دراسة أقوال المفسرين في المراد بهمّ يوسف عليه السلام بامرأة العزيز

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
[align=justify]قال الله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }

قال ابن القيم في سياق بيانه لعفاف يوسف عليه السلام :

( فإن قيل : فقد هم بها ، قيل عنه جوابان :

أحدهما : أنه لم يهم بها ، بل لولا أن رأى برهان ربه لهمّ . هذا قول بعضهم في تقدير الآية .

والثاني - وهو الصواب - : أن همّه كان همَّ خطرات ، فتركه لله ، فأثابه الله عليه ، وهمّها كان هم إصرار ، بذلت معه جهدها ، فلم تصل إليه ؛ فلم يستوِ الهمّان .

قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه : الهمّ همّان : هم خطرات ، وهم إصرار ؛ فهم الخطرات لا يؤاخذ به ، وهم الإصرار يؤاخذ به .([1]) )([2])

وقال في موضع آخر - في سياق كلام له عن التقديم والتأخير ، وأن العرب لا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع ، ولا يقدح في بيان مراد المتكلم - : ( وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في غير ذلك ، كما يدعي من التقديم في قوله : ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ ، وأن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها ؛ فهذا أولاً لا يجيزه النحاة ، ولا دليل على دعواه ، ولا يقدح في العلم بالمراد .)([3])



[align=center]الدراسة :[/align]

مسألة همّ يوسف عليه السلام بامرأة العزيز مسألة كثر حولها الكلام ، وتباينت الأقوال في إيضاحها ، واختلفت مواقف المفسرين منها . وقد أفردها بالتصنيف بعض الباحثين .

وقد اقتصر ابن القيم في كلامه السابق على قولين في هذه المسألة :

القول الأول : أنه لم يقع من نبي الله يوسف همّ أصلاً ؛ لأن رؤيته لبرهان ربه منعته من ذلك الهمّ .

القول الثاني : أنه قد همّ بها فعلاً ، ولكنه همّ خطرات ، لا هم عزيمة على الفعل ؛ فهو من قبيل حديث النفس الذي لا يمكن دفعه ، وهو ما لا يؤاخذ به المرء كما صح معنى ذلك في الحديث الصحيح ([4])، بل إن من ترك هذا الهمّ لله كتب له به حسنة كما ثبت هذا المعنى أيضاً في الحديث الصحيح .([5])

وقد رجح ابن القيم هذا القول ، وذكر أنه الصواب .

وفي معنى هذا الهمّ من يوسف أقوال أخرى ([6])، أشهرها ، وهو القول الثالث : أنه همّه كان من جنس همها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل . وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين . ([7])

وفيما يأتي عرض لموقف أئمة التفسير من هذه الأقوال :

اعتمد ابن جرير في تفسيره ما نُقل عن جمهور السلف في تفسير الهم ، حيث قال : ( ومعنى الهمّ بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ، ما لم يواقع .

فأما ما كان من همّ يوسف بالمرأة وهمّها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ...) ثم ذكر الآثار في تفسير ذلك ، ومفادها أن يوسف عليه السلام قد همّ بمواقعتها ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ، بعد أن حلت ثيابها ، وحلّ ثيابه .([8])

وهذه الآثار تدل على أن همّه بها كان من جنس همها به .

ولمّا كانت هذه الأقوال دالةً على أن يوسف قد وقع فيما لا يليق ؛ قال ابن جرير : ( فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا وهو لله نبيّ ؟ .) ثم أجاب عن ذلك بقوله: ( قيل : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : كان ممن ابتلي من الأنبياء بخطيئة ، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عزّ وجلّ على وَجَل إذا ذكرها ، فيجدّ في طاعته إشفاقاً منها ، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته .

وقال آخرون : بل ابتلاهم الله بذلك ليعرّفهم موضع نعمته عليهم ، بصفحة عنهم وتركه عقوبته عليه في الآخرة .

وقال آخرون : بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله ، وترك الإياس من عفوه عنه إذا تابوا. )

وبعد هذا قرر أن من قال بغير ذلك فقد خالف أقوال السلف ، وتأول القرآن برأيه . وذكر أنهم اختلفوا في معنى الآية على ثلاثة أقوال :

القول الأول : أن معنى الآية : ولقد همت المرأة بيوسف ، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه . قالوا : والشاهد على صحة ذلك قوله : ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ قالوا : فالسوء : هو ما كان همّ به من أذاها ، وهو غير الفحشاء .

والقول الثاني : هو القول الأول الذي ذكره ابن القيم .

وقد بيّن ابن جرير أن هذين القولين فاسدان لعلتين :

العلة الأولى : أن العرب لا تقدم جواب «لولا» قبلها ، لا تقول : لقد قمت لولا زيد ، وهي تريد : لولا زيد لقد قمت .

والعلة الثانية : خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله .

والقول الثالث : هو القول الذي رجحه ابن القيم ، غير أن جعل الهمين نوعاً واحداً ، وهو أنه الميل الذي بين الفعل والترك ، لا هم العزيمة والإرادة .

