داود وسليمان (5) أصحاب طالوت البدريون ... طلائع الخلافة

إنضم
31/08/2004
المشاركات
112
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
63
الإقامة
فلسطين
الموقع الالكتروني
http
داود وسليمان عليهما السلام (5)

أصحاب طالوت البدريون ... طلائع الخلافة
طارق حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية

وهذا الخبر الذي كان يتداوله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان مصدره بالتأكيد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يكون اجتهاداً، ولا هو من تأثير أهل الكتاب، وكانت قصة طالوت قد نزلت قبل معركة بدر، حيث سورة البقرة كانت من أوائل ما نزل بالمدينة وإن استمر نزول آياتها حتى نهاية العهد المدني.

وكأني بالرسول عليه السلام بهذه المقارنة، يريد أن يلفت أذهان صحابته إلى تقدير الله تعالى في أن يكون عدد الجند هنا مطابقاً لعدد الجند هناك، على ما بين الموقعتين من اختلاف في الزمان والمكان والمتحاربين، وفيه تنويه وتنبيه للعقول والقلوب إلى حكمته تعالى ويده سبحانه وهي تعيد الحدث بنصر المؤمنين على الكفرة المفسدين، وأن يد القدرة الإلهية هي التي تتحكم في الصراع بين الإيمان والكفر، فيزدادوا ثقة بالله وتوكلاً عليه.

والجانب القدري الرباني تجلى واضحاً في سَوْق الجيشين إلى اللقاء ولم تكن غاية أي من الفريقين القتال؛ فالمسلمون خرجوا لقافلة أبي سفيان، ومع وعد الله لهم أن إحدى الطائفتين ـــــ الجيش أو القافلة ـــ ستكون لهم، فقد كانوا يودون غير ذات الشوكة، ولم تكن قريش قد جهزت جيشاً، لولا مرسال أبي سفيان أن القافلة مهددة من محمد وصحبه، وعندما نجا أبو سفيان بالقافلة أرسل لقريش أن يرجعوا فقد سلمت القافلة، فيقسم أبو جهل: « والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً»!.

بل قدّر الله تعالى أن يكون الجيشان كل في موقعه بشكل لا يمكن أن يقع حتى لو تواعد الطرفان على اللقاء هناك: ﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[ الأنفال: 42].

وحتى ــــــ بدر ـــــ ميدان اللقاء حيث وقعت المعركة وتسمت بها، فهي قدر إلهي آخر، حيث كانت غزوة بدر بدراً منيراً في دياجير الواقع المظلم، ولذلك كانت فرقاناً حقيقياً، أكده القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [ الأنفال: 41].
وليترسخ في أذهان صحابته أن دور غزوة بدر بالنسبة لمحمد وصحبه يكاد يتطابق مع الدور الذي أدت إليه معركة طالوت وجالوت في زمانها، كما أظهره التعقيب القرآني على القصة ﴿ وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء﴾، أي أنها أدت إلى خلافة داود وقومه، وكذلك فإن انتصار بدر ــــ بعد الهجرة ــــ كان حلقة مهمة في تثبيت خلافة الرسول وصحبه؛ فلئن كان انتصار جيش طالوت مقدمة ضرورية لخلافة داود وبني إسرائيل، وانتقلت بهم من الذل والهزيمة إلى العزة والكرامة والتمكين، فإن معركة بدر كانت منعطفا أساسيا في مسيرة الرسول عليه السلام وصحبه كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [ آل عمران: 123].

إن عدة الفئتين لم تكن وجه الشبه الوحيد، إذ يبدو أن إيراد القصة في أول سورة مدنية، كان تهيئة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كي يستعدوا للمعركة القادمة، متسلحين بالإيمان واثقين بنصر الله تعالى، غير آبهين بفارق العدد والعدة؛ ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، [البقرة: 249].

وفيها توجيه لاستهداف أئمة الكفر، كما قتل داود جالوت، وهو ما طبقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ تسابق ـــــــ حتى الفتيان ــــــ للنيل من أئمة الكفر وأكابر المجرمين، وما خبر أبي جهل بخاف، حيث يروي عبد الرحمن بن عوف: ( إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فَتَيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: أتعرف أبا جهل؟ فقلت: يا ابن أخي وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله. قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء)[SUP]([SUP][1][/SUP])[/SUP].

