طارق مصطفى حميدة
New member
داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ( 4)
طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية
كثيراً ما تبتلى الأمم والشعوب بالهزائم، وترك الديار وخسارة الأوطان، والتشتت ومفارقة الأهل والولد والأحبة، ولا ريب في أن تلك الهزائم والنكبات لا تأتي من فراغ وإنما من خلال الأمراض الاجتماعية التي تعشش في النفوس والتي أوجدت القابلية للهزيمة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾، وفي القرآن الكريم لقطة خاطفة عن مجتمع لديه الأسباب المادية للنصر، وكان بإمكانه أن يصمد أمام الغزاة، ولكن النفسية الخائرة المهزومة لأبنائه، جعلته يترك دياره للغاصبين لقمة سائغة، فاستحق الموت المعنوي والحقيقي في البلاد التي هاجر إليها عقوبة من الله على سوء فعلته، يقول سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾، نلاحظ الاستهجان والاستغراب في فعلتهم من السؤال الإنكاري في قوله تعالى: ﴿ ألم تر؟﴾ .
- والغرابة من وجوه:
وثانيها: أنهم خرجوا من ديارهم والأصل أن الديار والأوطان غالية عزيزة لا يغادرها أهلها بهذه السهولة، ثم هم في ديارهم متحصنون بها أمام الغزاة ويعرفون مداخلها ومخارجها وأزقتها، بينما عدوهم الذي يحذرون هجومه جاهل بكل ذلك، ثم هم يخرجون من ديارهم الفسيحة المريحة التي لا يزاحمهم فيها أحد ولا يزاحمون فيها أحدا، يعيشون فيها بكرامتهم. ولكنهم يتركونها إلى ديار مجهولة لا يعرفون ما ينتظرهم فيها، وربما يضطرون إلى أن تجتمع عدة أسر في بيت واحد أو خيمة واحدة أو مغارة أو تحت السماء، ثم هم يزاحمون أهل الديار الجديدة في أرزاقهم فيصبحون محل نقمتهم واحتقارهم.
وثالثها: أنهم خرجوا وهم ألوف فلو كانوا عشرات أو مئات لكان لهم بعض العذر، ولكنهم آلاف لا بل ألوف، وهي جمع كثرة حيث غادروا ديارهم وهم بعشرات الألوف أو بمئاتها. ومهما كان تعداد الجيوش الغازية فإنها تضيع في خضم أهل الديار فكيف يهربون وهم بهذا العدد الهائل؟؟
والرابعة: أنهم يخرجون حذر الموت فلم يكن خطر الموت والقتل ماثلاً أو واقعاً بهم، ولا حتى متوقعاً، بل هو الحذر والاحتياط من خطر قد يحل بهم، فما بالهم يُغلبّون الاحتمال الضعيف ويتجاهلون الاحتمال القوي وهو النصر ورد الغزاة خائبين إن هم واجهوهم؟!
إن مجتمعاً تنحط فيه النفسيات والتفكير إلى هذا الحضيض، لا يستحق الحياة ولا الكرامة ولا العزة؛ ولذلك كانت العقوبة أن يموتوا، لقد هربوا من الموت فلاقاهم، ولو طلبوه لوهبهم الله الحياة، هذا الموت قد يشمل الكوارث الطبيعية، ومذابح أهل البلاد المضيفة، وملاحقة الغزاة الغاصبين في البلاد الجديدة التي هاجروا إليها، ويشمل الموت المعنوي بالذلة والاحتقار والاستهانة والاستهزاء بهم حيثما حلوا أو ارتحلوا جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد.
ولكن رحمة الله واسعة وفضله عظيم فهو سبحانه يعيدهم إلى رشدهم، ويهديهم سبيل النصر والعودة، ويدلهم إلى طريق الحياة .. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة فهذه الشعوب تكون مبتلاة بقيادات وزعامات تقودها إلى الضلال والهزائم والنكبات وتستمر في الزعامة على الرغم مما سببته من هزائم، وفي أجواء الهزيمة تنشأ قيادات أخرى تستفيد من الوضع الجديد، ويرعاها العدو الغالب ويمكن لها أسباب القبول لدى أبناء شعبها.
