) .
وقالَ ابن العربي :" اجتمعت الأمّةُ على أنّ هذه الآية ليست مَنسوخة "( أحكام القرآن 1 / 457 ) .
وسببُ هذا التَّضَادِّ : هل يُسمَّى ما وقع نسخًا أو تخصيصًا ؟ وقد وقعَ فيه الخلافُ كما سأبينهُ ، فلا إجماعَ وإنّما الإجماعُ هو ما قالهُ ابن عطية :" وأمّا الحبسُ فمنسوخٌ بإجماع " المرجع السابق .
( 11) اختلفَ القائلونَ بالنسخِ في ناسخِ آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} ، فمنهم مَن يقولُ : إنّه حديثُ = = عبادة بن الصامت t ، ومنهم مَن يقولُ : إنّه آيةُ النورِ ، ومنهم مَن قـالَ غير ذلكَ وكُلُّ ما ذُكِرَ لهُ وَجْهٌ ومحتمل إلاّ قولَ مَن قالَ : إنّ الناسخَ هو الآيةُ التي بعدها وهي آيةُ الأذى فَيَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ t ؛ إذْ أشارَ إلى آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } دونَ آيةِ {وَاللَّذَانِ } .
( 12) انظر : أحكام القرآن ( 1 / 457 ) ، مناهل العرفان في علوم القرآن ( 2 / 242 ) . قال القرطبيُّ :" وإطْلاقُ المتقدِّمينَ النسخَ على مثلِ هذا تَجَوُّزٌ " ( تفسير القرطبي 5 / 57 ) .
( 13) انظر : تفسير ابن عطية ( 4 / 46 ) ، تفسير البيضاوي ( 1 / 206 ) .
( 14) انظر : تفسير القرطبي ( 5 / 57 )
فهذه دراسة مفصلة للمراد بقوله تعالى " :{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}(النساء: من الآية16) .
من المعلوم أن عقوبة الزنا في الشريعة الإسلامية جلد البكر مائة جلدة , وهل يغرب فيه خلاف بين أهل العلم , وأما المحصن فعقوبته الرجم وهل يجلد قبل ذلك كما هو مذهب الحنابلة أو لا يجلد كما هو مذهب الجمهور فيه خلاف ولكل أدلته ليس المراد هنا بحثها, وإنما هناك آية في كتاب الله تعالى وهي قوله تعالى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}(النساء: من الآية16) . قد اختلف فيه أهل العلم هل هي من الآيات المتعلقة بعقوبة الزنا أم لا , وإن كانت متعلقة فهل هي معمول بها أم لا , وهي في الواقع مشكلة من جهة ورودها بعد بعد قوله تعالى {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ }(النساء: من الآية15, وهذه الآية غير معمول فيها بالاتفاق , ودونك هذا البحث ففيه بيان هذه المسألة فأقول مستعيناً بالله .
اختلف المفسرون بهذه الاية على قولين :
القول الأول : أنّ المرادَ بها الزَّانِيَانِ ، فهي فاحشةِ الزِّنَا ، وعلى هذا جمهور المفسِّرينَ.
القول الثاني : أنّ المرادَ بها اللاَّئِطَانِ ، فهي في فاحشةِ اللِّوَاطِ (1 )،وهذا مَرْويٌّ عن مُجاهد ، وقالَ بهِ أبو مسلم الأصفهاني ، والنحاس ، وابن العربي (( 2).
والأقربُ هو القولُ الأول ؛ لأمرينِ :
الأمر الأول : القولُ الأولُ هو قولُ جمهـور المفسِّرينَ ، وعليه الأكثرُ ، وأمّا القولُ الثاني
فأشهرُ مَن قالَ بهِ : مُجاهد ، وأبو مسلم الأصفهاني .
فَمُجاهدُ رُوِيَ عنه مِن طريقين (3 ) :
الطريق الأول : طريقُ ابن أبي نجيح . والطريق الثاني : طريقُ ابن جُرَيْج .
وابنُ أبي نجيح وابنُ جُرَيْج ثِقَتَانِ ؛ إلاّ أنّهما لم يسمعا التفسيرَ مِن مُجاهدَ كما صَرَّحَ به غير واحدٍ مِن أهل العلم ( 4)، وأمّا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ فَيُصَحِّحُ طريقَ ابن أبي نجيح ؛ حيثُ قال :" وقول القائلِ : لا تصحُّ روايةُ ابن أبي نجيح عن مجاهد ، جوابهُ : أنّ تفسيرَ ابن أبي نجيح عن مجاهد مِن أصَحِّ التفاسير ؛ بلْ ليسَ بينَ أيدي أهل التفسير كتابٌ في التفسيرِ أصَحُّ مِن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد ".( 5)
قُلْتُ : وعلى فَرَضِ صحّةِ القولِ عن مجاهد بهذا الطريقِ فقد رُوِيَ عنه بهذا الطريقِ أيضًا ما يُوَافِقُ بهِ قولَ الجمهورِ ؛ حيثُ أشارَ إلى أنّ آيةَ {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} مَنسوخةٌ بآيةِ النور( 6)، وآية ُالنورِ إنّما تعرّضتْ للزِّنَا لا إلى اللِّوَاطِ ، وإذا استويا في الصِّحَةِ فقولهُ الموافقُ للجمهورِ مُقدَّمٌ على قولٍ انفردَ بهِ .
