أبو المقداد
New member
- إنضم
- 29/06/2005
- المشاركات
- 10
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفرد بالخلق والملك، المتوحد بالتدبير، والصلاة والسلام على خيرة خلقه ومصطفاه منهم، وعلى أهل بيته ومن صحبه، وتابعيهم بإحسان, وبعد:
فإن علم الأصول هو ميزان الشريعة، ومعيار النصوص، وهو أداة الفهم عن الله ورسوله ?، فالمتعين على كل من تصدى لدراسة مسائل الشريعة والإقلال بأعبائها أن يجعل طلب هذا العم شغله، والتحقيقَ فيه رغبته. ومن رام استنباطا صحيحا وفهما رجيحا بلا طلبه فهو كمن يطلب إبرة في رَمْلِ عَالِجٍ، أو من يصيد سمكا في مَفَازَةٍ.
وبعد.. فهذا بحث أصولي ماتع، حوى في طياته نفائس الأصول، وضم بين جنباته كرائم المحصول، أطال فيه شيخنا -حفظه الله- النفس في تحرير المسائل، ونصب الدلائل، فجزاه الله خيرا كثيرا، على ما جاد وأفاد.
وكنت قد طلبت من شيخنا الشيخ جلال بن علي السلمي وفقه الله أن يكتب لي جزءا يأتي فيه على مهمات المسائل المتعلقة بهذه الآية الكريمة، إذ هي من مشهور آي الأحكام، وأكثرها مسائل، فأجابني إلى ذلك جزاه الله عني صالحةً. وأصل هذا البحث كتابات قديمة أعاد الشيخ ترتيبها وتهذيبها لتصلح للنشر، ثم أرسلها لي، فرأيت نشرها على حلقات، تنشيطا للإخوة، إذ ربما يمنع الطول البعضَ من القراءة فضلا عن الاستفادة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أبو المقداد
المدينة النبوية
ﭧ ﭨ ﮋ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﮊ
المسألة الأولى:
سبب نزول الآية:
آيات القرآن يمكن تقسيمها إلى قسمين اثنين: ابتدائية، وسببية، فالابتدائية هي: ما نزل من غير سبب يتعلق بالمخاطبين، والسببية هي: ما نزل لسبب يتعلق بهم، والغالب في آيات القرآن الثاني، ويدل على ذلك الاستقراء، ثم إن السببية تنقسم إلى قسمين:
ما يدل نظمها على السبب، وما ليست كذلك، والآية التي معنا سببية لا ابتدائية، ونظمها يدل على السبب، فقوله تعالى: ﮋ ﮠ ﮊ يدل على أن هذه الآية نزلت بسبب سؤال جماعة من الناس للنبي صلى الله عليه وسلم عن المحيض، وهذه الجماعة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روينا في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وجاء في المراسيل عن السدي وغيره أن السائل هو ثابت بن الدحداح الأنصاري، والإرسال نوع من الانقطاع، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده]، وإذا قلنا بمفاد المرسل ففي الآية تجوز إطلاق الجمع (ضمير الجمع الواو في قوله يسألونك) على المفرد، أو تجوز إطلاق السؤال على المقر للسائل، وفي حديث أنس رضي الله عنه تأكيد للظاهر وأن السؤال وقع من جماعة، وذلك في قوله: فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضا بيان الباعث للصحابة رضي الله عنهم على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو فعل اليهود ومعاملتهم لنسائهم حال الحيض.
وفي أحكام القرآن لابن الفرس المالكي رحمه الله (1/228) أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وذكر قولين اثنين:
القول الأول: أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة وغيره.
القول الثاني: أنهم-أي الصحابة- كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، قاله مجاهد.
والصحيح في سبب النزول ما قدمته في أول البحث، وفي كلام قتادة رحمه الله قدر زائد على ذلك إذ لا دليل على أن العرب قد استنوا باليهود في ذلك، وما نقل عن مجاهد رحمه الله لا يثبت عنه، فقد أخرجه الطبري في تفسيره وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الجزري سيء الحفظ، ثم لو ثبت عنه فلا يصح مرفوعا لإرساله، فالإرسال ضرب من الانقطاع، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده].
مبحث مهم:
ما الفائدة من معرفة أسباب النزول للفقيه المجتهد الناظر في الدليل القرآني لاستنباط الحكم الشرعي؟
الجواب: لذلك فوائد كثيرة منها:
1- معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
2- تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
3- الوقوف على المعنى الصحيح للآية.
قال أبو الفتح القشيري رحمه الله: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا"، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها"، وقال الشاطبي رحمه الله: "أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال...".
4- عدم جواز تخصيص محل السبب فيما إذا كان نص الآية عاما، لأن دخول السبب في العموم قطعي، ومأخذ قطعيته أمران اثنان:
الأول: أنه يلزم من القول بجواز تخصيصه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز.
الثاني: أن القول بجواز تخصيصه فيه عدول عن محل السؤال فيما إذا كان السبب سؤالا، وذلك لا يجوز في حق الشارع لئلا يلتبس الحال على السائل.
..........................................................................
المسألة الثانية:
في الآية دليل على جواز السؤال عن الأحكام الشرعية ولو كانت متعلقة بإتيان النساء، ومأخذ الجواز من قوله: ﮋﮠﮊ فهذا فعل من الصحابة رضي الله عنهم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، والقاعدة في الأصول: [أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل يدل على الجواز]، وهذا ثابت في حق الصحابة الذين سألوا، والقاعدة في الأصول: [أن ما ثبت في حق بعض الأمة يثبت في حق جميعها ما لم يرد دليل بالتخصيص]، ولا دليل، وهذا استدلال بالسنة الواردة في القرآن، ولها نظائر، وهي نوع من السنة المتواترة، إذ القرآن الذي هو مصدر أدائها متواتر، والسؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم، وأعني بالعالم المجتهد، وغير العالم المقلد، وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم؛ فهذه أربعة أقسام، ومرادي بالسؤال في أصل المسألة سؤال المتعلمين للعلماء، فهذا هو الأصل في السؤال، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والجواز ثابت في السؤال عن إتيان المرأة في الحيض بالنص، وفي غيرها من المسائل بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام]، وهو أي الجواز ثابت في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بالنص، وفي سؤال غيره من العلماء بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام].
..........................................................................
المسألة الثالثة:
في الآية دليل على وجوب إجابة السائلين عن الأحكام الشرعية، ومأخذ الحكم من قوله تعالى: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ ، فهذا أمر، والقاعدة في الأصول: [أن الأمر المطلق للوجوب]، وهذا ثابت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في الأصول: [أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في حق أمته ما لم يرد دليل بخلافه]، ولا دليل، والوجوب ثابت في مسألة إتيان النساء في الحيض بالنص، وفي غيرها من المسائل بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام].
فائدة في الإفتاء والمناظرة:
للمفتي والمناظر أن يقدم علة الحكم, ثم يُعقبُ ذلك بالحكم, كما في هذه الآية، قال الله تعالى: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮊ فقدم العلة قبل الفتوى بحكم ما سئل عنه، وله أن يقدم الحكم ثم يذكر علته , كما في قوله تعالى: ﮋفطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ﮊ ، ثم علل , فقال: ﮋلا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﮊ.
[انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/102)].
ومأخذ هذه الطريقة أن الله عز وجل في كتابه -الذي هو الغاية في البيان- سلكها في تقرير الأحكام، ومن ثم لا يعاب على من أخذ بها وسار عليها، وهذا ما يسمى عند بعض الأصوليين بالدلالة التبعية.
[انظر: الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي (151/1)].
..........................................................................
المسألة الرابعة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض، وقد حكي الاتفاق على ذلك، [انظر:مراتب الإجماع لابن حزم ص23، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (21/624)]، ومأخذ الحكم من الآية من وجهين اثنين:
الأول:من قوله: ﮋ ﮧ ﮊ فهذا أمر، والقاعدة في الأصول: [أن الأمر بالشيء نهي عن ضده]، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم].
الثاني: من قوله ﮋ ﮬ ﮭﮊ فهذا نهي، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم]، وفي معنى الآية من جهة إفادة هذا الحكم حديث أنس رضي لله عنه السابق الوارد في سبب النزول، فقد جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فهذا استثناء من إباحة، والقاعدة في الأصول: [أن الاستثناء من الإباحة تحريم]، وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك من به شبق بشرطه: وهو أن لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخاف أن تشقق أنثياه إن لم يطأ، ولا يجد غير الحائض، بأن لا يقدر على مهر حرة أو ثمن أمة، [انظر المبدع لابن مفلح (1/261) ،كشاف القناع للبهوتي (1/198)]، وما ذكروه متجه، ودليله: عموم قوله تعالى: ﮋوقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﮊ ، فقوله:"ما"اسم موصول، والقاعدة في الأصول: [أن الأسماء الموصولة تفيد العموم]، فتشمل سائر المحرمات ومن ذلك وطء الحائض، وقوله: "إلا ما اضطررتم إليه"، استثناء من التحريم، والقاعدة في الأصول: [أن الاستثناء من التحريم إباحة].
..........................................................................
المسألة الخامسة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس، وقد حكي الاتفاق على ذلك، [انظر: فتح الباري لابن رجب (1/187)، نيل الأوطار (1/284)، المغني لابن قدامة (1/432) المحلى لابن حزم (م:261)]، أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون حال النفاس كذلك فمن قوله: "المحيض"، واسم الحيض صادق عليه في اللغة، والقاعدة في الأصول: [أن اللغة معتبرة في تفسير كلام الشارع]، والدليل على أن النفاس يسمى في اللغة حيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحيض نفاسا، <أخرجه الشيخان عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما>،وكلام النبي صلى الله عليه وسلم حجة في اللغة.
واستدل بعض العلماء على أن النفاس يعد حيضا بحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي دواد والنسائي مرفوعا: «دم الحيض أسود يعرف»، قالوا فكل دم أسود يعد حيضا ومن ذلك دم النفاس.
إذا تقرر ذلك فتحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس ثابت بالنص، ونازع في ذلك بعض العلماء، وقرر أن اسم الحيض لا يصدق على النفاس في اللغة، ولا يلزم من هذا التقرير عدم تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس، إذ القاعدة في الأصول: [أن عدم الدليل المعين لا يلزم منه عدم المدلول]، وذلك لاحتمال ثبوته بدليل آخر، قالوا ويدل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس القياس على الحيض لاشتراكهما في العلة التي هي الأذى، والقاعدة في الأصول: [أن قياس العلة حجة في إثبات الأحكام]، وإليك شرح هذا القياس:
أركانه:
الأصل(أي محل الحكم الذي يراد القياس عليه): إتيان المرأة في فرجها حال الحيض.