- ثلاثة مطالب:
في هذه الآية يأتي الملأ ــــــ وهم القيادات والأشراف ــــــ وسموا بالملأ لأنهم يملأون عيون الناس لمكانتهم ومالهم ــــــ يأتي هؤلاء إلى النبي طالبين منه أن يُعيّن لهم ملكاً يجمع شملهم ويوحد شتاتهم ذلك أن الشعوب المهزومة يكون لها قيادات كثيرة.
والطلب الثاني، أن يقودهم هذا الملك للقتال، وحددوا نوع القتال في طلبهم الثالث بأنه في" سبيل الله".
- وجه الغرابة:
- الوحدة:
- لماذا القتال؟
وهم حين يخوضون الحروب فإنهم يخوضونها دون إعداد ولا تخطيط، بل هم يتآمرون على مزيد من بيع الأوطان وجعل جنودهم وجيوشهم بين قتيل وأسير وجريح أمام الأعداء الذين يتسلمون أغلب الأسلحة والمعدات غنيمة باردة، وتتحطم معنويات الشعوب وتصاب باليأس والإحباط فيقنعها الزعماء عن طريق وسائل إعلامهم بأن لا طاقة لهم بقتال الأعداء حتى يجدوا سبيلاً للتفاوض والاستسلام.
وبرغم ذلك فإن الشعوب لا تموت ــــــــ وبخاصة إذا كانت مؤمنة ــــــــ وبالتالي فهي لا تتوقف عن المطالبة بقتال الغاصبين، وهنا يخوض الحكام بالشعوب المتحمسة المعبأة حروباً جديدة، يحققون فيها انتصارات تكتيكية صغيرة ليكبروا في أعين الجماهير، وتكون هذه الانتصارات الوهمية جسراً ومعبراً لمفاوضة الأعداء ووقف القتال وإسكات الجماهير عن المطالبة بكامل الحقوق المسلوبة والأوطان المضيعة … وينادي واحدهم فيقول انه بطل العبور .. وهو اليوم أيضاً بطل السلام.
لقد خاض بنا زعماؤنا معارك 1948و 1967، كي تزرع اليأس في النفوس وتتحطم معنويات الشعوب، ولكن إيمان هذه الأمة لا يزال يدفعها إلى ميدان الوغى دفعاً، فاضطر الحكام إلى خوض مسرحية 1973، وحققوا فيها نصراً تافهاً للتنفيس عن الغيظ المكبوت والجمر المتقد في النفوس والقلوب ليعبروا من هذا النصر التكتيكي الصغير إلى التفاوض مع الغاصب والتنازل له عما اغتصبه .. وإلا فهل يمكن مقارنة معركة الكرامة ونصر 1973 بهزيمة 1948 و 1967؟؟
- التستر بالدين .. ورفع راية " في سبيل الله "
- عِبَرْ طالوتية:
لقد ذهب زعماء القوم إلي النبي ليفوّتوا الفرصة على طالوت وأمثاله من القيادات المؤمنة الصاعدة، وحرصوا على أن يكون التعيين صادراً من القيادة الروحية ــــــ النبي ــــــ ولكن النبي الفطين الحكيم المؤيد بوحي الله، يعيّن القائد الذي لا يصلح سواه لهذه المرحلة، وليس ذلك فحسب، بل إنه قبل ذلك يكشفهم أمام جماهيرهم، حين يُعلمهم بأن الله قد فرض عليهم القتال فيكون منهم النكوص.
ويشاء الله تعالى أن يجعل لطالوت كرامة يزيد فيها من رصيده في القلوب وقبوله في النفوس وليطوع له الرقاب، فتكون آية ملكه وعلامة اصطفاء الله إياه أن يأتي التابوت إلى قومه بني إسرائيل تحمله الملائكة، وهو صندوق فيه بعض آثار لما تركه آل موسى وآل هارون يبدو أن بني إسرائيل فقدوه في إحدى معاركهم التي هزموا فيها.
وكأن رب العزة يجعل في هذا الزمان آيات وكرامات للناس في أرض الإسراء لتكون دليلاً وآية على ملك الفئة المؤمنة واصطفائها لقيادة المسيرة الجهادية، ومن أظهر هذه الآيات ما يحققه تعالى على أيدي الصادقين من إثخان في العدو، إضافة إلى استمرارهم في الجهاد وتوقف غيرهم .. فإن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.