وأمّا أبو مسلم الأصفهاني فإنّما حَمَلَهُ على القولِ بأنّها في اللِّوَاطِ حتّى لا يَقَعَ فيها نَسْخٌ ، وهو مَبنيٌّ على مَذهبِهِ في عدم وقوع النسخِ شَرْعًا ؛ ولذا نجدهُ أيضًا جعلَ آيةَ) في السِّحَاقِيَّاتِ ( 7) ، وهذا القولُ لا شكَّ في بُطلانِهِ لمخالفتهِ الصريحةِ حديثَ عبادة بن الصامت t أنّ الرسولَ e قالَ :[خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ،قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سبيلاً ، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مائةٍ ونَفْيُ سَنَة ، والثَّيِّبُ
بالثَّيِّبِ جَلْدُ مائةٍ والرَّجْمُ ](8 ) .
وأمّا النَّحَّاسُ وابنُ العربي فدليلهم هو لَفْظُ {اللَّذَانِ } مُثَنَّى ( الذي ) فهو لفظٌ مُذَّكَّر فاقتضى الرجالَ خاصّةً ، مع تَقَدُّمِ حُكْمِ النساءِ في الآيةِ التي قبلها .
والجوابُ عنه : أنّ المرادَ بذلكَ الزَّانِي والزَّانِيَة ، فإنّهُ قد أَفْرَدَ ذِكْرَ النساءِ في الآيةِ التي قبلها ثم جمعهما جميعًا في هذه الآيةِ بلفظِ التذكيرِ تَغليبًا .(9 )
الأمر الثاني : أنّه لَمْ يتقدّم لِلَّوَاطِ ذِكْرٌ في الآيةِ ، ولَمْ يُصَرَّح بِـهِ في الآية ، وأمّـا تذكيرُ {اللَّذَانِ } فهو مِن بابِ التغليبِ كما تقدّم .
وإذا تقرَّرَ أنّها في فاحشةِ الزِّنا ، فقد اختلفَ المفسِّرُونَ :هل هي تابعةٌ للآيةِ السابقةِ أم هي حُكْمٌ مُستقلّ ؟ على قولينِ :
القول الأول : أنّها تابعةٌ للآيةِ السابقةِ لها ، فآيةُ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } المقصـودُ بها الثَّيِّبُ ، وآيةُ {اللَّذَانِ } المقصودُ بها البِكْرُ .
إلاّ أنّ هذا القولَ يَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ بن الصامتِ t المتقدِّمُ ؛ إذْ ذَكَرَ حكمَ الثيبِ والبكرِ ، ولَمْ يكتفِ بذكرِ الثيبِ ، كما يدلُّ عليه هذا القولُ .
فالحبسُ حتّى الموتِ في آيةِ : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} غيرُ مَعْمُـولٍ بهِ بالاتّفاقِ
( 10)، سواء قلنا إنّه مَنسوخٌ كما هو مَذهبُ بعض أهلِ العلم ( 11)، أو أنّه لا يُسمَّى نَسْخًا وإنّما هو تخصيصٌ ؛ لأنّ الحكمَ الأولَ جعلَ الله له غايةً وهو الموتُ أو صُدُور تشريعٍ جديد في شَأْنِ الزانيةِ ثم وقعَ بيانُ الغايةِ بعد ذلكَ كما هو مَذهبُ طائفةٍ مِن أهلِ العلم .( 12)
القول الثاني : أنّها حُكْمٌ مُستقلّ ، ثم اختلفوا : هل هو باقٍ أم مَنسوخ ؟ على قولين :
القول الأول : أنّه مَنسوخٌ ، واخْتُلِفَ في ناسخهِ كما اخْتُلِفَ في ناسـخِ آيـةِ : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، وزادَ بعضهم : أنّها مَنسوخـةٌ بآيةِ :{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، ومعنى هذا القولِ أنّ آيةَ الأذى هي الأُولَى نُزولاً ثم نُسِخَ بالإمساكِ ولكن التلاوةَ أخَّرَت وقدّمَت .( 13)
قُلْتُ : وهذا إنْ صَـحَّ فهو يدلُّ على أنّ عقوبةَ الزِّنا قد مَرَّتْ في الإسلامِ بمراحلَ كمراحلِ تحريم الخمر ، وهي :
المرحلةُ الأولى : الأذى ، وتدلُّ عليها آيةُ :{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}فتكـون أَوّل الآياتِ نُزولاً .