ولم يعلق على هذا القول بشيء يخصه .([9])

وذكر ابن عطية ثلاثة أقوال : قول ابن جرير ، والقول الذي رجحه ابن القيم ، والثالث: أن المراد : هم أن يضربها . وقد حكم على هذا القول بأنه ضعيف البتة . ثم قال : ( والذي أقول في هذه الآية : إنّ كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حلّ تكة ، ونحو ذلك لأن العصمة مع النبوة . ...

وللهم بالشيء مرتبتان : فالأولى تجوز عليه مع النبوة ، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي ؛ لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب ، وقول النبي r )) إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تنطق به أو تعمل(( ([10])
معناه : من الخواطر ، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً ، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا ، لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر ... والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية، واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز .) ([11])

وأما الرازي فقد بدأ بذكر قول الواحدي في البسيط ، قال : ( قال الواحدي في كتاب «البسيط» : قال المفسرون الموثوق بعلمهم ، المرجوع إلى روايتهم : همّ يوسف أيضاً بهذه المرأة هماً صحيحاً ، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه .) ثم نقل بعض الآثار التي أورده الواحدي ، ثم قال : ( ثم إن الواحدي طوّل في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب ، وما ذكر آية يحتج بها ، ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة ، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة .... ثم قال [ أي الواحدي ] : والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا الهم عنه . فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب .)([12])

ثم شنّع عليه ، وعلى القائلين بأن يوسف عليه السلام قد همّ بامرأة العزيز هماً صاحَبَه بعض مقدمات الفاحشة ، ورجح أنه عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل ، والهمّ المحرم . قال : ( وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين ، وبه نقول وعنه نذب .) ثم بيّن ذلك بياناً حسناً ، وذكر أن الآيات الكريمة تدل على براءته من كل ما نسب إليه من عدة وجوه .

ثم ذكر أن في تفسير همّ يوسف المذكور في الآية ثلاثة أقوال صحيحة :

القولان اللذان ذكرهما ابن القيم ، والثالث : المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ، ومنعِها عن ذلك القبيح ؛ لأن الهم هو القصد ، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به . فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتمتع ، واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته ، وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر ؛ يقال : هممت بفلان أي بضربه ودفعه .

وقد ذكر خلال ذلك ما يرد على كل قول من هذه الثلاثة من إشكالات ، وأجاب عليها، وبيّن أنه لا حجة لمن ضعف شيئاً منها .

ثم ختم كلامه بقوله : ( فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف ، وتعديد أسماء المفسرين ، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهةً لأجبنا عنها ؛ إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين ... ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين ؟! . والله أعلم .)([13])

ونقل القرطبي الأقوال عدة أقوال في بيان معنى الآية ، ومنها الأقوال السابقة . وقد حكم على القول الذي رجحه ابن القيم بأنه قول حسن ، ثم نقل قول ابن عطية السابق ، وقال بعده: ( قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح ؛ لكن قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾ (يوسف: من الآية15) يدلّ على أنه كان نبيًّا ..([14]) ، وهو قول جماعة من العلماء ؛ وإذا كان نبيّاً فلم يبق إلاّ أن يكون الهمّ الذي همّ به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر ؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق ، إذ لا قدرة للمكلَّف على دفعه .)([15])

وصرح أبو حيان برأيه في هذه المسألة من البداية ، فقال : ( طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق . والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله...) ، ثم بيّن الخلاف في مسألة تقدم جواب "لولا" عليها ، وذكر أنه وإن كان جائزاً عند جماعة من النحويين ، إلا أنه لا يقول به هنا ، بل يقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه .

ثم بيّن موقفه من أقوال السلف في تفسير هذه الآية ، فقال : ( وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ؛ لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاًر، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ؛ لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً ، ولا يدل عليه دليل ، لأنهم لم يقدروا "لهم بها"، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه .

وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين . )([16])

ولم يجزم ابن كثير برأي صريح في هذه المسألة ، واقتصر على الإشارة إلى أشهر ما قيل في معنى هذا الهمّ من أقوال .([17])

ووافق ابنُ عاشور أبا حيان فيما ذهب إليه ، وذكر بعض ما يحسن الوقوف عليه هنا ، فقال : ( وجملة ﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ معطوفة على جملة ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ كلها ، وليست معطوفة على جملة ﴿ هَمَّتْ ﴾ التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ؛ لأنه لما أردفت جملة ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ بجملة شرط ﴿ لَوْلاَ ﴾ المتمحض لكونه من أحوال يوسف - عليه السّلام - وحْده ، لا من أحوال امرأة العزيز ؛ تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها. فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به ... فيحسن الوقف على قوله : ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ ليظهر معنى الابتداء بجملة ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ واضحاً . وبذلك يظهر أن يوسف - عليه السّلام - لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان. ) ([18])

وبعد هذا العرض يتبين للقارئ أن المفسرين قد انقسموا لى قسمين في هذه المسألة :