الفرع (أي المحل الذي يراد معرفة حكمه بالقياس): إتيان المرأة في فرجها حال النفاس.
العلة (أي الوصف الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم): الأذى، [وفي معنى الأذى خلاف: قيل: هو النجاسة، وقيل: الضرر، وقيل: الدم، وقيل: المكروه لنجاسته وضرره ونتن ريحه ].
الحكم (أي حكم الأصل): التحريم.
وقد تقدم في المسألة السابقة مأخذ تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض، وهذا الحكم المستفاد من الآية معلل بعلة منصوصة وهي الأذى، وجه ذلك: أن الله عز وجل رتب الحكم المستفاد من صيغة الأمر في قوله: ﮋﮧﮊ على الوصف الذي هو الأذى مقرونا -أي الحكم- بالفاء، وهذه هي إحدى صور مسلك الإيماء والتنبيه عند الأصوليين، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن مسلك الإيماء والتنبيه معتبر في إثبات العلة الشرعية].
وقد قدح في هذا القياس باعتراض النقض (وجود العلة مع تخلف الحكم)، ومأخذه: أن المستحاضة وجد فيها الأذى الذي هو الدم، ومع ذلك يباح لزوجها أن يطأها.
(فائدة: دفع اعتراض النقض يكون بأحد ثلاث طرق: 1- منع مسألة النقض، 2- منع وجود العلة، 3- بيان الاحتراز، وبيان الاحتراز يكون بأحد أمرين: أ- بيان الفظ المحترز به، ب- تفسير اللفظ بما يحقق الاحتراز).
وأجيب بأجوبة:
- أنه لا يجوز وطء المستحاضة (منع مسألة النقض)، وهذا يستقيم على مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى.
- أنه لا يسلم وصف دم الاستحاضة بالأذى (منع وجود العلة)، وهذا جواب الجمهور رحمهم الله.
قال الفخر الرازي في مفاتح الغيب (6/414): "فإن قيل: ليس الأذى إلا الدم، وهو حاصل وقت الاستحاضة، مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب، فقد انتقضت هذه العلة، قلنا: العلة غير منقوضة؛ لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذرا، أما دم الاستحاضة فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى، هذا ما عندي في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتخلص ظاهر القرآن من الطعن، والله أعلم بمراده".
تنبيه مهم: اختلف الأصوليون رحمهم الله في اعتراض النقض هل يعد قادحا أم لا ؟، وذلك على بضعة عشر قولا، [انظر في ذلك: البحر المحيط للزركشي (4/232)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/929)، فمن قال بعدم كونه قادحا مطلقا، أو بعدم كونه قادحا في المنصوصة فله أن يجيب عما سبق بأن اعتراض النقض لا يقدح في صحة القياس، ومن ثم لابد من تقدير وجود مانع أو تخلف شرط بالنسبة للمسألة المدعاة في النقض، ودليلهم في ذلك: القياس على تخصيص العموم اللفظي، وتقريره: أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاته, فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة.
..........................................................................
المسألة السادسة:
استدل الحنابلة بالآية على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الاستحاضة، [انظر المغني لابن قدمة (1/420) والمبدع لابن مفلح (1/292)]،
أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون حال الاستحاضة كذلك فبالقياس على حال الحيض بجامع الأذى.
وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية إلى إباحة ذلك، [انظر البناية للعيني الحنفي (1/621) و بداية المجتهد لابن رشد المالكي (1/45) المجموع للنووي الشافعي (2/372) والمحلى لابن حزم الظاهري (2/296)] واستدلوا على ذلك بذات الآية، ووجهه أن الله عز وجل قال: ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰﮊ فمفهوم المخالفة الغائي جواز وطء الحائض إذا طهرت، والمستحاضة طاهر، والقاعدة في الأصول -عند الجمهور-: [أن مفهوم المخالفة الغائي حجة في إثبات الأحكام]، بل دل على الإباحة منطوق الآية، وذلك في قوله تعالى: ﮋ ﮱ ﯓ ﯔﮊ إذ المستحاضة طاهر، والأمر بوطء النساء عقب الطهارة سواء قلنا للوجوب أو للإباحة الاصطلاحية -أي استواء الطرفين- يدل على الإذن، والقاعدة في الأصول: [أن الإذن يقتضي عدم التحريم].
وأجاب الجمهور عن استدلال الحنابلة بالآية من وجهين:
الوجه الأول: أن القياس الذي استدلوا به قياس معارض للنص (فاسد الاعتبار )، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [إذا تعارض النص والقياس قدم النص].
الوجه الثاني: لا يسلم بأن دم الاستحاضة أذى، والقاعدة في الأصول: [ أن من شرط صحة القياس تحقق الوصف في الفرع].
(وهذا الاعتراض يسمى عند الأصوليين بمنع الوصف في الفرع، والجواب عنه يكون بأحد ثلاث طرق: التفسير، وبيان موضع التسليم، والدلالة، وشرحها في الأصول ).
وقد يجيب الحنابلة عن استدلال الجمهور بأن العموم الوارد في الآية مخصوص بالقياس المنصوص على علته، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [يجب تخصيص العموم بالقياس إذا نص علته]،
(العموم في وقوله: ﮋ ﮬ ﮭ ﮊ وقوله: ﮋ ﯔ ﮊ: فضمير الجمع (هن)، يعود إلى عامٍ وهو لفظ (النساء) والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن ضمير الجمع يفيد العموم إذا عاد إلى عام]، فتخصص المستحاضة بالقياس على الحائض لاشتراكهما في العلة )،
ويشكل على هذا أن العام الذي يعود إليه ضمير الجمع جميعُ أفراده مرادةٌ عند الحنابلة، والقول باستغراقه لجميع أفراده في صورة، و تخصيصه في صورة، حمل للفظ الواحد على حقيقته ومجازه، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [لا يجوز حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في آنٍ واحد].
واستدل الحنابلة أيضا بما أخرجه البيهقي في السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (المستحاضة لا يغشاها زوجها).
وجه الاستدلال بالأثر:
أن قولها: (لا يغشاها) خبر بمعنى الإنشاء أي النهي، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن النهي المطلق للتحريم]، والقاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن قول الصحابي حجة في إثبات الأحكام].
وأجيب:
أ-بأن القاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن قول الصحابي ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ب- أن قول الصحابي هنا معارض للكتاب، والقاعدة في الأصول-عند من يقول بحجية قول الصحابي-: [أن الكتاب مقدم على قول الصحابي عند التعارض].
ج-أن قول الصحابي هنا معارض بقول صحابي آخر، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف والدارمي في السنن عن ابن عباس أنه يجوز وطأ المستحاضة، والقاعدة في الأصول-عند من يقول بحجية قول الصحابي-: [أن قول الصحابي إذا عارضه قول صحابي آخر سقط الاستدلال به].
ونوقش هذا الجواب:بأن الأثر الوارد عن ابن عباس لا يثبت عنه في إسناد رواية عبد الرزاق الأجلح الكندي، وفي إسناد رواية الدارمي خصيف الجزري، وكلاهما سيء الحفظ، والقاعدة في الأصول: [أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد روايته]، والقاعدة في الأصول: [أن التعارض فرع الثبوت].
واستدل الجمهور أيضا بما أخرج أبو داود في سننه عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها، وبما أخرجه أيضا عن عكرمة قال: (كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها).
وجه الاستدلال بالخبرين:
أن هذا فعل من الصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، (والدليل على كونه واقعا في زمانه صلى الله عليه وسلم ما ورد من الأحاديث الدالة على وقوع لاستحاضة منهما في ذلك الزمان)، والقاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن وقوع الفعل من الصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز].
وأجيب عنهما من جهتين:
الجهة الأولى: الثبوت:
أُعل الخبران بالانقطاع حيث أنه لم يثبت سماع عكرمة بن عمار من حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، قال المنذري رحمه الله في مختصر السنن (1/195): "وفي سماع عكرمة من أم حبيبة وحمنة نظر، وليس فيه ما يدل على سماعه منهما "، وبناء على ذلك فهما منقطعان، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده].
ونوقش هذا الجواب:
بأن عكرمة بن عمار قد عاصر حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، واللقاء بينهما ممكن، وليس ممن عرف بالتدليس، فتكون روايته عنهما محمولة على السماع.
الجهة الثانية: الدلالة:
ليس في الخبرين ما يدل على وقوع الفعل -أي وطء المستحاضة- في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من وقوع الاستحاضة في زمانه وقوع الوطء فيه، ولو سلمنا جدلا أنه واقع في زمانه صلى الله عليه وسلم فليس فيه دليل على جواز ذلك، فالقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن وقوع الفعل في زمانه صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره أو بلوغه إليه وإقراره لا يدل على جوازه]، [انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي (1/562)، تقريب الأصول لابن جزي الكلبي (281)، مفتاح الأصول للشريف التلمساني (591)].
وبناء على ما سبق فالراجح في المسألة مذهب الجمهور.
..........................................................................
المسألة السابعة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في دبرها، كما هو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، [انظر: بدائع الصنائع للكساني الحنفي (1/119)، مواهب الجليل للحطاب المالكي (3/407)، روضة الطالبين للنووي الشافعي (7/204)، كشاف القناع للبهوتي الحنبلي (5/188)، المحلى لابن حزم الظاهري (9/220)]، أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون إتيان المرأة في دبرها كذلك فبالقياس على إتيانها في فرجها حال الحيض بجامع الأذى، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن القياس بالعلة المنصوصة حجة في إثبات الأحكام]، وأثبت بعضهم التحريم من جهة قياس الأولى، وهو ضرب من قياس العلة، وتقريره:
إذا حرُم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض لأجل الأذى، فلأن يحرم إتيانها في دبرها من باب أولى، وذلك لأن الأذى في ذلك المحل أفحش وأذم، والقاعدة في الأصول: [أن قياس الأولى حجة في إثبات الأحكام].
قال علاء الدين الكساني -رحمه الله- في بدائع الصنائع (5/119):"ولا يحل إتيان الزوجة في دبرها لأن الله تعالى -عز شأنه- نهى عن قربان الحائض، ونبه على المعنى وهو كون المحيض أذى، والأذى في ذلك المحل أفحش وأذم فكان أولى بالتحريم".
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/173): "وَسَأَلْت الْإِمَامَ الْقَاضِيَ الطُّوسِيَّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَرِّمَ الدُّبُرَ بِالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ".
وقال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب (6/61): "أن الله تعالى قال في آية المحيض: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮊ فجعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه، وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم، وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر، فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة ".
وقال شمس الدين ابن القيم-رحمه الله- في زاد المعاد (3/149): "وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان".
وقال -رحمه الله-: "وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وإراحة الرجل منه والوطءُ في الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي".