ويروي أحد الصقرين الواقعة بلسانه، فيقول معاذ بن عمرو بن الجموح كما في سيرة ابن هشام: " سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة[2] وهم يقولون: أبو الحكم لا يُخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها".
ولئن عرّفت قصة آدم عليه السلام، في سورة البقرة، محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته، غاية وجود البشر، وهي الخلافة؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، فإن قصة طالوت قد جاءت تبين للرسول الكريم وصحبه، طريق التمكين للدين وأهله وإقامة الخلافة في الأرض، وهو الجهاد، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[البقرة، 251]، وداود عليه السلام هو الذي خاطبه تعالى في سورة أخرى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [سورة ص:26].

وفي قصة طالوت، أيضاً، بيان لما به تحفظ الأرض أن يعمها الفساد؛ حيث ختمت القصة بتقرير سنة ربانية عظيمة، أن مدافعة المفسدين ومجاهدتهم هي السبيل، ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة، 251]. والفساد هو نقيض الخلافة، وهو الذي تخوفت الملائكة من حدوثه عندما أخبرهم تعالى بأنه جاعل في الأرض خليفة: ﴿ وَإِذْ قَالَرَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ [البقرة :30].
وأما دور داود في منع سفك الدماء الذي تخوفت منه الملائكة، فإنه عليه السلام كما كان سبباً أساسياً في قمع الفساد بقتله جالوت وهزيمة جيشه، فإن هذه الهزيمة لتلك القوة الغاشمة قد حالت دون إراقة دماء كثيرة بغير حق.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد علّم الله تعالى داود عليه الصلاة والسلام صنع الدروع لحماية الجنود في المعارك، وتلك الحماية كانت لكل البشر، ولم تكن خاصة بجيش داود، أو المؤمنين فقط، كما تجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [ الأنبياء: 80]. والخطاب في الآية للناس وفيهم مشركو العرب، وفي الأية يمتن ربنا سبحانه على الناس أنهم يتقاتلون ويحرص كل فريق على إزهاق أرواح خصومه، ولكن الله تعالى قد علم أحد رسله الكرام، صنعة ليتحصن بها الناس ويحموا أنفسه، فهل يلتقتون إلى تلك النعمة، ويقومون بواجب شكر الله تعالى عليها؟ حيث ابتدأت سورة الأنبياء بقوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾، حيث غاية الخليفة في الأرض، هي صيانة النفوس الآدمية، مؤمنها وكافرها على حد سواء.

والطريف أن اسم داود عليه السلام، كما يرى بعض الباحثين مشتق من ( الذود) بمعنى الدفاع والحماية، فهو: ( ذاوود)، على وزن فاعول، صيغة مبالغة من اسم الفاعل، مثل فاروق، أي كثير الذود، والذال في اللسان القديم كانت تلفظ دالاً، ولم تكن في أبجديتهم، ومثلها اسم زكريا عليه السلام، حيث الزاي بدل عن الذال، والاسم مشتق من الذكر، كما يظهر في قوله تعالى: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾، وهذا المعنى برز في أول ظهور لداود عليه السلام بقتله جالوت وجاء التعقيب القرآني: ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ثم تعزز بتعليم الله إياه صنعة اللبوس المحصنة للناس، كما أن قيامه بالخلافة وإقامته العدل والقسط فيهم، كل ذلك يبرز دور الذود والدفاع لحماية النفوس وإلقاء الصلاح والوقاية من الفساد وقمعه.




ِأيام إعداده أطروحة الماجستير عن التناسب في سورة البقرة، قبل بضع عشرة سنة، استوقف كاتب هذه السطور، حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه: ( كنا أصحاب محمد نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ـــــــ ولم يجاوز معه إلا مؤمن ـــــــ بضعة عشر وثلاثمائة)، [البخاري، كتاب المغازي، 3958].

([1]) البخاري ، كتاب المغازي، رقم( 3988)، وكتاب فرض الخمس رقم( 3141)، ومسلم، رقم( 1752).

([2]) الحرجة : الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة ـ

 
معذرة!!
وقع بعض الخلل في ترتيب فقرات هذه المقالة أثناء عملية النسخ واللصق ... ولذلك سأعيد تنزيلها مصححة
 
عودة
أعلى