القسم الأول : أثبتوا وقوع الهم من يوسف عليه السلام ، وهؤلاء فريقان :

الفريق الأول : ذهب إلى أن همّه بها كان من جنس همها به ، وأنه كاد أن يواقعها لولا أن الله عصمه ، وصرفه عن السوء والفحشاء . وقد اعتمد هذا القول – إضافة إلى ابن جرير – النحاس ([19])، والواحدي ([20]). وقد قرره قبلهم الإمام أبوعبيد القاسم بن سلام ، فقال : ( وقد زعم بعض من يتكلم في القرآن برأيه أن يوسف r لم يهمّ بها يذهب إلى أن الكلام انقطع عند قوله : ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ ، قال ثم استأنف فقال : ﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، بمعنى : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، واحتج بقوله : ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ (يوسف: من الآية52) ، وبقوله : ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾(يوسف: من الآية25) . وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه همّ بها ، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيماً للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم .)([21])

والفريق الثاني : أثبت هماً وقع من يوسف عليه السلام بامرأة العزيز ، ولكنه همّ خطرات ، وحديث نفس . وهذا الهمّ لا يُكلف به العبد ؛ لأنه خارج عن قدرته .

وقد اختار هذا القول كل من ابن عطية ، والقرطبي . وقد نسبه البغوي إلى بعض أهل الحقائق ، فقال : ( وقال بعض أهل الحقائق : الهمّ همان :

هم ثابت ، إذا كان معه عزم وعقد ورضى ، مثل هم امرأة العزيز . والعبد مأخوذ به.

وهم عارض ، وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام . والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل .) ([22])

وقد علّق على قوله هذا الطِّيبي ، وقال : ( إن هذا التفسير هو الذي يجب أن نذهب إليه ونتخذه مذهباً - وإن نقل المفسرون ما نقلوا - ؛ لأن متابعة النص القاطع ، وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة ، وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير إليه . على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئاً مرفوعاً في كتبهم ، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب .)([23]) .

وقد ذكر ابن العربي ما يدل على ترجيحه لهذا القول ، وشنّع على من خالفه بقوله تعليقاً على قول الله تعالى : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف:22) : ( وهذا إنما بيّن الله به حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه العلم , وآتاه العمل بما علم ; وخبر الله صادق , ووصفه صحيح , وكلامه حق , فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنا ، وتحريم خيانة السيد أو الجار أو الأجنبي في أهله , فما تعرض لامرأة العزيز , ولا أناب إلى المراودة ; بل أدبر عنها , وفر منها ; حكمة خص بها , وعملاً بمقتضى ما علمه الله سبحانه . وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه ما لا يليق به , وأقل ما اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل , وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل , وحاش لله ما علمت عليه من سوء , بل أبرئه مما برأه منه , فقال : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ , كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا الذين استخلصناهم . والفحشاء هي الزنا ، والسوء هو المراودة والمغازلة ؛ فما ألمّ بشيء ولا أتى بفاحشة .

فإن قيل : فقد قال الله : ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ؟

قلنا : قد تقصينا عن ذلك في كتاب الأنبياء من شرح المشكلين , وبينا أن الله سبحانه ما أخبر عنه أنه أتى في جانب القصة فعلاً بجارحة , وإنما الذي كان منه الهمّ , وهو فعل القلب ؛ فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثاً , ويقولون : فعل , وفعل ؟! واللهُ إنما قال : ﴿ هَمَّ بِهَا ﴾ . لا أقالهم ولا أقاتهم الله ولا عالهم .)([24])

وممن رجح هذا القول كذلك : ابن جزي ، قال : ( والصواب إن شاء الله أنها همت به من حيث مرادها ، وهم بها كذلك ، لكنه لم يعزم على ذلك ، ولم يبلغ إلى ما ذُكر من حل التكّة وغيرها ، بل كان همُّه خطرةً خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها ، ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه . ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء ؛ لأن الهمّ بالذنب ليس بذنب ، ولا نقص عليه في ذلك فإنه من هم بذنب ثم تركه كتبت له حسنة .)([25])

والقسم الثاني : نفوا وقوع الهمّ من يوسف عليه السلام ؛ فلم يقع منه همّ أصلاً عندهم لرؤيته برهان ربه . وقد تبنى الرازي أصل هذا القول ، وقرره أبو حيان ، وابن عاشور كما سبق .

وذكر الشنقيطي أن ما قرره أبو حيان هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ، قال : ( لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب : أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه ... وعلى هذا القول : فمعنى الآية : وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ، أي : لولا أن رآه همّ بها . فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ هو دليل الجواب المحذوف ، كما هو الغالب في القرآن واللغة.

ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ (القصص: من الآية10) فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ دليل الجواب ، أي : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .) ([26])



[align=center]النتيجة : [/align]

الذي ظهر لي من هذه الدراسة أن تبرئة نبي الله يوسف عليه السلام من كل ما نسب إليه في الآثار التي أوردها ابن جرير وغيره هو المتعين ، وهو اللائق بمقام الأنبياء عليهم السلام .