واستدل بعضهم بالآية على التحريم من وجه آخر، ومأخذه من قوله تعالى: ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ قالوا: ومعنى ﮋ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ أي الفرج، و"من" بمعنى "في"، أي "في حيث أمركم الله"، والأمر في قوله "فأتوهن" للإباحة، والإتيان كناية عن الوطء، فيكون منطوق الآية: يباح لكم وطء النساء في فروجهن، ومفهومها المخالف الظرفي (ظرف مكان): لايباح لكم وطء النساء في أدبارهن، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن مفهوم المخالفة الظرفي حجة في إثبات الأحكام].
قال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم (5/94): "وإباحة الاتيان في موضع الحرث يشبه أن يكون تحريمَ إتيانٍ في غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرم بدلالة الكتاب".
وقال الماوردي رحمه الله في الحاوي (11/435):" وَدَلِيلُنَا: ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ، يَعْنِي فِي الْقُبُلِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ".
تنبيهان مهمان:
التنبيه الأول: تحريم إتيان المرأة في دبرها ليس ثابتا بالقرآن عند أهل الظاهر، وذلك لأنهم لا يقولون بحجية القياس، ولا بحجية المفهوم المخالف، ولا يلزم من ذلك عدم قولهم بالتحريم، فالقاعدة في الأصول: [أن عدم الدليل المعين لا يلزم منه عدم المدلول]، وهم يذهبون إلى التحريم كما سبق، ويستندون في ذلك إلى دليل السنة على ما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
التنبيه الثاني: أن الوجه الثاني من دلالة الآية على تحريم إتيان المرأة في دبرها لا يقول به الحنفية، وذلك لأنهم لا يقولون بحجية المفهوم المخالف.انتهى
وأجيب عن الاستدلال بالآية من الوجه الثاني:
أن القاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن مفهوم المخالفة الظرفي ليس بحجة في إثبات الأحكام].
واستدل الجمهور رحمهم الله على التحريم بأدلة أخرى، منها:
1- ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستحيي من الحق، ثلاث مرات، لا تأتوا النساء في أدبارهن» وجه الاستدلال بالخبر:
من قوله: «لا تأتوا» فهذا نهي، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم].
وأجيب:
بأن هذا الحديث ليس بثابت -مردود- في إسناده علتان:
أ-هرمي بن عبد الله الأنصاري مجهول، والقاعدة في الأصول: [أن جهالة الراوي تقتضي رد خبره].
ب-الحجاج بن أرطاة القاضي سيء الحفظ، والقاعدة في الأصول: [أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره]، ووصفه غير واحد من الأئمة بالتدليس "منهم أبو حاتم، وأبو زرعة" وقد عنعن، وبناء على ذلك فالحديث منقطع حكما، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده]، إذا تقرر ذلك فلا دلالة فيه على التحريم، فالقاعدة في الأصول: [أن الدلالة فرع الثبوت]، وفي معناها القاعدة في الأصول: [أن الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ونوقش الجواب:
بأن هذا اللفظ ورد من طريق أخر رجاله ثقات وإسناده متصل كما عند النسائي في السنن الكبرى، قال الإمام النسائي رحمه الله: أخبرنا محمد بن منصور قال: حدثنا سفيان قال: حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن».
إذا تقرر ذلك فهذا دليل صحيح سالم من المعارضة فيتعين المصير إليه.
2-ما أخرجه الترمذي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ».
وجه الاستدلال بالخبر:
من قوله ﷺ: «لا ينظر الله» فهذا وعيد على الفعل، والقاعدة في الأصول: [أن الوعيد على الفعل يقتضي تحريمه].
وأجيب:
بأن هذا الحديث ليس بثابت -مردود- في إسناده علتان:
أ-أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان الأزدي، قال عنه ابن معين: صدوق وليس بحجة، وهذا جرحٌ له من جهة ضبطه لا عدالته، والقاعدة في الأصول: [ أن عدم ضبط الراوي يقتضي رد خبره].
ب-الضحاك بن عثمان القرشي، قال عنه أبو زرعة ليس بالقوي، وقال أبو حاتم لا يحتج به وهو صدوق، وهذا جرحٌ له من جهة ضبطه، والقاعدة في الأصول: [أن عدم ضبط الراوي يقتضي رد خبره].
ونوقش الجواب:
بأن أبا خالد الأحمر ثقة، وثقه ابن المديني والنسائي بل وابن معين في رواية، وما ذُكر عن ابن معين رحمه الله من جرح جاء غير مفسر، والقاعدة في الأصول: [إذا تعارض الجرح غير المفسر والتعديل قدم التعديل]، ومثله يقال في الضحاك بن عثمان فقد وثقه الإمام أحمد وابن معين وأبو داود، وجرحُ أبي زرعة وأبي حاتم له جاء غيرَ مفسر، والقاعدة في الأصول: [إذا تعارض الجرح غير المفسر والتعديل قدم التعديل].
إذا تقرر ذلك فهذا دليل صحيح سالم من المعارضة فيتعين المصير إليه.
3-استدل بعضهم بالإجماع حكاه غير واحد.
انظر حاشية ابن عابدين على البحر الرائق (3/106)، الإنصاف للمرداوي (8/348)، تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (1/179).
وأجيب عنه بجوابين:
أ- أن هذا من باب عدم العلم بالخلاف، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن عدم العلم بالخلاف ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ب-بأنه قد خالف جماعة من العلماء فقالوا بالجواز، على ما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثر].
وقد ذهب إلى جواز إتيان المرأة في دبرها الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه نفاها بعض أصحابه، وفهم من كلامٍ للشافعي رحمه الله، وقد أنكر هذا الفهم أكثر أصحابه، وجوز بعضهم أن يكون مذهبا له في القديم، وهو مروي عن ابن عمر ونافع على خلاف في الرواية عنهما، وحكي عن زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، وابن أبي مليكة رحمهم الله تعالى، [انظر: الذخيرة للقرافي المالكي (4/416)، تكملة المجموع للمطيعي الشافعي (16/419)، المحلى لابن حزم (9/220)، الحاوي للماوردي (11/433)، البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (2/181)]، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة، منها:
1- قوله تعالى: ﮋ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﮊ.
وجه الاستدلال:
ظاهر هذه الآية أن الله عز وجل أباح للرجال إتيان النساء -أي الأزواج- في كل مكان شاءوا في القبل أو الدبر، أما مأخذ الإباحة فمن قوله: "فأتوا"، وهو وإن كان أمراً إلا أنه حاصل لدفع توهم المنع، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن الأمر إذا كان لدفع توهم المنع فهو للإباحة]، وأما مأخذ العموم بما يشمل الدبر فمن قوله: "أنى شئتم"، وأنى في اللغة بمعنى أين، وأين اسم استفهام يتعلق بالمكان، والقاعدة في الأصول: [أن أسماء الاستفهام تفيد العموم].
وأجيب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنه لا يسلم بأن أنى -هنا- بمعنى أين، فأنى في لغة العرب تأتي لعدة معان على جهة الاشتراك، وهي:
- كيف، نحو قوله تعالى:" أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ".
- من أين وَأين، نحو قوله تعالى:" يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ".
- متى، نحو زرني أنى شئت.
والاشتراك من أسباب الإجمال، والقاعدة في الأصول: [يجب التوقف في المجمل حتى يرد البيان]، ومن ثم لابد من دليل على تعيين أحد هذه المعاني.
ونوقش هذا الجواب: بأن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أنه يجوز حمل المشترك على جميع معانيه إذا لم تكن متعارضة].
وردت المناقشة من وجوه:
- أن القاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أنه لا يجوز حمل المشترك على جميع معانيه]، ومأخذ هذه القاعدة أن هذا الحمل وضع محدث لا شاهد عليه!
وفي سبب النزول -على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى- ما يدل على أنها على معنى كيف فيصار إليه.
-أ ن القاعدة في الأصول-عند من يقول بحمل المشترك على جميع معانيه-:
[أنه يشترط لجواز حمل المشترك على جميع معانيه عدم قيام قرينة على إرادة أحد المعاني]، وقد قامت قرائن على إرادة معنى كيف، وهي:
أ-سبب النزول:
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد أحول، فنزلت: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
فسبب النزول هنا بين أن المراد تسويغ كيفية الجماع، لا تسويغ كونه في كل محل.
(فائدة: سبب النزول -هنا-أزال الإجمال الحاصل بسبب الاشتراك).
ويمكن أن يجاب عنه:
أن سبب النزول لا يدل على أن هذا المعنى هو المراد فقط، ومن ثم يمنع من حمل المشترك على جميع معانيه، بل غاية ما يدل عليه أن هذا المعنى مرادٌ، من غير تعرض لباقي المعاني بالإثبات أو النفي، ويقال في تقعيد هذا التقرير: أن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [عدم جواز تعيين أحد أفراد المشترك بسببه].
((وهذا نظير القول بعدم جواز تخصيص العام بسببه)).
ب-أن الله عز وجل قال: " نساؤكم حرث لكم "، وهذه كناية في إتيان المرأة في القبل، الذي هو محل حصول الولد.
قال الجصاص الحنفي في أحكام القرآن (2/39): " قوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "، الحرث: المزدرع، وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع، وسمى النساء حرثا لأنهن مزدرع الأولاد، وقوله: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، يدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع في الفرج ؛ لأنه موضع الحرث ".
قال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله- في تفسيره (3/95): "وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي !، ثم قال: ألستم قوما عربا ؟، ألم يقل الله تعالى: " نساؤكم حرث لكم " ؟، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟! ".
وأجيب: أن الله عز وجل جعل جميع المرأة حرثاً، حيث قال: "نساؤكم حرث لكم "، فيصدق اسم الحرث على محل النزاع.
قال الفخر الرازي الشافعي في مفاتيح الغيب (6/62) في معرض ذكره لأدلة المجيزين: "التمسك بهذه الآية من وجهين الأول أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة، فقال:"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"، فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة، لا للموضع المعين، فلما قال بعده:" فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ "،كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه، فيدخل فيه محل النزاع ".
ونوقش هذا الجواب:
بأن إطلاق لفظ الحرث على النساء من باب المجاز (تسمية الكل باسم البعض)، وقرينة إرادة المجاز مفقودة في قوله: "فأتوا حرثكم"، والقاعدة في الأصول: [أن القرينة شرط لصحة التجوز].
قال الفخر الرازي الشافعي في مفاتيح الغيب (6/62): " أن الحرث اسم لموضع الحراثة، ومعلوم أن جميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة، ويقتضي هذا الدليل أن لا يطلق لفظ الحرث على ذات المرأة، إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"، لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة، فحملنا ذلك على المجاز المشهور، من تسمية كل الشيء باسم جزئه، وهذه الصورة مفقودة في قوله:" فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ " فوجب حمل الحرث هاهنا على موضع الحراثة على التعيين ".