- اختبار وتمحيص:
إن من لا يصبر على الماء لا يرجى منه أن يصبر إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق، والذي لا يطيع قائده في الأمر الصغير فلن يطيعه في الأمر الكبير، ومن هنا تلجأ الحركات الجهادية إلى طلب بعض التكليفات للجماهير أمراً أو نهياً لقياس مدى استجابة الجماهير لها ولقياس طاقة وإمكانيات وقدرات تحمل الشعب في الخطوات القادمة كما في الإضرابات وأيام المواجهة والصيام وغيرها.
وتحكي الآيات نكوص أكثرية الجند وقعودهم إذ شربوا من النهر، ولا يبقى مع طالوت إلا أقل القليل وينظرون إلى أنفسهم فيستصغرونها أمام جحافل جالوت بعددهم وعُددهم ويقولون: ﴿ لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾، فلو تأخر القتال كي نزيد عددنا وعتادنا، فيرد عليهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله: ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾، فيذكّرونهم بالقانون الرباني بأن النصر ليس بكثرة العدد والعتاد، وإذا أذن الله لفئة بالنصر فإنها تغلب الفئة الكثيرة والله مع الصابرين، إن موازين الدنيا كلها ليست هي التي تحدد المنتصر من المنهزم، ولكن مشيئة الله هي التي تقضي بذلك؛ وبالتالي فلا نصر لمن لم يرد الله نصره ولو كان معه كل قوى الأرض، ولا هزيمة لمن أراد الله نصره ولو اجتمعت ضده كل القوى الباغية.
وحين يلتقي الجيشان يتوجه المؤمنون إلى الله أن يفرغ عليهم صبراً ويثبت أقدامهم وينصرهم ﴿ على القوم الكافرين ﴾؛ فهم لم ينسوا حتى في أشد حالات الهول أنهم يقاتلون لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى، إن القضية إذاً ليست إزالة كافر أجنبي عن حكم الأوطان ثم استبداله بكافر وطني، وإنما إزالة نظام الكفر وظلمه ليحكم شرع الله وعدله.
وحين تكون الراية واضحة يستحق الجنود النصر وتحق على أعدائهم الهزيمة بمشيئة الله ﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إنه ما إن يدخل الإيمان ساحة الصراع مع الكفر حتى تحل بالكفر وأهله الهزيمة الماحقة سواء كان ذلك الصراع في حلبة القتال والنزال أو في ميدان العقل والفكر﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ ويبرز من بين المجاهدين جندي شاب يقتل قائد الأعداء، جالوت، فتتضاعف هزيمة الأعداء وتتأكد، ويؤتى الله داود الملك، ذلك أنه لا يصلح للملك والقيادة إلا من كان جندياً ممتازاً، وإذا أراد الله لعبد التمكين هيأ له أسبابه وجعل له من الآيات والكرامات ما يرسخ مكانته في القلوب ليكون هذا الحدث جسراً ربانياً يعبر به داود لقيادة شعبه، إن الاثخان في الأعداء، وزعاماتهم بالذات هو السبيل إلى القيادة والنصر، وهو الأمر الذي أخفقنا فيه حتى الآن بينما نجح فيه أعداء الأمة.
ويأتي التعقيب القرآني﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ فلولا أنه سبحانه يدفع الكافرين بالمؤمنين ويسلطهم عليهم لتمادى الكفار في غيهم وفسادهم، وإذن فلا خوف على العباد والبلاد من مدافعة الكافرين وقتالهم، وإنما الخوف من ترك الكافرين يعيثون فساداً.
[1] ) كُتبت هذه المقالة إبان انتفاضة الثمانينات في فلسطين، حيث يلاحظ فيها أجواء الظرف الذي كُتبت فيه، ونشرت حينها في مجلة الصراط الفحماوية، وفلسطين المسلمة اللندنية، وأعيد نشرها في عدد من المواقع بعد ذلك، وقد أدمجتها في السلسلة لشدة اتصالها بها.