ثم إن هذه الآثار – إن ثبتت عن قائليها من السلف – مأخوذة من أهل الكتاب ؛ لأنه لم يثبت شيء منها في كتاب ، ولا سنة .([27])

وإذا تقرر هذا ؛ فإن الأمر في توجيه معنى الآية يسير ، وهو لا يخرج عن المعنيين اللذين ذكرها ابن القيم ؛ وترجيح ابن القيم أقرب إلى الصواب في نظري ؛ لأن الله U أثبت في الآية هماً وقع من يوسف عليه السلام ، ثم صرف عنه هذا الهمّ بعد رؤيته لبرهان ربه .

ولو كان يوسف لم يهمّ أصلاً لما كان لذكر همّه في الآية فائدة ظاهرة . والله أعلم .



تنبيهات :

التنبيه الأول : سبب الخلاف :

للخلاف هنا عدة أسباب ، أهمها :

الاختلاف بين المفسرين في مفهوم عصمة الأنبياء عليهم السلام .

الاختلاف النحوي بين المفسرين في مسألة تقدم جواب لولا .

الاختلاف في احتمال الآية للتقديم والتأخير .

التنبيه الثاني : تنازع هذا المثال أكثر من قاعدة تفسيرية :

القاعدة الأولى : تفسير السلف للقرآن وفهمهم له حجة على من بعدهم .([28])

القاعدة الثانية : القول الذي يعظّم مقام النبوة ، ولا ينسب إليها ما لا يليق بها أولى بتفسير الآية .([29])

فابن جرير ومن وافقه اعتمدوا القاعدة الأولى ، ورجحوا بها ، وغيرهم من المفسرين اعتمدوا القاعدة الثانية ورجحوا بها .

ولذلك صارت هذه الآية من الآيات التي أشكل فهمها .



التنبيه الثالث : ما نقل من روايات في تفسير هذه الآية معدود من جملة الإسرائليات المردودة في كتب التفسير .([30])





الحواشي والتعليقات :--------------------------------------------------------------------------------

([1] ) لم أجده منسوباً إلى الإمام أحمد ، ونسبه البغوي في تفسيره معالم التنزيل 4/231 إلى بعض أهل الحقائق .

([2] ) روضة المحبين ص450 ، وبدائع التفسير 2/446.

([3] ) الصواعق المرسلة 2/716 .

([4] ) هو قول النبي r : )) إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم (( أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه ، منها ما جاء في كتاب الطلاق – باب الطلاق في الإغلاق والكره – حديث رقم 5269 ، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه – رقم 127 .

([5] ) هو قول النبي r : )) إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة (( أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب الرقاق – باب : من همّ بحسنة أو سيئة – رقم 6491 ، ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان – حديث رقم 131 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

([6] ) انظرها في النكت والعيون للماوردي 3/23-25 ، وزاد المسير لابن الجوززي 4/203-207 .

([7] ) انظر المصدرين السابقين .

([8] ) حكم الإمام ابن تيمية على هذه الآثار بقوله : ( وأما ما ينقل من أنه حل سراويله ، وجلس مجلس الرجل من المرأة ، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده ، وأمثال ذلك ، فكله مما لم يخبر اللّه به ولا رسوله ، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء وقدحًا فيهم ، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفًا واحدًا .) انظر مجموع فتاوي شيخ الإسلام 10/297 .



([9] ) انظر جامع البيان 16/34-39 .

([10] ) سبق تخريجه قريباً .

([11] ) انظر المحرر الوجيز 7/476-479 .

([12] ) انظر قول الواحدي في الوسيط 2/607-608 ، فقد ذكر ما ذكره في البسيط .

([13] ) انظر التفسير الكبير 18/92-96 . وفي كلامه مبالغة في القدح والسب لمن خالفه.

([14] ) في هذا الاستدلال نظر ؛ فليس كل من أوحي إليه نبياً .

([15] ) انظر الجامع لأحكام القرآن 9/165-168 .

([16] ) انظر البحر المحيط 6/257-258 .

([17] ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/1835-1836 .

([18] ) انظر التحرير والتنوير 12/252-253 .

([19] ) انظر معاني القرآن 3/411-414 .

([20] ) انظر الوسيط 2/607-608 .

([21] ) نقل قوله هذا بعض المفسرين ، ومنهم النحاس في معاني القرآن3/ 413 ، وقد علّق عليه بقوله : ( وكلام أبي عبيد هذا كلام حسن بيّن لمن لم يمل إلى الهوى . )

([22] ) معالم التنزيل 4/231 .

([23] ) نقل قوله الآلوسي في روح المعاني 12/215 .

([24] ) أحكام القرآن 3/46-47 .

([25] ) التسهيل لعلوم التنزيل 2/214 .

([26] ) انظر أضواء البيان 3/53 .