الجواب الثاني:
سلمنا أن أنى بمعنى أين، فهذا عموم واردٌ على سبب، وهو وطء النساء أي الأزواج من أدبارهن في فروجهن، كما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- السابق، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن العام يخصص بسببه]، ومن ثم فلا دلالة في الآية على حل الوطء في الدبر.
ونوقش هذا الجواب: أن القاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن العام لا يخصص بسبه].
الجواب الثالث:
سلمنا أن أنى بمعنى أين، فهذا عموم مخصوص بالأدلة الدالة على تحريم إتيان المرأة في دبرها، وهي -أي أدلة التحريم- على نوعين:
- قياس منصوص على علته-القياس على وطء الحائض بجامع الأذى-، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [يجب تخصيص العموم بالقياس المنصوص على علته].
-أخبار آحاد - نحو: «لا تأتوا النساء في أدبارهن»-، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [يجب تخصيص عموم آي الكتاب بخبر الواحد].
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- في المفهم (...): " أنَّه لو سُلِّم أنَّ {أنَّى} شاملة للمسالك بحكم عمومها، فهي مخصَصَّةٌ بأحاديث صحيحة، ومشهورة ".
ونوقش هذا الجواب: أنه قد جاء عند النسائي في السنن الكبرى بسند ظاهره الصحة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-:
أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله تعالى: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
فهذا الحديث يدل على أن المراد بالآية تسويغ وطء المرأة في دبرها إذ إنه سببٌ لنزولها، والقاعدة في الأصول: [أن صورة السبب تدخل في العموم دخولاً قطعياً]، وبعبارة أخرى: [لا يجوز تخصيص صورة السبب].
وردت هذه المناقشة من وجوه:
الوجه الأول: أنه حديث منكرٌ (نكارة سند)، ووجه النكارة: أن الرخصة عن ابن عمر إنما هي معروفة من رواية نافع، ولو كانت الرخصة ثابتة من رواية زيد بن أسلم، لنقلها الناس وتتبعوا عليها.
قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي -رحمه الله- في العلل (1/409): "قال أبِي: هذا أشبهُ، وهذا أيضًا مُنكرٌ، وهُو أشبهُ مِن حدِيثِ ابنِ عُمر، لأنّ النّاس أقبلُوا قبل نافِعٍ فِيما حكى عنِ ابنِ عُمر، فِي قولِهِ: "نِساؤُكُم حرثٌ لكُم" فِي الرُّخصةِ، فلو كان عِند زيدِ بنِ أسلم، عنِ ابنِ عُمر، لكانُوا لا يُولعُون بِنافِعٍ، وأوّلُ ما رأيتُ حدِيث ابنِ عَبدِ الحكمِ استغربناهُ، ثُمّ تبيّن لِي عِلّتُهُ".
وأجيب: أن القاعدة في الأصول: [أنه لا يمتنع أن يخفى طريق على الأمة مع ثبوت متنه من طريق آخر].
(فائدة: هذه القاعدة فرع عن القاعدة الأصولية المشهورة: [لا يمتنع أن يخفى دليل على الأمة مع ثبوت حكمه]).
الوجه الثاني:أنه حديث منكر (نكارة متن)، ووجه النكارة: أنه قال في دبرها، والصحيح من دبرها، لكن غلط في ذلك الراوي، ودليل وقوع الغلط منه: أن هذا الغلط وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في حاشية السنن (6/201): "قيل هذا غلط بلا شك، غلط فيه سليمان بن بلال، أو بن أبي أويس راويه عنه، وانقلبت عليه لفظة من بلفظة في، وإنما هو أتى امرأة من دبرها ".
وقال رحمه الله أيضا: "والذي يبين هذا، ويزيده وضوحا، أن هذا الغلط قد عرض مثله لبعض الصحابة حين أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بجواز الوطء في قبلها من دبرها، حتى بين له صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا شافيا، قال الشافعي: أخبرني عمي، قال أخبرني: عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، أو عن عمرو بن فلان بن أحيحة، قال الشافعي: أنا شككت، عن خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن أو إتيان الرجل امرأته في دبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حلال»، فلما ولى الرجل دعاه ، أو أمر به فدعي، فقال: «كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين، أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن».
قال الشافعي: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أخبرني محمد وهو عمه محمد بن علي عن الأنصاري المحدث به أنه أثنى عليه خيرا، وخزيمة من لا يشك عالم في ثقته، والأنصاري الذي أشار إليه هو عمرو بن أحيحة، فوقع الاشتباه في كون الدبر طريقا إلى موضع الوطء، أو هو مأتي، واشتبه على من اشتبه عليه معنى من بمعنى في فوقع الوهم ".
وأجيب: أن القاعدة في الأصول: [لا يجوز تغليط الراوي الثقة إلا بدليل]، ولا دليل، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- لا يصلح أن يكون دليلا، فوقوع الخطأ من فاضل لا يلزم منه وقوع الخطأ ممن هو دونه !!.
الوجه الثالث: سلمنا صحة الرواية، لكنها ليست صريحة ولا ظاهرة في كون هذه الحادثة سبب للنزول، فيحتمل أن يكون هذا من فهم ابن عمر رضي الله عنه، والقاعدة في الأصول: [أن الاحتمال المساوي يسقط الاستدلال]، واختلاف الرواية عن ابن عمر في شأن التحريم وعدمه يؤكد أن هذا من فهمه، وقوله في الرواية: على عهد رسول الله ﷺ... لا يدل على الجواز، فالقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن وقوع الفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره،أو بلوغه إليه وإقراره، لا يدل على جواز ذلك الفعل].
[انظر في ذلك: شرح اللمع (1/562) ،تقريب الأصول ص281، مفتاح الأصول ص591].
إذا تقرر ذلك فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على الإباحة.
( ملحوظة):
(لا يسلم بأن مفاد الأمر الإباحة إذا كان لدفع توهم المنع، فالقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن دفع توهم المنع ليس قرينة صارفة للأمر عن ظاهره]، ومأخذ هذه القاعدة الأدلة الدالة على أن الأمر المطلق للوجوب، ودليل من قال بالإباحة القياس على الأمر بعد الحظر، ويجاب عن هذا الدليل من وجهين:
- أن هذا إثبات للغة بالقياس، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز إثبات اللغة بالقياس].
(هذا الجواب إذا قيل بأن إفادتها للإباحة حاصلة من جهة الوضع ).
- أنه لا يسلم بأن الأمر بعد الحظر للإباحة بل للوجوب على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى، والقاعدة في الأصول: [أن من شرط صحة القياس ثبوت حكم الأصل]).
2-قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ".
وجه الاستدلال:
أن في هذه الآية إباحة إتيان الرجل لزوجته في كل أجزاء البدن، ومن ذلك الدبر،
أما مأخذ الإباحة فمن قوله:"غير ملومين"، والقاعدة في الأصول: [أن نفي اللوم يفيد الإباحة]، أما مأخذ العموم فمن قوله: "أزواجهم"، مفرد مضاف، والقاعدة في الأصول: [أن المفرد المضاف يفيد العموم].
قال الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/141): "ومالك يحتج بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ "، وأن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن في الموضع الذي جوزنا وطأهن فيه ".
( ملحوظة ): قوله تعالى: "أزواجهم" مفرد مضاف، والقاعدة في الأصول: [أن المفرد المضاف يفيد العموم]، فيعم كل زوجة، لا كل أجزاء الزوجة الواحدة، والذي يظهر لي أن الاستدلال بالآية من جهة الإطلاق لا العموم.
وأجيب: أن الآية مطلقة تقيد بالنصوص الأخرى الواردة في تحريم إتيان المرأة في دبرها، والقاعدة في الأصول: [يجب حمل المطلق على المقيد إذا اتحدا في الحكم والسبب].
قال الجصاص الحنفي-رحمه الله- في أحكام القرآن (2/39):
"فإن قيل: قوله عز وجل: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" يقتضي إباحة وطئهن في الدبر، لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة، ولا مخصوصة، قيل له: لما قال الله تعالى: "فأتوهن من حيث أمركم الله "، ثم قال في نسق التلاوة: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، أبان بذلك موضع المأمور به، وهو موضع الحرث، ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور عليه دون غيره، وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم "،
كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله:" إلا على أزواجهم ".
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
3-قوله تعالى: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ".
وجه الاستدلال:
أن الله -عز شأنه- حكى عن لوط عليه السلام أنه قال لقومه في مقام التوبيخ: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم "،
وفي الكلام محذوف تقديره: وتذرون مثل ذلك من أزواجكم، فإن قيل: بأن التقدير على خلاف الظاهر، والقاعدة في الأصول: [يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل]، فالجواب: أنه لولا هذا التقدير لما صح التوبيخ، فهذا دليل الخروج عن الظاهر.
وليس المباح من الموضع الآخر - أي: قبل المرأة- مثلا له -أي لأدبار الرجال،
فتعين أن المراد أدبار النساء.
ومأخذ الإباحة من قوله: " لكم ":فاللام لام الاختصاص، والقاعدة في الأصول: [أن لام الاختصاص تفيد الإباحة].
<فائدة>: إفادة لام الاختصاص للإباحة دلالة التزام.
انظر: نهاية السول لجمال الدين الأسنوي رحمه الله (2/934).
إذا تقرر ذلك، وتقرر أن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن شرع من قبلنا شرع لنا ]، ففي الآية دليل على إباحة إتيان الزوجة في دبرها.
قال الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/142): "وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح ".
وأجيب عن هذا الاستدلال بجوابين:
- أن تقدير (مثل) تأويل لادليل عليه، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز التأويل إلا بدليل]، وما ذكروه لا يصلح أن يكون دليلا،
إذ التوبيخ يصح على معنى: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا،
بل هي أبلغ حصولاً في إتيان الزوجة في قبلها.
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي رحمه الله (1/142).
-أن هذا ثابت في شرع من قبلنا، والقاعدة في الأصول: [أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا].
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
4-ما أخرجه الإمام النسائي -رحمه الله- في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله تعالى:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
وتقدم الإشارة إلى وجه الاستدلال به والإجابة عن ذلك فلا حاجة لإعادته.
وبناء على ما سبق فالراجح في المسألة قول الجمهور.
فائدة :
قال موفق الدين ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (8/132): "ولا بأس بالتلذذ بها بين الأليتين من غير إيلاج ؛ لأن السنة إنما وردت بتحريم الدبر، فهو مخصوص بذلك، ولأنه حرم لأجل الأذى، وذلك مخصوص بالدبر فاختص التحريم به".