المرحلة الثانية : الحبْسُ حتّى الموتِ ، وتدلّ عليها آيةُ{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}.
المرحلة الثالثة : الجَلْدُ للبِكْرِ والرَّجْمُ للثَّيِّبِ ، وتدلُّ عليها آيةُ النورِ وحديثُ عبـادةَ بن الصامت .
القول الثاني : أنّها مُحْكَمةٌ ، وأنّ الأذى باقٍ لَمْ يُنْسَخْ ، ورجّحهُ القرطبيُّ)( 14)؛ إذْ لا تَعارُضَ بينَ إيذائِهمَا وإقامةِ الحدِّ عليهما بلْ إنّ الحدَّ مِن إيذائِهمَا ، ويشهدُ له قوله تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النور: من الآية2) فإنّ التشهيرَ بهما مِن إيذائِهمَا .
وخُلاصةُ ما تقدّم ؛ والعلمُ عندَ الله :
1 – أنّ كِلا الآيتينِ هُمَا في فاحشةِ الزِّنَا .
2 - أنّ آيةَ{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ }إمّا أنْ تكونَ مَنسوخةً بآيةِ{وَاللاَّتِي} ، وهذا إنْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ نُزولِهَا ، أو أنّها مُحْكَمَةٌ على ما تقدّمَ تقريره .
3 – الجمعُ بينَ النصوصِ إنْ أمْكَنَ أَوْلَى مِن القولِ بالنسخِ .
هذا ما اجتهدتهُ في بيانِ هذه الآيةِ ، فإنْ كانَ صوابًا فمن الله وحده ، وإنْ كانَ خطأً فمن نفسي والشيطان ؛ وأستغفر الله منه .
[align=left]كتبه : أحمد بن محمد البريدي[/align]
[line] حواشي سفلية
( 1 ) انظر : أحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 458 ) .
( 2) أحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 458 ) .
( 3 ) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 295 ) .
( 4 ) مِنهم : يحي بن سعيد القطّان ، وابن حبّان . انظر : تهذيب التهذيب ( 3 / 284 ) ، جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي صـ ( 218 ) .
( 5) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 17 / 409 ) .
( 6) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 297 ) .
( 7) انظر : تفسير أبي السعود ( 1 / 155 ) .
( 8) الحديث رواه مسلم في كتاب : الحدود / باب : حَدُّ الزِّنَى ( 2 / 1316 ) برقم ( 1690 ) .
( 9 ) انظر : تفسير ابن جرير ( 4 / 295 ) ، أحكام القرآن ( 1 / 465 ) .
( 10 ) قال ابن عطية :" وأجمعَ العلماءُ على أنّ هاتينِ الآيتين مَنسوختان " ( تفسير ابن عطية 4 / 48 ) .
وقالَ ابن العربي :" اجتمعت الأمّةُ على أنّ هذه الآية ليست مَنسوخة "( أحكام القرآن 1 / 457 ) .
وسببُ هذا التَّضَادِّ : هل يُسمَّى ما وقع نسخًا أو تخصيصًا ؟ وقد وقعَ فيه الخلافُ كما سأبينهُ ، فلا إجماعَ وإنّما الإجماعُ هو ما قالهُ ابن عطية :" وأمّا الحبسُ فمنسوخٌ بإجماع " المرجع السابق .
( 11) اختلفَ القائلونَ بالنسخِ في ناسخِ آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} ، فمنهم مَن يقولُ : إنّه حديثُ = = عبادة بن الصامت t ، ومنهم مَن يقولُ : إنّه آيةُ النورِ ، ومنهم مَن قـالَ غير ذلكَ وكُلُّ ما ذُكِرَ لهُ وَجْهٌ ومحتمل إلاّ قولَ مَن قالَ : إنّ الناسخَ هو الآيةُ التي بعدها وهي آيةُ الأذى فَيَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ t ؛ إذْ أشارَ إلى آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } دونَ آيةِ {وَاللَّذَانِ } .
( 12) انظر : أحكام القرآن ( 1 / 457 ) ، مناهل العرفان في علوم القرآن ( 2 / 242 ) . قال القرطبيُّ :" وإطْلاقُ المتقدِّمينَ النسخَ على مثلِ هذا تَجَوُّزٌ " ( تفسير القرطبي 5 / 57 ) .
( 13) انظر : تفسير ابن عطية ( 4 / 46 ) ، تفسير البيضاوي ( 1 / 206 ) .
( 14) انظر : تفسير القرطبي ( 5 / 57 )