([27] ) وهذه قاعدة مهمة في الحكم على الإسرائيليات في التفسير ، نص عليها الإمام ابن تيمية رحمه الله في كلامه السابق في الحكم على هذه الآثار ، وهي أن الأخبار عن الأنبياء السابقين إذا لم تثبت في القرآن ولا في السنة فهي مأخوذة عن أهل الكتاب ، وخاصة اليهود .



([28] ) انظر هذه القاعدة في كتاب قواعد التفسير للدكتور خالد السبت 1/206 -207 . وقد ذكر هذه الآية مثالاً لهذه القاعدة .

([29] ) انظر قواعد الترجيح للدكتور حسين الحربي 1/328-336 . وقد ذكر هذه الآية من الأمثلة على القاعدة .

([30] ) انظر كتاب الإسرائليات والموضوعات في كتب التفسير للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة ص220-229
.[/align]
 
جزاك الله خيراً أخي د/محمد القحطاني ،وقد أفدتني كثيراً بهذه المنقولات والمعلومات عن هؤلاء العلماء الجلة ؛ حيث إن بين يدي الآن مخطوطاً في هذه المسألة أعكف على تحقيقه وهو بعنوان :"تحفة الصديق في براءة الصدّيق" للشيخ محمد بن علي بن أحمد البلنسي رحمه الله 0
وأضيف هنا معلومة أخرى ممن أفرد هذه المسالة بالتأليف الشيخ :أبو عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي ،وعنوان تأليفه :"تحقيق الكلام في براءة يوسف عليه السلام " مطبوعة ضمن كتاب "المعيار " للونشريسي (11/194-204) 0والله أعلم
 
ممن أجاد في بيان هذه المسألة الشيخ / محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان، وقد اختار القول بأن الهم قد وقع من يوسف عليه السلام، وأن ذلك مما لا ينافي العصمة، ولا يطعن في يوسف عليه السلام
واستشهد - رحمه الله - بقول الله تعالى: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) حيث وقع الهم من هاتين الطائفتين، ومع ذلك أثبت لهما الولاية، ولم يكن هذا الهم مانعا من ولاية الله لهما، لأنه مجرد هم، والله أعلم
 
[align=justify]
صالح صواب قال:
ممن أجاد في بيان هذه المسألة الشيخ / محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان، وقد اختار القول بأن الهم قد وقع من يوسف عليه السلام، وأن ذلك مما لا ينافي العصمة، ولا يطعن في يوسف عليه السلام
واستشهد - رحمه الله - بقول الله تعالى: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) حيث وقع الهم من هاتين الطائفتين، ومع ذلك أثبت لهما الولاية، ولم يكن هذا الهم مانعا من ولاية الله لهما، لأنه مجرد هم، والله أعلم

ليس الأمر كما ذكر فضيلة الدكتور صالح ، وقد بينتُ موقف الشنقيطي في هذه الدراسة . وهذا موضع ما ذهب إليه الشنقيطي رحمه الله :

( والقسم الثاني : نفوا وقوع الهمّ من يوسف عليه السلام ؛ فلم يقع منه همّ أصلاً عندهم لرؤيته برهان ربه . وقد تبنى الرازي أصل هذا القول ، وقرره أبو حيان ، وابن عاشور كما سبق .

وذكر الشنقيطي أن ما قرره أبو حيان هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ، قال : ( لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب : أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه ... وعلى هذا القول : فمعنى الآية : وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ، أي : لولا أن رآه همّ بها . فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ هو دليل الجواب المحذوف ، كما هو الغالب في القرآن واللغة.

ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ (القصص: من الآية10) فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ دليل الجواب ، أي : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .). [/align]
 
لا يمكن الوقوف على ما تهمّ النفوس به الا من خلال السياق, ولو نظرنا الى السياق القرآني لوجدنا التالي:
يقول الله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (23) {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (24) سورة يوسف

في الاية 24 هناك همّان: همّ امرأة العزيز وهمّ يوسف عليه السلام .. وللوقوف على ماهية كل همّ لا بد من الرجوع الى السياق القرآني الذي يبيّن لنا ما يدور في خلد كل منهما حتى نقف على حقيقة همّه .. وبالرجوع الى الاية 23 نرى بكل وضوح ان امرأة العزيز تتجه لطلب الفاحشة من يوسف, وبذلك يمكن تفسير همّها على أنه همّ بالفاحشة, بينما نرى ان يوسف عليه السلام في الاية 23 يتجه للاستعاذة بالله من طلب واغواء امرأة العزيز, وبذلك يجب حمل همّ يوسف على ما أفصح القرآن الكريم من قول ليوسف واستعاذة له بالله .. والعجب ان الكثير من المفسرين رحمهم الله تعالى قد جعل همّ امرأة العزيز مهيمنا على معنى الهمّين, فأدخلوا همّ يوسف في همّها رغم ان الاية السابقة قد أوضحت ان هناك موقفين تجاه ما يحدث: هناك موقف امرأة السوء وهناك موقف المعارض والرافض لهذا السوء .. لقد افصح القرآن الكريم عمّا جال في النفوس, وبالتالي فالأولى ان يحمل كلّ همّ على ما أفصح عنه القرآن الكريم وليس على اسقاطات لا دليل عليها ..