فإن علم الأصول هو ميزان الشريعة، ومعيار النصوص، وهو أداة الفهم عن الله ورسوله ?، فالمتعين على كل من تصدى لدراسة مسائل الشريعة والإقلال بأعبائها أن يجعل طلب هذا العم شغله، والتحقيقَ فيه رغبته. ومن رام استنباطا صحيحا وفهما رجيحا بلا طلبه فهو كمن يطلب إبرة في رَمْلِ عَالِجٍ، أو من يصيد سمكا في مَفَازَةٍ.
وبعد.. فهذا بحث أصولي ماتع، حوى في طياته نفائس الأصول، وضم بين جنباته كرائم المحصول، أطال فيه شيخنا -حفظه الله- النفس في تحرير المسائل، ونصب الدلائل، فجزاه الله خيرا كثيرا، على ما جاد وأفاد.
وكنت قد طلبت من شيخنا الشيخ جلال بن علي السلمي وفقه الله أن يكتب لي جزءا يأتي فيه على مهمات المسائل المتعلقة بهذه الآية الكريمة، إذ هي من مشهور آي الأحكام، وأكثرها مسائل، فأجابني إلى ذلك جزاه الله عني صالحةً. وأصل هذا البحث كتابات قديمة أعاد الشيخ ترتيبها وتهذيبها لتصلح للنشر، ثم أرسلها لي، فرأيت نشرها على حلقات، تنشيطا للإخوة، إذ ربما يمنع الطول البعضَ من القراءة فضلا عن الاستفادة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أبو المقداد
المدينة النبوية
ﭧ ﭨ ﮋ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﮊ
المسألة الأولى:
سبب نزول الآية:
آيات القرآن يمكن تقسيمها إلى قسمين اثنين: ابتدائية، وسببية، فالابتدائية هي: ما نزل من غير سبب يتعلق بالمخاطبين، والسببية هي: ما نزل لسبب يتعلق بهم، والغالب في آيات القرآن الثاني، ويدل على ذلك الاستقراء، ثم إن السببية تنقسم إلى قسمين:
ما يدل نظمها على السبب، وما ليست كذلك، والآية التي معنا سببية لا ابتدائية، ونظمها يدل على السبب، فقوله تعالى: ﮋ ﮠ ﮊ يدل على أن هذه الآية نزلت بسبب سؤال جماعة من الناس للنبي صلى الله عليه وسلم عن المحيض، وهذه الجماعة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روينا في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وجاء في المراسيل عن السدي وغيره أن السائل هو ثابت بن الدحداح الأنصاري، والإرسال نوع من الانقطاع، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده]، وإذا قلنا بمفاد المرسل ففي الآية تجوز إطلاق الجمع (ضمير الجمع الواو في قوله يسألونك) على المفرد، أو تجوز إطلاق السؤال على المقر للسائل، وفي حديث أنس رضي الله عنه تأكيد للظاهر وأن السؤال وقع من جماعة، وذلك في قوله: فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضا بيان الباعث للصحابة رضي الله عنهم على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو فعل اليهود ومعاملتهم لنسائهم حال الحيض.
وفي أحكام القرآن لابن الفرس المالكي رحمه الله (1/228) أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وذكر قولين اثنين:
القول الأول: أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة وغيره.
القول الثاني: أنهم-أي الصحابة- كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، قاله مجاهد.
والصحيح في سبب النزول ما قدمته في أول البحث، وفي كلام قتادة رحمه الله قدر زائد على ذلك إذ لا دليل على أن العرب قد استنوا باليهود في ذلك، وما نقل عن مجاهد رحمه الله لا يثبت عنه، فقد أخرجه الطبري في تفسيره وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الجزري سيء الحفظ، ثم لو ثبت عنه فلا يصح مرفوعا لإرساله، فالإرسال ضرب من الانقطاع، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده].
مبحث مهم:
ما الفائدة من معرفة أسباب النزول للفقيه المجتهد الناظر في الدليل القرآني لاستنباط الحكم الشرعي؟
الجواب: لذلك فوائد كثيرة منها:
1- معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
2- تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
3- الوقوف على المعنى الصحيح للآية.
قال أبو الفتح القشيري رحمه الله: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا"، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها"، وقال الشاطبي رحمه الله: "أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال...".
4- عدم جواز تخصيص محل السبب فيما إذا كان نص الآية عاما، لأن دخول السبب في العموم قطعي، ومأخذ قطعيته أمران اثنان:
الأول: أنه يلزم من القول بجواز تخصيصه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز.
الثاني: أن القول بجواز تخصيصه فيه عدول عن محل السؤال فيما إذا كان السبب سؤالا، وذلك لا يجوز في حق الشارع لئلا يلتبس الحال على السائل.
..........................................................................
المسألة الثانية:
في الآية دليل على جواز السؤال عن الأحكام الشرعية ولو كانت متعلقة بإتيان النساء، ومأخذ الجواز من قوله: ﮋﮠﮊ فهذا فعل من الصحابة رضي الله عنهم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، والقاعدة في الأصول: [أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل يدل على الجواز]، وهذا ثابت في حق الصحابة الذين سألوا، والقاعدة في الأصول: [أن ما ثبت في حق بعض الأمة يثبت في حق جميعها ما لم يرد دليل بالتخصيص]، ولا دليل، وهذا استدلال بالسنة الواردة في القرآن، ولها نظائر، وهي نوع من السنة المتواترة، إذ القرآن الذي هو مصدر أدائها متواتر، والسؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم، وأعني بالعالم المجتهد، وغير العالم المقلد، وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم؛ فهذه أربعة أقسام، ومرادي بالسؤال في أصل المسألة سؤال المتعلمين للعلماء، فهذا هو الأصل في السؤال، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والجواز ثابت في السؤال عن إتيان المرأة في الحيض بالنص، وفي غيرها من المسائل بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام]، وهو أي الجواز ثابت في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بالنص، وفي سؤال غيره من العلماء بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام].
..........................................................................
المسألة الثالثة:
في الآية دليل على وجوب إجابة السائلين عن الأحكام الشرعية، ومأخذ الحكم من قوله تعالى: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ ، فهذا أمر، والقاعدة في الأصول: [أن الأمر المطلق للوجوب]، وهذا ثابت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في الأصول: [أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في حق أمته ما لم يرد دليل بخلافه]، ولا دليل، والوجوب ثابت في مسألة إتيان النساء في الحيض بالنص، وفي غيرها من المسائل بالإلحاق بنفي الفارق، والقاعدة في الأصول: [أن الإلحاق بنفي الفارق حجة في إثبات الأحكام].
فائدة في الإفتاء والمناظرة:
للمفتي والمناظر أن يقدم علة الحكم, ثم يُعقبُ ذلك بالحكم, كما في هذه الآية، قال الله تعالى: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮊ فقدم العلة قبل الفتوى بحكم ما سئل عنه، وله أن يقدم الحكم ثم يذكر علته , كما في قوله تعالى: ﮋفطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ﮊ ، ثم علل , فقال: ﮋلا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﮊ.
[انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/102)].
ومأخذ هذه الطريقة أن الله عز وجل في كتابه -الذي هو الغاية في البيان- سلكها في تقرير الأحكام، ومن ثم لا يعاب على من أخذ بها وسار عليها، وهذا ما يسمى عند بعض الأصوليين بالدلالة التبعية.
[انظر: الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي (151/1)].
..........................................................................
المسألة الرابعة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض، وقد حكي الاتفاق على ذلك، [انظر:مراتب الإجماع لابن حزم ص23، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (21/624)]، ومأخذ الحكم من الآية من وجهين اثنين:
الأول:من قوله: ﮋ ﮧ ﮊ فهذا أمر، والقاعدة في الأصول: [أن الأمر بالشيء نهي عن ضده]، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم].
الثاني: من قوله ﮋ ﮬ ﮭﮊ فهذا نهي، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم]، وفي معنى الآية من جهة إفادة هذا الحكم حديث أنس رضي لله عنه السابق الوارد في سبب النزول، فقد جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فهذا استثناء من إباحة، والقاعدة في الأصول: [أن الاستثناء من الإباحة تحريم]، وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك من به شبق بشرطه: وهو أن لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخاف أن تشقق أنثياه إن لم يطأ، ولا يجد غير الحائض، بأن لا يقدر على مهر حرة أو ثمن أمة، [انظر المبدع لابن مفلح (1/261) ،كشاف القناع للبهوتي (1/198)]، وما ذكروه متجه، ودليله: عموم قوله تعالى: ﮋوقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﮊ ، فقوله:"ما"اسم موصول، والقاعدة في الأصول: [أن الأسماء الموصولة تفيد العموم]، فتشمل سائر المحرمات ومن ذلك وطء الحائض، وقوله: "إلا ما اضطررتم إليه"، استثناء من التحريم، والقاعدة في الأصول: [أن الاستثناء من التحريم إباحة].
..........................................................................
المسألة الخامسة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس، وقد حكي الاتفاق على ذلك، [انظر: فتح الباري لابن رجب (1/187)، نيل الأوطار (1/284)، المغني لابن قدامة (1/432) المحلى لابن حزم (م:261)]، أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون حال النفاس كذلك فمن قوله: "المحيض"، واسم الحيض صادق عليه في اللغة، والقاعدة في الأصول: [أن اللغة معتبرة في تفسير كلام الشارع]، والدليل على أن النفاس يسمى في اللغة حيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحيض نفاسا، <أخرجه الشيخان عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما>،وكلام النبي صلى الله عليه وسلم حجة في اللغة.
واستدل بعض العلماء على أن النفاس يعد حيضا بحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي دواد والنسائي مرفوعا: «دم الحيض أسود يعرف»، قالوا فكل دم أسود يعد حيضا ومن ذلك دم النفاس.
إذا تقرر ذلك فتحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس ثابت بالنص، ونازع في ذلك بعض العلماء، وقرر أن اسم الحيض لا يصدق على النفاس في اللغة، ولا يلزم من هذا التقرير عدم تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس، إذ القاعدة في الأصول: [أن عدم الدليل المعين لا يلزم منه عدم المدلول]، وذلك لاحتمال ثبوته بدليل آخر، قالوا ويدل على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال النفاس القياس على الحيض لاشتراكهما في العلة التي هي الأذى، والقاعدة في الأصول: [أن قياس العلة حجة في إثبات الأحكام]، وإليك شرح هذا القياس:
أركانه:
الأصل(أي محل الحكم الذي يراد القياس عليه): إتيان المرأة في فرجها حال الحيض.
الفرع (أي المحل الذي يراد معرفة حكمه بالقياس): إتيان المرأة في فرجها حال النفاس.
العلة (أي الوصف الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم): الأذى، [وفي معنى الأذى خلاف: قيل: هو النجاسة، وقيل: الضرر، وقيل: الدم، وقيل: المكروه لنجاسته وضرره ونتن ريحه ].