فلو قلنا مثلا: همّ الرجل بذلك .. فاننا لا نستطيع ان نقف على معنى "همّ الرجل" الا بقرائن موجودة في النص .. فلو سبق مثلا قولنا: "همّ الرجل بذلك" عبارة: "أراد الرجل ان يعبر الطريق", فاننا نعلم هنا ان همّ الرجل منحصر بعبور الطريق ولا يتعداه .. وعلى هذا وجب تفسيرنا همّ امرأة العزيز وهمّ يوسف عليهما السلام .. فامرأة العزيز: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) هذا ما أرادت, فهمّت بيوسف عليه السلام بناء على ما أرادت وأفصحت: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } (24) ... أما يوسف عليه السلام: {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (23), هذا ما أراده يوسف عليه السلام وأفصح عنه, فتناسب همّه مع ما أراد: { وَهَمَّ بِهَا } (24) .. وان الذين يصرفون همّ يوسف عليه السلام الى غير هذا, فانهم انما يحمّلون النصوص ما لا تحتمل, ويفسّرون همّه بغير ما أفصح القرآن الكريم عنه وبيّن .. والله أعلم ...
 
[align=justify][align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

الأخ الكريم الدكتور السالم الجكني : أشكرك على ثنائك وشكرك لأخيك ، ولعلك تتحفنا بخلاصة ما في الرسالة التي تقوم بتحقيقها حول هذه المسألة.

الأخ الكريم سيف الدين : أحترم رأيك وأقدر تأملك وتدبرك للآيات ؛ ولكن هذا الرأي الذي ذكرته بعيد لأنه مخالف لما ذكره مفسرو السلف من جهة ، ولأنه لا يناسب لفظ الآية ؛ لأن الله يقول : { وهمّ بها } أي بامرأة العزيز .
ولعلك أخي الكريم تُخفّفُ من حماسك لما تقرره ، وخاصة إذا لم يكن لك سلف فيه ، ولا داعي لقولك :( وان الذين يصرفون همّ يوسف عليه السلام الى غير هذا, فانهم انما يحمّلون النصوص ما لا تحتمل, ويفسّرون همّه بغير ما أفصح القرآن الكريم عنه وبيّن ). [/align]
 
أشكر لأخي أبي مجاهد العبيدي ملاحظته على ما كتبته سابقا.
وأود الإشارة أنني في سفر، وقد كنت بعيدا عن مكتبتي وحاسبي أيضا، ولا زلت حتى هذه اللحظة في مدينة الرياض، وقد نقلت ما نقلته اعتمادا على الذاكرة عندما وقفت على هذه المسألة قبل سنوات عديدة.
وعندما تمكنت من الرجوع إلى الكتاب (ضمن مكتبة التفسير وعلوم القرآن الالكترونية) وجد ما أشرت إليه، ولعلي وهمت في قولي بأن الشنقيطي – رحمه الله تعالى – قد رجحه، وأحببت أن أقتبس من كتاب أضواء البيان بعض النصوص المفيدة التي أورد بعضَها أخونا أبو مجاهد، ولعله لم يورد بعضها اختصارا أو اكتفاء بغيرها من النصوص.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى:
(فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى: (وهم بها)؟
فالجواب من وجهين :
الأول: أن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى وهذا لا معصية فيه لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك) يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفا من الله وامتثالا لأمره كما قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى).
وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد كهم يوسف هذا، بدليل قوله: (إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) لأن قوله: (والله وليهما) يدل على أن ذلك الهم ليس معصية لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه هذا ما يهمني ويقول فيما يحبه ويشتهيه هذا أهم الأشياء إلي، بخلاف هم امرأة العزيز فإنه هم عزم وتصميم بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه. ......
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل، كقول العرب قتلته لو لم أخف الله، أي قاربت أن أقتله، كما قاله الزمخشري.
وتأويل الهم بأنه هم بضربها أو هم بدفعها عن نفسه فكل ذلك غير ظاهر بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه.
والجواب الثاني: وهو اختيار أبي حيان أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو منفى عنه لوجود البرهان.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية؛ لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه كقوله: (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه فالأول دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب لأن جواب الشروط وجواب (لولا) لا يتقدم ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية المذكورة، وكقوله: (قل هاتوا برهـانكم إن كنتم صـادقين) أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول فمعنى الآية: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي: لولا أن رآه هم بها، فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة. .......
وقال الشيخ أبو حيان في البحر المحيط ما نصه: والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها ألبتة بل هو منفى لوجود رؤية البرهان كما تقول لقد فارقت لولا أن عصمك الله ولا نقول إن جواب (لولا) متقدم عليها .......
فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بريء من الوقوع فيما لا ينبغي وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلا، بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هيى (لولا) على انتفاء رؤية البرهان وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان.
وإما أن يكون همه خاطرا قلبيا صرف عنه وازع التقوى أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى كما أوضحناه.
فبهذا يتضح لك أن قوله: (وهم بها) لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي.
ينظر أضواء البيان 2/207-212 .
 
السلام عليكم :
الأخوة الكرام
تكلم شيخ الإسلام عن هذه الآية في " شرح حديث لا يزني الزاني وهو مؤمن " ص 38 - 46 الذي طبع بتحقيق : دغش العجمي أولاً سنة 1422 هـ .
ثم طبع ضمن المجموعة الخامسة من جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 253 - 259 .
وكلامه في الحقيقة نفيسٌ ومحررٌ للغاية .
 
السلام عليكم ورحمة الله
لقد قام الدكتور صالح الفايز الإسناذ المشارك بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بدراسة الآية الكريمة وأصدر بذلك كتابا بعنوان ( الإيضاح الأتم لقوله تعالى " ولقد همت به وهم " وقد جمع الأقوال وبين دليل كل قول وناقش الأدلة ودرس الروايات وبين درجتها ووضح القول الراجح. .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أشكر الإخوة الكرام الذين أثروا هذه المسألة بالتعليق والإضافة .

ولعل الأستاذ الكريم أباحذيفة يذكر لنا خلاصة ما ذكره الدكتور صالح الفايز في بحثه إذا كان ذلك ممكناً.
 
السؤال الأول من الفتوى رقم (4488):
س1: عاد الإمام من مصر بعد زيارة لابنه وقال: بأنه جالس العلماء هناك ولاحظ بعض الأخطاء التي يقع فيها، ومثل لذلك أن في سورة يوسف قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } (1) أنه كان يفكر أن المقصود بذلك همت به وهم بها في عمل الجنس الذي يقع بين المرأة والرجل، ولكن فهم في مصر من العلماء أن المقصود غير العادة الجنسية، فهل هذا صحيح؟ علمًا بأن الآيات تدل أن المقصود هو عمل الجنس لولا أن رأى برهان ربه.

ج1: الصحيح من أقوال العلماء في ذلك: أن الهم الذي وجد من يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- هو: الميل الجنسي الطبيعي الذي يوجد مع أي إنسان عند وجود سببه، وقد صرفه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } (2) ولا يجوز صرف الآية عن ظاهرها إلا بدليل، وليس هنا دليل فيما نعلم يوجب صرفها عن ظاهرها، والهم بالسيئة لا يضر المسلم إذا لم يفعل، بل يكتب له بذلك حسنة إذا ترك الفعل من أجل الله، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) سورة يوسف ، الآية 24 .
(2) سورة يوسف ، الآية 24 .



فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 6 / ص 133)
 
السلام عليكم :
الأخوة الكرام
تكلم شيخ الإسلام عن هذه الآية في " شرح حديث لا يزني الزاني وهو مؤمن " ص 38 - 46 الذي طبع بتحقيق : دغش العجمي أولاً سنة 1422 هـ .
ثم طبع ضمن المجموعة الخامسة من جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 253 - 259 .
وكلامه في الحقيقة نفيسٌ ومحررٌ للغاية .

الذي قرره ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع هو ما قرره تلميذه ابن القيم رحمه الله.

فليتك تذكر لنا خلاصة ما ورد في هذه الرسالة وفقك الله أخي محمد من باب إتمام الفائدة.
 
فائدة نفيسة عزيزة

فائدة نفيسة عزيزة

[align=justify]

جاء في كتاب أخلاق الوزيرين - (ج 1 / ص 50)‏ لأبي حيان التوحيدي ما نصه :

( وسأله الدّامغاني يوماً عن قوله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ ‏رَبِّهِ)، أَ تقول أن يوسف همّ بالمعصية؟ فقال [ المسؤول وهو الوزير ابن عباد ] : الكلام معطوف بعضه على بعض ‏بالتّقديم والتأخير، فكأنه قال: لولا أن رأى بُرهان ربّه لقد كان يَهُمُّ بها، ولكنه لم يُهمّ، ‏وهذا كقول القائل: إني غَرقت لولا أنه خلصني فلان.‏

فحدّثتُ بهذه الجملة ابن المراغي ببغداد، فقال: لو سكت عن هذا كان أحسن به، هذا ‏تقدير لاعبٍ بكتاب الله، لا يحلّ نظم الكلام على تحريفه؛ لأن ذلك جرأة؛ أما سمعت ‏الله يقول: (لاَ تقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ)؟ إنما المراد به على سجية الكلام؛ ولقد ‏همّت به همّها اللائق، وهمّ بها هَمَّ البشر الذي لا براءة له من همّة إلا بتوفيق الله، ‏والبرهان كان ذلك التوفيق.‏
وما في الهمّ؟! الله أكرم من أن يؤاخذ به، وإنما ذُكر ذلك ليعلم أن النبي صلى الله عليه ‏في نُبوّته غير مُكتفٍ بها دون أن يكنفه الله بعصمته، ويتغمّده برحمته. ‏) انتهى.[/align]


وكلام ابن المراغي كلام نفيس عزيز.
 