الحكم (أي حكم الأصل): التحريم.
وقد تقدم في المسألة السابقة مأخذ تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض، وهذا الحكم المستفاد من الآية معلل بعلة منصوصة وهي الأذى، وجه ذلك: أن الله عز وجل رتب الحكم المستفاد من صيغة الأمر في قوله: ﮋﮧﮊ على الوصف الذي هو الأذى مقرونا -أي الحكم- بالفاء، وهذه هي إحدى صور مسلك الإيماء والتنبيه عند الأصوليين، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن مسلك الإيماء والتنبيه معتبر في إثبات العلة الشرعية].
وقد قدح في هذا القياس باعتراض النقض (وجود العلة مع تخلف الحكم)، ومأخذه: أن المستحاضة وجد فيها الأذى الذي هو الدم، ومع ذلك يباح لزوجها أن يطأها.
(فائدة: دفع اعتراض النقض يكون بأحد ثلاث طرق: 1- منع مسألة النقض، 2- منع وجود العلة، 3- بيان الاحتراز، وبيان الاحتراز يكون بأحد أمرين: أ- بيان الفظ المحترز به، ب- تفسير اللفظ بما يحقق الاحتراز).
وأجيب بأجوبة:
- أنه لا يجوز وطء المستحاضة (منع مسألة النقض)، وهذا يستقيم على مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى.
- أنه لا يسلم وصف دم الاستحاضة بالأذى (منع وجود العلة)، وهذا جواب الجمهور رحمهم الله.
قال الفخر الرازي في مفاتح الغيب (6/414): "فإن قيل: ليس الأذى إلا الدم، وهو حاصل وقت الاستحاضة، مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب، فقد انتقضت هذه العلة، قلنا: العلة غير منقوضة؛ لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذرا، أما دم الاستحاضة فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى، هذا ما عندي في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتخلص ظاهر القرآن من الطعن، والله أعلم بمراده".
تنبيه مهم: اختلف الأصوليون رحمهم الله في اعتراض النقض هل يعد قادحا أم لا ؟، وذلك على بضعة عشر قولا، [انظر في ذلك: البحر المحيط للزركشي (4/232)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/929)، فمن قال بعدم كونه قادحا مطلقا، أو بعدم كونه قادحا في المنصوصة فله أن يجيب عما سبق بأن اعتراض النقض لا يقدح في صحة القياس، ومن ثم لابد من تقدير وجود مانع أو تخلف شرط بالنسبة للمسألة المدعاة في النقض، ودليلهم في ذلك: القياس على تخصيص العموم اللفظي، وتقريره: أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاته, فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة.
..........................................................................
المسألة السادسة:
استدل الحنابلة بالآية على تحريم إتيان المرأة في فرجها حال الاستحاضة، [انظر المغني لابن قدمة (1/420) والمبدع لابن مفلح (1/292)]،
أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون حال الاستحاضة كذلك فبالقياس على حال الحيض بجامع الأذى.
وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية إلى إباحة ذلك، [انظر البناية للعيني الحنفي (1/621) و بداية المجتهد لابن رشد المالكي (1/45) المجموع للنووي الشافعي (2/372) والمحلى لابن حزم الظاهري (2/296)] واستدلوا على ذلك بذات الآية، ووجهه أن الله عز وجل قال: ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰﮊ فمفهوم المخالفة الغائي جواز وطء الحائض إذا طهرت، والمستحاضة طاهر، والقاعدة في الأصول -عند الجمهور-: [أن مفهوم المخالفة الغائي حجة في إثبات الأحكام]، بل دل على الإباحة منطوق الآية، وذلك في قوله تعالى: ﮋ ﮱ ﯓ ﯔﮊ إذ المستحاضة طاهر، والأمر بوطء النساء عقب الطهارة سواء قلنا للوجوب أو للإباحة الاصطلاحية -أي استواء الطرفين- يدل على الإذن، والقاعدة في الأصول: [أن الإذن يقتضي عدم التحريم].
وأجاب الجمهور عن استدلال الحنابلة بالآية من وجهين:
الوجه الأول: أن القياس الذي استدلوا به قياس معارض للنص (فاسد الاعتبار )، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [إذا تعارض النص والقياس قدم النص].
الوجه الثاني: لا يسلم بأن دم الاستحاضة أذى، والقاعدة في الأصول: [ أن من شرط صحة القياس تحقق الوصف في الفرع].
(وهذا الاعتراض يسمى عند الأصوليين بمنع الوصف في الفرع، والجواب عنه يكون بأحد ثلاث طرق: التفسير، وبيان موضع التسليم، والدلالة، وشرحها في الأصول ).
وقد يجيب الحنابلة عن استدلال الجمهور بأن العموم الوارد في الآية مخصوص بالقياس المنصوص على علته، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [يجب تخصيص العموم بالقياس إذا نص علته]،
(العموم في وقوله: ﮋ ﮬ ﮭ ﮊ وقوله: ﮋ ﯔ ﮊ: فضمير الجمع (هن)، يعود إلى عامٍ وهو لفظ (النساء) والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن ضمير الجمع يفيد العموم إذا عاد إلى عام]، فتخصص المستحاضة بالقياس على الحائض لاشتراكهما في العلة )،
ويشكل على هذا أن العام الذي يعود إليه ضمير الجمع جميعُ أفراده مرادةٌ عند الحنابلة، والقول باستغراقه لجميع أفراده في صورة، و تخصيصه في صورة، حمل للفظ الواحد على حقيقته ومجازه، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [لا يجوز حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في آنٍ واحد].
واستدل الحنابلة أيضا بما أخرجه البيهقي في السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (المستحاضة لا يغشاها زوجها).
وجه الاستدلال بالأثر:
أن قولها: (لا يغشاها) خبر بمعنى الإنشاء أي النهي، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن النهي المطلق للتحريم]، والقاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن قول الصحابي حجة في إثبات الأحكام].
وأجيب:
أ-بأن القاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن قول الصحابي ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ب- أن قول الصحابي هنا معارض للكتاب، والقاعدة في الأصول-عند من يقول بحجية قول الصحابي-: [أن الكتاب مقدم على قول الصحابي عند التعارض].
ج-أن قول الصحابي هنا معارض بقول صحابي آخر، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف والدارمي في السنن عن ابن عباس أنه يجوز وطأ المستحاضة، والقاعدة في الأصول-عند من يقول بحجية قول الصحابي-: [أن قول الصحابي إذا عارضه قول صحابي آخر سقط الاستدلال به].
ونوقش هذا الجواب:بأن الأثر الوارد عن ابن عباس لا يثبت عنه في إسناد رواية عبد الرزاق الأجلح الكندي، وفي إسناد رواية الدارمي خصيف الجزري، وكلاهما سيء الحفظ، والقاعدة في الأصول: [أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد روايته]، والقاعدة في الأصول: [أن التعارض فرع الثبوت].
واستدل الجمهور أيضا بما أخرج أبو داود في سننه عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها، وبما أخرجه أيضا عن عكرمة قال: (كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها).
وجه الاستدلال بالخبرين:
أن هذا فعل من الصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، (والدليل على كونه واقعا في زمانه صلى الله عليه وسلم ما ورد من الأحاديث الدالة على وقوع لاستحاضة منهما في ذلك الزمان)، والقاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن وقوع الفعل من الصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز].
وأجيب عنهما من جهتين:
الجهة الأولى: الثبوت:
أُعل الخبران بالانقطاع حيث أنه لم يثبت سماع عكرمة بن عمار من حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، قال المنذري رحمه الله في مختصر السنن (1/195): "وفي سماع عكرمة من أم حبيبة وحمنة نظر، وليس فيه ما يدل على سماعه منهما "، وبناء على ذلك فهما منقطعان، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده].
ونوقش هذا الجواب:
بأن عكرمة بن عمار قد عاصر حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، واللقاء بينهما ممكن، وليس ممن عرف بالتدليس، فتكون روايته عنهما محمولة على السماع.
الجهة الثانية: الدلالة:
ليس في الخبرين ما يدل على وقوع الفعل -أي وطء المستحاضة- في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من وقوع الاستحاضة في زمانه وقوع الوطء فيه، ولو سلمنا جدلا أنه واقع في زمانه صلى الله عليه وسلم فليس فيه دليل على جواز ذلك، فالقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن وقوع الفعل في زمانه صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره أو بلوغه إليه وإقراره لا يدل على جوازه]، [انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي (1/562)، تقريب الأصول لابن جزي الكلبي (281)، مفتاح الأصول للشريف التلمساني (591)].
وبناء على ما سبق فالراجح في المسألة مذهب الجمهور.
..........................................................................
المسألة السابعة:
في الآية دليل على تحريم إتيان المرأة في دبرها، كما هو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، [انظر: بدائع الصنائع للكساني الحنفي (1/119)، مواهب الجليل للحطاب المالكي (3/407)، روضة الطالبين للنووي الشافعي (7/204)، كشاف القناع للبهوتي الحنبلي (5/188)، المحلى لابن حزم الظاهري (9/220)]، أما مأخذ التحريم فعلى الوجه الذي تقدم، وأما مأخذ كون إتيان المرأة في دبرها كذلك فبالقياس على إتيانها في فرجها حال الحيض بجامع الأذى، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن القياس بالعلة المنصوصة حجة في إثبات الأحكام]، وأثبت بعضهم التحريم من جهة قياس الأولى، وهو ضرب من قياس العلة، وتقريره:
إذا حرُم إتيان المرأة في فرجها حال الحيض لأجل الأذى، فلأن يحرم إتيانها في دبرها من باب أولى، وذلك لأن الأذى في ذلك المحل أفحش وأذم، والقاعدة في الأصول: [أن قياس الأولى حجة في إثبات الأحكام].
قال علاء الدين الكساني -رحمه الله- في بدائع الصنائع (5/119):"ولا يحل إتيان الزوجة في دبرها لأن الله تعالى -عز شأنه- نهى عن قربان الحائض، ونبه على المعنى وهو كون المحيض أذى، والأذى في ذلك المحل أفحش وأذم فكان أولى بالتحريم".
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/173): "وَسَأَلْت الْإِمَامَ الْقَاضِيَ الطُّوسِيَّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَرِّمَ الدُّبُرَ بِالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ".
وقال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب (6/61): "أن الله تعالى قال في آية المحيض: ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮊ فجعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه، وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم، وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر، فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة ".
وقال شمس الدين ابن القيم-رحمه الله- في زاد المعاد (3/149): "وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان".
وقال -رحمه الله-: "وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وإراحة الرجل منه والوطءُ في الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي".
واستدل بعضهم بالآية على التحريم من وجه آخر، ومأخذه من قوله تعالى: ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ قالوا: ومعنى ﮋ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ أي الفرج، و"من" بمعنى "في"، أي "في حيث أمركم الله"، والأمر في قوله "فأتوهن" للإباحة، والإتيان كناية عن الوطء، فيكون منطوق الآية: يباح لكم وطء النساء في فروجهن، ومفهومها المخالف الظرفي (ظرف مكان): لايباح لكم وطء النساء في أدبارهن، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن مفهوم المخالفة الظرفي حجة في إثبات الأحكام].
قال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم (5/94): "وإباحة الاتيان في موضع الحرث يشبه أن يكون تحريمَ إتيانٍ في غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرم بدلالة الكتاب".
وقال الماوردي رحمه الله في الحاوي (11/435):" وَدَلِيلُنَا: ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﮊ، يَعْنِي فِي الْقُبُلِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ".
تنبيهان مهمان:
التنبيه الأول: تحريم إتيان المرأة في دبرها ليس ثابتا بالقرآن عند أهل الظاهر، وذلك لأنهم لا يقولون بحجية القياس، ولا بحجية المفهوم المخالف، ولا يلزم من ذلك عدم قولهم بالتحريم، فالقاعدة في الأصول: [أن عدم الدليل المعين لا يلزم منه عدم المدلول]، وهم يذهبون إلى التحريم كما سبق، ويستندون في ذلك إلى دليل السنة على ما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
التنبيه الثاني: أن الوجه الثاني من دلالة الآية على تحريم إتيان المرأة في دبرها لا يقول به الحنفية، وذلك لأنهم لا يقولون بحجية المفهوم المخالف.انتهى
وأجيب عن الاستدلال بالآية من الوجه الثاني:
أن القاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن مفهوم المخالفة الظرفي ليس بحجة في إثبات الأحكام].
واستدل الجمهور رحمهم الله على التحريم بأدلة أخرى، منها:
1- ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستحيي من الحق، ثلاث مرات، لا تأتوا النساء في أدبارهن» وجه الاستدلال بالخبر:
من قوله: «لا تأتوا» فهذا نهي، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم].
وأجيب:
بأن هذا الحديث ليس بثابت -مردود- في إسناده علتان:
أ-هرمي بن عبد الله الأنصاري مجهول، والقاعدة في الأصول: [أن جهالة الراوي تقتضي رد خبره].
ب-الحجاج بن أرطاة القاضي سيء الحفظ، والقاعدة في الأصول: [أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره]، ووصفه غير واحد من الأئمة بالتدليس "منهم أبو حاتم، وأبو زرعة" وقد عنعن، وبناء على ذلك فالحديث منقطع حكما، والقاعدة في الأصول: [أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده]، إذا تقرر ذلك فلا دلالة فيه على التحريم، فالقاعدة في الأصول: [أن الدلالة فرع الثبوت]، وفي معناها القاعدة في الأصول: [أن الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ونوقش الجواب:
بأن هذا اللفظ ورد من طريق أخر رجاله ثقات وإسناده متصل كما عند النسائي في السنن الكبرى، قال الإمام النسائي رحمه الله: أخبرنا محمد بن منصور قال: حدثنا سفيان قال: حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن».
إذا تقرر ذلك فهذا دليل صحيح سالم من المعارضة فيتعين المصير إليه.
2-ما أخرجه الترمذي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ».
وجه الاستدلال بالخبر:
من قوله ﷺ: «لا ينظر الله» فهذا وعيد على الفعل، والقاعدة في الأصول: [أن الوعيد على الفعل يقتضي تحريمه].
وأجيب:
بأن هذا الحديث ليس بثابت -مردود- في إسناده علتان:
أ-أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان الأزدي، قال عنه ابن معين: صدوق وليس بحجة، وهذا جرحٌ له من جهة ضبطه لا عدالته، والقاعدة في الأصول: [ أن عدم ضبط الراوي يقتضي رد خبره].
ب-الضحاك بن عثمان القرشي، قال عنه أبو زرعة ليس بالقوي، وقال أبو حاتم لا يحتج به وهو صدوق، وهذا جرحٌ له من جهة ضبطه، والقاعدة في الأصول: [أن عدم ضبط الراوي يقتضي رد خبره].
ونوقش الجواب:
بأن أبا خالد الأحمر ثقة، وثقه ابن المديني والنسائي بل وابن معين في رواية، وما ذُكر عن ابن معين رحمه الله من جرح جاء غير مفسر، والقاعدة في الأصول: [إذا تعارض الجرح غير المفسر والتعديل قدم التعديل]، ومثله يقال في الضحاك بن عثمان فقد وثقه الإمام أحمد وابن معين وأبو داود، وجرحُ أبي زرعة وأبي حاتم له جاء غيرَ مفسر، والقاعدة في الأصول: [إذا تعارض الجرح غير المفسر والتعديل قدم التعديل].
إذا تقرر ذلك فهذا دليل صحيح سالم من المعارضة فيتعين المصير إليه.
3-استدل بعضهم بالإجماع حكاه غير واحد.
انظر حاشية ابن عابدين على البحر الرائق (3/106)، الإنصاف للمرداوي (8/348)، تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (1/179).
وأجيب عنه بجوابين:
أ- أن هذا من باب عدم العلم بالخلاف، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن عدم العلم بالخلاف ليس بحجة في إثبات الأحكام].
ب-بأنه قد خالف جماعة من العلماء فقالوا بالجواز، على ما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثر].
وقد ذهب إلى جواز إتيان المرأة في دبرها الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه نفاها بعض أصحابه، وفهم من كلامٍ للشافعي رحمه الله، وقد أنكر هذا الفهم أكثر أصحابه، وجوز بعضهم أن يكون مذهبا له في القديم، وهو مروي عن ابن عمر ونافع على خلاف في الرواية عنهما، وحكي عن زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، وابن أبي مليكة رحمهم الله تعالى، [انظر: الذخيرة للقرافي المالكي (4/416)، تكملة المجموع للمطيعي الشافعي (16/419)، المحلى لابن حزم (9/220)، الحاوي للماوردي (11/433)، البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (2/181)]، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة، منها:
1- قوله تعالى: ﮋ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﮊ.
وجه الاستدلال:
ظاهر هذه الآية أن الله عز وجل أباح للرجال إتيان النساء -أي الأزواج- في كل مكان شاءوا في القبل أو الدبر، أما مأخذ الإباحة فمن قوله: "فأتوا"، وهو وإن كان أمراً إلا أنه حاصل لدفع توهم المنع، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن الأمر إذا كان لدفع توهم المنع فهو للإباحة]، وأما مأخذ العموم بما يشمل الدبر فمن قوله: "أنى شئتم"، وأنى في اللغة بمعنى أين، وأين اسم استفهام يتعلق بالمكان، والقاعدة في الأصول: [أن أسماء الاستفهام تفيد العموم].
وأجيب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنه لا يسلم بأن أنى -هنا- بمعنى أين، فأنى في لغة العرب تأتي لعدة معان على جهة الاشتراك، وهي:
- كيف، نحو قوله تعالى:" أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ".
- من أين وَأين، نحو قوله تعالى:" يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ".
- متى، نحو زرني أنى شئت.
والاشتراك من أسباب الإجمال، والقاعدة في الأصول: [يجب التوقف في المجمل حتى يرد البيان]، ومن ثم لابد من دليل على تعيين أحد هذه المعاني.
ونوقش هذا الجواب: بأن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أنه يجوز حمل المشترك على جميع معانيه إذا لم تكن متعارضة].
وردت المناقشة من وجوه:
- أن القاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أنه لا يجوز حمل المشترك على جميع معانيه]، ومأخذ هذه القاعدة أن هذا الحمل وضع محدث لا شاهد عليه!
وفي سبب النزول -على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى- ما يدل على أنها على معنى كيف فيصار إليه.
-أ ن القاعدة في الأصول-عند من يقول بحمل المشترك على جميع معانيه-:
[أنه يشترط لجواز حمل المشترك على جميع معانيه عدم قيام قرينة على إرادة أحد المعاني]، وقد قامت قرائن على إرادة معنى كيف، وهي:
أ-سبب النزول:
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد أحول، فنزلت: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
فسبب النزول هنا بين أن المراد تسويغ كيفية الجماع، لا تسويغ كونه في كل محل.
(فائدة: سبب النزول -هنا-أزال الإجمال الحاصل بسبب الاشتراك).
ويمكن أن يجاب عنه:
أن سبب النزول لا يدل على أن هذا المعنى هو المراد فقط، ومن ثم يمنع من حمل المشترك على جميع معانيه، بل غاية ما يدل عليه أن هذا المعنى مرادٌ، من غير تعرض لباقي المعاني بالإثبات أو النفي، ويقال في تقعيد هذا التقرير: أن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [عدم جواز تعيين أحد أفراد المشترك بسببه].
((وهذا نظير القول بعدم جواز تخصيص العام بسببه)).
ب-أن الله عز وجل قال: " نساؤكم حرث لكم "، وهذه كناية في إتيان المرأة في القبل، الذي هو محل حصول الولد.
قال الجصاص الحنفي في أحكام القرآن (2/39): " قوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "، الحرث: المزدرع، وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع، وسمى النساء حرثا لأنهن مزدرع الأولاد، وقوله: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، يدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع في الفرج ؛ لأنه موضع الحرث ".
قال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله- في تفسيره (3/95): "وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي !، ثم قال: ألستم قوما عربا ؟، ألم يقل الله تعالى: " نساؤكم حرث لكم " ؟، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟! ".
وأجيب: أن الله عز وجل جعل جميع المرأة حرثاً، حيث قال: "نساؤكم حرث لكم "، فيصدق اسم الحرث على محل النزاع.
قال الفخر الرازي الشافعي في مفاتيح الغيب (6/62) في معرض ذكره لأدلة المجيزين: "التمسك بهذه الآية من وجهين الأول أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة، فقال:"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"، فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة، لا للموضع المعين، فلما قال بعده:" فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ "،كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه، فيدخل فيه محل النزاع ".
ونوقش هذا الجواب:
بأن إطلاق لفظ الحرث على النساء من باب المجاز (تسمية الكل باسم البعض)، وقرينة إرادة المجاز مفقودة في قوله: "فأتوا حرثكم"، والقاعدة في الأصول: [أن القرينة شرط لصحة التجوز].
قال الفخر الرازي الشافعي في مفاتيح الغيب (6/62): " أن الحرث اسم لموضع الحراثة، ومعلوم أن جميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة، ويقتضي هذا الدليل أن لا يطلق لفظ الحرث على ذات المرأة، إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"، لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة، فحملنا ذلك على المجاز المشهور، من تسمية كل الشيء باسم جزئه، وهذه الصورة مفقودة في قوله:" فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ " فوجب حمل الحرث هاهنا على موضع الحراثة على التعيين ".