فتوى اللجنة الدائمة - والله أعلم - أقرب الأقوال وأحسنها بل في قوله تعالى : " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ...." البينة الواضحة ‘ والحجة الساطعة على أنّ الهم من يوسف عليه السلام كان الميل الجنسي الطبيعي ، وتأمل لفظ " الفحشاء " .
وفي الآية بيان فضل الله ورحمته بعباده الصالحين؛ لما لهم من الصالحات في الأيام الخاليات يصرف عنهم سبحانه ما يشينهم .
وكأن أحد الإخوة ذكر أن الهم المراد به همه أن يستعيذ بها ، وهذا غريب ، لايناسبه السياق ولا القرئن ، ولا الأحوال . فهل هم يوسف بالاستعاذة بالله منها ثم صُرِف عن ذلك لقوله : "لولا" ؟!.
وعلى كلٍ دراسة مثل هذه الأقوال لايُمكن أن يقطع النزاع ؛ وإنما يقول كل بما بلغه ورأى أن الحجة معه . وفق الله الجميع ،،،،
 
أجزل الله لكم عظيم الأجر فقد استفدت من الموضوع كثيرا؛في الكتابة حول هذه المسألة..
ولدي استفسار للأخ الفاضل /الجنكي حول ماذكرتم:"ممن أفرد هذه المسالة بالتأليف الشيخ :أبو عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي ،وعنوان تأليفه :"تحقيق الكلام في براءة يوسف عليه السلام " مطبوعة ضمن كتاب "المعيار " للونشريسي (11/194-204) 0والله أعلم".
أرغب في توثيق هذه المعلومة المتعلقة بمن أفرد هذا الموضوع بالتصنيف لكن وجدت من يذكر أن هذا التأليف:
تحقيق الكلام في براءة يوسف عليه السلام هو:لعبد الحميد أحمد شحاتة المالكي..
حبذا لو افدتمونا حول هذا الأمر..


 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين اما بعد. ..
وتجدين مقاﻻ في مجلة جامعة مصراتة حول الموضوع ربما نفعك
ورابطه
www.misuratau.edu.ly
وفقنا الله تعالى واياكم.
 
الرابط ﻻ يعمل لكني حملت العدد
وليس فيه ما ينفع الموضوع...ويبدو
ان محرك البحث أشار إلى أمر ضمن
أحد المقاﻻت...والله تعالى أعلم.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...أما بعد....ومما أعجبني حول الوضوع فتوى في موقع اسلام ويب برقم 76878 وجاء فيها:
([h=5]فقد أطنب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تحقيق المقال في شأن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فذكر في تفسير قوله تعالى: (وهم بها)، وجهين:
الأول: أن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه، لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك. يعني: ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا: ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة.لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، وامتثالاً لأمره، كما قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد، كهم يوسف هذا، بدليل قوله: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا، لأن قوله: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا يدل على أن ذلك الهم ليس معصية، لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه (هذا ما يهمني)، ويقول فيما يحبه ويشتهيه (هذا أهم الأشياء إلي)، بخلاف هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه، ومثل هذا التصميم على المعصية، معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه. فصرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار...
والثاني: وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان، قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب، أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب (لولا) لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية المذكورة، وكقوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، وعلى هذا القول: فمعنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها. فما قبل (لولا) هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.
ونظير ذلك قوله تعالى: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ، فما قبل (لولا) دليل الجواب، أي لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب (لولا) وتقديم الجواب في سائر الشروط، وعلى هذا القول يكون جواب (لولا) في قوله: لولا أن رأى برهان ربه، هو ما قبله من قوله (وهم بها) وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.
ثم نقل رحمه الله شيئاً من كلام أبي حيان ثم خلص إلى أنه يعلم بهذا: أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلاً بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي (لولا) على انتفاء رؤية البرهان، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه، وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان. وإما أن يكون همه خاطراً قلبياً صرف عنه وازع التقوى، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى.
وذكر رحمه الله في كلام قبل هذا تأكيد براءة يوسف عليه السلام من الاتهام بالوقوع في السوء، فذكر أن: القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك، واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود. أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي. وقوله: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ. وقولها: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
وأما اعتراف زوج المرأة، ففي قوله: قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وأما اعتراف الشهود بذلك، ففي قوله: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته، ففي قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
قال الفخر الرازي في تفسيره: قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات: أولها: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ. والثاني قوله: وَالْفَحْشَاء. أي وكذلك لنصرف عنه الفحشاء. والثالث قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. مع أنه تعالى قال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. والرابع قوله: الْمُخْلَصِينَ. وفيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل، وأخرى باسم المفعول. فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته. وعلى كلا الوجهين: فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه. انتهى من تفسير الرازي.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته، ففي قوله تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح الله بهذا في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
والله أعلم.)
[/h]

 
عودة
أعلى