الجواب الثاني:
سلمنا أن أنى بمعنى أين، فهذا عموم واردٌ على سبب، وهو وطء النساء أي الأزواج من أدبارهن في فروجهن، كما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- السابق، والقاعدة في الأصول -عند جماعة-: [أن العام يخصص بسببه]، ومن ثم فلا دلالة في الآية على حل الوطء في الدبر.
ونوقش هذا الجواب: أن القاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن العام لا يخصص بسبه].
الجواب الثالث:
سلمنا أن أنى بمعنى أين، فهذا عموم مخصوص بالأدلة الدالة على تحريم إتيان المرأة في دبرها، وهي -أي أدلة التحريم- على نوعين:
- قياس منصوص على علته-القياس على وطء الحائض بجامع الأذى-، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [يجب تخصيص العموم بالقياس المنصوص على علته].
-أخبار آحاد - نحو: «لا تأتوا النساء في أدبارهن»-، والقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [يجب تخصيص عموم آي الكتاب بخبر الواحد].
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- في المفهم (...): " أنَّه لو سُلِّم أنَّ {أنَّى} شاملة للمسالك بحكم عمومها، فهي مخصَصَّةٌ بأحاديث صحيحة، ومشهورة ".
ونوقش هذا الجواب: أنه قد جاء عند النسائي في السنن الكبرى بسند ظاهره الصحة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-:
أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله تعالى: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
فهذا الحديث يدل على أن المراد بالآية تسويغ وطء المرأة في دبرها إذ إنه سببٌ لنزولها، والقاعدة في الأصول: [أن صورة السبب تدخل في العموم دخولاً قطعياً]، وبعبارة أخرى: [لا يجوز تخصيص صورة السبب].
وردت هذه المناقشة من وجوه:
الوجه الأول: أنه حديث منكرٌ (نكارة سند)، ووجه النكارة: أن الرخصة عن ابن عمر إنما هي معروفة من رواية نافع، ولو كانت الرخصة ثابتة من رواية زيد بن أسلم، لنقلها الناس وتتبعوا عليها.
قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي -رحمه الله- في العلل (1/409): "قال أبِي: هذا أشبهُ، وهذا أيضًا مُنكرٌ، وهُو أشبهُ مِن حدِيثِ ابنِ عُمر، لأنّ النّاس أقبلُوا قبل نافِعٍ فِيما حكى عنِ ابنِ عُمر، فِي قولِهِ: "نِساؤُكُم حرثٌ لكُم" فِي الرُّخصةِ، فلو كان عِند زيدِ بنِ أسلم، عنِ ابنِ عُمر، لكانُوا لا يُولعُون بِنافِعٍ، وأوّلُ ما رأيتُ حدِيث ابنِ عَبدِ الحكمِ استغربناهُ، ثُمّ تبيّن لِي عِلّتُهُ".
وأجيب: أن القاعدة في الأصول: [أنه لا يمتنع أن يخفى طريق على الأمة مع ثبوت متنه من طريق آخر].
(فائدة: هذه القاعدة فرع عن القاعدة الأصولية المشهورة: [لا يمتنع أن يخفى دليل على الأمة مع ثبوت حكمه]).
الوجه الثاني:أنه حديث منكر (نكارة متن)، ووجه النكارة: أنه قال في دبرها، والصحيح من دبرها، لكن غلط في ذلك الراوي، ودليل وقوع الغلط منه: أن هذا الغلط وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في حاشية السنن (6/201): "قيل هذا غلط بلا شك، غلط فيه سليمان بن بلال، أو بن أبي أويس راويه عنه، وانقلبت عليه لفظة من بلفظة في، وإنما هو أتى امرأة من دبرها ".
وقال رحمه الله أيضا: "والذي يبين هذا، ويزيده وضوحا، أن هذا الغلط قد عرض مثله لبعض الصحابة حين أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بجواز الوطء في قبلها من دبرها، حتى بين له صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا شافيا، قال الشافعي: أخبرني عمي، قال أخبرني: عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، أو عن عمرو بن فلان بن أحيحة، قال الشافعي: أنا شككت، عن خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن أو إتيان الرجل امرأته في دبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حلال»، فلما ولى الرجل دعاه ، أو أمر به فدعي، فقال: «كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين، أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن».
قال الشافعي: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أخبرني محمد وهو عمه محمد بن علي عن الأنصاري المحدث به أنه أثنى عليه خيرا، وخزيمة من لا يشك عالم في ثقته، والأنصاري الذي أشار إليه هو عمرو بن أحيحة، فوقع الاشتباه في كون الدبر طريقا إلى موضع الوطء، أو هو مأتي، واشتبه على من اشتبه عليه معنى من بمعنى في فوقع الوهم ".
وأجيب: أن القاعدة في الأصول: [لا يجوز تغليط الراوي الثقة إلا بدليل]، ولا دليل، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- لا يصلح أن يكون دليلا، فوقوع الخطأ من فاضل لا يلزم منه وقوع الخطأ ممن هو دونه !!.
الوجه الثالث: سلمنا صحة الرواية، لكنها ليست صريحة ولا ظاهرة في كون هذه الحادثة سبب للنزول، فيحتمل أن يكون هذا من فهم ابن عمر رضي الله عنه، والقاعدة في الأصول: [أن الاحتمال المساوي يسقط الاستدلال]، واختلاف الرواية عن ابن عمر في شأن التحريم وعدمه يؤكد أن هذا من فهمه، وقوله في الرواية: على عهد رسول الله ﷺ... لا يدل على الجواز، فالقاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن وقوع الفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره،أو بلوغه إليه وإقراره، لا يدل على جواز ذلك الفعل].
[انظر في ذلك: شرح اللمع (1/562) ،تقريب الأصول ص281، مفتاح الأصول ص591].
إذا تقرر ذلك فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على الإباحة.
( ملحوظة):
(لا يسلم بأن مفاد الأمر الإباحة إذا كان لدفع توهم المنع، فالقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن دفع توهم المنع ليس قرينة صارفة للأمر عن ظاهره]، ومأخذ هذه القاعدة الأدلة الدالة على أن الأمر المطلق للوجوب، ودليل من قال بالإباحة القياس على الأمر بعد الحظر، ويجاب عن هذا الدليل من وجهين:
- أن هذا إثبات للغة بالقياس، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز إثبات اللغة بالقياس].
(هذا الجواب إذا قيل بأن إفادتها للإباحة حاصلة من جهة الوضع ).
- أنه لا يسلم بأن الأمر بعد الحظر للإباحة بل للوجوب على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى، والقاعدة في الأصول: [أن من شرط صحة القياس ثبوت حكم الأصل]).
2-قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ".
وجه الاستدلال:
أن في هذه الآية إباحة إتيان الرجل لزوجته في كل أجزاء البدن، ومن ذلك الدبر،
أما مأخذ الإباحة فمن قوله:"غير ملومين"، والقاعدة في الأصول: [أن نفي اللوم يفيد الإباحة]، أما مأخذ العموم فمن قوله: "أزواجهم"، مفرد مضاف، والقاعدة في الأصول: [أن المفرد المضاف يفيد العموم].
قال الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/141): "ومالك يحتج بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ "، وأن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن في الموضع الذي جوزنا وطأهن فيه ".
( ملحوظة ): قوله تعالى: "أزواجهم" مفرد مضاف، والقاعدة في الأصول: [أن المفرد المضاف يفيد العموم]، فيعم كل زوجة، لا كل أجزاء الزوجة الواحدة، والذي يظهر لي أن الاستدلال بالآية من جهة الإطلاق لا العموم.
وأجيب: أن الآية مطلقة تقيد بالنصوص الأخرى الواردة في تحريم إتيان المرأة في دبرها، والقاعدة في الأصول: [يجب حمل المطلق على المقيد إذا اتحدا في الحكم والسبب].
قال الجصاص الحنفي-رحمه الله- في أحكام القرآن (2/39):
"فإن قيل: قوله عز وجل: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" يقتضي إباحة وطئهن في الدبر، لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة، ولا مخصوصة، قيل له: لما قال الله تعالى: "فأتوهن من حيث أمركم الله "، ثم قال في نسق التلاوة: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، أبان بذلك موضع المأمور به، وهو موضع الحرث، ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور عليه دون غيره، وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم "،
كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله:" إلا على أزواجهم ".
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
3-قوله تعالى: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ".
وجه الاستدلال:
أن الله -عز شأنه- حكى عن لوط عليه السلام أنه قال لقومه في مقام التوبيخ: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم "،
وفي الكلام محذوف تقديره: وتذرون مثل ذلك من أزواجكم، فإن قيل: بأن التقدير على خلاف الظاهر، والقاعدة في الأصول: [يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل]، فالجواب: أنه لولا هذا التقدير لما صح التوبيخ، فهذا دليل الخروج عن الظاهر.
وليس المباح من الموضع الآخر - أي: قبل المرأة- مثلا له -أي لأدبار الرجال،
فتعين أن المراد أدبار النساء.
ومأخذ الإباحة من قوله: " لكم ":فاللام لام الاختصاص، والقاعدة في الأصول: [أن لام الاختصاص تفيد الإباحة].
<فائدة>: إفادة لام الاختصاص للإباحة دلالة التزام.
انظر: نهاية السول لجمال الدين الأسنوي رحمه الله (2/934).
إذا تقرر ذلك، وتقرر أن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن شرع من قبلنا شرع لنا ]، ففي الآية دليل على إباحة إتيان الزوجة في دبرها.
قال الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/142): "وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح ".
وأجيب عن هذا الاستدلال بجوابين:
- أن تقدير (مثل) تأويل لادليل عليه، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز التأويل إلا بدليل]، وما ذكروه لا يصلح أن يكون دليلا،
إذ التوبيخ يصح على معنى: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا،
بل هي أبلغ حصولاً في إتيان الزوجة في قبلها.
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي رحمه الله (1/142).
-أن هذا ثابت في شرع من قبلنا، والقاعدة في الأصول: [أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا].
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
4-ما أخرجه الإمام النسائي -رحمه الله- في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله تعالى:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
وتقدم الإشارة إلى وجه الاستدلال به والإجابة عن ذلك فلا حاجة لإعادته.
وبناء على ما سبق فالراجح في المسألة قول الجمهور.
فائدة :
قال موفق الدين ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (8/132): "ولا بأس بالتلذذ بها بين الأليتين من غير إيلاج ؛ لأن السنة إنما وردت بتحريم الدبر، فهو مخصوص بذلك، ولأنه حرم لأجل الأذى، وذلك مخصوص بالدبر فاختص التحريم به".